مصاحف م الكتاب الاسلامي روابط

مصاحف م الكتاب الاسلامي روابط
/ / / / / / /

Translate

الأربعاء، 27 أبريل 2022

الجزء الاول و الثاني والثالث {ج 1 ج2. ج3. .}من كتاب : أسباب رفع العقوبة عن العبد شيخ الإسلام ابن تيمية

 

    ج1. كتاب : أسباب رفع العقوبة عن العبد لشيخ الإسلام ابن تيمية

أسباب رفع العقوبة عن العبد لشيخ الإسلام ابن تيمية

حققه وعلق عليه  -علي بن نايف الشحود

المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
وبعد :
لقد خلق الله تعالى الإنسان ، وهو أعلم بخلقه وطبيعته ، ومن طبيعته الوقوع في المعاصي ، وارتكاب الذنوب ، كما قال صلى الله عليه وسلم " كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ "(1)
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ » (2).
ومنْ ثمَّ ، فلا يخلو الإنسان من الوقوع في الذنوب ، ففتح الله تعالى له باب التوبة منها ، فقال تعالى : {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (25) سورة الشورى
وقال تعالى : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (53) سورة الزمر .
وهذه الرسالة التي بين يدينا ، هي من الرسائل النادرة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، ألا وهي الأسباب الموجبة لرفع العقوبة ، وقد بين أنها عشرة أسباب و ذكر أمثلة عليها ، وهذه الرسالة - على صغر حجمها - من أروع ما كتب في هذا الباب ، وهي غزيرة الفوائد .
وهذه هي اللأسباب العشرة :
" أَحَدُهَا " التَّوْبَةُ
" السَّبَبُ الثَّانِي " الِاسْتِغْفَارُ :
" السَّبَبُ الثَّالِثُ " : الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ :
( السَّبَبُ الرَّابِعُ الدَّافِعُ لِلْعِقَابِ ) : دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُؤْمِنِ :…
( السَّبَبُ الْخَامِسُ ) : مَا يُعْمَلُ لِلْمَيِّتِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ :…
( السَّبَبُ السَّادِسُ ) : شَفَاعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرُهُ فِي أَهْلِ الذُّنُوبِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:
( السَّبَبُ السَّابِعُ ) : الْمَصَائِبُ الَّتِي يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهَا الْخَطَايَا فِي الدُّنْيَا:…
( السَّبَبُ الثَّامِنُ ) : مَا يَحْصُلُ فِي الْقَبْرِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالضَّغْطَةِ وَالرَّوْعَةِ :…
( السَّبَبُ التَّاسِعُ ) : أَهْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَرْبُهَا وَشَدَائِدُهَا .…
( السَّبَبُ الْعَاشِرُ ) : رَحْمَةُ اللَّهِ وَعَفْوُهُ وَمَغْفِرَتُهُ بِلَا سَبَبٍ مِنْ الْعِبَادِ .…
===============
أما عملي في هذه الرسالة فهو كما يلي :
*وضع نص الرسالة من مجموع الفتاوى مشكلة ، ومن أحدث نسخة
*تصحيح الأخطاء المطبعية وهي قليلة جدا
*تخريج الآيات القرآنية كلها وتشكيلها بالرسم العادي ، وشرح غالب الآيات من كتب التفسير المعتمدة
*تخريج الأحاديث كلها وتشكيلها ، والحكم عليها إذا لم تكن في الصحيحين ، بما يناسبها باختصار ، وهناك مشكلة في كثير من الأحاديث حيث يرويها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من حفظه ، وليس بالنص فتكون بالمعنى وليست باللفظ ، فنقلت النص بحرفيته من مصدره ، وقمت بشرحها من مصادرها الرئيسة .
*ذكر الأدلة من القرآن والسنة لأشياء أشار إليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، دون أن يذكر دليلها صراحة ، فذكرت هذه الأدلة بالهامش
شرح ما يحتاج لشرح من كلامه ،سواء من كتبه الأخرى أو من كتب غيره
*فهرسة الموضوع بشكل دقيق
*ذكر أهم المصادر في آخر هذه الرسالة
قال تعالى :{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} (54) سورة الزمر .
وأرجو من الله تعالى أن ينفع بها محققها ، وناقلها وقارئها والدال عليها في الدارين آمين
وكتبه
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
9 رجب 1428 هـ الموافق ل 23/7/2007 م
**************************

أسباب رفع العقوبة عن العبد لشيخ الإسلام ابن تيمية(3)

قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
قَدْ دَلَّتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ : عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ الذُّنُوبِ تَزُولُ عَنْ الْعَبْدِ بِنَحْوِ عَشَرَةِ أَسْبَابٍ :
" أَحَدُهَا " التَّوْبَةُ (4)
__________
(1) -المستدرك على الصحيحين للحاكم برقم(7725 ) والترمذي برقم( 2536 ) وهو صحيح لغيره
(2) - صحيح مسلم برقم(7141 )
(3) - مجموع الفتاوى - (ج 7 / ص 487) فما بعدها ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 151و152)
(4) - 1 - التّوبة في اللّغة العود والرّجوع ، يقال : تاب إذا رجع عن ذنبه وأقلع عنه.
وإذا أسند فعلها إلى العبد يراد به رجوعه من الزّلّة إلى النّدم ، يقال : تاب إلى اللّه توبة ومتابا : أناب ورجع عن المعصية ، وإذا أسند فعلها إلى اللّه تعالى يستعمل مع صلة ' على يراد به رجوع لطفه ونعمته على العبد والمغفرة له ، يقال : تاب اللّه عليه : غفر له وأنقذه من المعاصي.
قال اللّه تعالى : «ثمَّ تَابَ عَلَيهمْ لِيَتُوبُوا إنَّ اللَّهَ هو التَّوَّابُ الرَّحيمُ» .
وفي الاصطلاح التّوبة هي : النّدم والإقلاع عن المعصية من حيث هي معصية لا ، لأنّ فيها ضررا لبدنه وماله ، والعزم على عدم العود إليها إذا قدر.
وعرّفها بعضهم بأنّها الرّجوع عن الطّريق المعوجّ إلى الطّريق المستقيم.
وعرّفها الغزاليّ بأنّها : العلم بعظمة الذّنوب ، والنّدم والعزم على التّرك في الحال والاستقبال والتّلافي للماضي ، وهذه التّعريفات وإن اختلفت لفظا هي متّحدة معنى.
وقد تطلق التّوبة على النّدم وحده إذ لا يخلو عن علم أوجبه وأثمره وعن عزم يتبعه ، ولهذا قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم « النّدم توبة » والنّدم توجّع القلب وتحزّنه لما فعل وتمنّي كونه لم يفعل.
قال ابن قيّم الجوزيّة : التّوبة في كلام اللّه ورسوله كما تتضمّن الإقلاع عن الذّنب في الحال والنّدم عليه في الماضي والعزم على عدم العود في المستقبل ، تتضمّن أيضا العزم على فعل المأمور والتزامه ، فحقيقة التّوبة : الرّجوع إلى اللّه بالتزام فعل ما يجب وترك ما يكره ، ولهذا علّق سبحانه وتعالى الفلاح المطلق على التّوبة حيث قال :
«وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعَاً أيُّهَا المُؤمِنونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» .
الألفاظ ذات الصّلة
«أ - الاعتذار»
2 - الاعتذار في اللّغة مصدر اعتذر أصله من العذر ، وأصل العذر إزالة الشّيء عن جهته يقال : اعتذر عن فعله أي أظهر عذره ، واعتذر إليّ أي طلب قبول معذرته ، واعتذر إلى فلان فعذره أي : أزال ما كان في نفسه عليه في الحقيقة أو في الظّاهر.
وفي الاصطلاح : الاعتذار إظهار ندم على ذنب تقرّ بأنّ لك في إتيانه عذراً ، والتّوبة هي النّدم على ذنب تقرّ بأنّه لا عذر لك في إتيانه فكلّ توبة ندم ولا عكس.
وقد يكون المعتذر محقّا فيما فعله ، بخلاف التّائب من الذّنب.
«ب - الاستغفار»
3 - الاستغفار في اللّغة طلب المغفرة ، وأصل الغفر التّغطية والسّتر ، يقال : غفر اللّه ذنوبه أي سترها.
وفي الاصطلاح طلب المغفرة بالدّعاء والتّوبة أو غيرهما من الطّاعة.
قال ابن القيّم : الاستغفار إذا ذكر مفردا يراد به التّوبة مع طلب المغفرة من اللّه ، وهو محو الذّنب وإزالة أثره ووقاية شرّه ، والسّتر لازم لهذا المعنى ، كما في قوله تعالى : «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّه كَانَ غَفَّارَاً» ، فالاستغفار بهذا المعنى يتضمّن التّوبة.
أمّا عند اقتران إحدى اللّفظتين بالأخرى فالاستغفار طلب وقاية شرّ ما مضى ، والتّوبة الرّجوع وطلب وقاية شرّ ما يخافه في المستقبل من سيّئات أعماله ، كما في قوله تعالى :
«وَأَن اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثمَّ تُوبُوا إليه» .
«أركان وشروط التّوبة»
4 - ذكر أكثر الفقهاء والمفسّرين أنّ للتّوبة أربعة شروط : الإقلاع عن المعصية حالاً ، والنّدم على فعلها في الماضي ، والعزم عزما جازما أن لا يعود إلى مثلها أبدا.
وإن كانت المعصية تتعلّق بحقّ آدميّ ، فيشترط فيها ردّ المظالم إلى أهلها أو تحصيل البراءة منهم.
وصرّحوا كذلك بأنّ النّدم على المعصية يشترط فيه أن يكون للّه ، ولقبحها شرعاً.
وهذا معنى قولهم : النّدامة على المعصية لكونها معصية ' ، لأنّ النّدامة على المعصية لإضرارها ببدنه ، وإخلالها بعرضه أو ماله ، أو نحو ذلك لا تكون توبة ، فلو ندم على شرب الخمر والزّنا للصّداع ، وخفّة العقل ، وزوال المال ، وخدش العرض لا يكون تائبا.
والنّدم لخوف النّار أو طمع الجنّة يعتبر توبة.
واعتبر بعض الفقهاء هذه الشّروط أو أكثرها من أركان التّوبة فقالوا : التّوبة النّدم مع الإقلاع والعزم على عدم العود ، وردّ المظالم ، وقال بعضهم : النّدم ركن من التّوبة ، وهو يستلزم الإقلاع عن الذّنب والعزم على عدم العودة ، وأمّا ردّ المظالم لأهلها فواجب مستقلّ ليس شرطا في صحّة التّوبة.
ويؤيّد هذا الرّأي ما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « النّدم توبة » .
وعلى جميع الاعتبارات لا بدّ من التّنبيه على أنّ الإقلاع عن الذّنب لا يتمّ إلا بردّ الحقوق إلى أهلها ، أو باستحلالهم منها في حالة القدرة ، وهذا كما يلزم في حقوق العباد يلزم كذلك في حقوق اللّه تعالى ، كدفع الزّكوات ، والكفّارات إلى مستحقّيها.
وردّ الحقوق يكون حسب إمكانه ، فإن كان المسروق أو المغصوب موجودا ردّه بعينه ، وإلا يردّ المثل إن كانا مثليّين والقيمة إن كانا قيميّين ، وإن عجز عن ذلك نوى ردّه متى قدر عليه ، وتصدّق به على الفقراء بنيّة الضّمان له إن وجده.
فإن كان عليه فيها حقّ ، فإن كان حقّا لآدميّ كالقصاص اشترط في التّوبة التّمكين من نفسه وبذلها للمستحقّ ، وإن كان حقّا للّه تعالى كحدّ الزّنى وشرب الخمر فتوبته بالنّدم والعزم على عدم العود ، وسيأتي تفصيله في آثار التّوبة.
«إعلان التّوبة»
5 - قال ابن قدامة : التّوبة على ضربين باطنة وحكميّة ، فأمّا الباطنة : فهي ما بينه وبين ربّه تعالى ، فإن كانت المعصية لا توجب حقّا عليه في الحكم كقبلة أجنبيّة أو الخلوة بها ، وشرب مسكر ، أو كذب ، فالتّوبة منه النّدم والعزم على أن لا يعود وقد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « النّدم توبة » وقيل : التّوبة النّصوح تجمع أربعة أشياء ، النّدم بالقلب ، والاستغفار باللّسان ، وإضمار أن لا يعود ، ومجانبة خلطاء السّوء ، وإن كانت توجب عليه حقّا للّه تعالى أو لآدميّ كمنع الزّكاة والغصب ، فالتّوبة منه بما ذكرنا ، وترك المظلمة حسب إمكانه بأن يؤدّي الزّكاة ويردّ المغصوب أو مثله إن كان مثليّا ، وإلّا قيمته.
وإن عجز عن ذلك نوى ردّه متى قدر عليه ، فإن كان عليه فيها حقّ في البدن ، فإن كان حقّا لآدميّ كالقصاص وحدّ القذف اشترط في التّوبة التّمكين من نفسه وبذلها للمستحقّ ، وإن كان حقّا للّه تعالى كحدّ الزّنى ، وشرب الخمر فتوبته أيضا بالنّدم ، والعزم على ترك العود ولا يشترط الإقرار به ، فإن كان ذلك لم يشتهر عنه فالأولى له ستر نفسه ، والتّوبة فيما بينه وبين اللّه تعالى ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من أصاب من هذه القاذورات فليستتر بستر اللّه تعالى ، فإنّه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب اللّه » « فإنّ الغامديّة حين أقرّت بالزّنى لم ينكر عليها النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك » ، وإن كانت معصية مشهورة فذكر القاضي أنّ الأولى الإقرار به ليقام عليه الحدّ ، لأنّه إذا كان مشهورا فلا فائدة في ترك إقامة الحدّ عليه ، والصّحيح أنّ ترك الإقرار أولى ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عرّض للمقرّ عنده بالرّجوع عن الإقرار فعرّض لماعز » ، وللمقرّ عنده بالسّرقة بالرّجوع مع اشتهاره عنه بإقراره ، وكره الإقرار حتّى إنّه قيل لمّا قطع السّارق كأنّما أسف وجهه رماداً ، ولم يرد الأمر بالإقرار ولا الحثّ عليه في كتاب ولا سنّة ،ولا يصحّ له قياس.
إنّما ورد الشّرع بالسّتر والاستتار والتّعريض للمقرّ بالرّجوع عن الإقرار.
« وقال لهزال وكان هو الّذي أمر ماعزاً بالإقرار يا هزال لو سترته بثوبك كان خيراً لك » .
وقال أصحاب الشّافعيّ : توبة هذا إقراره ليقام عليه الحدّ وليس بصحيح لما ذكرنا ، ولأنّ التّوبة توجد حقيقتها بدون الإقرار وهي تجبّ ما قبلها ، كما ورد في الأخبار مع ما دلّت عليه الآيات في مغفرة الذّنوب بالاستغفار وترك الإصرار.
وأمّا البدعة فالتّوبة منها بالاعتراف بها ، والرّجوع عنها ، واعتقاد ضدّ ما كان يعتقد منها.
«عدم العودة»
6 - لا يشترط في التّوبة عدم العود إلى الذّنب الّذي تاب منه عند أكثر الفقهاء ، وإنّما تتوقّف التّوبة على الإقلاع عن الذّنب والنّدم عليه والعزم الجازم على ترك معاودته ، فإن عاوده مع عزمه حال التّوبة على أن لا يعاوده صار كمن ابتدأ المعصية ، ولم تبطل توبته المتقدّمة ، ولا يعود إليه إثم الذّنب الّذي ارتفع بالتّوبة ، وصار كأن لم يكن وذلك بنصّ الحديث : « التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له » .
وقال بعضهم يعود إليه إثم الذّنب الأوّل ، لأنّ التّوبة من الذّنب بمنزلة الإسلام من الكفر ، والكافر إذا أسلم هدم إسلامه ما قبله من إثم الكفر وتوابعه ، فإذا ارتدّ عاد إليه الإثم الأوّل مع الرّدّة.
والحقّ أنّ عدم معاودة الذّنب واستمرار التّوبة شرط في كمال التّوبة ونفعها الكامل لا في صحّة ما مضى منها.
هذا واشترط الشّافعيّة في ثبوت بعض أحكام التّوبة إصلاح العمل ، فلا تكفي التّوبة حتّى تمضي عليه مدّة تظهر فيها آثار التّوبة ويتبيّن فيها صلاحه على تفصيل يأتي في آثار التّوبة.
«التّوبة من بعض الذّنوب»
7 - تصحّ التّوبة من ذنب مع الإصرار على غيره عند جمهور الفقهاء ، فالتّوبة تتبعّض كالمعصية وتتفاضل في كمّيّتها كما تتفاضل في كيفيّتها ، فكلّ ذنب له توبة تخصّه ، ولا تتوقّف التّوبة من ذنب على التّوبة من بقيّة الذّنوب ، كما لا يتعلّق أحد الذّنبين بالآخر ، وكما يصحّ إيمان الكافر مع إدامته شرب الخمر والزّنى تصحّ التّوبة عن ذنب مع الإصرار على آخر.
ونقل ابن القيّم قولا بعدم قبول التّوبة من ذنب مع الإصرار على غيره ، وهو رواية عن أحمد ثمّ قال : والّذي عندي في هذه المسألة أنّ التّوبة لا تصحّ من ذنب مع الإصرار على غيره من نوعه ، وأمّا التّوبة من ذنب مع مباشرة ذنب آخر لا تعلّق له به ولا هو من نوعه فتصحّ ، كما إذا تاب من الرّبا ، ولم يتب من شرب الخمر مثلا فإنّ توبته من الرّبا صحيحة ، وأمّا إذا تاب من ربا الفضل ولم يتب من ربا النّسيئة أو بالعكس ، أو تاب من تناول الحشيشة وأصرّ على شرب الخمر أو بالعكس فهذا لا تصحّ توبته ، كمن يتوب عن زنى بامرأة وهو مصرّ على الزّنى بغيرها.
«أقسام التّوبة»
8 - صرّح بعض فقهاء الشّافعيّة والحنابلة أنّ التّوبة نوعان :
توبة في الباطن ، وتوبة في الظّاهر.
فأمّا التّوبة في الباطن : فهي ما بينه وبين اللّه عزّ وجلّ ، فينظر في المعصية فإن لم تتعلّق بها مظلمة لآدميّ ، ولا حدّ للّه تعالى ، كالاستمتاع بالأجنبيّة فيما دون الفرج ، فالتّوبة منها أن يقلع عنها ويندم على فعل ما فعل ، ويعزم على أن لا يعود إلى مثلها.
والدّليل على ، ذلك قوله تعالى : «وَالَّذِينَ إذا فَعَلُوا فَاحِشَةً أو ظَلَمُوا أنْفُسَهمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنوبَ إلا اللَّهُ وَلمْ يُصِرُّوا على مَا فَعَلُوا» الآية.
وإن تعلّق بها حقّ آدميّ ، فالتّوبة منها أن يقلع عنها ، ويندم على ما فعل ، ويعزم على أن لا يعود إلى مثلها ، وأن يبرأ من حقّ الآدميّ ، إمّا بأن يؤدّيه أو يسأله حتّى يبرئه منه ، وإن لم يقدر على صاحب الحقّ نوى أنّه إن قدر أوفاه حقّه.
وإن تعلّق بالمعصية حدّ للّه ، كحدّ الزّنى والشّرب ، فإن لم يظهر ذلك ، فالأولى أن يستره على نفسه لقوله عليه الصلاة والسلام : « من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر اللّه » .
وأمّا التّوبة في الظّاهر - وهي الّتي تعود بها العدالة والولاية وقبول الشّهادة ، فإن كانت المعصية فعلا كالزّنى والسّرقة لم يحكم بصحّة التّوبة عند الشّافعيّة حتّى يصلح عمله ، وقدّروها بسنة أو ستّة أشهر ، أو حتّى ظهور علامات الصّلاح على اختلاف أقوالهم خلافا لجمهور الفقهاء فإنّهم لم يشترطوا إصلاح العمل بعد التّوبة ، وإن كانت المعصية قذفا أو شهادة زور فلا بدّ من إكذاب نفسه كما سيأتي.
«التّوبة النّصوح»
9 - أمر اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين بالتّوبة النّصوح ليكفّر عنهم سيّئاتهم فقال : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلى اللَّهِ تَوبَةً نَصُوحَاً عَسَى رَبُّكُمْ أنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ» .
واختلفت عبارات العلماء فيها ، وأشهرها ما روي عن عمر وابن مسعود وأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم ، وروي مرفوعا أنّ التّوبة النّصوح هي الّتي لا عودة بعدها كما لا يعود اللّبن إلى الضّرع.
وقيل : هي النّدم بالقلب ، والاستغفار باللّسان ، والإقلاع عن الذّنب ، والاطمئنان على أنّه لا يعود.
«حكم التّوبة»
10 - التّوبة من المعصية واجبة شرعا على الفور باتّفاق الفقهاء ، لأنّها من أصول الإسلام المهمّة وقواعد الدّين ، وأوّل منازل السّالكين ، قال اللّه تعالى : «وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعَاً أيُّها المُؤمِنونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» .
«وقت التّوبة»
11 - إذا أخّر المذنب التّوبة إلى آخر حياته ، فإن ظلّ آملا في الحياة غير يائس بحيث لا يعلم قطعا أنّ الموت يدركه لا محالة فتوبته مقبولة عند جمهور الفقهاء ، وإن كان قريباً من الموت لقوله تعالى : «وَهو الَّذي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِه وَيَعْفُو عَن السَّيِّئاتِ» ولقوله عليه الصلاة والسلام : « إنّ اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر » .
وإن قطع الأمل من الحياة وكان في حالة اليأس - مشاهدة دلائل الموت - فاختلفوا فيه : قال المالكيّة - وهو قول بعض الحنفيّة : ووجه عند الحنابلة ، ورأي عند الشّافعيّة ، ونسب إلى مذهب الأشاعرة : إنّه لا تقبل توبة اليائس الّذي يشاهد دلائل الموت ، بدليل قوله تعالى : «وَلَيسَتِ التَّوبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حتَّى إذا حَضَرَ أحَدَهم المَوتُ قالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ» الآية.
قالوا : إنّ الآية في حقّ المسلمين الّذين يرتكبون الذّنوب ويؤخّرون التّوبة إلى وقت الغرغرة ، بدليل قوله تعالى بعده : «وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ» لأنّه تعالى جمع بين من أخّر التّوبة إلى حضور الموت من الفسقة وبين من يموت وهو كافر ، فلا تقبل توبة اليائس كما لا يقبل إيمانه.
ولقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه يقبل التّوبة ما لم يغرغر » وهذا يدلّ على أنّه يشترط لصحّة التّوبة صدورها قبل الغرغرة ، وهي حالة اليأس وبلوغ الرّوح الحلقوم.
وعند بعض الحنفيّة - وهو وجه آخر عند الحنابلة - وعزاه بعضهم إلى مذهب الماتريديّة أنّ المؤمن العاصي تقبل توبته ولو في حالة الغرغرة ، بخلاف إيمان اليائس فإنّه لا يقبل ، ووجه الفرق أنّ الكافر غير عارف باللّه تعالى ، ويبدأ إيمانا وعرفانا ، والفاسق عارف وحاله حال البقاء ، والبقاء أسهل من الابتداء ولإطلاق قوله تعالى : «وَهوَ الَّذي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ» .
ولا خلاف بين الفقهاء في عدم قبول توبة الكافر بإسلامه في حالة اليأس بدليل قوله تعالى حكاية عن حال فرعون : «حَتَّى إذَا أَدْرَكَه الغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أنَّه لا إلهَ إلا الَّذي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وأنَا مِنَ المُسْلِمينَ الآنَ وَقَدْ عَصَيتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِن المُفْسِدينَ» .
«من تقبل توبتهم ومن لا تقبل»
12 - تقدّم أنّ اللّه سبحانه وتعالى يقبل التّوبة من الكافر والمسلم العاصي بفضله وإحسانه كما وعد في كتابه المجيد حيث قال : «وَهوَ الَّذي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِه وَيَعْفُو عَن السَّيِّئاتِ» لكن هناك بعض الحالات اختلف الفقهاء في قبول التّوبة فيها نظرا للأدلّة الشّرعيّة الخاصّة بها ومن هذه الحالات :
«أ - توبة الزّنديق»
13 - الزّنديق هو الّذي لا يتمسّك بشريعة ولا يتديّن بدين.
وجمهور الفقهاء - المالكيّة والحنابلة وهو ظاهر المذهب عند الحنفيّة ورأي عند الشّافعيّة- على أنّه لا تقبل توبة الزّنديق لقوله تعالى : «إلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا» الآية.
والزّنديق لا يظهر منه بالتّوبة خلاف ما كان عليه ، لأنّه كان يظهر الإسلام مسرّاً بالكفر ، ولأنّ التّوبة عند الخوف عين الزّندقة.
لكن المالكيّة صرّحوا بقبول التّوبة من الزّنديق إذا أظهرها قبل الاطّلاع عليه.
وفي رواية عند الحنفيّة وهي رواية عند الشّافعيّة والحنابلة أنّ الزّنديق تجري عليه أحكام المرتدّ فتقبل توبته بشروطها ، لقوله تعالى : «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهمْ مَا قَدْ سَلَفَ» .
وألحق الشّافعيّة بالزّنادقة الباطنيّة بمختلف فرقهم ، كما ألحق بهم الحنابلة الحلوليّة والإباحيّة وسائر الطّوائف المارقين من الدّين.
«ب - توبة من تكرّرت ردّته»
14 - صرّح الحنابلة - وهو رواية عند الحنفيّة ونسب إلى مالك بأنّه لا تقبل توبة من تكرّرت ردّته ، لقوله تعالى : «إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرَاً لَمْ يَكُن اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهمْ وَلا لِيَهْدِيهمْ سَبِيلاً» .
ولقوله سبحانه : «إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرَاً لَنْ تُقْبَلَ تَوبَتُهمْ» والازدياد يقتضي كفرا جديدا لا بدّ من تقدّم إيمان عليه.
ولما روي أنّ ابن مسعود رضي الله عنه أتي برجل فقال له : إنّه أتي بك مرّة فزعمت أنّك تبت وأراك قد عدت فقتله.
ولأنّ تكرار الرّدّة منه يدلّ على فساد عقيدته وقلّة مبالاته بالدّين فيقتل.
وقال الشّافعيّة وهو المشهور في مذهب الحنفيّة والمالكيّة : إنّه تقبل توبة المرتدّ ولو تكرّرت ردّته ، لإطلاق قوله تعالى : «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهمْ مَا قَد سَلَفَ» ولقوله عليه الصلاة والسلام : « أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلّا اللّه ، فإذا قالوا لا إله إلّا اللّه عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها وحسابهم على اللّه » .
لكنّهم صرّحوا بأنّ المرتدّ المتكرّرة منه الرّدّة إذا تاب ثانيا عزّر بالضّرب أو بالحبس ولا يقتل ، قال ابن عابدين : إذا ارتدّ ثانيا ثمّ تاب ضربه الإمام وخلّى سبيله ، وإن ارتدّ ثالثا ثمّ تاب ضربه ضربا وجيعا وحبسه حتّى تظهر عليه آثار التّوبة ويرى أنّه مخلص ثمّ خلّى سبيله ، فإن عاد فعل به هكذا أبدا ما دام حتّى يرجع إلى الإسلام.
وقد جاء مثل هذا عن المالكيّة والشّافعيّة.
«ج - توبة السّاحر»
15 - السّحر علم يستفاد منه حصول ملكة نفسانيّة يقتدر بها على أفعال غريبة بأسباب خفيّة.
وعرّفه ابن خلدون بأنّه علم بكيفيّة استعدادات تقتدر النّفوس البشريّة بها على التّأثيرات في عالم العناصر بغير معيّن.
واتّفق الفقهاء على أنّ تعليمه وتعلّمه حرام لقوله تعالى : «وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» فذمّهم على تعليمه ، « ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عدّه من السّبع الموبقات » .
قال ابن قدامة لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم.
وقد صرّح الحنفيّة بأنّه لا تقبل توبة السّاحر فيجب قتله ولا يستتاب ، وذلك لسعيه بالفساد ولا يلزم من عدم كفره مطلقا عدم قتله ، لأنّ قتله بسبب سعيه بالفساد ، فإذا ثبت ضرره ولو بغير مكفّر يقتل دفعا لشرّه كالخنّاق وقطّاع الطّريق.
وهذا مذهب الحنابلة.
وحدّ السّاحر عند الحنابلة القتل ويكفر بتعلّمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو إباحته.
وفي رواية أخرى عن أحمد ما يدلّ على أنّه لا يكفر.
وقال المالكيّة : إذا حكم بكفره فإن كان مجاهرا به يقتل إلا أن يتوب فتقبل توبته ، وإن كان يخفيه فهو كالزّنديق لا تقبل توبته.
16 - والدّليل على عدم قبول توبة السّاحر حديث جندب بن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « حدّ السّاحر ضربة بالسّيف » فسمّاه حدّاً والحدّ بعد ثبوت سببه لا يسقط بالتّوبة.
ولما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : « إنّ السّاحرة سألت أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم - وهم متوافرون - هل لها من توبة ؟ فما أفتاها أحد » ، ولأنّه لا طريق لنا إلى إخلاصه في توبته لأنّه يضمر السّحر ولا يجهر به ، فيكون إظهار الإسلام والتّوبة خوفا من القتل مع بقائه على تلك المفسدة.
وقال الشّافعيّة : إن علّم أو تعلّم السّحر واعتقد تحريمه لم يكفر ، وإن اعتقد إباحته مع العلم بتحريمه كفر ، لأنّه كذّب اللّه تعالى في خبره ويقتل كما يقتل المرتدّ.
فالظّاهر من كلامهم أنّه تقبل توبة السّاحر كما تقبل توبة المرتدّ.
وهذا ما قرّره الحنابلة في الرّواية الثّانية عندهم حيث قالوا : إنّ السّاحر إن تاب قبلت توبته ، لأنّه ليس بأعظم من الشّرك ، والمشرك يستتاب ومعرفة السّحر لا تمنع قبول توبته ، فإنّ اللّه تعالى قبل توبة سحرة فرعون.
وفي الجملة ، فالخلاف في قبول توبة هذه الطّوائف ، إنّما هو في الظّاهر من أحكام الدّنيا من ترك قتلهم وثبوت أحكام الإسلام في حقّهم ، وأمّا قبول اللّه لها في الباطن وغفرانه لمن تاب وأقلع ظاهرا أو باطنا فلا خلاف فيه ، فإنّ اللّه تعالى لم يسدّ باب التّوبة عن أحد من خلقه وقد قال في المنافقين : «إلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهمْ لِلَّهِ فَأولئكَ مَعَ المُؤمنينَ وَسَوفَ يُؤتِي اللَّهُ المُؤمِنينَ أَجْرَاً عَظِيمَاً» .
وتفصيل ما يتّصل بالسّحر ينظر في مصطلح : « سحر » .
«آثار التّوبة»
«أوّلاً : في حقوق العباد»
17 - التّوبة بمعنى النّدم على ما مضى والعزم على عدم العود لمثله لا تكفي لإسقاط حقّ من حقوق العباد.
فمن سرق مال أحد أو غصبه أو أساء إليه بطريقة أخرى لا يتخلّص من المسائلة بمجرّد النّدم والإقلاع عن الذّنب والعزم على عدم العود ، بل لا بدّ من ردّ المظالم ، وهذا الأصل متّفق عليه بين الفقهاء.
قال النّوويّ : إن كانت المعصية قد تعلّق بها حقّ ماليّ كمنع الزّكاة والغصب والجنايات ، في أموال النّاس وجب مع ذلك تبرئة الذّمّة عنه بأن يؤدّي الزّكاة ، ويردّ أموال النّاس إن بقيت ، ويغرم بدلها إن لم تبق ، أو يستحلّ المستحقّ فيبرّئه ، ويجب أن يعلم المستحقّ إن لم يعلم بالحقّ وأن يوصّله إليه إن كان غائبا إن كان غصبه هناك.
فإن مات سلّمه إلى وارثه ، فإن لم يكن له وارث وانقطع خبره رفعه إلى قاض ترضى سيرته وديانته ، فإن تعذّر تصدّق به على الفقراء بنيّة الضّمان له إن وجده.
وإن كان معسرا نوى الضّمان إذا قدر.
فإن مات قبل القدرة فالمرجوّ من فضل اللّه تعالى المغفرة ، وإن كان حقّا للعباد ليس بماليّ كالقصاص وحقّ القذف فيأتي المستحقّ ويمكّنه من الاستيفاء ، فإن شاء اقتصّ وإن شاء عفا.
ومثله ما ذكره فقهاء الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة مع تفصيل في بعض الفروع حسب نوعيّة المعصية وتناسب التّوبة معها كما هو مبيّن في مواضعها.
«ثانياً : في حقوق اللّه تعالى»
18 - حقوق اللّه الماليّة كالزّكوات والكفّارات والنّذور لا تسقط بالتّوبة ، بل يجب مع التّوبة تبرئة الذّمّة بأدائها كما تقدّم.
أمّا حقوق اللّه تعالى غير الماليّة كالحدود مثلا فقد اتّفق الفقهاء على أنّ جريمة قطع الطّريق « الحرابة » تسقط بتوبة القاطع قبل أن يقدر عليه ، لقوله تعالى : «إلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيهمْ فَاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .
فدلّت هذه الآية على أنّ قاطع الطّريق إذا تاب قبل أن يظفر به سقط عنه الحدّ ، والمراد بما قبل القدرة في الآية أن لا تمتدّ إليهم يد الإمام بهرب أو استخفاء أو امتناع.
وتوبته بردّ المال إلى صاحبه إذا كان قد أخذ المال لا غير ، مع العزم على أن لا يعود لمثله في المستقبل.
فيسقط عنه القطع أصلا ، ويسقط عنه القتل حدّاً ، وكذلك إن أخذ المال وقتل حتّى لم يكن للإمام أن يقتله حدّا ، ولكن يدفعه إلى أولياء المقتول يقتلونه قصاصا إذا تحقّقت شروطه.
وإن لم يأخذ المال ولم يقتل فتوبته النّدم على ما فعل والعزم على التّرك في المستقبل.
ولا يسقط عن المحارب حدّ الزّنى والشّرب والسّرقة إذا ارتكبها حال الحرابة ثمّ تاب قبل القدرة عليه عند المالكيّة والشّافعيّة في الأظهر ، وهو احتمال عند الحنابلة ، ومفهوم إطلاق الحنفيّة في هذه الحدود.
والمذهب عند الحنابلة وهو خلاف الأظهر عند الشّافعيّة أنّها تسقط عن المحارب إذا تاب قبل القدرة عليه لعموم الآية.
أمّا حدّ القذف وما عليه من حقوق الآدميّين من الأموال والجراح فلا تسقط عن المحارب كغير المحارب إلا أن يعفى له عنها.
19 - أمّا في غير المحاربة فإنّ الحدود المختصّة باللّه تعالى كحدّ الزّنى والسّرقة وشرب الخمر فلا تسقط بالتّوبة عند الحنفيّة ، وهو المشهور عند المالكيّة ، والأظهر عند الشّافعيّة ، ورواية عند الحنابلة ، لقوله تعالى : «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ» وقوله سبحانه : «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهمَا»
وهذا عامّ في التّائبين وغيرهم ، ولأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامديّة ، وقطع الّذي أقرّ بالسّرقة ، وقد جاءوا تائبين يطلبون التّطهير بإقامة الحدّ ، وقد سمّى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فعلهم توبة فقال في حقّ المرأة : لقد تابت توبة لو قسّمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم » .
والرّأي الثّاني وهو خلاف الأظهر عند الشّافعيّة وهو رواية عند الحنابلة ورأي لبعض المالكيّة أنّه إن تاب من عليه حدّ من غير المحاربين يسقط عنه الحدّ لقوله تعالى :
«وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإنْ تَابَا وَأصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما» .
وذكر حدّ السّارق ثمّ قال : «فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيهِ» .
على أنّ بعض الفقهاء فرّقوا بين التّوبة من هذه الجرائم قبل الرّفع للإمام وبعده فيقولون بإسقاط التّوبة لها قبل الرّفع لا بعده.
كما فصّل في مصطلحاتها ، وقد تقدّم أنّ عقوبة الرّدّة تسقط بالتّوبة قبل الرّفع وبعده.
« ر : ردّة » .
«ثالثاً : في التّعزيرات»
20 - يسقط التّعزير بالتّوبة عند عامّة الفقهاء إذا لم يكن فيه حقّ من حقوق العباد ، كترك الصّلاة والصّوم مثلاً ، لأنّ المقصود من التّعزير التّأديب والإصلاح ، وقد ثبت بالتّوبة ، بخلاف حقوق العباد كالضّرب والشّتم ، لأنّها مبنيّة على المشاحّة كما مرّ.
وللتّفصيل انظر مصطلح : « تعزير » .
«رابعاً : في قبول الشّهادة»
21 - يشترط في قبول الشّهادة العدالة ، فمن ارتكب كبيرة أو أصرّ على صغيرة سقطت عدالته ولا تقبل شهادته إذا لم يتب ، وهذا باتّفاق الفقهاء.
وإذا تاب عن المعصية وقيل بقبول توبته تقبل شهادته عند جمهور الفقهاء ، سواء أكانت المعصية من الحدود أم من التّعزيرات ، وسواء أكانت بعد استيفاء الحدود أم قبله.
واختلفوا في قبول شهادة المحدود في القذف بعد التّوبة :
فذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّه إذا تاب المحدود في قذف تقبل شهادته ، وتوبته بتكذيب نفسه فيما قذف به ، واستدلّوا بأنّ اللّه سبحانه وتعالى قال : «فَاجْلِدُوهمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهمْ شَهَادَةً أَبَدَاً وَأولئكَ هم الفَاسِقُون إلا الَّذِينَ تَابُوا» ، فاستثنى التّائبين بقوله : «إلا الَّذِينَ تَابُوا» والاستثناء من النّفي إثبات ، فيكون تقديره «إلا الَّذينَ تَابُوا» فاقبلوا شهادتهم وليسوا بفاسقين ، لأنّ الجمل المعطوفة بعضها على بعض بالواو ، والواو للجمع فتجعل الجمل كلّها كالجملة الواحدة ، فيعود الاستثناء إلى جميعها.
ولأنّ القاذف لو تاب قبل إقامة الحدّ عليه تقبل شهادته عند الجميع ، ولا جائز أن تكون إقامة الحدّ عليه هي الموجبة لردّ الشّهادة ، لأنّه فعل الغير وهو مطهّر أيضا.
ولأنّه لو أسلم تقبل شهادته فهذا أولى.
ولما روي عن عمر رضي الله عنه أنّه كان يقول لأبي بكرة حين شهد على المغيرة بن شعبة : تب أقبل شهادتك.
ولم ينكر ذلك عليه منكر ، فكان إجماعا.
وقال سعيد بن المسيّب شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة رجال ، أبو بكرة ، ونافع بن الحارث ، وشبل بن معبد ، ونكل زياد ، فجلد عمر الثّلاثة وقال لهم : توبوا تقبل شهادتكم ، فتاب رجلان وقبل عمر شهادتهما وأبى أبو بكرة فلم تقبل شهادته.
وقال الحنفيّة : لا تقبل شهادة المحدود في قذف وإن تاب ، لقوله تعالى : «وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أبَدَاً وَأولئكَ هُم الفَاسِقُون» ، ووجهه أنّ اللّه تعالى ردّ شهادته على التّأبيد نصّا ، فمن قال هو مؤقّت إلى وجود التّوبة يكون ردّا لما اقتضاه النّصّ فيكون مردودا.
والقياس على الكفر وغيره من الجرائم لا يجوز ، لأنّ القياس المخالف للنّصّ لا يصحّ.
ولأنّ ردّ الشّهادة معطوف على الجملة المتقدّمة إلى «فَاجْلِدُوهمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً» وهي حدّ فكذا هذا ، فصار من تمام الحدّ ، ولهذا أمر الأئمّة به ، والحدّ لا يرتفع بالتّوبة.
وقوله تعالى : «وَأُولَئِكَ هُم الفَاسِقُون» ليس بحدّ ، لأنّ الحدّ يقع بفعل الأئمّة- أي الحكّام - ، والفسق وصف قائم بالذّات ، فيكون منقطعا عن الأوّل ، فينصرف الاستثناء بقوله تعالى : «إلا الَّذِينَ تَابُوا» إلى ما يليه ضرورة ، لا إلى الجميع.
فالمحدود في القذف إذا تاب لا يسمّى فاسقا لكنّه لا تقبل شهادته وذلك من تمام الحدّ.
توثيق
التّعريف
1 - التّوثيق لغة : مصدر وثّق الشّيء إذا أحكمه وثبّته ، وثلاثيّه وثق.
يقال وثق الشّيء وثاقة : قوّى وثبت وصار محكما.
والوثيقة ما يحكم به الأمر ، والوثيقة : الصّكّ بالدّين أو البراءة منه ، والمستند ، وما جرى هذا المجرى والجمع وثائق.
والموثّق من يوثّق العقود.
ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى.
الألفاظ ذات الصّلة
«التّزكية والتّعديل»
«التّزكية»
2 - التّزكية : المدح والثّناء ، يقال : زكّى فلان بيّنته أي مدحها ، وتزكية الرّجل نسبته إلى الزّكاء وهو الصّلاح ، وفي الاصطلاح : الإخبار بعدالة الشّاهد.
والتّعديل مثله وهو نسبة الشّاهد إلى العدالة.
فالتّزكية والتّعديل توثيق للأشخاص ليؤخذ بأقوالهم ، وعلى هذا فالتّوثيق أعمّ لأنّه يشمل التّزكية وغيرها من الرّهن والكفالة وغيرهما.
«البيّنة»
3 - البيّنة من بان الشّيء إذا ظهر ، وأبنته : أظهرته ، والبيّنة اسم لكلّ ما يبيّن الحقّ ويظهره ، وسمّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم الشّهود بيّنة لوقوع البيان بقولهم وارتفاع الإشكال بشهادتهم وعلى ذلك فالتّوثيق أعمّ من البيّنة لأنّه يتناول البيّنة والرّهن والكفالة.
«التّسجيل»
4 - هو الإثبات في السّجلّ وهو كتاب القاضي ونحوه.
وفي الدّرر : المحضر : ما كتب فيه ما جرى بين الخصمين من إقرار أو إنكار والحكم ببيّنة أو نكول على وجه يرفع الاشتباه ، والصّكّ : ما كتب فيه البيع والرّهن والإقرار وغيرها.
والحجّة والوثيقة يتناولان الثّلاثة.
وقال ابن بطّال : المحاضر : ما يكتب فيها قصّة المتحاكمين عند حضورهما مجلس الحكم وما جرى بينهما وما أظهر كلّ واحد منهما من حجّة من غير تنفيذ ولا حكم مقطوع به ، والسّجلّات : الكتب الّتي تجمع المحاضر وتزيد عليها بتنفيذ الحكم وإمضائه.
وعلى ذلك فالتّسجيل هو إثبات الأحكام الّتي يصدرها القاضي وتختلف مراتبها في القوّة والضّعف.
فهو من أنواع التّوثيق.
«حكمة مشروعيّة التّوثيق»
مجموع الفتاوى - (ج 7 / ص 22)ومجموع الفتاوى - (ج 7 / ص 683) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 317) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 322) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 325) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 670) ومجموع الفتاوى - (ج 14 / ص 291)ومجموع الفتاوى - (ج 15 / ص 51) ومجموع الفتاوى - (ج 15 / ص 55) ومجموع الفتاوى - (ج 16 / ص 20) ومجموع الفتاوى - (ج 34 / ص 171) وفتاوى الأزهر - (ج 6 / ص 43) وفتاوى الأزهر - (ج 8 / ص 55) وفتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 153) وفتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 201) وفتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 222) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 1 / ص 87) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 7 / ص 311)وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 7 / ص 328) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 16 / ص 60) وفتاوى السبكي - (ج 4 / ص 441)وفتاوى الرملي - (ج 6 / ص 248) والفتاوى الثلاثية - (ج 1 / ص 39) والمنتقى من فتاوى الفوزان - (ج 21 / ص 1) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 5 / ص 25) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 14 / ص 19) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 43 / ص 11) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 64 / ص 23) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 124 / ص 4)ولقاءات الباب المفتوح - (ج 124 / ص 6)ولقاءات الباب المفتوح - (ج 153 / ص 3)وفتاوى يسألونك - (ج 1 / ص 178) وفتاوى يسألونك - (ج 2 / ص 179) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 2 / ص 116) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 4 / ص 143) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 4 / ص 220) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 4 / ص 409) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 5 / ص 383) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 5 / ص 393) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 6 / ص 319) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 6 / ص 322)ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 6 / ص 327) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 6 / ص 328) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 6 / ص 332) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 6 / ص 407) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 9 / ص 282) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 10 / ص 219) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 11 / ص 226) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 14 / ص 16) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 15 / ص 95) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 15 / ص 103) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 15 / ص 225) ونور على الدرب - (ج 1 / ص 97) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 260) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 925) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1212) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1311) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1401) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1430) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1531) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1689) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4950) وغيرها

أسباب رفع العقوبة عن العبد لشيخ الإسلام ابن تيمية(3)
وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ تَعَالَى : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }(1)
__________
(1) - ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } روايات منها : ما رواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب قال : لما اجتمعنا على الهجرة . تواعدت أنا وهشام بن العاص بن وائل السَّهْمى وعيَّاش بن أبى ربيعة بن عتبة ، فقلنا : الموعد أضَاةَ بنى غفار - أى : غدير بنى غفار - وقلنا : من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحبه فأصبحت أنا وعياش بن عتبة ، وحبس عنا هشام ، وإذا به قد فُتِن فافتَتنَ ، فكنا نقول بالمدينة : هؤلاء قد عرفوا الله - عز وجل - وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة ، وكانوا هم - أيضاً - يقولون هذا فى أنفسهم . فأنزل الله - عز وجل - فى كتابه : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ . . } إلى قوله - تعالى - { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } قال عمر : فكتبتها بيدى ، ثم بعثتها إلى هشام . قال هشام : فلما قدمت على خرجت بها إلى ذى طوى فقلت : اللهم فهمنيها ، فعرفت أنها نزلت فينا ، فرجعت فجلست على بعيرى فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم .
والأمر فى قوله - تعالى - : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإضافة العباد إلى الله - تعالى - للتشريف والتكريم .
والإِسراف : تجاوز الحد فى كل شئ ، وأشهر ما يكون استعمالا فى الإِنفاق ، كما فى قوله - تعالى - : { يابني ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا } والمراد بالإِسراف هنا : الإِسراف فى اقتراف المعاصى والسيئات ، والخطاب للمؤمنين المذنبين . وعدى الفعل " أسرفوا " بعلى ، لتضمنه معنى الجناية ، أى جنوا على أنفسهم .
والقُنُوط : اليأس ، وفعله من بابى ضرب وتعب . يقال : فلان قانط من الحصول على هذا الشئ ، أى يائس من ذلك ولا أمل له فى تحقيق ما يريده .
والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - لعبادى المؤمنين الذين جنوا على أنفسهم باتكابهم للمعاصى ، قل لهم : لا تيأسوا من رحمة الله - تعالى - ومن مغفرته لكم .
وجملة { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } تعليلية . أى : لا تيأسوا من رحمة الله - تعالى - لأنه هو الذى تفضل بمحو الذنوب جميعها . لمن يشاء من عباده المؤمنين العصاة .
{ إِنَّهُ } - سبحانه - { هُوَ الغفور الرحيم } أى : هو الواسع المغفرة والرحمة لمن يشاء من عباده المؤمنين ، فهم إن تابوا من ذنوبهم قبل - سبحانه - توبتهم كما وعد تفضلا منه وكرما ، وإن ما توا دون أن يتوبوا ، فهم تحت رحمته ومشيئته ، إن شاء غفر لهم ، وإن شاء عذبهم ، ثم أدخلهم الجنة بفضله وكرمه
أما غير المؤمنين ، فإنهم إن تابوا من كفرهم ودخلوا فى الإِسلام ، غفر - سبحانه - ما كان منهم قبل الإِسلام لأن الإِسلام يَجُبّ ما قبله .
وإن ماتوا على كفرهم فلن يغفر الله - تعالى - لهم ، لقوله : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ } قال الإِمام الشوكانى : واعلم أن هذه الآية أرجى آية فى كتاب الله ، لاشتمالها على أعظم بشارة ، فإنه أولا : أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم ، ومزيد تبشيرهم ، ثم وصفهم بالإسراف لى المعاصى . . ثم عقب على ذلك بالنهى عن القنوط من الرحمة . . ثم جاء بما لا يبقى بعده شك ولا يتخالج القلب عند سماعه ظن فقال : { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب . . } فالألف واللام قد صيرت الجمع الذى دخلت عليه للجنس الذى يستلزم استغراق أفراده ، فهو فى قوة إن الله يغفر كل ذنب كائنا ما كان ، إلا ما أخرجه النص القرآنى وهو الشرك .
ثم لم يكتف بما أخبر به عباده من مغفرة كل ذنب ، بل أكد ذلك بقوله { جميعا } فيالها من بشارة ترتاح لها النفوس . . وما أحسن تعليل هذا الكلام بقوله : { إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم . . } .
وقال الجمل فى حاشيته ما ملخصه : وفى هذه الآية من أنواع المعانى والبيان أشياء حسنة ، منها إقباله عليهم ، ونداؤهم ، ومنها : إضافتهم إليه إضافة تشريف ، ومنها : الالتفات من التكلم إلى الغيبة ، فى قوله : { مِن رَّحْمَةِ الله } ، ومنها : إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى ، ومنه : إعادة الظاهر بلفظه فى قوله : { إِنَّ الله يَغْفِرُ } ومنها : إبراز الجملة من قوله : { إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } مؤكدة بإن ، والفصل ، وبإعادة الصفتين اللتين تضمنتهما الجملة السابقة .
وقال عبد الله بن مسعود وغيره : هذه أرجى آية فى كتاب الله تعالى . الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3669)
إنها الرحمة الواسعة التي تسع كل معصية . كائنة ما كانت وإنها الدعوة للأوبة . دعوة العصاة المسرفين الشاردين المبعدين في تيه الضلال . دعوتهم إلى الأمل والرجاء والثقة بعفو الله . إن الله رحيم بعباده . وهو يعلم ضعفهم وعجزهم . ويعلم العوامل المسلطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجه . ويعلم أن الشيطان يقعد لهم كل مرصد . ويأخذ عليهم كل طريق . ويجلب عليهم بخيله ورجله . وأنه جاد كل الجد في عمله الخبيث! ويعلم أن بناء هذا المخلوق الإنساني بناء واه . وأنه مسكين سرعان ما يسقط إذا أفلت من يده الحبل الذي يربطه والعروة التي تشده . وأن ما ركب في كيانه من وظائف ومن ميول ومن شهوات سرعان ما ينحرف عن التوازن فيشط به هنا أو هناك؛ ويوقعه في المعصية وهو ضعيف عن الاحتفاظ بالتوازن السليم . .
يعلم الله سبحانه عن هذا المخلوق كل هذا فيمد له في العون؛ ويوسع له في الرحمة؛ ولا يأخذه بمعصيته حتى يهيء له جميع الوسائل ليصلح خطأه ويقيم خطاه على الصراط . وبعد أن يلج في المعصية ، ويسرف في الذنب ، ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره ، ولم يعد يقبل ولا يستقبل . في هذه اللحظة لحظة اليأس والقنوط ، يسمع نداء الرحمة الندي اللطيف :
{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر الذنوب جميعاً . إنه هو الغفور الرحيم } . .
وليس بينه وقد أسرف في المعصية ، ولج في الذنب ، وأبق عن الحمى ، وشرد عن الطريق ليس بينه وبين الرحمة الندية الرخية ، وظلالها السمحة المحيية . ليس بينه وبين هذا كله إلا التوبة . التوبة وحدها . الأوبة إلى الباب المفتوح الذي ليس عليه بواب يمنع ، والذي لا يحتاج من يلج فيه إلى استئذان -في ظلال القرآن - (ج 6 / ص 240)

(53) سورة الزمر ، وَقَالَ تَعَالَى : {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(1) (104) سورة التوبة . وَقَالَ تَعَالَى : {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}(2)
__________
(1) - أى : ألم يعلم هؤلاء التائبون من ذنوبهم ، أن الله - تعالى - وحده ، هو الذى يقبل التوبة الصادقة من عباده المخلصين ، وأنه - سبحانه - هو الذى " يأخذ الصدقات " .
أى : يتقبلها من أصحابها قبول من يأخذ شيئا ليؤدى بدله : فالتعبير بالأخذ للترغيب فى بذل الصدقات ، ودفعها للفقراء . والاستفهام للتقرير والتحضيض على تجديد التوبة وبذل الصدقة .
وقوله : { وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم } تذييل قصد به تقرير ما قبله وتأكيده .
أى : وأن الله وحده هو الذى يقل توبة المرة بعد الأخرى ، وأنه هو الواسع الرحمة بهم ، الكثير المغفرة لهم :
قال ابن كثير : قوله : { أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات } هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منهما يحط الذنوب ويمحقها ، وأخبر - تعالى - أن كل من تاب إليه تاب عليه ، ومن تصدق بصدقة من كسب حلال فإن الله يتقبلها بيمينه ، فيربيها لصاحبها حتى تصير الثمرة مثل أحد ، كل جاء بذلك الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فعن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربى أحدكم مهره ، حتى إن اللقمة لتكون مثل أحد " وتصديق ذلك فى كتاب الله قوله : { أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات } . وقوله : { يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات } وعن عبد الله بن مسعود قال : إن الصدقة تقع فى يد الله - تعالى - قبل أن تقع فى يد السائل ، ثم قرأ هذه الآية . { أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات . . . } .الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 2039)
(2) - هذا بيان لكمال كرم الله تعالى وسعة جوده وتمام لطفه، بقبول التوبة الصادرة من عباده حين يقلعون عن ذنوبهم ويندمون عليها، ويعزمون على أن لا يعاودوها، إذا قصدوا بذلك وجه ربهم، فإن الله يقبلها بعد ما انعقدت سببا للهلاك، ووقوع العقوبات الدنيوية والدينية.
{ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ } ويمحوها، ويمحو أثرها من العيوب، وما اقتضته من العقوبات، ويعود التائب عنده كريما، كأنه ما عمل سوءا قط، ويحبه ويوفقه لما يقر به إليه.
ولما كانت التوبة من الأعمال العظيمة، التي قد تكون كاملة بسبب تمام الإخلاص والصدق فيها، وقد تكون ناقصة عند نقصهما، وقد تكون فاسدة إذا كان القصد منها بلوغ غرض من الأغراض الدنيوية، وكان محل ذلك القلب الذي لا يعلمه إلا الله، ختم هذه الآية بقوله: { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } فالله تعالى، دعا جميع العباد إلى الإنابة إليه والتوبة من التقصير، فانقسموا -بحسب الاستجابة له- إلى قسمين: مستجيبين وصفهم بقوله { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }
أي: يستجيبون لربهم لما دعاهم إليه وينقادون له ويلبون دعوته، لأن ما معهم من الإيمان والعمل الصالح يحملهم على ذلك، فإذا استجابوا له، شكر الله لهم، وهو الغفور الشكور.
وزادهم من فضله توفيقا ونشاطا على العمل، وزادهم مضاعفة في الأجر زيادة عن ما تستحقه أعمالهم من الثواب والفوز العظيم.
وأما غير المستجيبين للّه وهم المعاندون الذين كفروا به وبرسله، فـ { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في الدنيا والآخرة، ثم ذكر أن من لطفه بعباده، أنه لا يوسع عليهم الدنيا سعة، تضر بأديانهم فقال: { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأرْضِ }
أي: لغفلوا [ ص 759 ] عن طاعة الله، وأقبلوا على التمتع بشهوات الدنيا، فأوجبت لهم الإكباب على ما تشتهيه نفوسهم، ولو كان معصية وظلما.
{ وَلَكِنْ يُنزلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ } بحسب ما اقتضاه لطفه وحكمته { إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } كما في بعض الآثار أن الله تعالى يقول: "إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة، ولو أمرضته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا المرض ولو عافيته لأفسده ذلك، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم، إني خبير بصير "{ وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ } أي: المطر الغزير الذي به يغيث البلاد والعباد، { مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا } وانقطع عنهم مدة ظنوا أنه لا يأتيهم، وأيسوا وعملوا لذلك الجدب أعمالا فينزل الله الغيث { وَيَنْشُرُ } به { رَحْمَتَهُ } من إخراج الأقوات للآدميين وبهائمهم، فيقع عندهم موقعا عظيما، ويستبشرون بذلك ويفرحون. { وَهُوَ الْوَلِيُّ } الذي يتولى عباده بأنواع التدبير، ويتولى القيام بمصالح دينهم ودنياهم. { الْحَمِيدُ } في ولايته وتدبيره، الحميد على ما له من الكمال، وما أوصله إلى خلقه من أنواع الإفضال.تفسير السعدي - (ج 1 / ص 758)

(25) سورة الشورى ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ
" السَّبَبُ الثَّانِي " الِاسْتِغْفَارُ(1)
__________
(1) - 1 - الاستغفار في اللّغة : طلب المغفرة بالمقال والفعال.
وعند الفقهاء : سؤال المغفرة كذلك ، والمغفرة في الأصل : السّتر ، ويراد بها التّجاوز عن الذّنب وعدم المؤاخذة به ، وأضاف بعضهم : إمّا بترك التّوبيخ والعقاب رأساً ، أو بعد التّقرير به فيما بين العبد وربّه.
ويأتي الاستغفار بمعنى الإسلام.
قال اللّه تعالى : «وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون» أي يسلمون قاله مجاهدٌ وعكرمة.
كذلك يأتي الاستغفار بمعنى الدّعاء والتّوبة ، وستأتي صلته بهذه الألفاظ.
الألفاظ ذات الصّلة
«أ- التّوبة»
2 - الاستغفار والتّوبة يشتركان في أنّ كلاًّ منهما رجوعٌ إلى اللّه سبحانه ، كذلك يشتركان في طلب إزالة ما لا ينبغي ، إلاّ أنّ الاستغفار طلبٌ من اللّه لإزالته.
والتّوبة سعيٌ من الإنسان في إزالته.
وعند الإطلاق يدخل كلٌّ منهما في مسمّى الآخر ، وعند اقترانهما يكون الاستغفار طلب وقاية شرّ ما مضى والتّوبة الرّجوع وطلب وقاية شرّ ما يخافه في المستقبل من سيّئات أعماله ، ففي التّوبة أمران لا بدّ منهما : مفارقة شيءٍ ، والرّجوع إلى غيره ، فخصّت التّوبة بالرّجوع والاستغفار بالمفارقة ، وعند إفراد أحدهما يتناول كلٌّ منهما الآخر.
وعند المعصية يكون الاستغفار المقرون بالتّوبة عبارةٌ عن طلب المغفرة باللّسان ، والتّوبة عبارةٌ عن الإقلاع عن الذّنب بالقلب والجوارح.
«ب- الدّعاء»
3 - كلّ دعاءٍ فيه سؤال الغفران فهو استغفارٌ.
إلاّ أنّ بين الاستغفار والدّعاء عموماً وخصوصاً من وجهٍ ، يجتمعان في طلب المغفرة ، وينفرد الاستغفار إن كان بالفعل لا بالقول ، كما ينفرد الدّعاء إن كان بطلب غير المغفرة.
«الحكم التّكليفيّ للاستغفار»
4 - الأصل في الاستغفار أنّه مندوبٌ إليه ، لقول اللّه سبحانه.
«واستغفروا اللّه إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ» يحمل على النّدب ، لأنّه قد يكون من غير معصيةٍ ، لكنّه قد يخرج عن النّدب إلى الوجوب كاستغفار النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكالاستغفار من المعصية.
وقد يخرج إلى الكراهة كالاستغفار للميّت خلف الجنازة ، صرّح بذلك المالكيّة.
وقد يخرج إلى الحرمة ، كالاستغفار للكفّار.
«الاستغفار المطلوب»
5 - الاستغفار المطلوب هو الّذي يحلّ عقدة الإصرار ، ويثبت معناه في الجنان ، لا التّلفّظ باللّسان ، فإن كان باللّسان - وهو مصرٌّ على المعصية - فإنّه ذنبٌ يحتاج إلى استغفارٍ.
كما روي : « التّائب من الذّنب ، كمن لا ذنب له ، والمستغفر من الذّنب وهو مقيمٌ عليه كالمستهزئ بربّه » ويطلب للمستغفر بلسانه أن يكون ملاحظاً لهذه المعاني بجنانه ، ليفوز بنتائج الاستغفار ، فإن لم يتيسّر له ذلك فيستغفر بلسانه ، ويجاهد نفسه على ما هنالك ، فالميسور لا يسقط بالمعسور.
فإن انتفى الإصرار ، وكان الاستغفار باللّسان مع غفلة القلب ، ففيه رأيان :
الأوّل : وصفه بأنّه توبة الكذّابين ، وهو قول المالكيّة ، وقولٌ للحنفيّة والشّافعيّة ، إلاّ أنّ المالكيّة جعلوه معصيةً لاحقةً بالكبائر ، وقال الآخرون : بأنّه لا جدوى منه فقط.
الثّاني : اعتباره حسنةً وهو قول الحنابلة ، وقولٌ للحنفيّة والشّافعيّة ، لأنّ الاستغفار عن غفلةٍ خيرٌ من الصّمت وإن احتاج إلى استغفارٍ ، لأنّ اللّسان إذا ألف ذكراً يوشك أن يألفه القلب فيوافقه عليه ، وترك العمل للخوف منه من مكايد الشّيطان.
«صيغ الاستغفار»
6 - ورد الاستغفار بصيغٍ متعدّدةٍ ، والمختار منها ما رواه البخاريّ عن شدّاد بن أوسٍ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « سيّد الاستغفار أن تقول : اللّهمّ أنت ربّي لا إله إلاّ أنت ، خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شرّ ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك عليّ ، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنّه لا يغفر الذّنوب إلاّ أنت » .
7 - ومن أفضل أنواع الاستغفار أن يقول العبد : « أستغفر اللّه الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه » .
وهذا على سبيل المثال وليس الحصر كما أنّ بعض الأوقات وبعض العبادات تختصّ بصيغٍ مأثورةٍ تكون أفضل من غيرها وينبغي التّقيّد بألفاظها ، وموطن بيانها غالباً كتب السّنّة والأذكار والآداب ، في أبواب الدّعاء والاستغفار والتّوبة.
وإذا كانت صيغ الاستغفار السّابقة مطلوبةً فإنّ بعض صيغه منهيٌّ عنها ، ففي الصّحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا يقولنّ أحدكم : اللّهمّ اغفر لي إن شئت ، اللّهمّ ارحمني إن شئت ، ليعزم المسألة فإنّ اللّه لا مستكره له »
«استغفار النّبيّ صلى الله عليه وسلم»
8 - استغفار النّبيّ عليه الصلاة والسلام واجبٌ عليه ، لقوله تعالى : «فاعلم أنّه لا إله إلاّ اللّه واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات» ، وقد ذكر الفقهاء والمفسّرون وجوهاً عديدةً في استغفاره صلى الله عليه وسلم منها : أنّه يراد به ما كان من سهوٍ أو غفلةٍ ، أو أنّه لم يكن عن ذنبٍ ، وإنّما كان لتعليم أمّته ، ورأي السّبكيّ : أنّ استغفار النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يحتمل إلاّ وجهاً واحداً ، وهو : تشريفه من غير أن يكون ذنبٌ ، لأنّه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى.
وقد ثبت « أنّه صلى الله عليه وسلم كان يستغفر في اليوم الواحد سبعين مرّةً ، ومائة مرّةٍ » ، بل كان أصحابه يعدّون له في المجلس الواحد قبل أن يقوم :
« ربّ اغفر لي وتب عليّ إنّك أنت التّوّاب الغفور مائة مرّةٍ » .
«الاستغفار في الطّهارة»
«أوّلاً- الاستغفار عقب الخروج من الخلاء»
9 - يندب الاستغفار بعد قضاء الحاجة ، وعند الخروج من الخلاء.
روى التّرمذيّ أنّه « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال : غفرانك » .
ووجه سؤال المغفرة هنا كما قال ابن العربيّ - هو العجز عن شكر النّعمة في تيسير الغذاء ، وإيصال منفعته ، وإخراج فضلته.
«ثانياً-الاستغفار بعد الوضوء»
10 - يسنّ الاستغفار ضمن الذّكر الوارد عند إتمام الوضوء روى أبو سعيدٍ الخدريّ رضي الله تعالى عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من توضّأ فقال : سبحانك اللّهمّ ، وبحمدك أشهد أن لا إله إلاّ أنت أستغفرك ، وأتوب إليك ، كتب في رقٍّ ، ثمّ جعل في طابعٍ ، فلم يكسر إلى يوم القيامة » وقد وردت صيغٌ أخرى تتضمّن الاستغفار عقب الانتهاء من الوضوء وأثناءه يذكرها الفقهاء في سنن الوضوء.
«الاستغفار عند دخول المسجد والخروج منه»
11 - يستحبّ عند المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، الاستغفار عند دخول المسجد وعند الخروج منه.
لما ورد عن فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قالت : « كان رسول اللّه إذا دخل المسجد صلّى على محمّدٍ وسلّم ، وقال : ربّ اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج صلّى على محمّدٍ وسلّم ، وقال : ربّ اغفر لي ، وافتح لي أبواب فضلك » والوارد في كتب الحنفيّة أنّ المصلّي يقول عند دخول المسجد : « اللّهمّ افتح لي أبواب رحمتك » وعند خروجه : « اللّهمّ إنّي أسألك من فضلك » .
«الاستغفار في الصّلاة»
«أوّلاً- الاستغفار في افتتاح الصّلاة»
12 - جاء الاستغفار في بعض الرّوايات الّتي وردت في دعاء الافتتاح في الصّلاة ،
وأخذ بذلك الشّافعيّة مطلقاً ، والحنفيّة والحنابلة في صلاة اللّيل ، منها ما رواه أبو بكرٍ الصّدّيق رضي الله عنه عن النّبيّ عليه الصلاة والسلام : « اللّهمّ إنّي ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ، ولا يغفر الذّنوب إلاّ أنت فاغفر لي مغفرةً من عندك ، وارحمني إنّك أنت التّوّاب الرّحيم » .
ويكره الافتتاح في المكتوبة عند المالكيّة ومحلّ الاستغفار في دعاء الافتتاح يذكره الفقهاء في سنن الصّلاة ، أو في كيفيّة الصّلاة.
«ثانياً-الاستغفار في الرّكوع والسّجود والجلوس بين السّجدتين»
13 يسنّ الدّعاء بالمغفرة في الرّكوع عند الشّافعيّة ، والحنابلة.
روت عائشة رضي الله عنها قالت : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللّهمّ وبحمدك اللّهمّ اغفر لي يتأوّل القرآن » ، أي يحقّق قوله تعالى : «فسبّح بحمد ربّك واستغفره» « متّفقٌ عليه.
إلاّ أنّ الشّافعيّة يجعلون ذلك للمنفرد ، ولإمام قومٍ محصورين رضوا بالتّطويل.
ولا يأتي بغير التّسبيح في الرّكوع عند الحنفيّة ، والمالكيّة ، غير أنّ الحنفيّة يجيزون الاستغفار عند الرّفع من الرّكوع.
14 - وفي السّجود يندب الدّعاء بالمغفرة كذلك عند المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، لحديث عائشة السّابق.
15 - وفي الجلوس بين السّجدتين يسنّ الاستغفار عند الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة ، وهو قولٌ عن أحمد ، والأصل في هذا ما روى حذيفة » أنّه صلّى مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فكان يقول بين السّجدتين : ربّ اغفر لي ، ربّ اغفر لي «.
وإنّما لم يجب الاستغفار ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعلّمه المسيء صلاته.
والمشهور عند الحنابلة أنّه واجبٌ ، وهو قول إسحاق وداود ، وأقلّه مرّةً واحدةً ، وأقلّ الكمال ثلاثٌ ، والكمال للمنفرد ما لا يخرجه إلى السّهو ، وبالنّسبة للإمام : ما لا يشقّ على المصلّين.
الاستغفار في القنوت
16 - جاء الاستغفار في ألفاظ القنوت ، قنوت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقنوت عمر ، وألفاظه كبقيّة الألفاظ الواردة ، ولم نقف على أمرٍ يخصّه ، إلاّ ما ذكره المالكيّة والحنفيّة بأنّ الدّعاء بالمغفرة يقوم مقام القنوت عند العجز عنه.
الاستغفار بعد التّشهّد الأخير
17 - يندب الاستغفار بعد التّشهّد الأخير ، ورد في السّنّة » اللّهمّ إنّي ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ، وإنّه لا يغفر الذّنوب إلاّ أنت ، فاغفر لي مغفرةً من عندك ، وارحمني إنّك أنت الغفور الرّحيم « متّفقٌ عليه.
كذلك ورد » اللّهمّ اغفر لي ما قدّمت وما أخّرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أسرفت ، وما أنت أعلم به منّي أنت المقدّم وأنت المؤخّر لا إله إلاّ أنت «
الاستغفار عقب الصّلاة
18 - يسنّ الاستغفار عقب الصّلاة ثلاثاً ، لما روي عن عبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنه قال :» من قال أستغفر اللّه العظيم الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه ، ثلاث مرّاتٍ ، غفر اللّه ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر «
ووردت رواياتٌ أخرى يذكرها الفقهاء في الذّكر الوارد عقب الصّلاة ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : » من استغفر اللّه تعالى في دبر كلّ صلاةٍ ثلاث مرّاتٍ فقال : أستغفر اللّه الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه غفر اللّه عزّ وجلّ ذنوبه وإن كان قد فرّ من الزّحف «
الاستغفار في الاستسقاء
19 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يحصل الاستسقاء بالاستغفار وحده.
غير أنّ أبا حنيفة يقصره على ذلك ، مستدلاًّ بقول اللّه سبحانه {فقلت استغفروا ربّكم إنّه كان غفّاراً يرسل السّماء عليكم مدراراً} لأنّ الآية دلّت على أنّ الاستغفار وسيلةٌ للسّقيا.
بدليل {يرسل السّماء عليكم مدراراً} ولم تزد الآية الكريمة على الاستغفار ، وروي عن عمر رضي الله عنه أنّه خرج إلى الاستسقاء ولم يصلّ بجماعةٍ ، بل صعد المنبر ، واستغفر اللّه ، وما زاد عليه ، فقالوا : ما استسقيت يا أمير المؤمنين ، فقال : لقد استسقيت بمجاديح السّماء الّتي بها يستنزل الغيث.
20 - وبقيّة الفقهاء والقائلون بندب صلاة الاستسقاء والخطبتين ، أو الخطبة الواحدة ، يسنّ عندهم الإكثار من الاستغفار في الخطبة ، وتبدّل تكبيرات الافتتاح الّتي في خطبتي العيدين بالاستغفار في خطبتي الاستسقاء عند المالكيّة ، والشّافعيّة ، وصيغته كما أوردها النّوويّ في مجموعه ' أستغفر اللّه الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه '.
ويكبّر كخطبتي العيدين عند الحنابلة ، ونفى الحنفيّة التّكبير ولم يتعرّضوا للاستغفار في الخطبة.
الاستغفار للأموات
21 - الاستغفار عبادةٌ قوليّةٌ يصحّ فعلها للميّت.
وقد ثبت في السّنّة الاستغفار للأموات ، ففي صلاة الجنازة ورد الدّعاء للميّت بالمغفرة ، لكن لا يستغفر لصبيٍّ ونحوه.
وتفصيل أحكامه يذكرها الفقهاء في صلاة الجنازة.
وعقب الدّفن يندب أن يقف جماعةٌ يستغفرون للميّت ، لأنّه حينئذٍ في سؤال منكرٍ ونكيرٍ ، روى أبو داود بإسناده عن عثمان قال : » كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا دفن الرّجل وقف عليه وقال : استغفروا لأخيكم واسألوا له التّثبّت فإنّه الآن يسأل « وصرّح بذلك جمهور الفقهاء.
22 - ومن آداب زيارة القبور عند الحنفيّة والمالكيّة ، والشّافعيّة ، الدّعاء بالمغفرة لأهلها عقب التّسليم عليهم ، واستحسن ذلك الحنابلة.
23 - وهذا كلّه يخصّ المؤمن ، أمّا الكافر الميّت فيحرم الاستغفار له بنصّ القرآن والإجماع.
الاستغفار عن الغيبة
24 - اختلف العلماء في حقّ الّذي اغتاب ، هل يلزمه استحلال من اغتيب ، مع الاستغفار له ، أم يكفيه الاستغفار ؟.
الأوّل : إذا لم يعلم من اغتيب فيكفي الاستغفار ، وهو مذهب الشّافعيّة ، والحنابلة ، وقولٌ للحنفيّة ، ولأنّ إعلامه ربّما يجرّ فتنةً ، وفي إعلامه إدخال غمٍّ عليه.
لما روى الخلاّل بإسناده عن أنسٍ مرفوعاً » كفّارة من اغتيب أن يستغفر له «.
فإن علم فلا بدّ من استحلاله مع الاستغفار له.
الثّاني : يكفي الاستغفار سواءٌ علم الّذي اغتيب أم لم يعلم ، ولا يجب استحلاله ، وهو قول الطّحاويّ من الحنفيّة.
والمالكيّة على أنّه لا بدّ من استحلال المغتاب إن كان موجوداً ، فإن لم يجده ، أو أحداً من ورثته استغفر له.
وفي استحلال الورثة خلافٌ بين الفقهاء يذكر في التّوبة.
الاستغفار للمؤمنين
25 - اتّفق الفقهاء على أنّه يسنّ التّعميم في الدّعاء بالمغفرة للمؤمنين والمؤمنات ، لخبر » ما من دعاءٍ أحبّ إلى اللّه تعالى من أن يقول العبد : اللّهمّ اغفر لأمّة محمّدٍ مغفرةً عامّةً « وفي روايةٍ أنّه » قام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في صلاةٍ ، وقمنا معه ، فقال أعرابيٌّ وهو في الصّلاة : اللّهمّ ارحمني ومحمّداً ، ولا ترحم معنا أحداً ، فلمّا سلّم النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال للأعرابيّ : لقد حجّرت واسعاً «.
ولا بأس أن يخصّ الإنسان نفسه بالدّعاء ، لحديث أبي بكرة ، وأمّ سلمة ، وسعد بن أبي وقّاصٍ : » اللّهمّ إنّي أعوذ بك ، وأسألك
« إلخ وهذا يخصّ نفسه الكريمة ، ذلك ما لم يكن في القنوت ، وخلفه من يؤمّن ، لخبر ثوبان » لا يؤمّ رجلٌ قوماً فيخصّ نفسه بدعوةٍ دونهم ، فإن فعل فقد خانهم «
الاستغفار للكافر
26 - اتّفق الفقهاء على أنّ الاستغفار للكافر محظورٌ ، بل بالغ بعضهم فقال : إنّ الاستغفار للكافر يقتضي كفر من فعله ، لأنّ فيه تكذيباً للنّصوص الواردة الّتي تدلّ على أنّ اللّه تعالى لا يغفر أن يشرك به ، وأنّ من مات على كفره فهو من أهل النّار.
27 - وأمّا من استغفر للكافر الحيّ رجاء أن يؤمن فيغفر له ، فقد صرّح الحنفيّة بإجازة ذلك ، وجوّز الحنابلة الدّعاء بالهداية ، ولا يستبعد ذلك من غيرهم ، كذلك استظهر بعضهم جواز الدّعاء لأطفال الكفّار بالمغفرة ، لأنّ هذا من أحكام الآخرة.
تكفير الذّنوب بالاستغفار
28 - الاستغفار إن كان بمعنى التّوبة فإنّه يرجى أن يكفّر به الذّنوب إن توافرت فيه شروط التّوبة ، يقول اللّه سبحانه : {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفوراً رحيماً} ويقول صلى الله عليه وسلم رسول اللّه : » من استغفر اللّه تعالى في دبر كلّ صلاةٍ ثلاث مرّاتٍ ، فقال : أستغفر اللّه الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه ، غفر له وإن كان قد فرّ من الزّحف « وقد قيل : لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار فالمراد بالاستغفار هنا التّوبة.
29 - فإن كان الاستغفار على وجه الافتقار والانكسار دون تحقّق التّوبة ،
فقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فالشّافعيّة قالوا : إنّه يكفّر الصّغائر دون الكبائر ، وقال المالكيّة والحنابلة : إنّه تغفر به الذّنوب ، ولم يفرّقوا بين صغيرةٍ وكبيرةٍ ، وهو ما صرّحت به بعض كتب الحنفيّة.
لقوله صلى الله عليه وسلم : » الاستغفار ممحاةٌ للذّنوب «.
الاستغفار عند النّوم
30 - يستحبّ الاستغفار عند النّوم مع بعض الأدعية الأخرى ، ليكون الاستغفار خاتمة عمله إذا رفعت روحه ، روى التّرمذيّ عن أبي سعيدٍ : » من قال حين يأوي إلى فراشه أستغفر اللّه الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه ثلاث مرّاتٍ غفر اللّه له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر «.
الدّعاء بالمغفرة للمشمّت
31 - يسنّ للعاطس أن يدعو بالمغفرة لمن شمّته بقوله : ' يرحمك اللّه ' فيقول له العاطس : ' يغفر اللّه لنا ولكم ' أو يقول له : ' يهديكم اللّه ويصلح بالكم ' أو يقول : ' يرحمنا اللّه وإيّاكم ويغفر لنا ولكم ' ، لما في الموطّأ عن نافعٍ أنّ ابن عمر كان إذا عطس فقيل له : يرحمك اللّه ، قال : يرحمنا اللّه وإيّاكم ويغفر لنا ولكم.
اختتام الأعمال بالاستغفار
32 - المتتبّع للقرآن الكريم والأذكار النّبويّة يجد اختتام كثيرٍ من الأعمال بالاستغفار ،
فقد أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم في آخر حياته بالاستغفار بقوله تعالى : {فسبّح بحمد ربّك واستغفره إنّه كان توّاباً}.
33 - وفي اختتام الصّلاة ، وتمام الوضوء يندب الاستغفار كما تقدّم.
34 - والاستغفار في نهاية المجلس كفّارةٌ لما يقع في المجلس من لغطٍ ، روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » من جلس مجلساً فكثر فيه لغطه ، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك : سبحانك اللّهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلاّ أنت أستغفرك وأتوب إليك ، إلاّ غفر له ما كان في مجلسه ذلك «.
35 - ومن آكد أوقات الاستغفار : السّحر - آخر اللّيل - لقوله تعالى : {وبالأسحار هم يستغفرون} وللخبر الصّحيح : » ينزل ربّنا تبارك وتعالى كلّ ليلةٍ إلى سماء الدّنيا حين يبقى ثلث اللّيل الأخير ، فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ ".-الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1079)
وانظر : مجموع الفتاوى - (ج 3 / ص 120)ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 89) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 696) ومجموع الفتاوى - (ج 15 / ص 41) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 137 / ص 10) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 6 / ص 300) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 1 / ص 289) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 455) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 660) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 932) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 4932) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 4935) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 10018) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 415) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 1925) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 8203) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 3317) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 3360) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 7 / ص 449) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 7 / ص 1809) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 4171) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 4928) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 8015) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 3837) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 3843) ومجموع فتاوى ابن باز - (ج 22 / ص 104) ورياض الصالحين - (ج 1 / ص 202) وأسباب المغفرة - (ج 1 / ص 3) وأسباب المغفرة - (ج 1 / ص 3) وإحياء علوم الدين - (ج 1 / ص 318) والأذكار للنووي - (ج 1 / ص 402) وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (ج 1 / ص 168) وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (ج 3 / ص 403) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 485) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1530) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 2509) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 3861) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4611) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4824)

:
كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِى عَمْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا - وَرُبَّمَا قَالَ أَذْنَبَ ذَنْبًا - فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ - وَرُبَّمَا قَالَ أَصَبْتُ - فَاغْفِرْ لِى فَقَالَ رَبُّهُ أَعَلِمَ عَبْدِى أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِى . ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا ، فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ - أَوْ أَصَبْتُ - آخَرَ فَاغْفِرْهُ . فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِى أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِى ، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا - وَرُبَّمَا قَالَ أَصَابَ ذَنْبًا - قَالَ قَالَ رَبِّ أَصَبْتُ - أَوْ أَذْنَبْتُ - آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِى . فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِى أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِى - ثَلاَثًا - فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ » (1)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(7507 ) ومسلم برقم(7162 )
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 21 / ص 89)
قَالَ اِبْن بَطَّال فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الْمُصِرّ عَلَى الْمَعْصِيَة فِي مَشِيئَة اللَّه تَعَالَى إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ مُغَلِّبًا الْحَسَنَة الَّتِي جَاءَ بِهَا وَهِيَ اِعْتِقَاده أَنَّ لَهُ رَبًّا خَالِقًا يُعَذِّبهُ وَيَغْفِر لَهُ وَاسْتِغْفَاره إِيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله : مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْر أَمْثَالهَا وَلَا حَسَنَة أَعْظَم مِنْ التَّوْحِيد ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ اِسْتِغْفَاره رَبّه تَوْبَة مِنْهُ قُلْنَا لَيْسَ الِاسْتِغْفَار أَكْثَر مِنْ طَلَب الْمَغْفِرَة ، وَقَدْ يَطْلُبهَا الْمُصِرّ وَالتَّائِب وَلَا دَلِيل فِي الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ تَائِب مِمَّا سَأَلَ الْغُفْرَان عَنْهُ ؛ لِأَنَّ حَدّ التَّوْبَة الرُّجُوع عَنْ الذَّنْب وَالْعَزْم أَنْ لَا يَعُود إِلَيْهِ وَالْإِقْلَاع عَنْهُ وَالِاسْتِغْفَار بِمُجَرَّدِهِ لَا يُفْهَم مِنْهُ ذَلِكَ اِنْتَهَى ، وَقَالَ غَيْره : شُرُوط التَّوْبَة ثَلَاثَة : الْإِقْلَاع وَالنَّدَم وَالْعَزْم عَلَى أَنْ لَا يَعُود ، وَالتَّعْبِير بِالرُّجُوعِ عَنْ الذَّنْب لَا يُفِيد مَعْنَى النَّدَم بَلْ هُوَ إِلَى مَعْنَى الْإِقْلَاع أَقْرَب وَقَالَ بَعْضهمْ : يَكْفِي فِي التَّوْبَة تَحَقُّق النَّدَم عَلَى وُقُوعه مِنْهُ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِم الْإِقْلَاع عَنْهُ وَالْعَزْم عَلَى عَدَم الْعَوْد فَهُمَا نَاشِئَانِ عَنْ النَّدَم لَا أَصْلَانِ مَعَهُ وَمِنْ ثُمَّ جَاءَ الْحَدِيث : " النَّدَم تَوْبَة " وَهُوَ حَدِيث حَسَن مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِم وَأَخْرَجَهُ اِبْن حِبَّان مِنْ حَدِيث أَنَس وَصَحَّحَهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْث فِي ذَلِكَ فِي بَاب التَّوْبَة مِنْ أَوَائِل " كِتَاب الدَّعَوَات " مُسْتَوْفًى ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي الْمُفْهِم : يَدُلّ هَذَا الْحَدِيث عَلَى عَظِيم فَائِدَة الِاسْتِغْفَار وَعَلَى عَظِيم فَضْل اللَّه وَسَعَة رَحْمَته وَحِلْمه وَكَرَمِهِ ؛ لَكِنَّ هَذَا الِاسْتِغْفَار هُوَ الَّذِي ثَبَتَ مَعْنَاهُ فِي الْقَلْب مُقَارِنًا لِلِّسَانِ لِيَنْحَلّ بِهِ عَقْد الْإِصْرَار وَيَحْصُل مَعَهُ النَّدَم فَهُوَ تَرْجَمَة لِلتَّوْبَةِ ، وَيَشْهَد لَهُ حَدِيث : خِيَاركُمْ كُلّ مُفْتَن تَوَّاب ، وَمَعْنَاهُ الَّذِي يَتَكَرَّر مِنْهُ الذَّنْب وَالتَّوْبَة فَكُلَّمَا وَقَعَ فِي الذَّنْب عَادَ إِلَى التَّوْبَة لَا مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّه بِلِسَانِهِ وَقَلْبه مُصِرّ عَلَى تِلْكَ الْمَعْصِيَة ، فَهَذَا الَّذِي اِسْتِغْفَاره يَحْتَاج إِلَى الِاسْتِغْفَار . قُلْت : وَيَشْهَد لَهُ مَا أَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس مَرْفُوعًا " التَّائِب مِنْ الذَّنْب كَمَنْ لَا ذَنْب لَهُ ، وَالْمُسْتَغْفِر مِنْ الذَّنْب وَهُوَ مُقِيم عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ " وَالرَّاجِح أَنَّ قَوْله " وَالْمُسْتَغْفِر " إِلَى آخِره مَوْقُوف وَأَوَّله عِنْد اِبْن مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود وَسَنَده حَسَن ، وَحَدِيث " خِيَاركُمْ كُلّ مُفْتَن تَوَّاب " ذَكَرَهُ فِي مُسْنَد الْفِرْدَوْس عَنْ عَلِيّ قَالَ الْقُرْطُبِيّ : وَفَائِدَة هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الْعَوْد إِلَى الذَّنْب وَإِنْ كَانَ أَقْبَح مِنْ اِبْتِدَائِهِ ؛ لِأَنَّهُ اِنْضَافَ إِلَى مُلَابَسَة الذَّنْب نَقْض التَّوْبَة ؛ لَكِنَّ الْعَوْد إِلَى التَّوْبَة أَحْسَن مِنْ اِبْتِدَائِهَا ؛ لِأَنَّهُ اِنْضَافَ إِلَيْهَا مُلَازَمَة الطَّلَب مِنْ الْكَرِيم وَالْإِلْحَاح فِي سُؤَاله وَالِاعْتِرَاف بِأَنَّهُ لَا غَافِر لِلذَّنْبِ سِوَاهُ ، قَالَ النَّوَوِيّ فِي الْحَدِيث : إِنَّ الذُّنُوب وَلَوْ تَكَرَّرَتْ مِائَة مَرَّة بَلْ أَلْفًا وَأَكْثَر وَتَابَ فِي كُلّ مَرَّة قُبِلَتْ تَوْبَته أَوْ تَابَ عَنْ الْجَمِيع تَوْبَة وَاحِدَة صَحَّتْ تَوْبَته ، وَقَوْله : " اِعْمَلْ مَا شِئْت " مَعْنَاهُ مَا دُمْت تُذْنِب فَتَتُوب غَفَرْت لَك ، وَذَكَرَ فِي " كِتَاب الْأَذْكَار " عَنْ الرَّبِيع بْن خَيْثَمٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَقُلْ : أَسْتَغْفِر اللَّه وَأَتُوب إِلَيْهِ فَيَكُون ذَنْبًا وَكَذِبًا إِنْ لَمْ تَفْعَل بَلْ قُلْ : اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ ، قَالَ النَّوَوِيّ هَذَا حَسَن ، وَأَمَّا كَرَاهِيَة أَسْتَغْفِر اللَّه وَتَسْمِيَته كَذِبًا فَلَا يُوَافَق عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى أَسْتَغْفِر اللَّه أَطْلُب مَغْفِرَته وَلَيْسَ هَذَا كَذِبًا ، قَالَ وَيَكْفِي فِي رَدّه حَدِيث اِبْن مَسْعُود بِلَفْظِ : مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِر اللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم وَأَتُوب إِلَيْهِ غُفِرَتْ ذُنُوبه وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنْ الزَّحْف ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِم . قُلْت : هَذَا فِي لَفْظ أَسْتَغْفِر اللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم ، وَأَمَّا أَتُوب إِلَيْهِ فَهُوَ الَّذِي عَنَى الرَّبِيع رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ كَذِب وَهُوَ كَذَلِكَ إِذَا قَالَهُ وَلَمْ يَفْعَل التَّوْبَة كَمَا قَالَ ، وَفِي الِاسْتِدْلَال لِلرَّدِّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ اِبْن مَسْعُود نَظَر لِجَوَازِ أَنْ يَكُون الْمُرَاد مِنْهُ مَا إِذَا قَالَهَا وَفَعَلَ شُرُوط التَّوْبَة ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الرَّبِيع قَصَدَ مَجْمُوع اللَّفْظَيْنِ لَا خُصُوص أَسْتَغْفِر اللَّه فَيَصِحّ كَلَامه كُلّه وَاَللَّه أَعْلَم . وَرَأَيْت فِي الْحَلَبِيَّات لِلسُّبْكِيّ الْكَبِير : الِاسْتِغْفَار طَلَب الْمَغْفِرَة إِمَّا بِاللِّسَانِ أَوْ بِالْقَلْبِ أَوْ بِهِمَا ، فَالْأَوَّل فِيهِ نَفْع ؛ لِأَنَّهُ خَيْر مِنْ السُّكُوت ؛ وَلِأَنَّهُ يَعْتَاد قَوْل الْخَيْر ، وَالثَّانِي نَافِع جِدًّا ، وَالثَّالِث أَبْلَغ مِنْهُمَا لَكِنَّهُمَا لَا يُمَحِّصَانِ الذَّنْب حَتَّى تُوجَد التَّوْبَة ، فَإِنَّ الْعَاصِي الْمُصِرّ يَطْلُب الْمَغْفِرَة وَلَا يَسْتَلْزِم ذَلِكَ وُجُود التَّوْبَة مِنْهُ ، إِلَى أَنْ قَالَ : وَاَلَّذِي ذَكَرْته مِنْ أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِغْفَار هُوَ غَيْر مَعْنَى التَّوْبَة هُوَ بِحَسَب وَضْع اللَّفْظ ؛ لَكِنَّهُ غَلَبَ عِنْد كَثِير مِنْ النَّاس أَنَّ لَفْظ أَسْتَغْفِرُ اللَّه مَعْنَاهُ التَّوْبَة فَمَنْ كَانَ ذَلِكَ مُعْتَقَدَهُ فَهُوَ يُرِيد التَّوِيَة لَا مَحَالَة ، ثُمَّ قَالَ : وَذَكَرَ بَعْض الْعُلَمَاء أَنَّ التَّوْبَة لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالِاسْتِغْفَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ( وَأَنْ اِسْتَغْفِرُوا رَبّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) وَالْمَشْهُور أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ .

.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ »(1).
وَقَدْ يُقَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الِاسْتِغْفَارُ هُوَ مَعَ التَّوْبَةِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ « مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِى الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً »(2).
__________
(1) - صحيح مسلم برقم(7141 )
شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 3 / ص 51)
هذه الأحاديث في باب الرجاء ذكرها المؤلف - رحمه الله - وهي كثيرة جدا منها: أن الله سبحانه وتعالى أرحم بعباده من الوالدة بولدها، ودليل ذلك قصة هذه المرأة التي كانت في السبي فرأت صبيا فأخذته وألصقته على صدرها وأرضعته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار .
قالوا: لا قال: فالله أرحم بعباده من هذه بولدها وهذا من تمام رحمته سبحانه وتعالى .
وآيات ذلك كثيرة منها: هذه النعم التي تترى علينا، وأعظمها نعمة الإسلام، فإن الله تعالى أضل عن الإسلام أمما، وهدى عباده المؤمنين لذلك وهي أكبر النعم .
ومنها أن الله أرسل الرسل إلى الخلق مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل .
وكذلك ذكر المؤلف الأحاديث التي فيها أن رحمة الله سبقت غضبه، ولهذا يعرض الله عز وجل على المذنبين أن يستغفروا ربهم، حتى يغفر لهم ولو شاء لأهلكهم ولم يرغبهم في التوبة .
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ولهذا قال في الحديث الذي رواه مسلم، قال: لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم .
وهذا ترغيب في أن الإنسان إذا أذنب، فليستغفر الله، فإنه إذا استغفر الله عز وجل بنية صادقة وقلب موقن، فإنه الله تعالى يغفر له، { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } .
ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام في الأصنام: { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وقول عيسى: { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }، رفع صلى الله عليه وسلم يديه وبكى، وقال: يا رب أمتي أمتي فقال الله سبحانه وتعالى لجبريل: اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك .
وقد أرضاه الله عز وجل في أمته، بأن جعل لهذه الأمة أجرها مضاعفا، كما جاء في الحديث الصحيح: أن مثل هذه الأمة مع من سبقها كمثل رجل استأجر أجراء من أول النهار إلى الظهر فأعطاهم على دينار دينار، واستأجر أجراء من الظهر إلى العصر وأعطاهم على دينار دينار واستأجر أجراء من العصر إلى الغروب وأعطاهم على دينارين دينارين، فاحتج الأولون وقالوا: كيف تعطينا على دينار دينار ونحن أكثر منهم عملا وتعطي هؤلاء على دينارين دينارين فقال لهم الذي استأجرهم هل ظلمتكم شيئا ؟ قالوا: لا .
إذا لا لوم عليه في ذلك ففضل الله على هذه الأمة كثير .
وقد أرضاه الله في أمته ولله الحمد من عدة وجوه منها كثرة الأجر، وأنهم الآخرون السابقون يوم القيامة، وأنها فضلت بفضائل كثيرة مثل قوله عليه الصلاة والسلام: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي .
فهذه الخصائص له ولأمته عليه الصلاة والسلام .
فالحاصل أن هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف - رحمه الله - كلها أحاديث رجاء، تحمل الإنسان على أن يعمل العمل الصالح يرجو بذلك ثواب الله ومغفرته
(2) - سنن أبى داود برقم(1516 ) وفيه ضعف
عون المعبود - (ج 3 / ص 439)
قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ :
( مَا أَصَرَّ ) : مَا نَافِيَة ، أَيْ مَا دَامَ عَلَى الْمَعْصِيَة
( مَنْ اِسْتَغْفَرَ ) : أَيْ مِنْ كُلِّ سَيِّئَةٍ
( وَإِنْ عَادَ ) : أَيْ وَلَوْ رَجَعَ إِلَى ذَلِكَ الذَّنْب أَوْ غَيْره
( فِي الْيَوْم ) : أَوْ اللَّيْلَة
( سَبْعِينَ مَرَّة ): ظَاهِرُهُ التَّكْثِيرُ وَالتَّكْرِيرُ .
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاء : الْمُصِرُّ هُوَ الَّذِي لَمْ يَسْتَغْفِرْ وَلَمْ يَنْدَمْ عَلَى الذَّنْبِ وَالْإِصْرَار عَلَى الذَّنْب إِكْثَارُهُ . وَقَالَ اِبْن الْمَلَك : الْإِصْرَار الثَّبَات وَالدَّوَام عَلَى الْمَعْصِيَة ، يَعْنِي مَنْ عَمِلَ مَعْصِيَة ثُمَّ اِسْتَغْفَرَ فَنَدِمَ عَلَى ذَلِكَ خَرَجَ عَنْ كَوْنه مُصِرًّا . ذَكَرَهُ فِي الْمِرْقَاة

وَقَدْ يُقَالُ : بَلْ الِاسْتِغْفَارُ بِدُونِ التَّوْبَةِ مُمْكِنٌ وَاقِعٌ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ(1)
__________
(1) - قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : هَلْ الِاعْتِرَافُ بِالْخَطِيئَةِ بِمُجَرَّدِهِ مَعَ التَّوْحِيدِ مُوجِبٌ لِغُفْرَانِهَا وَكَشْفِ الْكُرْبَةِ الصَّادِرَةِ عَنْهَا ؛ أَمْ يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ ؟ فَجَوَابُهُ : أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْغُفْرَانِ مَعَ التَّوْحِيدِ هُوَ التَّوْبَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا ؛ فَإِنَّ الشِّرْكَ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ إلَّا بِتَوْبَةٍ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ الْقُرْآنِ وَمَا دُونَ الشِّرْكِ فَهُوَ مَعَ التَّوْبَةِ مَغْفُورٌ ؛ وَبِدُونِ التَّوْبَةِ مُعَلَّقٌ بِالْمَشِيئَةِ .
كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّبُوبَ جَمِيعًا } فَهَذَا فِي حَقِّ التَّائِبِينَ ، وَلِهَذَا عَمَّمَ وَأَطْلَقَ ، وَخَتَمَ أَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ، وَقَالَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فَخَصَّ مَا دُونَ الشِّرْكِ وَعَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ فَإِذَا كَانَ الشِّرْكُ لَا يُغْفَرُ إلَّا بِتَوْبَةٍ ؛ وَأَمَّا مَا دُونَهُ فَيَغْفِرُهُ اللَّهُ لِلتَّائِبِ ؛ وَقَدْ يَغْفِرُهُ بِدُونِ التَّوْبَةِ لِمَنْ يَشَاءُ .
فَالِاعْتِرَافُ بِالْخَطِيئَةِ مَعَ التَّوْحِيدِ إنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِلتَّوْبَةِ أَوْجَبَ الْمَغْفِرَةَ ؛ وَإِذَا غُفِرَ الذَّنْبُ زَالَتْ عُقُوبَتُهُ ؛ فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ هِيَ وِقَايَةُ شَرِّ الذَّنْبِ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ الْغَفْرُ السِّتْرُ ، وَيَقُولُ : إنَّمَا سُمِّيَ الْمَغْفِرَةَ وَالْغَفَّارَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى السِّتْرِ ، وَتَفْسِيرُ اسْمِ اللَّهِ الْغَفَّارِ بِأَنَّهُ السَّتَّارُ وَهَذَا تَقْصِيرٌ فِي مَعْنَى الْغَفْرِ ؛ فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ مَعْنَاهَا وِقَايَةُ شَرِّ الذَّنْبِ بِحَيْثُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى الذَّنْبِ فَمَنْ غُفِرَ ذَنْبُهُ لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا مُجَرَّدُ سِتْرِهِ فَقَدْ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ ، وَمَنْ عُوقِبَ عَلَى الذَّنْبِ بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ غُفْرَانُ الذَّنْبِ إذَا لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ بِالذَّنْبِ .
وَأَمَّا إذَا اُبْتُلِيَ مَعَ ذَلِكَ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا فِي حَقِّهِ لِزِيَادَةِ أَجْرِهِ فَهَذَا لَا يُنَافِي الْمَغْفِرَةَ .
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ أَنْ يَأْتِيَ بِحَسَنَاتِ يَفْعَلُهَا فَإِنَّ مَنْ يُشْتَرَطُ فِي التَّوْبَةِ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ ؛ وَقَدْ يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُ تَائِبٌ وَلَا يَكُونُ تَائِبًا بَلْ يَكُونُ تَارِكًا ، وَالتَّارِكُ غَيْرُ التَّائِبِ .
فَإِنَّهُ قَدْ يُعْرِضُ عَنْ الذَّنْبِ لِعَدَمِ خُطُورِهِ بِبَالِهِ أَوْ الْمُقْتَضَى لِعَجْزِهِ عَنْهُ ، أَوْ تَنْتَفِي إرَادَتُهُ لَهُ بِسَبَبٍ غَيْرِ دِينِيِّ ، وَهَذَا لَيْسَ بِتَوْبَةٍ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ سَيِّئَةٌ وَيَكْرَهُ فِعْلَهُ لِنَهْيِ اللَّهِ عَنْهُ وَيَدَعُهُ لِلَّهِ تَعَالَى : لَا لِرَغْبَةِ مَخْلُوقٍ وَلَا لِرَهْبَةِ مَخْلُوقٍ ؛ فَإِنَّ التَّوْبَةَ مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ ؛ وَالْحَسَنَاتُ كُلُّهَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ وَمُوَافَقَةُ أَمْرِهِ ، كَمَا قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ ، فِي قَوْلِهِ : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ : أَخَلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ ، قَالُوا : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ ؟ قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ .
وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ ؛ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا .
وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ .
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا ، وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا ، وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا .
وَبَسْطُ الْكَلَامِ فِي التَّوْبَةِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَأَمَّا الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ عَلَى وَجْهِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ مِنْ غَيْرِ إقْلَاعٍ عَنْهُ فَهَذَا فِي نَفْسِ الِاسْتِغْفَارِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لَا تَوْبَةَ مَعَهُ .
وَهُوَ كَاَلَّذِي يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُ الذَّنْبَ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ ، وَهَذَا يَأْسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ، وَلَا يَقْطَعُ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُ فَإِنَّهُ دَاعٍ دَعْوَةً مُجَرَّدَةً .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ ، إلَّا كَانَ بَيْنَ إحْدَى ثَلَاثٍ : إمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنْ الْجَزَاءِ مِثْلَهَا ؛ وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ الشَّرِّ مِثْلَهَا قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إذًا نَكْثُرُ قَالَ : اللَّهُ أَكْثَرُ } فَمِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ قَدْ تَحْصُلُ مَعَهُ الْمَغْفِرَةُ وَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ صَرْفُ شَرٍّ آخَرَ أَوْ حُصُولُ خَيْرٍ آخَرَ ، فَهُوَ نَافِعٌ كَمَا يَنْفَعُ كُلَّ دُعَاءٍ .
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ : الِاسْتِغْفَارُ مَعَ الْإِصْرَارِ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ ، فَهَذَا إذَا كَانَ الْمُسْتَغْفِرُ يَقُولُهُ عَلَى وَجْهِ التَّوْبَةِ أَوْ يَدَّعِي أَنَّ اسْتِغْفَارَهُ تَوْبَةٌ ، وَأَنَّهُ تَائِبٌ بِهَذَا الِاسْتِغْفَارِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَعَ الْإِصْرَارِ لَا يَكُونُ تَائِبًا ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَالْإِصْرَارَ ضِدَّانِ : الْإِصْرَارُ يُضَادُّ التَّوْبَةَ ، لَكِنْ لَا يُضَادُّ الِاسْتِغْفَارُ بِدُونِ التَّوْبَةِ . الفتاوى الكبرى - (ج 7 / ص 407) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 316) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 375)

، فَإِنَّ هَذَا الِاسْتِغْفَارَ إذَا كَانَ مَعَ التَّوْبَةِ مِمَّا يُحْكَمُ بِهِ عَامٌّ فِي كُلِّ تَائِبٍ (1)،وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ التَّوْبَةِ فَيَكُونُ فِي حَقِّ بَعْضِ الْمُسْتَغْفِرِينَ الَّذِينَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُمْ عِنْدَ الِاسْتِغْفَارِ مِنْ الْخَشْيَةِ وَالْإِنَابَةِ مَا يَمْحُو الذُّنُوبَ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ (2)
__________
(1) - وفي فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين - (ج 1 / ص 121)
4 ـ قوله: (( يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبُك عَنان السماء ثم استغفرتني غفرتُ لك ))، لو كثرت ذنوب العبد حتى بلغت عَنان السماء، أي: بلغت السماء أو ما دون ذلك كالسحاب أو ما يبلغه بصر الناظر إلى فوق، ثم حصل من العبد الاستغفار مع التوبة من جميع الذنوب، فإنَّ الله تعالى يغفر تلك الذنوب ويتجاوز عنها، والتوبة تكون بالإقلاع من الذنب، والندم على ما فات، والعزيمة في المستقبل على ألاَّ يعود إليه، ومع هذه الثلاثة، فإن كان الذنب في حقِّ الله عزَّ وجلَّ وفيه كفَّارة، أتى بالكفارة، وإن كان في حق للآدميِّين، أدَّى حقوقهم إليهم أو تحلَّلهم منها.
(2) - أخرجه الترمذى برقم( 2850 ) عَنْ أَبِى عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَعَافِرِىِّ ثُمَّ الْحُبُلِىِّ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِى عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلاًّ كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا أَظَلَمَكَ كَتَبَتِى الْحَافِظُونَ فَيَقُولُ لاَ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ أَفَلَكَ عُذْرٌ فَيَقُولُ لاَ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً فَإِنَّهُ لاَ ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولُ احْضُرْ وَزْنَكَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاَّتِ فَقَالَ إِنَّكَ لاَ تُظْلَمُ. قَالَ فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِى كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِى كِفَّةٍ فَطَاشَتِ السِّجِلاَّتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ فَلاَ يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَىْءٌ ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وهو صحيح
وفي تحفة الأحوذي - (ج 6 / ص 438)
قَوْلُهُ : ( إِنَّ اللَّه سَيُخَلِّصُ ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ يُمَيِّزُ وَيَخْتَارُ
( رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) وَفِي رِوَايَةِ اِبْنِ مَاجَهْ : يُصَاحُ بِرَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ
( فَيَنْشُرُ ) بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ فَيَفْتَحُ
( تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا ) بِكِسْرَتَيْنِ فَتَشْدِيدٍ أَيْ كِتَابًا كَبِيرًا
( كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ ) أَيْ كُلُّ كِتَابٍ مِنْهَا طُولُهُ وَعَرْضُهُ مِقْدَارُ مَا يَمْتَدُّ إِلَيْهِ بَصَرُ الْإِنْسَانِ
( ثُمَّ يَقُولُ ) أَيْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
( أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا ) أَيْ الْمَكْتُوبَ
( أَظَلَمَك كَتَبَتِي ) بِفَتَحَاتٍ جَمْعُ كَاتِبٍ وَالْمُرَادُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ
( الْحَافِظُونَ ) أَيْ لِأَعْمَالِ بَنِي آدَمَ
( فَيَقُولُ أَفَلَك عُذْرٌ ) أَيْ فِيمَا فَعَلْته مِنْ كَوْنِهِ سَهْوًا أَوْ خَطَأً أَوْ جَهْلًا وَنَحْوَ ذَلِكَ
( فَيَقُولُ بَلَى ) أَيْ لَك عِنْدَنَا مَا يَقُومُ مَقَامَ عُذْرِك
( إِنَّ لَك عِنْدَنَا حَسَنَةً ) أَيْ وَاحِدَةً عَظِيمَةً مَقْبُولَةً . وَفِي رِوَايَةِ اِبْنِ مَاجَهْ : ثُمَّ يَقُولُ أَلَك عَنْ ذَلِكَ حَسَنَةٌ فَيَهَابُ الرَّجُلُ فَيَقُولُ لَا . فَيَقُولُ بَلَى إِنَّ لَك عِنْدَنَا حَسَنَاتٍ
( فَيُخْرَجُ ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْمُذَكَّرِ ، وَفِي رِوَايَةِ اِبْنِ مَاجَهْ فَتَخْرُجُ لَهُ
( بِطَاقَةٌ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : الْبِطَاقَةُ رُقْعَةٌ صَغِيرَةٌ يُثْبَتُ فِيهَا مِقْدَارُ مَا تَجْعَلُ فِيهِ إِنْ كَانَ عَيْنًا فَوَزْنُهُ أَوْ عَدَدُهُ ، وَإِنْ كَانَ مَتَاعًا فَثَمَنُهُ ، قِيلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُشَدُّ بِطَاقَةٍ مِنْ الثَّوْبِ فَتَكُونُ الْبَاءُ حِينَئِذٍ زَائِدَةً وَهِيَ كَلِمَةٌ كَثِيرَةُ الِاسْتِعْمَالِ بِمِصْرَ .
وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ : الْبِطَاقَةُ كَكِتَابَةِ الرُّقْعَةِ الصَّغِيرَةِ الْمَنُوطَةِ بِالثَّوْبِ الَّتِي فِيهَا رَقْمُ ثَمَنِهِ سُمِّيَتْ لِأَنَّهَا تُشَدُّ بِطَاقَةٍ مِنْ هُدْبِ الثَّوْبِ
( فِيهَا )أَيْ مَكْتُوبٌ فِي الْبِطَاقَةِ
( أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ) قَالَ الْقَارِي : يُحْتَمَلُ أَنَّ الْكَلِمَةَ هِيَ أَوَّلُ مَا نَطَقَ بِهَا . وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ تِلْكَ الْمَرَّةِ مِمَّا وَقَعَتْ مَقْبُولَةً عِنْدَ الْحَضْرَةِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِي مَادَّةِ الْخُصُوصِ مِنْ عُمُومِ الْأُمَّةِ
( اُحْضُرْ وَزْنَك ) أَيْ الْوَزْنَ الَّذِي لَك أَوْ وَزْنَ عَمَلِك أَوْ وَقْتَ وَزْنِك أَوْ آلَةَ وَزْنِك وَهُوَ الْمِيزَانُ لِيَظْهَرَ لَك اِنْتِفَاءُ الظُّلْمِ وَظُهُورُ الْعَدْلِ وَتَحَقُّقُ الْفَضْلِ
( فَيَقُولُ يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ ) أَيْ الْوَاحِدَةُ
( مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ ) أَيْ الْكَثِيرَةِ وَمَا قَدْرُهَا بِجَنْبِهَا وَمُقَابَلَتِهَا
( فَقَالَ فَإِنَّك لَا تُظْلَمُ ) أَيْ لَا يَقَعُ عَلَيْك الظُّلْمُ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ اِعْتِبَارِ الْوَزْنِ كَيْ يَظْهَرَ أَنْ لَا ظُلْمَ عَلَيْك فَاحْضُرْ الْوَزْنَ . قِيلَ وَجْهُ مُطَابَقَةِ هَذَا جَوَابًا لِقَوْلِهِ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ ؟ أَنَّ اِسْمَ الْإِشَارَةِ لِلتَّحْقِيرِ كَأَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ مَعَ هَذِهِ الْبِطَاقَةِ الْمُحَقَّرَةِ مُوَازَنَةٌ لِتِلْكَ السِّجِلَّاتِ ، فَرَدَّ بِقَوْلِهِ إِنَّك لَا تُظْلَمُ بِحَقِيرَةٍ ، أَيْ لَا تُحَقِّرُ هَذِهِ فَإِنَّهَا عَظِيمَةٌ عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ إِذْ لَا يَثْقُلُ مَعَ اِسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ وَلَوْ ثَقُلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَظُلِمْت
( قَالَ فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ ) بِكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ أَيْ فَرْدَةٍ مِنْ زَوْجَيْ الْمِيزَانِ ، فَفِي الْقَامُوسِ الْكِفَّةُ بِالْكَسْرِ مِنْ الْمِيزَانِ مَعْرُوفٌ وَيُفْتَحُ
( وَالْبِطَاقَةُ ) أَيْ وَتُوضَعُ
( فِي كِفَّةٍ ) أَيْ فِي أُخْرَى
( فَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ ) أَيْ خَفَّتْ
( وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ ) أَيْ رَجَحَتْ وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضِيِّ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ
( وَلَا يَثْقُلُ ) أَيْ وَلَا يَرْجَحُ وَلَا يَغْلِبُ
( مَعَ اِسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ ) وَالْمَعْنَى لَا يُقَاوِمُهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَعَاصِي بَلْ يَتَرَجَّحُ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى جَمِيعِ الْمَعَاصِي .
فَإِنْ قِيلَ : الْأَعْمَالُ أَعْرَاضٌ لَا يُمْكِنُ وَزْنُهَا وَإِنَّمَا تُوزَنُ الْأَجْسَامُ ، أُجِيبَ بِأَنَّهُ يُوزَنُ السِّجِلُّ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ الْأَعْمَالُ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ أَوْ أَنَّ اللَّهَ يُجَسِّمُ الْأَفْعَالَ وَالْأَقْوَالَ فَتُوزَنُ فَتَثْقُلُ الطَّاعَاتُ وَتَطِيشُ السَّيِّئَاتُ لِثِقَلِ الْعِبَادَةِ عَلَى النَّفْسِ وَخِفَّةِ الْمَعْصِيَةِ عَلَيْهَا وَلِذَا وَرَدَ : حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ .
وفي حاشية السندي على ابن ماجه - (ج 8 / ص 151)
قَالَ الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ : لَيْسَتْ هَذِهِ شَهَادَة التَّوْحِيد لِأَنَّ مِنْ شَأْن الْمِيزَان أَنْ يُوضَع فِي كِفَّته شَيْء وَفِي الْأُخْرَى ضِدّه فَتُوضَع الْحَسَنَات فِي كِفَّة وَالسَّيِّئَات فِي كِفَّة فَهَذَا غَيْر مُسْتَحِيل لِأَنَّ الْعَبْد يَأْتِي بِهِمَا جَمِيعًا وَيَسْتَحِيل أَنْ يَأْتِي بِالْكُفْرِ وَالْإِيمَان جَمِيعًا عَبْد وَاحِد يُوضَع الْإِيمَان فِي كِفَّة وَالْكُفْر فِي كِفَّة فَكَذَلِكَ اِسْتَحَالَ أَنْ تُوضَع شَهَادَة التَّوْحِيد فِي الْمِيزَان وَأَمَّا بَعْدَمَا آمَنَ الْعَبْد فَإِنَّ النُّطْق مِنْهُ بِلَا إِلَه إِلَّا اللَّه حَسَنَة تُوضَع فِي الْمِيزَان سَائِر الْحَسَنَات ا ه قُلْت شَهَادَة التَّوْحِيد وَالْإِيمَان حَسَنَة أَيْضًا فَإِنْ قَالَ لَيْسَ لَهُمَا مَا يُضَادّهُمَا شَخْصًا وَإِنْ كَانَ مَا يُضَادّهُمَا نَوْعًا وَهِيَ السَّيِّئَة الْمُقَابِلَة لِلْحَسَنَةِ فَيُرَاد أَنَّ النُّطْق بِلَا إِلَه إِلَّا اللَّه بَعْد الْإِيمَان لَيْسَ لَهُ مَا يُضَادّ شَخْصه أَيْضًا وَمَنْ لَمْ يَتْرُك الصَّلَاة قَطّ فَفِعْل الصَّلَاة مِنْهُ حَسَنَة لَا يُقَابِلهَا مِنْ السَّيِّئَات مَا يُضَادّهَا شَخْصًا فَلْيُتَأَمَّلْ

بِأَنَّ قَوْلَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ثَقُلَتْ بِتِلْكَ السَّيِّئَاتِ ؛ لَمَّا قَالَهَا بِنَوْعِ مِنْ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ الَّذِي يَمْحُو السَّيِّئَاتِ(1)
__________
(1) - وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 436)
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءَ فِي مَنْ عَزَمَ عَلَى " فِعْلِ مُحَرَّمٍ " كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ عَزْمًا جَازِمًا - فَعَجَزَ عَنْ فِعْلِهِ : إمَّا بِمَوْتِ أَوْ غَيْرِهِ . هَلْ يَأْثَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ أَمْ لَا ؟ وَإِنْ قُلْتُمْ : يَأْثَمُ فَمَا جَوَابُ مَنْ يَحْتَجُّ عَلَى عَدَمِ الْإِثْمِ بِقَوْلِهِ : { إذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ } وَبِقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ } وَاحْتَجَّ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ . ( أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَخْبَرَ بِالْعَفْوِ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَالْعَزْمُ دَاخِلٌ فِي الْعُمُومِ وَالْعَزْمُ وَالْهَمُّ وَاحِدٌ . قَالَهُ ابْنُ سيده . ( الثَّانِي أَنَّهُ جَعَلَ التَّجَاوُزَ مُمْتَدًّا إلَى أَنْ يُوجَدَ كَلَامٌ أَوْ عَمَلٌ وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي حَدِّ التَّجَاوُزِ وَيَزْعُمُ أَنْ لَا دَلَالَةَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذْ الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ } لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِدُخُولِ الْمَقْتُولِ فِي النَّارِ مُوَاجَهَتُهُ أَخَاهُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ لَا مُجَرَّدُ قَصْدٍ وَأَنْ لَا دَلَالَةَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي قَالَ : { لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَفَعَلْت وَفَعَلْت أَنَّهُمَا فِي الْإِثْمِ سَوَاءٌ وَفِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ } لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَتَكَلَّمْ } وَهَذَا قَدْ تَكَلَّمَ وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَاحْتِيجَ إلَى بَيَانِهَا مُطَوَّلًا مَكْشُوفًا مُسْتَوْفًى .
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تيمية - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ . الْحَمْدُ لِلَّهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَنَحْوُهَا تَحْتَاجُ قَبْلَ الْكَلَامِ فِي حُكْمِهَا إلَى حُسْنِ التَّصَوُّرِ لَهَا فَإِنَّ اضْطِرَابَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَقَعَ عَامَّتُهُ مِنْ أَمْرَيْنِ . ( أَحَدُهُمَا عَدَمُ تَحْقِيقِ أَحْوَالِ الْقُلُوبِ وَصِفَاتِهَا الَّتِي هِيَ مَوْرِدُ الْكَلَامِ . وَ ( الثَّانِي عَدَمُ إعْطَاءِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ حَقَّهَا ؛ وَلِهَذَا كَثُرَ اضْطِرَابُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ حَتَّى يَجِدَ النَّاظِرُ فِي كَلَامِهِمْ أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ إجماعات مُتَنَاقِضَةً فِي الظَّاهِرِ . فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ صِفَاتِ الْحَيِّ الَّتِي هِيَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَنَحْوُهَا لَهُ مِنْ الْمَرَاتِبِ مَا بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ مَا لَا يَضْبُطُهُ الْعِبَادُ : كَالشَّكِّ ثُمَّ الظَّنِّ ثُمَّ الْعِلْمِ ثُمَّ الْيَقِينِ وَمَرَاتِبِهِ ؛ وَكَذَلِكَ الْهَمُّ وَالْإِرَادَةُ وَالْعَزْمُ وَغَيْرُ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ السُّنَّةِ - وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَقَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ - أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعَقْلَ وَنَحْوَهُمَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ بَلْ وَكَذَلِكَ الصِّفَاتُ الَّتِي تَقُومُ بِغَيْرِ الْحَيِّ : كَالْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالْأَرْوَاحِ . فَنَقُولُ أَوَّلًا الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ هِيَ الَّتِي يَجِبُ وُقُوعُ الْفِعْلِ مَعَهَا إذَا كَانَتْ الْقُدْرَةُ حَاصِلَةً فَإِنَّهُ مَتَى وُجِدَتْ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَجَبَ وُجُودُ الْفِعْلِ لِكَمَالِ وُجُودِ الْمُقْتَضِي السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ وَمَتَى وُجِدَتْ الْإِرَادَةُ وَالْقُدْرَةُ التَّامَّةُ وَلَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ لَمْ تَكُنْ الْإِرَادَةُ جَازِمَةً وَهُوَ إرَادَاتُ الْخَلْقِ لِمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَلَمْ يَفْعَلُوهُ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْإِرَادَاتُ مُتَفَاوِتَةً فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ تَفَاوُتًا كَثِيرًا ؛ لَكِنْ حَيْثُ لَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ الْمُرَادُ مَعَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ فَلَيْسَتْ الْإِرَادَةُ جَازِمَةً جَزْمًا تَامًّا . وَهَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " إنَّمَا كَثُرَ فِيهَا النِّزَاعُ ؛ لِأَنَّهُمْ قَدَّرُوا إرَادَةً جَازِمَةً لِلْفِعْلِ لَا يَقْتَرِنُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْفِعْلِ وَهَذَا لَا يَكُونُ . وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْعَزْمِ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ فَقَدْ يَعْزِمُ عَلَى الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَنْ لَا يَفْعَلُ مِنْهُ شَيْئًا فِي الْحَالِ وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَكْفِي فِي وُجُودِ الْفِعْلِ بَلْ لَا بُدَّ عِنْدَ وُجُودِهِ مِنْ حُدُوثِ تَمَامِ الْإِرَادَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْفِعْلِ وَهَذِهِ هِيَ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ . وَ " الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ " إذَا فَعَلَ مَعَهَا الْإِنْسَانُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَانَ فِي الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ التَّامِّ : لَهُ ثَوَابُ الْفَاعِلِ التَّامِّ وَعِقَابُ الْفَاعِلِ التَّامِّ الَّذِي فَعَلَ جَمِيعَ الْفِعْلِ الْمُرَادِ حَتَّى يُثَابَ وَيُعَاقَبَ عَلَى مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ قُدْرَتِهِ مِثْلَ الْمُشْتَرِكِينَ والمتعاونين عَلَى أَفْعَالِ الْبِرِّ وَمِنْهَا مَا يَتَوَلَّدُ عَنْ فِعْلِ الْإِنْسَانِ كَالدَّاعِي إلَى هُدًى أَوْ إلَى ضَلَالَةٍ وَالسَّانِّ سُنَّةً حَسَنَةً وَسُنَّةً سَيِّئَةً كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ } . فَالدَّاعِي إلَى الْهُدَى وَإِلَى الضَّلَالَةِ هُوَ طَالِبٌ مُرِيدٌ كَامِلُ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ لِمَا دَعَا إلَيْهِ ؛ لَكِنَّ قُدْرَتَهُ بِالدُّعَاءِ وَالْأَمْرِ وَقُدْرَةَ الْفَاعِلِ بِالِاتِّبَاعِ وَالْقَبُولِ ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الْمُبَاشِرَةِ وَالْمُتَوَلِّدَةِ فَقَالَ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } { وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . فَذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مَا يَحْدُثُ عَنْ أَفْعَالِهِمْ بِغَيْرِ قُدْرَتِهِمْ الْمُنْفَرِدَةِ : وَهُوَ مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ الْعَطَشِ وَالْجُوعِ وَالتَّعَبِ وَمَا يَحْصُلُ لِلْكُفَّارِ بِهِمْ مِنْ الْغَيْظِ وَمَا يَنَالُونَهُ مِنْ الْعَدُوِّ . وَقَالَ : { كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي تَحْدُثُ وَتَتَوَلَّدُ مِنْ فِعْلِهِمْ وَفِعْلٍ آخَرَ مُنْفَصِلٍ عَنْهُمْ يُكْتَبُ لَهُمْ بِهَا عَمَلٌ صَالِحٌ وَذَكَرَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ نَفْسَ أَعْمَالِهِمْ الْمُبَاشِرَةِ الَّتِي بَاشَرُوهَا بِأَنْفُسِهِمْ : وَهِيَ الْإِنْفَاقُ وَقَطْعُ الْمَسَافَةِ فَلِهَذَا قَالَ فِيهَا : { إلَّا كُتِبَ لَهُمْ } فَإِنَّ هَذِهِ نَفْسَهَا عَمَلٌ صَالِحٌ وَإِرَادَتُهُمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَازِمَةٌ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ الَّذِي هُوَ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَمَا حَدَثَ مَعَ هَذِهِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تُعِينُ فِيهَا قُدْرَتَهُمْ بَعْضُ الْإِعَانَةِ هِيَ لَهُمْ عَمَلٌ صَالِحٌ . وَكَذَلِكَ " الدَّاعِي إلَى الْهُدَى وَالضَّلَالَةِ " لَمَّا كَانَتْ إرَادَتُهُ جَازِمَةً كَامِلَةً فِي هُدَى الْأَتْبَاعِ وَضَلَالِهِمْ وَأَتَى مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ الْكَامِلِ فَلَهُ مِنْ الْجَزَاءِ مِثْلُ جَزَاءِ كُلِّ مَنْ اتَّبَعَهُ : لِلْهَادِي مِثْلَ أُجُورِ الْمُهْتَدِينَ وَلِلْمُضِلِّ مِثْلَ أَوْزَارِ الضَّالِّينَ وَكَذَلِكَ السَّانُّ سُنَّةً حَسَنَةً وَسُنَّةً سَيِّئَةً ؛ فَإِنَّ السُّنَّةَ هِيَ مَا رُسِمَ لِلتَّحَرِّي فَإِنَّ السَّانَّ كَامِلُ الْإِرَادَةِ لِكُلِّ مَا يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ وَفِعْلُهُ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ . وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ؛ } لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ " فَالْكِفْلُ النَّصِيبُ مِثْلَ نَصِيبِ الْقَاتِلِ كَمَا فَسَّرَهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ وَهُوَ كَمَا اسْتَبَاحَ جِنْسَ قَتْلِ الْمَعْصُومِ لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ يَمْنَعُهُ مِنْ قَتْلِ نَفْسٍ مَعْصُومَةٍ فَصَارَ شَرِيكًا فِي قَتْلِ كُلِّ نَفْسٍ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } . وَيُشْبِهُ هَذَا أَنَّهُ مَنْ كَذَّبَ رَسُولًا مُعَيَّنًا كَانَ كَتَكْذِيبِ جِنْسِ الرُّسُلِ كَمَا قِيلَ فِيهِ : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } { كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ } وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } فَأَخْبَرَ أَنَّ أَئِمَّةَ الضَّلَالِ لَا يَحْمِلُونَ مِنْ خَطَايَا الْأَتْبَاعِ شَيْئًا وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ أَثْقَالَهُمْ وَهِيَ أَوْزَارُ الْأَتْبَاعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِ الْأَتْبَاعِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ إرَادَتَهُمْ كَانَتْ جَازِمَةً بِذَلِكَ وَفَعَلُوا مَقْدُورَهُمْ فَصَارَ لَهُمْ جَزَاءُ كُلِّ عَامِلٍ ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْعَمَلِ يُسْتَحَقُّ مَعَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ وَفِعْلِ الْمَقْدُورِ مِنْهُ . وَهُوَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ : أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى هِرَقْلَ : فَإِنْ تَوَلَّيْت فَإِنَّ عَلَيْك إثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ } فَأَخْبَرَ أَنَّ هِرَقْلَ لَمَّا كَانَ إمَامَهُمْ الْمَتْبُوعَ فِي دِينِهِمْ أَنَّ عَلَيْهِ إثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ وَهُمْ الْأَتْبَاعُ وَإِنْ كَانَ قَدْ قِيلَ : إنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ الْفَلَّاحِينَ وَالْأَكَرَةِ كَلَفْظِ الطَّاءِ بِالتُّرْكِيِّ فَإِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تُقْلَبُ إلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا تَوَلَّى عَنْ أَتْبَاعِ الرَّسُولِ كَانَ عَلَيْهِ [ مِثْلُ ] آثَامِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْءٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سَائِرُ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى { إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ } { لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } . فَقَوْلُهُ : { وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ } هِيَ الْأَوْزَارُ الْحَاصِلَةُ لِضَلَالِ الْأَتْبَاعِ وَهِيَ حَاصِلَةٌ مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَأْمُورِ الْمُمْتَثِلِ فَالْقُدْرَتَانِ مُشْتَرِكَتَانِ فِي حُصُولِ ذَلِكَ الضَّلَالِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ عَلَى هَذَا بَعْضُهُ وَعَلَى هَذَا بَعْضُهُ إلَّا أَنَّ كُلَّ بَعْضٍ مِنْ هَذَيْنِ الْبَعْضَيْنِ هُوَ مِثْلُ وِزْرِ عَامِلٍ كَامِلٍ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سَائِرُ النُّصُوصِ مِثْلُ قَوْلِهِ : { مَنْ دَعَا إلَى الضَّلَالَةِ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى { قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ } . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْأَتْبَاعَ دَعَوْا عَلَى أَئِمَّةِ الضَّلَالِ بِتَضْعِيفِ الْعَذَابِ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } { رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } . وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ لِكُلِّ مِنْ الْمُتَّبِعِينَ وَالْأَتْبَاعِ تَضْعِيفًا مِنْ الْعَذَابِ . وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُ الْأَتْبَاعُ التَّضْعِيفَ . وَلِهَذَا وَقَعَ عَظِيمُ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ لِأَئِمَّةِ الْهُدَى وَعَظِيمُ الذَّمِّ وَاللَّعْنَةِ لِأَئِمَّةِ الضَّلَالِ حَتَّى رُوِيَ فِي أَثَرٍ - لَا يَحْضُرُنِي إسْنَادُهُ - إنَّهُ مَا مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ إلَّا يُبْدَأُ فِيهِ بإبليس ثُمَّ يَصْعَدُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ وَمَا مِنْ نَعِيمٍ فِي الْجَنَّةِ إلَّا يُبْدَأُ فِيهِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ } فَإِنَّهُ هُوَ الْإِمَامُ الْمُطْلَقُ فِي الْهُدَى لِأَوَّلِ بَنِي آدَمَ وَآخِرِهِمْ . كَمَا قَالَ : { أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ آدَمَ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ } وَهُوَ شَفِيعُ الْأَوَّلِينَ والآخرين فِي الْحِسَابِ بَيْنَهُمْ ؛ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ . وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِيثَاقَ الْإِيمَانِ بِهِ كَمَا أَخَذَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ أَنْ يُؤْمِنَ بِمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ؛ وَيُصَدِّقَ بِمَنْ بَعْدَهُ . قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ } الْآيَةَ . فَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِاللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ لِلْقَسَمِ الَّتِي يُؤْتَى بِهَا إذَا اشْتَمَلَ الْكَلَامُ عَلَى قَسَمٍ وَشَرْطٍ ؛ وَأَدْخَلَ اللَّامَ عَلَى مَا الشَّرْطِيَّةِ لِيُبَيِّنَ الْعُمُومَ وَيَكُونَ الْمَعْنَى : مَهْمَا آتِيكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ فَعَلَيْكُمْ إذَا جَاءَكُمْ ذَلِكَ النَّبِيُّ الْمُصَدِّقُ الْإِيمَانُ بِهِ وَنَصْرُهُ . كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ نَوَّهَ بِذِكْرِهِ وَأَعْلَنَهُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى مَا بَيْنَ خَلْقِ جَسَدِ آدَمَ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ ؛ كَمَا فِي { حَدِيثِ مَيْسَرَةَ الْفَجْرِ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ متى كُنْت نَبِيًّا ؟ - وَفِي رِوَايَةٍ - مَتَى كُتِبْت نَبِيًّا ؟ فَقَالَ : وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ } رَوَاهُ أَحْمَد . وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ العرباض بْنِ سَارِيَةَ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ : إنِّي عِنْدَ اللَّهِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ . وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ } الْحَدِيثَ . فَكَتَبَ اللَّهُ وَقَدَّرَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَفِي تِلْكَ الْحَالِ أَمْرَ إمَامِ الذُّرِّيَّةِ كَمَا كَتَبَ وَقَدَّرَ حَالَ الْمَوْلُودِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بَيْنَ خَلْقِ جَسَدِهِ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ . فَمَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين أُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ ثَوَابُ مَنْ آمَنَ بِهِ وَأَطَاعَهُ فِي الشَّرَائِعِ الْمُفَصَّلَةِ أَعْظَمَ مِنْ ثَوَابِ مَنْ لَمْ يَأْتِ إلَّا بِالْإِيمَانِ الْمُجْمَلِ ؛ عَلَى أَنَّهُ إمَامٌ مُطْلَقٌ لِجَمِيعِ الذُّرِّيَّةِ وَأَنَّ لَهُ نَصِيبًا مِنْ إيمَانِ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين ؛ كَمَا أَنَّ كُلَّ ضَلَالٍ وغواية فِي الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لإبليس مِنْهُ نَصِيبٌ ؛ فَهَذَا يُحَقِّقُ الْأَثَرَ الْمَرْوِيَّ وَيُؤَيِّدُ مَا فِي نُسْخَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا - إمَّا مِنْ مَرَاسِيلِ الزُّهْرِيِّ . وَإِمَّا مِنْ مَرَاسِيلِ مَنْ فَوْقَهُ مِنْ التَّابِعِينَ - قَالَ : { بُعِثْت دَاعِيًا وَلَيْسَ إلَيَّ مِنْ الْهِدَايَةِ شَيْءٌ وَبُعِثَ إبْلِيسُ مُزَيِّنًا وَمُغْوِيًا وَلَيْسَ إلَيْهِ مِنْ الضَّلَالَةِ شَيْءٌ } . وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ : { وُزِنْت بِالْأُمَّةِ فَرَجَحْت ثُمَّ وُزِنَ أَبُو بَكْرٍ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ وُزِنَ عُمَرُ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ رُفِعَ الْمِيزَانُ } فَأَمَّا كَوْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِحًا بِالْأُمَّةِ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ لَهُ مِثْلَ أَجْرِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ مُضَافًا إلَى أَجْرِهِ وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ فَلِأَنَّ لَهُمَا مُعَاوَنَةً مَعَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ فِي إيمَانِ الْأُمَّةِ كُلِّهَا وَأَبُو بَكْرٍ كَانَ فِي ذَلِكَ سَابِقًا لِعُمَرِ وَأَقْوَى إرَادَةً مِنْهُ ؛ فَإِنَّهُمَا هُمَا اللَّذَانِ كَانَا يُعَاوِنَانِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إيمَانِ الْأُمَّةِ فِي دَقِيقِ الْأُمُورِ وَجَلِيلِهَا ؛ فِي مَحْيَاهُ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ . وَلِهَذَا { سَأَلَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ : أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُجِيبُوهُ . فَقَالَ : أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ كَفَيْتُمُوهُمْ . فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ أَنْ قَالَ : كَذَبْت يَا عَدُوَّ اللَّهِ إنَّ الَّذِي ذَكَرْت لَأَحْيَاءٌ وَقَدْ بَقِيَ لَك مَا يَسُوءُك } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ . فَأَبُو سُفْيَانَ - رَأْسُ الْكُفْرِ حِينَئِذٍ - لَمْ يَسْأَلْ إلَّا عَنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَادَةُ الْمُؤْمِنِينَ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ { عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا وُضِعَتْ جِنَازَةُ عُمَرَ قَالَ : وَاَللَّهِ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ أَحَبّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِعَمَلِهِ مِنْ هَذَا الْمُسَجَّى وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْشُرَك اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْك ؛ فَإِنِّي كَثِيرًا مَا كُنْت أَسْمَعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : دَخَلْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَخَرَجْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَذَهَبْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ } وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ كَثِيرَةٌ تُبَيِّنُ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِمَا إنْ كَانَ لَهُمَا مِثْلُ أَعْمَالِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ ؛ لِوُجُودِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ ؛ كُلِّهِ بِخِلَافِ مَنْ أَعَانَ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ وَوُجِدَتْ مِنْهُ إرَادَةٌ فِي بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ . وَ " أَيْضًا " فَالْمُرِيدُ إرَادَةً جَازِمَةً مَعَ فِعْلِ الْمَقْدُورِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ الْكَامِلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إمَامًا وَدَاعِيًا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } فَاَللَّهُ تَعَالَى نَفَى الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُجَاهِدِ وَالْقَاعِدِ الَّذِي لَيْسَ بِعَاجِزِ ؛ وَلَمْ يَنْفِ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُجَاهِدِ وَبَيْنَ الْقَاعِدِ الْعَاجِزِ ؛ بَلْ يُقَالُ : دَلِيلُ الْخِطَابِ يَقْتَضِي مُسَاوَاتَهُ إيَّاهُ . وَلَفْظُ الْآيَةِ صَرِيحٌ . اسْتَثْنَى أُولُو الضَّرَرِ مِنْ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ فَالِاسْتِثْنَاءُ هُنَا هُوَ مِنْ النَّفْيِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ أُولِي الضَّرَرِ قَدْ يُسَاوُونَ الْقَاعِدِينَ وَإِنْ لَمْ يُسَاوُوهُمْ فِي الْجَمِيعِ وَيُوَافِقُهُ مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ : { إنَّ بِالْمَدِينَةِ رِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ . قَالُوا : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ . قَالَ : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ } فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقَاعِدَ بِالْمَدِينَةِ الَّذِي لَمْ يَحْبِسْهُ إلَّا الْعُذْرُ هُوَ مِثْلُ مَنْ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي مَعَهُ فِي الْغَزْوَةِ يُثَابُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَوَابَ غَازٍ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ فَكَذَلِكَ الْقَاعِدُونَ الَّذِينَ لَمْ يَحْبِسْهُمْ إلَّا الْعُذْرُ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَعْمَلُ فِي الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ عَمَلًا ثُمَّ لَمْ يَتْرُكْهُ إلَّا لِمَرَضِ أَوْ سَفَرٍ ثَبَتَ أَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ لِوُجُودِ الْعَجْزِ وَالْمَشَقَّةِ لَا لِضَعْفِ النِّيَّةِ وَفُتُورِهَا فَكَانَ لَهُ مِنْ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ الَّتِي لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهَا الْفِعْلُ إلَّا لِضَعْفِ الْقُدْرَةِ مَا لِلْعَامِلِ وَالْمُسَافِرِ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا مَعَ مَشَقَّةٍ كَذَلِكَ بَعْضُ الْمَرَضِ إلَّا أَنَّ الْقُدْرَةَ الشَّرْعِيَّةَ هِيَ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْفِعْلُ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ رَاجِحَةٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَقَوْلِهِ : { فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } وَنَحْوُ ذَلِكَ لَيْسَ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ الْقُدْرَةَ الَّتِي يُمْكِنُ وُجُودُ الْفِعْلِ بِهَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْمُكْنَةُ خَالِيَةً عَنْ مَضَرَّةٍ رَاجِحَةٍ بَلْ أَوْ مُكَافِئَةٍ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرِ فَقَدْ غَزَا } وَقَوْلُهُ : { مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ } فَإِنَّ الْغَزْوَ يَحْتَاجُ إلَى جِهَادٍ بِالنَّفْسِ وَجِهَادٍ بِالْمَالِ فَإِذَا بَذَلَ هَذَا بَدَنَهُ وَهَذَا مَالَهُ مَعَ وُجُودِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُجَاهِدًا بِإِرَادَتِهِ الْجَازِمَةِ وَمَبْلَغِ قُدْرَتِهِ وَكَذَلِكَ لَا بُدَّ لِلْغَازِي مِنْ خَلِيفَةٍ فِي الْأَهْلِ فَإِذَا خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرِ فَهُوَ أَيْضًا غَازٍ وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إمْسَاكٍ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْعَشَاءِ الَّذِي بِهِ يَتِمُّ الصَّوْمُ وَإِلَّا فَالصَّائِمُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْعَشَاءَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الصَّوْمِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ وَلِزَوْجِهَا مِثْلُ ذَلِكَ لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ مِنْ أُجُورِ بَعْضٍ شَيْئًا } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى : { الْخَازِنُ الْأَمِينُ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مُوَفِّرًا طَيِّبَةٌ بِهِ نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ } أَخْرَجَاهُ . وَذَلِكَ أَنَّ إعْطَاءَ الْخَازِنِ الْأَمِينِ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ مُوَفِّرًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ الْمُوَافِقَةِ لِإِرَادَةِ الْآمِرِ وَقَدْ فَعَلَ مَقْدُورَهُ وَهُوَ الِامْتِثَالُ فَكَانَ أَحَدَ الْمُتَصَدِّقِينَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي كَبْشَةَ الأنماري الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ ماجه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةٍ : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَمَالًا فَهُوَ يَعْمَلُ فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَقَالَ رَجُلٌ : لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ فُلَانٍ لَعَمِلْت بِعَمَلِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ } وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُطَوَّلًا وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ فَهَذَا التَّسَاوِي مَعَ " الْأَجْرِ وَالْوِزْرِ " هُوَ فِي حِكَايَةِ حَالِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَكَانَ صَادِقًا فِيهِ وَعَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ إرَادَةً جَازِمَةً لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا الْفِعْلُ إلَّا لِفَوَاتِ الْقُدْرَةِ ؛ فَلِهَذَا اسْتَوَيَا فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ . وَلَيْسَ هَذِهِ الْحَالُ تَحْصُلُ لِكُلِّ مَنْ قَالَ : " لَوْ أَنَّ لِي مَا لِفُلَانِ لَفَعَلْت مِثْلَ مَا يَفْعَلُ " إلَّا إذَا كَانَتْ إرَادَتُهُ جَازِمَةً يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ مَعَهَا إذَا كَانَتْ الْقُدْرَةُ حَاصِلَةً وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقُولُ ذَلِكَ عَنْ عَزْمٍ لَوْ اقْتَرَنَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ لَانْفَسَخَتْ عَزِيمَتُهُ كَعَامَّةِ الْخَلْقِ يُعَاهِدُونَ وَيَنْقُضُونَ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ عَزَمَ عَلَى شَيْءٍ عَزْمًا جَازِمًا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ [ وَعَدِمَ ] الصوارف عَنْ الْفِعْلِ تَبْقَى تِلْكَ الْإِرَادَةُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ الْمُقَارِنَةِ للصوارف كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } وَكَمَا قَالَ : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ } { فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } وَحَدِيثُ أَبِي كَبْشَةَ فِي النِّيَّاتِ مِثْلُ حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ فِي الْكَلِمَاتِ . وَهُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ أُمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْشُرُ اللَّهُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِنْهَا مَدَى الْبَصَرِ وَيُقَالُ لَهُ هَلْ تُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا ؟ هَلْ ظَلَمْتُك ؟ فَيَقُولُ : لَا يَا رَبِّ . فَيُقَالُ لَهُ : لَا ظُلْمَ عَلَيْك الْيَوْمَ فَيُؤْتَى بِبِطَاقَةِ فِيهَا التَّوْحِيدُ ؛ فَتُوضَعُ فِي كِفَّةٍ وَالسِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ فَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ } فَهَذَا لِمَا اقْتَرَنَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ وَالصَّفَاءِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ ؛ إذْ الْكَلِمَاتُ وَالْعِبَادَاتُ وَإِنْ اشْتَرَكَتْ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّهَا تَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ أَحْوَالِ الْقُلُوبِ تَفَاوُتًا عَظِيمًا . وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي فِي حَدِيثِ : الْمَرْأَةِ الْبَغِيِّ الَّتِي سَقَتْ كَلْبًا فَغَفَرَ اللَّهُ لَهَا ؛ فَهَذَا لِمَا حَصَلَ فِي قَلْبِهَا مِنْ حُسْنِ النِّيَّةِ وَالرَّحْمَةِ إذْ ذَاكَ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ . يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا سُخْطَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ }
وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 4 / ص 244)
وَقَالَ : فَصْلٌ الصِّدْقُ أَسَاسُ الْحَسَنَاتِ وَجِمَاعُهَا وَالْكَذِبُ أَسَاسُ السَّيِّئَاتِ وَنِظَامُهَا وَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ حَيٌّ نَاطِقٌ فَالْوَصْفُ الْمُقَوِّمُ لَهُ الْفَاصِلُ لَهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الدَّوَابِّ هُوَ الْمَنْطِقُ وَالْمَنْطِقُ قِسْمَانِ : خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ وَالْخَبَرُ صِحَّتُهُ بِالصِّدْقِ وَفَسَادُهُ بِالْكَذِبِ فَالْكَاذِبُ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْبَهِيمَةِ الْعَجْمَاءِ وَالْكَلَامُ الْخَبَرِيُّ هُوَ الْمُمَيِّزُ لِلْإِنْسَانِ وَهُوَ أَصْلُ الْكَلَامِ الْإِنْشَائِيِّ فَإِنَّهُ مَظْهَرُ الْعِلْمِ وَالْإِنْشَاءُ مَظْهَرُ الْعَمَلِ وَالْعِلْمُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَمَلِ وَمُوجِبٌ لَهُ فَالْكَاذِبُ لَمْ يَكْفِهِ أَنَّهُ سُلِبَ حَقِيقَةَ الْإِنْسَانِ حَتَّى قَلَبَهَا إلَى ضِدِّهَا وَلِهَذَا قِيلَ : لَا مُرُوءَةَ لِكَذُوبِ وَلَا رَاحَةَ لِحَسُودِ وَلَا إخَاءَ لِمَلُوكِ وَلَا سُؤْدُدَ لِبَخِيلِ فَإِنَّ الْمُرُوءَةَ مَصْدَرُ الْمَرْءِ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانِيَّةَ مَصْدَرُ الْإِنْسَانِ . الثَّانِي : أَنَّ الصِّفَةَ الْمُمَيِّزَةَ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالْمُتَنَبِّئِ هُوَ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ فَإِنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ الصَّادِقُ الْأَمِينُ وَمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ } { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } . الثَّالِثُ : أَنَّ الصِّفَةَ الْفَارِقَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ هُوَ الصِّدْقُ فَإِنَّ أَسَاسَ النِّفَاقِ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ وَعَلَى كُلِّ خُلُقٍ يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ لَيْسَ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ } . الرَّابِعُ : أَنَّ الصِّدْقَ هُوَ أَصْلُ الْبِرِّ وَالْكَذِبَ أَصْلُ الْفُجُورِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا } . الْخَامِسُ : أَنَّ الصَّادِقَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ وَالْكَاذِبَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } { تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } { يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } . السَّادِسُ : أَنَّ الْفَارِقَ بَيْنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَبَيْنَ الْمُتَشَبَّهِ بِهِمْ مِنْ الْمُرَائِينَ وَالْمُسْمِعِينَ وَالْمُبْلِسِينَ هُوَ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ . السَّابِعُ : أَنَّهُ مَقْرُونٌ بِالْإِخْلَاصِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّينِ فِي الْكِتَابِ وَكَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } { حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } وَلِهَذَا { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ مَرَّتَيْنِ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ : أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ : أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ . } الثَّامِنُ : أَنَّهُ رُكْنُ الشَّهَادَةِ الْخَاصَّةِ عِنْدَ الْحُكَّامِ الَّتِي هِيَ قِوَامُ الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةُ الْعَامَّةُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ وَالشَّهَادَةُ خَاصَّةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي مُيِّزَتْ بِهَا فِي قَوْلِهِ : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } وَرُكْنُ الْإِقْرَارِ الَّذِي هُوَ شَهَادَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَرُكْنُ الْأَحَادِيثِ وَالْأَخْبَارِ الَّتِي بِهَا يَقُومُ الْإِسْلَامُ ؛ بَلْ هِيَ رُكْنُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ الَّتِي هِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ وَرُكْنُ الْفُتْيَا الَّتِي هِيَ إخْبَارُ الْمُفْتِي بِحُكْمِ اللَّهِ . وَرُكْنُ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ أَخْبَارَ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَامِلَيْنِ لِلْآخَرِ بِمَا فِي سِلْعَتِهِ وَرُكْنُ الرُّؤْيَا الَّتِي قِيلَ فِيهَا : أَصْدَقُهُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُهُمْ كَلَامًا وَاَلَّتِي يُؤْتَمَنُ فِيهَا الرَّجُلُ عَلَى مَا رَأَى . التَّاسِعُ : أَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ هُوَ الْمُمَيِّزُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ : أَسَاسُ النِّفَاقِ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { عَلَى كُلِّ خُلُقٍ يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ لَيْسَ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ } وَوَصَفَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ فِي الْقُرْآنِ بِالْكَذِبِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ أَهْلُ النَّارِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ . الْعَاشِرُ : أَنَّ الْمَشَايِخَ الْعَارِفِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَسَاسَ الطَّرِيقِ إلَى اللَّهِ هُوَ الصِّدْقُ وَالْإِخْلَاصُ كَمَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ : { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } { حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } وقَوْله تَعَالَى { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ } { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالْكَاهِنِ وَالسَّاحِرِ : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } { عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } { تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } { يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا } .

، وَكَمَا غَفَرَ لِلْبَغِيِّ بِسَقْيِ الْكَلْبِ(1) لِمَا حَصَلَ فِي قَلْبِهَا إذْ ذَاكَ مِنْ الْإِيمَانِ ،وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ .
" السَّبَبُ الثَّالِثُ " : الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ :
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(3321 ) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « غُفِرَ لاِمْرَأَةٍ مُومِسَةٍ مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى رَأْسِ رَكِىٍّ يَلْهَثُ ، قَالَ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ ، فَنَزَعَتْ خُفَّهَا ، فَأَوْثَقَتْهُ بِخِمَارِهَا ، فَنَزَعَتْ لَهُ مِنَ الْمَاءِ ، فَغُفِرَ لَهَا بِذَلِكَ » .
وفي صحيح البخارى برقم(2466 ) وصحيح مسلم برقم(5997 ) واللفظ له عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- « أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا فِى يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا فَغُفِرَ لَهَا ». = أدلع : أخرج -الموق : الخف
وفي شرح ابن بطال - (ج 12 / ص 20)
سقى الماء من أعظم القربات إلى الله - تعالى و قد قال بعض التابعين: من كثرت ذنوبه فعليه بسقى الماء، وإذا غفرت ذنوب الذى سقى الكلب فما ظنكم بمن سقى رجلا مؤمنًا موحداُ أو أحياه بذلك.
وقد استدل بهذا الحديث من أجاز صدقة التطوع على المشركين، لعموم قوله عليه السلام: « فى كل كبد رطبة أجر » وفيه أن المجازاة على الخير والشر قد تكون يوم القيامة من جنس الأعمال، كما قال عليه السلام: « من قتل نفسه بحديدة عذب بها فى نار جهنم » . وقال صاحب الأفعال: لهث الكلب، ولهث بفتح الهاء وكسرها: أدلع لسانه عطشًا، ولهث الإنسان أيضًا اشتد عطشه.
وفي صحيح مسلم برقم(5996 )عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِى بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ فَقَالَ الرَّجُلُ لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِى كَانَ بَلَغَ مِنِّى. فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلأَ خُفَّهُ مَاءً ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِىَ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِى هَذِهِ الْبَهَائِمِ لأَجْرًا فَقَالَ « فِى كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ ».
شرح ابن بطال - (ج 17 / ص 266)
قال المؤلف: فى هذه الأحاديث الحض على استعمال الرحمة للخلق كلهم كافرهم ومؤمنهم ولجميع البهائم والرفق بها. وأن ذلك مما يغفر الله به الذنوب ويكفر به الخطايا، فينبغى لكل مؤمن عاقل أن يرغب فى الأخذ بحظه من الرحمة، ويستعملها فى أبناء جنسه وفى كل حيوان، فلم يخلقه الله عبثًا، وكل أحد مسئول عما استرعيه وملكه من إنسان أو يهيمة لاتقدر على النطق وتبيين مابها من الضر، وكذلك ينبغى أن يرحم كل بهيمة وإن كانت فى غير ملكه، ألا ترى أن الذى سقى الكلب الذى وجده بالفلاة لم يكن له ملكًا فغفر الله له بتكلفة النزول فيالبئر وإخراجه الماء فى خفه وسقيه إياه، وكذلك كل مافى معنى السقى من الإطعام، الا ترى قوله عليه السلام: « ما من مسلم غرس غرسًا فأكل منه إنسان أو دابة إلا كان له صدقة » .
مما يدخل فى معنى سقى البهائم وإطعامها التخفيف عنها فى أحمالها وتكليفها ماتطيق حمله، فذلك من رحمتها والإحسان اليها، ومن ذلك ترك التعدى فى ضربها وأذاها وتسخيرها فى الليل وفى غير أوقات السخرة، وقد نهينا فى العبيد أن نكلفهم الخدمة فى الليل فإن لهم الليل ولواليهم النهار، والواب وجميع البهائم داخلون فى هذا المعنى.
وفى قوله عليه السلام: « مامن مسلم غرس غرسًا فأكل منه إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة » دليل على أن ماذهب من مال المسلم بغير علمه أنه يؤجر عليه.
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 7 / ص 417)
مَعْنَاهُ فِي الْإِحْسَان إِلَى كُلّ حَيَوَان حَيّ بِسَقْيِهِ وَنَحْوه أَجْر ، وَسُمِّيَ الْحَيّ ذَا كَبِد رَطْبَة ، لِأَنَّ الْمَيِّت يَجِفّ جِسْمه وَكَبِده . فَفِي الْحَدِيث الْحَثّ عَلَى الْإِحْسَان إِلَى الْحَيَوَان الْمُحْتَرَم ، وَهُوَ مَا لَا يُؤْمَر بِقَتْلِهِ . فَأَمَّا الْمَأْمُور بِقَتْلِهِ فَيَمْتَثِل أَمْر الشَّرْع فِي قَتْله ، وَالْمَأْمُور بِقَتْلِهِ كَالْكَافِرِ الْحَرْبِيّ وَالْمُرْتَدّ وَالْكَلْب الْعَقُور وَالْفَوَاسِق الْخَمْس الْمَذْكُورَات فِي الْحَدِيث وَمَا فِي مَعْنَاهُنَّ . وَأَمَّا الْمُحْتَرَم فَيَحْصُل الثَّوَاب بِسَقْيِهِ وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ أَيْضًا بِإِطْعَامِهِ وَغَيْره سَوَاء كَانَ مَمْلُوكًا أَوْ مُبَاحًا ، وَسَوَاء كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَم .

كَمَا قَالَ تَعَالَى : {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } (1)(114) سورة هود .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ » (2)
__________
(1) - وفي صحيح البخارى برقم(526 ) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلاً أَصَابَ مِنَ امْرَأَةٍ قُبْلَةً ، فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ( أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) . فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِى هَذَا قَالَ « لِجَمِيعِ أُمَّتِى كُلِّهِمْ » .
وفي صحيح مسلم برقم(7180 ) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى عَالَجْتُ امْرَأَةً فِى أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَإِنِّى أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا فَأَنَا هَذَا فَاقْضِ فِىَّ مَا شِئْتَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَقَدْ سَتَرَكَ اللَّهُ لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ - قَالَ - فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا فَقَامَ الرَّجُلُ فَانْطَلَقَ فَأَتْبَعَهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلاً دَعَاهُ وَتَلاَ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةَ (أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ يَا نَبِىَّ اللَّهِ هَذَا لَهُ خَاصَّةً قَالَ « بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً ».= عالج : داعب
وفي سنن الترمذى برقم(3401 ) عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلاً لَقِىَ امْرَأَةً وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مَعْرِفَةٌ فَلَيْسَ يَأْتِى الرَّجُلُ شَيْئًا إِلَى امْرَأَتِهِ إِلاَّ قَدْ أَتَى هُوَ إِلَيْهَا إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُجَامِعْهَا. قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ( أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّىَ. قَالَ مُعَاذٌ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهِىَ لَهُ خَاصَّةً أَمْ لِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً قَالَ « بَلْ لِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً » وهو صحيح لغيره.
وفي مسند أحمد برقم(2244) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلاً أَتَى عُمَرَ فَقَالَ امْرَأَةٌ جَاءَتْ تُبَايِعُهُ فَأَدْخَلْتُهَا الدَّوْلَجَ فَأَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ الْجِمَاعِ. فَقَالَ وَيْحَكَ لَعَلَّهَا مُغِيبٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ أَجَلْ. قَالَ فَائْتِ أَبَا بَكْرٍ فَاسْأَلْهُ. قَالَ فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَعَلَّهَا مُغِيبٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ عُمَرَ ثُمَّ أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ « فَلَعَلَّهَا مُغِيبٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ». وَنَزَلَ الْقُرْآنُ ( وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِىَ خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً فَضَرَبَ عُمَرُ صَدْرَهُ بِيَدِهِ فَقَالَ لاَ وَلاَ نُعْمَةَ عَيْنٍ بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « صَدَقَ عُمَرُ » وهو حديث حسن. =الدولج : المخدع
وفي مسند أحمد برقم(24428) عَنْ أَبِى عُثْمَانَ قَالَ كُنْتُ مَعَ سَلْمَانَ الْفَارِسِىِّ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَأَخَذَ مِنْهَا غُصْناً يَابِساً فَهَزَّهُ حَتَّى تَحَاتَّ وَرَقُهُ ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا عُثْمَانَ أَلاَ تَسْأَلُنِى لِمَ أَفْعَلُ هَذَا قُلْتُ وَلِمَ تَفْعَلُهُ فَقَالَ هَكَذَا فَعَلَ بِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا مَعَهُ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَأَخَذَ مِنْهَا غُصْناً يَابِساً فَهَزَّهُ حَتَّى تَحَاتَّ وَرَقُهُ فَقَالَ « يَا سَلْمَانُ أَلاَ تَسْأَلُنِى لِمَ أَفْعَلُ هَذَا ». قُلْتُ وَلِمَ تَفْعَلُهُ قَالَ « إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُ كَمَا يَتَحَاتُّ هَذَا الْوَرَقُ - وَقَالَ - (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) » وهو حسن.
(2) - صحيح مسلم برقم( 573 و574)
مَعْنَاهُ أَنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا تُغْفَرُ إِلَّا الْكَبَائِرَ فَإِنَّهَا لَا تُغْفَرُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الذُّنُوبَ تُغْفَرُ مَا لَمْ تَكُنْ كَبِيرَةً فَإِنْ كَانَتْ لَا يُغْفَرُ شَيْءٌ مِنْ الصَّغَائِرِ ، فَإِنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا فَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَأْبَاهُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هَذَا الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ مِنْ غَفْرِ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتَ كَبِيرَةٌ هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَنَّ الْكَبَائِرَ إِنَّمَا يُكَفِّرُهَا التَّوْبَةُ أَوْ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلُهُ ، وَقَالَ الْقَارِي فِي الْمِرْقَاةِ إِنَّ الْكَبِيرَةَ لَا يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَكَذَا الْحَجُّ وَإِنَّمَا يُكَفِّرُهَا التَّوْبَةُ الصَّحِيحَةُ لَا غَيْرُهَا ، نَقَلَ اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ بَعْدَمَا حَكَى فِي تَمْهِيدِهِ عَنْ بَعْضِ مُعَاصِرِيهِ أَنَّ الْكَبَائِرَ لَا يُكَفِّرُهَا غَيْرُ التَّوْبَةِ ، ثُمَّ قَالَ وَهَذَا جَهْلٌ وَمُوَافَقَةٌ لِلْمُرْجِئَةِ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ ، وَهُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ اِنْتَهَى ، قَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ طَاهِرٍ فِي مَجْمَعِ الْبِحَارِ ص 221 ح 2 مَا لَفْظُهُ فِي تَعْلِيقِي : لِلتِّرْمِذِيِّ لَا بُدَّ فِي حُقُوقِ النَّاسِ مِنْ الْقِصَاصِ وَلَوْ صَغِيرَةً وَفِي الْكَبَائِرِ مِنْ التَّوْبَةِ ، ثُمَّ وَرَدَ وَعْدُ الْمَغْفِرَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ وَرَمَضَانَ فَإِذَا تَكَرَّرَ يُغْفَرُ بِأَوَّلِهَا الصَّغَائِرُ وَبِالْبَوَاقِي يُخَفَّفُ عَنْ الْكَبَائِرِ وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً يُرْفَعُ بِهَا الدَّرَجَاتُ اِنْتَهَى .تحفة الأحوذي - (ج 1 / ص 247)
شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 2 / ص 8)
قال المؤلف - رحمه الله تعالى - فيما نقله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر يعني أن الصلوات الخمس تكفر الخطايا من بين صلاة الفجر إلى الظهر ومن الظهر إلى العصر ومن العصر إلى المغرب ومن المغرب إلى العشاء ومن العشاء إلى الفجر فإذا عمل الإنسان سيئة وأتقن هذه الصلوات الخمس فإنها تمحو الخطايا لكن قال إذا اجتنبت الكبائر يعني إذا اجتنبت كبائر الذنوب .
وكبائر الذنوب هي: كل ذنب رتب عليه الشارع عقوبة خاصة فكل ذنب لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعله فهو من كبائر الذنوب كل شيء فيه حد في الدنيا كالزنا أو وعيد في الآخرة كأكل الربا أو فيه نفي إيمان مثل لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه أو فيه براءة منه مثل من غشنا فليس منا أو ما أشبه ذلك فهو من كبائر الذنوب .
واختلف العلماء - رحمهم الله - في قوله صلى الله عليه وسلم إذا اجتنبت الكبائر هل معنى الحديث أن الصغائر تكفر إذا اجتنبت الكبائر، أنها لا تكفر إلا بشرطين وهما الصلوات الخمس واجتناب الكبائر أو أن معنى الحديث أنها كفارة لما بينهن إلا الكبائر فلا تكفرها وعلى هذا فيكون لتكفير السيئات الصغائر شرط واحد هو إقامة هذه الصلوات الخمس أو الجمعة إلى الجمعة أو رمضان إلى رمضان وهذا هو المتبادر والله أعلم أن المعنى أن الصلوات الخمس تكفر ما بينها إلا الكبائر فلا تكفرها وكذلك الجمعة إلى الجمعة وكذلك رمضان إلى رمضان وذلك لأن الكبائر لا بد لها من توبة خاصة فإذا لم يتب توبة خاصة فإن الأعمال الصالحة لا تكفرها بل لابد من توبة خاصة .

.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » (1).
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » (2).
__________
(1) -صحيح البخارى برقم(38 ) وصحيح مسلم برقم(1817 )
حاشية السندي على ابن ماجه - (ج 3 / ص 414)
هَذَا وَأَمْثَاله بَيَان لِفَضْلِ هَذِهِ الْعِبَادَات بِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ عَلَى الْإِنْسَان ذُنُوب يُغْفَر لَهُ بِهَذِهِ الْعِبَادَات أَيْ إِنْ كَانَتْ فَلَا يَرِد أَنَّ الْأَسْبَاب الْمُؤَدِّيَة إِلَى عُمُوم الْمَغْفِرَة كَثِيرَة فَعِنْد اِجْتِمَاعهَا أَيّ شَيْء يَبْقَى لِلْمُتَأَخِّرِ مِنْهَا حَتَّى يُغْفَر بِهِ إِذْ الْمَقْصُود بَيَان فَضِيلَة هَذِهِ الْعِبَادَات بِأَنَّ لَهَا عِنْد اللَّه هَذَا الْقَدْر مِنْ الْفَضْل فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْإِنْسَان ذَنْب يَظْهَر هَذَا الْفَضْل فِي رَفَعَ الدَّرَجَات كَمَا فِي حَقّ الْأَنْبِيَاء الْمَعْصُومِينَ مِنْ الذُّنُوب
وفي شرح ابن بطال - (ج 7 / ص 176)
قال ابن المنذر: معنى قوله: « إيمانًا » يعنى: تصديقًا أن الله فرض عليه الصوم، واحتسابًا لثواب الله عليه، وقد تقدم هذا المعنى.
وقوله: « غفر له ما تقدم من ذنبه » قول عام يُرجى لمن فعل ما ذكره فى الحديث أن يغفر له جميع الذنوب: صغيرها وكبيرها؛ لأنه لم يستثن ذنبًا دون ذنب،
(2) - صحيح البخارى برقم(1901 )
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 6 / ص 139)
قَوْلُهُ : ( وَمَنْ صَامَ رَمَضَان إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )
زَاد أَحْمَد مِنْ طَرِيقِ حَمَّاد بْن سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّد بْن عَمْرو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ " وَمَا تَأَخَّرَ " وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَد أَيْضًا عَنْ يَزِيد بْن هَارُون عَنْ مُحَمَّد بْن عَمْرو بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ ، وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بِدُونِهَا أَيْضًا ، وَوَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَخْرَجَهَا النَّسَائِيّ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ سُفْيَان عَنْهُ ، وَتَابَعَهُ حَامِد بْن يَحْيَى عَنْ سُفْيَان ، أَخْرَجَهُ اِبْن عَبْد الْبَرّ فِي " التَّمْهِيدِ " وَاسْتَنْكَرَهُ ، وَلَيْسَ بِمُنْكَر ، فَقَدْ تَابَعَهُ قُتَيْبَة كَمَا تَرَى ، وَهِشَام بْن عَمَّار وَهُوَ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي عَشَر مِنْ فَوَائِدِهِ ، وَالْحُسَيْن بْن الْحَسَن الْمَرْوَزِيّ أَخْرَجَهُ فِي كِتَابِ الصِّيَام لَهُ ، وَيُوسُف بْن يَعْقُوب النَّجَاحِي أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْر الْمُقْرِي فِي فَوَائِدِهِ كُلّهمْ عَنْ سُفْيَان ، وَالْمَشْهُور عَنْ الزُّهْرِيِّ بِدُونِهَا . وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْن الصَّامِتِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَد مِنْ وَجْهَيْنِ وَإِسْنَاده حَسَن . وَقَدْ اِسْتَوْعَبْت الْكَلَامَ عَلَى طُرُقِهِ فِي كِتَابِ " الْخِصَال الْمُكَفِّرَةِ ، لِلذُّنُوبِ الْمُقَدَّمَةِ وَالْمُؤَخَّرَةِ " وَهَذَا مُحَصَّلُهُ . وَقَوْلُهُ " مِنْ ذَنْبِهِ " اِسْمُ جِنْسٍ مُضَافٌ فَيَتَنَاوَلُ جَمِيع الذُّنُوبِ ، إِلَّا أَنَّهُ مَخْصُوصٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي كِتَاب الْوُضُوء وَفِيَّ أَوَائِل كِتَاب الْمَوَاقِيت . قَالَ الْكَرْمَانِيّ : وَكَلِمَة " مِنْ " إِمَّا مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ " غُفِرَ " أَيْ غُفِرَ مِنْ ذَنْبِهِ مَا تَقَدَّمَ فَهُوَ مَنْصُوبُ الْمَحَلِّ ، أَوْ هِيَ مَبْنِيَّةٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ مَفْعُولٌ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ فَيَكُونُ مَرْفُوع الْمَحَلّ .
وفي شرح ابن بطال - (ج 7 / ص 22)
قوله: « إيمانًا » ، يريد تصديقًا بفرضه وبالثواب من الله تعالى، على صيامه وقيامه، وقوله: « احتسابًا » ، يريد بذلك يحتسب الثواب على الله، وينوى بصيامه وجه الله، وهذا الحديث دليل بين أن الأعمال الصالحة لا تزكو ولا تتقبل إلا مع الاحتساب وصدق النيات، كما قال عليه السلام: « الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى » ، وهذا يرد قول زفر، فإنه زعم أنه يجزئ صوم رمضان بغير نية، وقوله مردود بهذه الآثار، وإذا صح أنه لا عمل إلا بنية، صح أنه لا يجزئ صوم رمضان إلا بنية من الليل، كما ذهب إليه الجمهور.
وخالف ذلك أبو حنيفة، والأوزاعى، وإسحاق، وقالوا: يجزئه التبييت قبل الزوال، ولا سلف لهم فى ذلك، والنية إنما ينبغى أن تكون متقدمة قبل العمل، وحقيقة التبييت فى اللغة يقتضى زمن الليل، وروى هذا عن ابن عمر، وحفصة، وعائشة، ولا مخالف لهم، وقد تقدم ما للعلماء فى قوله عليه السلام: « الأعمال بالنيات » ، فى آخر كتاب الإيمان، فى باب: ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة.

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ ، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ » (1).
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِى أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصَّوْمُ وَالصَّدَقَةُ وَالأَمْرُ وَالنَّهْىُ » (2)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(1819 )
وفي شرح سنن النسائي - (ج 4 / ص 101)2580 -
حَاشِيَةُ السِّنْدِيِّ :
قَوْله ( فَلَمْ يَرْفُث ) بِضَمِّ الْفَاء
( وَلَمْ يَفْسُق )بِضَمِّ السِّين الرَّفَث الْقَوْل الْفُحْش وَقِيلَ الْجِمَاع وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ الرَّفَث اِسْم لِكُلِّ مَا يُرِيدهُ الرَّجُل مِنْ الْمَرْأَة وَالْفِسْق اِرْتِكَاب شَيْء مِنْ الْمَعْصِيَة وَالظَّاهِر أَنَّ الْمُرَاد نَفْي الْمَعْصِيَة بِالْقَوْلِ وَالْجَوَارِح جَمِيعًا وَهُوَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَ فَلَا رَفَث وَلَا فَسُوق وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَم
( رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّه ) أَيْ صَارَ أَوْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبه أَوْ فَرَغَ مِنْ الْحَجّ وَحَمْلُهُ عَلَى مَعْنَى رَجَعَ إِلَى بَيْته بَعِيد وَقَوْله كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّه خَبَر عَلَى الْأَوَّل أَوْ حَال عَلَى الْوُجُوه الْآخَر بِتَأْوِيلِ كَنَفْسِهِ يَوْم وَلَدَتْهُ أُمّه إِذْ لَا مَعْنَى لِتَشْبِيهِ الشَّخْص بِالْيَوْمِ وَقَوْله كَيَوْمِ يُحْتَمَل الْإِعْرَاب وَالْبِنَاء عَلَى الْفَتْح وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَم .
حَاشِيَةُ السِّيُوطِيِّ :
( مَنْ حَجّ هَذَا الْبَيْت فَلَمْ يَرْفُث )بِضَمِّ الْفَاء قَالَ عِيَاض : هَذَا مِنْ قَوْله تَعَالَى : فَلَا رَفَث وَلَا فُسُوق ، وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّ الْمُرَاد فِي الْآيَة الْجِمَاع قَالَ الْحَافِظ اِبْن حَجَر : وَاَلَّذِي يَظْهَر أَنَّ الْمُرَاد بِهِ فِي الْحَدِيث مَا هُوَ أَعَمّ مِنْ ذَلِكَ وَإِلَيْهِ نَحَا الْقُرْطُبِيّ قَالَ الْأَزْهَرِيّ : الرَّفَث اِسْم جَامِع لِكُلِّ مَا يُرِيدهُ الرَّجُل مِنْ الْمَرْأَة وَكَانَ اِبْن عَبَّاس يَخُصّهُ بِمَا خُوطِبَ بِهِ النِّسَاء وَقَالَ غَيْره الرَّفَث الْجِمَاع وَيُطْلَق عَلَى التَّعْرِيض بِهِ وَعَلَى الْفُحْش فِي الْقَوْل
( وَلَمْ يَفْسُق ) أَيْ لَمْ يَأْتِ سَيِّئَة وَلَا مَعْصِيَة
( رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّه ) قَالَ الْحَافِظ اِبْن حَجَر : أَيْ بِغَيْرِ ذَنْب وَظَاهِره غُفْرَان الصَّغَائِر وَالْكَبَائِر وَالتَّبِعَات وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الشَّوَاهِد لِحَدِيثِ الْعَبَّاس بْن مِرْدَاس الْمُصَرِّح بِذَلِكَ قَالَ الطِّيبِيُّ : الْفَاء فِي قَوْله فَلَمْ يَرْفُث عَاطِفَة عَلَى الشَّرْط وَجَوَابه رَجَعَ أَيْ صَارَ وَالْجَارّ وَالْمَجْرُور خَبَر لَهُ وَيَجُوز أَنْ يَكُون حَالًا أَيْ صَارَ مُشَابِهًا لِنَفْسِهِ فِي الْبَرَاءَة عَنْ الذُّنُوب فِي يَوْم وَلَدَتْهُ أُمّه
(2) - صحيح البخارى برقم(525 )
وفي تحفة الأحوذي - (ج 6 / ص 44)
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ : قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصَّلَاةِ وَمَا مَعَهَا مُكَفِّرَةً لِلْمَذْكُورَاتِ كُلِّهَا لَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ مَثَلًا مُكَفِّرَةٌ لِلْفِتْنَةِ فِي الْأَهْلِ وَالصَّوْمَ فِي الْوَلَدِ إِلَخْ . وَالْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ مَا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مَعَ مَنْ ذُكِرَ مِنْ الْبَشَرِ أَوْ الِالْتِهَاءُ بِهِمْ أَوْ أَنْ يَأْتِيَ لِأَجْلِهِمْ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَوْ يُخِلَّ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ . وَاسْتَشْكَلَ اِبْنُ أَبِي جَمْرَةَ وُقُوعَ التَّكْفِيرِ بِالْمَذْكُورَاتِ لِلْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَالْإِخْلَالِ بِالْوَاجِبِ ؛ لِأَنَّ الطَّاعَاتِ لَا تُسْقِطُ ذَلِكَ ، فَإِنْ حُمِلَ عَلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَكْرُوهِ وَالْإِخْلَالِ بِالْمُسْتَحَبِّ لَمْ يُنَاسَبْ إِطْلَاقَ التَّكْفِيرِ . وَالْجَوَابُ اِلْتِزَامُ الْأَوَّلِ وَإِنْ اِمْتَنَعَ مِنْ تَكْفِيرِ الْحَرَامِ وَالْوَاجِبِ مَا كَانَ كَبِيرَةً فَهِيَ الَّتِي فِيهَا النِّزَاعُ وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَلَا نِزَاعَ أَنَّهَا تُكَفِّرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } الْآيَةَ وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ : الْفِتْنَةُ بِالْأَهْلِ تَقَعُ بِالْمَيْلِ إِلَيْهِنَّ أَوْ عَلَيْهِنَّ فِي الْقِسْمَةِ وَالْإِيثَارِ حَتَّى فِي أَوْلَادِهِنَّ ، وَمِنْ جِهَةِ التَّفْرِيطِ فِي الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لَهُنَّ ، وَبِالْمَالِ يَقَعُ الِاشْتِغَالُ بِهِ عَنْ الْعِبَادَةِ أَوْ بِحَبْسِهِ عَنْ إِخْرَاجِ حَقِّ اللَّهِ ، وَالْفِتْنَةُ بِالْأَوْلَادِ تَقَعُ بِالْمَيْلِ الطَّبِيعِيِّ إِلَى الْوَلَدِ وَإِيثَارِهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ ، وَالْفِتْنَةُ بِالْجَارِ تَقَعُ بِالْحَسَدِ وَالْمُفَاخَرَةِ وَالْمُزَاحَمَةِ فِي الْحُقُوقِ وَإِهْمَالِ التَّعَاهُدِ ثُمَّ قَالَ وَأَسْبَابُ الْفِتْنَةِ بِمَنْ ذُكِرَ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَمْثِلَةِ . وَأَمَّا تَخْصِيصُ الصَّلَاةِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا بِالتَّكْفِيرِ دُونَ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِ قَدْرِهَا ، لَاتُّقِيَ أَنَّ غَيْرَهَا مِنْ الْحَسَنَاتِ لَيْسَ فِيهَا صَلَاحِيَّةُ التَّكْفِيرِ ، ثُمَّ إِنَّ التَّكْفِيرَ الْمَذْكُورَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَقَعَ بِنَفْسِ فِعْلِ الْحَسَنَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقَعَ بِالْمُوَازَنَةِ . وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ
وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 427)
وَالذَّنْبُ لِلْعَبْدِ كَأَنَّهُ أَمْرٌ حَتْمٌ . فَالْكَيِّسُ هُوَ الَّذِي لَا يَزَالُ يَأْتِي مِنْ الْحَسَنَاتِ بِمَا يَمْحُو السَّيِّئَاتِ . وَإِنَّمَا قَدَّمَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ " السَّيِّئَةَ " وَإِنْ كَانَتْ مَفْعُولَةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا مَحْوُهَا لَا فِعْلُ الْحَسَنَةِ فَصَارَ { كَقَوْلِهِ فِي بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ : صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ } . وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْحَسَنَاتُ مِنْ جِنْسِ السَّيِّئَاتِ فَإِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْمَحْوِ وَالذُّنُوبُ يَزُولُ مُوجِبُهَا بِأَشْيَاءَ : ( أَحَدُهَا ) التَّوْبَةُ . وَ ( الثَّانِي ) الِاسْتِغْفَارُ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَغْفِرُ لَهُ إجَابَةً لِدُعَائِهِ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَإِذَا اجْتَمَعَتْ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ فَهُوَ الْكَمَالُ . ( الثَّالِثُ ) الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الْمُكَفِّرَةُ : أَمَّا " الْكَفَّارَاتُ الْمُقَدَّرَةُ " كَمَا يُكَفِّرُ الْمُجَامِعُ فِي رَمَضَانَ وَالْمُظَاهِرُ وَالْمُرْتَكِبُ لِبَعْضِ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ أَوْ تَارِكُ بَعْضِ وَاجِبَاتِهِ أَوْ قَاتِلُ الصَّيْدِ بِالْكَفَّارَاتِ الْمُقَدَّرَةِ وَهِيَ " أَرْبَعَةُ أَجْنَاسٍ " هَدْيٍ وَعِتْقٍ وَصَدَقَةٍ وَصِيَامٍ . وَأَمَّا " الْكَفَّارَاتُ الْمُطْلَقَةُ " كَمَا قَالَ حُذَيْفَةُ لِعُمَرِ : فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ ؛ يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ وَالْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ فِي التَّكْفِيرِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمْعَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَسَائِر الْأَعْمَالِ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا : مَنْ قَالَ كَذَا وَعَمِلَ كَذَا غُفِرَ لَهُ أَوْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ لِمَنْ تَلَقَّاهَا مِنْ السُّنَنِ خُصُوصًا مَا صُنِّفَ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ .

.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ حَتَّى يُعْتِقَ فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ »(1). وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا فِي الصِّحَاحِ (2).
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « الصَّلَاةُ نُورٌ ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ ، وَالْحَسَدُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ » (3).

(( هل الحسنات تكفر الصغائر والكبائر ؟))

وَسُؤَالُهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَقُولُوا الْحَسَنَاتُ إنَّمَا تُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ فَقَطْ(4)
__________
(1) - صحيح مسلم برقم(3870 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 288)
فِي هَذَا الْحَدِيث بَيَان فَضْل الْعِتْق وَأَنَّهُ مِنْ أَفْضَل الْأَعْمَال وَمِمَّا يَحْصُل بِهِ الْعِتْق مِنْ النَّار وَدُخُول الْجَنَّة .
وَفِيهِ اِسْتِحْبَاب عِتْق كَامِل الْأَعْضَاء فَلَا يَكُون خَصِيًّا وَلَا فَاقِد غَيْره مِنْ الْأَعْضَاء وَفِي الْخَصِيّ وَغَيْره أَيْضًا الْفَضْل الْعَظِيم لَكِنْ الْكَامِل أَوْلَى وَأَفْضَله أَعْلَاهُ ثَمَنًا وَأَنْفَسه كَمَا سَبَقَ بَيَانه فِي أَوَّل الْكِتَاب فِي كِتَاب الْإِيمَان فِي حَدِيث " أَيّ الرِّقَاب أَفْضَل ؟ " . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَغَيْرهمْ عَنْ سَالِم بْن أَبِي الْجَعْد عَنْ أَبِي أُمَامَة وَغَيْره مِنْ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " أَيّمَا اِمْرِئٍ مُسْلِم أَعْتَقَ اِمْرَأً مُسْلِمًا كَانَ فِكَاكه مِنْ النَّار يَجْزِي كُلّ عُضْو مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ وَأَيّمَا اِمْرِئٍ مُسْلِم أَعْتَقَ اِمْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ كَانَتَا فِكَاكه مِنْ النَّار يَجْزِي كُلّ عُضْو مِنْهُمَا عُضْوًا مِنْهُ وَأَيّمَا اِمْرَأَة مُسْلِمَة أَعْتَقَتْ اِمْرَأَة مُسْلِمَة كَانَتْ فِكَاكهَا مِنْ النَّار يَجْزِي كُلّ عُضْو مِنْهُ عُضْوًا مِنْهَا " . قَالَ التِّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح قَالَ هُوَ وَغَيْره .
وَهَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى أَنَّ عِتْق الْعَبْد أَفْضَل مِنْ عِتْق الْأَمَة : قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء أَيّمَا أَفْضَل عِتْق الْإِنَاث أَمْ الذُّكُور ؟ فَقَالَ بَعْضهمْ : الْإِنَاث أَفْضَل لِأَنَّهَا إِذَا عَتَقَتْ كَانَ وَلَدهَا حُرًّا سَوَاء تَزَوَّجَهَا حُرّ أَوْ عَبْد . وَقَالَ آخَرُونَ : عِتْق الذُّكُور أَفْضَل لِهَذَا الْحَدِيث وَلِمَا فِي الذِّكْر مِنْ الْمَعَانِي الْعَامَّة الْمَنْفَعَة الَّتِي لَا تُوجَد فِي الْإِنَاث مِنْ الشَّهَادَة وَالْقَضَاء وَالْجِهَاد وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا يَخُصّ بِالرِّجَالِ إِمَّا شَرْعًا وَإِمَّا عَادَة ، وَلِأَنَّ مِنْ الْإِمَاء مَنْ لَا تَرْغَب فِي الْعِتْق وَتَضِيع بِهِ بِخِلَافِ الْعَبِيد . وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الصَّحِيح .
وَأَمَّا التَّقْيِيد بِالرَّقَبَةِ بِكَوْنِهَا مُؤْمِنَة فَيَدُلّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفَضْل الْخَاصّ إِنَّمَا هُوَ فِي عِتْق الْمُؤْمِنَة . وَأَمَّا غَيْر الْمُؤْمِنَة فَفِيهِ أَيْضًا فَضْل بِلَا خِلَاف وَلَكِنْ دُون فَضْل الْمُؤْمِنَة ، وَلِهَذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَط فِي عِتْق كَفَّارَة الْقَتْل كَوْنهَا مُؤْمِنَة ، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض عَنْ مَالِك : أَنَّ الْأَعْلَى ثَمَنًا أَفْضَل وَإِنْ كَانَ كَافِرًا . وَخَالَفَهُ غَيْر وَاحِد مِنْ أَصْحَابه وَغَيْرهمْ قَالَ : وَهَذَا أَصَحّ .
(2) - قلت :
إن كان يعني بالصحاح الكتب الستة ، وهو الشائع عند الاطلاق، فهو كما قال رحمه الله ، وإن كان يعني بها الصحيحين ، فبعضها ليس في الصحيحين ،كما مر في تخريجها
(3) - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ برقم(6335 ) وهو حسن لغيره
(4) - وفي فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 9 / ص 232)
قال ابن بزيزة: هنا إشكال صعب وهو أن الصغائر بنص القرآن مكفرة باجتناب الكبائر فما الذي يكفره الصلوات؟ وأجاب البلقيني بأن معنى {إن تجتنبوا} الموافاة على هذه الحال من الإيمان أو التكليف إلى الموت والذي في الحديث أن الصلوات الخمس تكفر ما بينها أي في يومها إذا اجتنبت الكبائر في ذلك اليوم فالسؤال غير وارد وبفرض وروده فالتخلص منه أنه لا يتم اجتناب الكبائر إلا بفعل الخمس فمن لم يفعلها لم يجتنب لأن تركها من الكبائر فيتوقف التكفير على فعلها وأحوال المكلف بالنسبة لما يصدر منه من صغيرة وكبيرة خمسة: أحدها أن لا يصدر منه شيء فهذا ترفع درجاته. الثانية يأتي بصغائر بلا إصرار فهذا يكفر عنه جزماً. الثالثة مثله لكن مع الإصرار فلا يكفر لأن الإصرار كبيرة. الرابعة يأتي بكبيرة واحدة وصغائر. الخامسة يأتي بكبائر وصغائر وفيه نظر يحتمل إذا لم يجتنب أن تكفر الصغائر فقط والأرجح لا تكفر أصلاً إذ مفهوم المخالفة إذا لم يتعين جهته لا يعمل به.
وفي جامع العلوم والحكم - (ج 19 / ص 40)
وأما الكبائر ، فلابدَّ لها من التوبة ؛ لأنَّ الله أمر العباد بالتوبة ، وجعل من لم يتب ظالماً، واتفقت الأمةُ على أنَّ التوبة فرض ، والفرائضُ لا تُؤدى إلا بنيةٍ وقصدٍ ، ولو كانت الكبائرُ تقع مكفرةً بالوضوء والصلاة ، وأداء بقية أركان الإسلام ، لم يُحْتَجْ إلى التوبة ، وهذا باطلٌ بالإجماع .
وأيضا فلو كُفِّرَت الكبائرُ بفعل الفرائض لم يبق لأحدٍ ذنبٌ يدخل به النار إذا أتى بالفرائض ، وهذا يشبه قولَ المرجئة وهو باطل ، هذا ما ذكره ابن عبد البرِّ في كتابه " التمهيد " وحكى إجماع المسلمين على ذلك ، واستدلَّ عليه
بأحاديث :
منها : قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : (( الصَّلواتُ الخمسُ ، والجمعَةُ إلى الجُمُعَةِ ، ورمضانُ إلى رمضان مُكفِّراتٌ لما بَينَهُنَّ ما اجتُنِبت الكبائرُ )) وهو مخرَّج في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة ، وهذا يدلُّ على أنَّ الكبائرَ لا تكفرها هذه الفرائضُ .
وقد حكى ابنُ عطية في " تفسيره " في معنى هذا الحديث قولين : أحدُهما
- وحكاه عن جمهور أهل السُّنة - : أنَّ اجتنابَ الكبائر شرط لتكفير هذه الفرائض للصغائر ، فإنْ لم تُجتنب ، لم تُكفر هذه الفرائض شيئاً بالكلية .
والثاني : أنَّها تُكفر الصغائر مطلقاً ، ولا تُكفر الكبائر وإنْ وجدت ، لكن بشرط التوبة من الصغائر ، وعدمِ الإصرار عليها ، ورجَّحَ هذا القول ، وحكاه عن الحذاق.
وقوله : بشرط التوبة من الصغائر ، وعدمِ الإصرار عليها ، مرادُه أنَّه إذا أصرَّ
عليها ، صارت كبيرةً ، فلم تكفرها الأعمالُ . والقولُ الأوَّلُ الذي حكاه غريب ، مع أنَّه قد حُكِيَ عن أبي بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا مثلُه .
وفي " صحيح مسلم " عن عثمان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : (( مَا مِن امرئ مسلمٍ تحضُرُه صلاةٌ مكتوبة ، فيُحسِنُ وضوءها وخُشوعَها ورُكوعها إلا كانت كفارةً لما قبلها من الذنوب ما لم يُؤْتِ كبيرةً ، وذلك الدهر كُلَّه )) .
وفي " مسند الإمام أحمد " عن سلمان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا يتطهَّرُ الرجلُ -يعني: يوم الجمعة- فيحسن طهوره، ثم يأتي الجمعة فَيُنْصِتَ حتى يقضيَ الإمامُ صلاته ، إلا كان كفَّارة ما بينه وبين الجمعة المقبلة ما اجتنبت الكبائر المقتلة )) .
وخرَّج النسائي ، وابنُ حبان ، والحاكمُ من حديث أبي سعيدٍ وأبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : (( والَّذي نفسي بيده ما مِنْ عبدٍ يُصلِّي الصلواتِ الخمس ،ويصومُ رمضان ، ويُخرج الزكاة ، ويجتنب الكبائر السبعَ ، إلا فُتِحَتْ له أبوابُ الجنَّة ، ثم قيل له : ادخل بسلام )) . وخرَّج الإمامُ أحمد والنَّسائي من حديث أبي أيوب ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - معناه أيضاً . وخرَّج الحاكم معناه من حديث عبيد بن عمير ، عن أبيه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
ويُروى من حديث ابن عمر مرفوعاً : (( يقولُ الله - عز وجل - : ابنَ آدمَ اذكُرني من أوَّلِ النهار ساعةً ومن آخرِ النهار ساعةً ، أَغْفِر لك ما بَينَ ذلك ، إلا الكبائر ، أو تتوب منها )).
وقال ابن مسعود: الصلواتُ الخمس كفَّاراتٌ لما بينهن ما اجتنبت الكبائر.
وقال سلمان : حافظوا على هذه الصلوات الخمس ، فإنَّهنَّ كفَّارات لهذه الجراح ما لم تُصب المقتلة.
قال ابنُ عمر لرجل : أتخاف النارَ أنْ تدخلها ، وتحبُّ الجنَّةَ أنْ تدخلها ؟ قال : نعم ، قال : برَّ أمَّك فوالله لَئِنْ ألنتَ لها الكلام وأطعمتها الطَّعام ، لتدخلن الجنَّة ما اجتنبت الموجبات . وقال قتادة : إنَّما وعد الله المغفرةَ لمن اجتنب الكبائر ، وذكر لنا أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : (( اجتنبوا الكبائرَ وسدِّدوا وأبشروا )).
وذهب قومٌ من أهل الحديث وغيرهم إلى أنَّ هذه الأعمالَ تُكفِّرُ الكبائرَ ، ومنهم : ابن حزم الظاهري ، وإيَّاه عنى ابنُ عبد البرّ في كتاب " التمهيد " بالردِّ عليه وقال : قد كنتُ أرغبُ بنفسي عن الكلام في هذا الباب ، لولا قولُ ذلك القائل ، وخشيتُ أنْ يغترَّ به جاهلٌ ، فينهمِكَ في الموبقاتِ ، اتِّكالاً على أنَّها تكفِّرُها الصلواتُ دونَ الندم والاستغفار والتوبة ، والله نسألُه العصمة والتوفيقَ.
قلتُ : وقد وقع مثلُ هذا في كلام طائفة من أهل الحديث في الوضوء ونحوه ، ووقع مثلُه في كلام ابن المنذر في قيام ليلة القدر ، قال : يُرجى لمن قامها أنْ يغفر له جميع ذنوبه صغيرها وكبيرها . فإنْ كان مرادهم أنَّ مَنْ أتى بفرائض الإسلام وهو مُصرٌّ على الكبائر تغفر له الكبائرُ قطعاً ، فهذا باطلٌ قطعاً ، يُعْلَمُ بالضرورة من الدِّين بطلانه ، وقد سبق قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : (( مَنْ أساءَ في الإسلام أُخِذَ بالأوَّلِ والآخر )) يعني : بعمله في الجاهلية والإسلام ، وهذا أظهرُ من أنْ يحتاجَ إلى بيانٍ ، وإنْ أرادَ هذا القائلُ أنَّ من ترك الإصرارَ على الكبائرِ ، وحافظ على الفرائض من غير توبة ولا ندمٍ على ما سلف منه ، كُفِّرَت ذنوبه كلُّها بذلك ، واستدلَّ بظاهر قوله
: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً
كَرِيماً } . وقال : السيئات تشملُ الكبائرَ والصغائر ، فكما أنَّ الصغائرَ تُكفَّرُ باجتناب الكبائر من غير قصد ولا نيَّةٍ ، فكذلك الكبائرُ ، وقد يستدلُّ لذلك
بأنَّ الله وعد المؤمنين والمتقين بالمغفرة وبتكفير السَّيِّئات ، وهذا مذكورٌ في غير موضع من القرآن ، وقد صار هذا من المتَّقين ، فإنَّه فعل الفرائضَ ، واجتنبَ
الكبائرَ ، واجتنابُ الكبائر لا يحتاجُ إلى نيَّةٍ وقصدٍ ، فهذا القولُ يمكن أنْ يُقال في الجملة .
والصَّحيح قول الجمهور : إنَّ الكبائر لا تُكفَّرُ بدون التوبة ؛ لأنَّ التوبة فرضٌ على العباد ، وقد قال - عز وجل - : { وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } . وقد فسرت الصحابة كعمر وعلي وابن مسعود التوبة بالندم ، ومنهم من فسَّرها بالعزم على أنْ لا يعود ، وقد روي ذلك مرفوعاً من وجه فيه ضعفٌ، لكن لا يعلم مخالفٌ من الصحابة في هذا ، وكذلك التابعون ومَنْ بعدهم ، كعمر بن عبد العزيز ، والحسن وغيرهما وأما النصوص الكثيرة المتضمنة مغفرة الذنوب ، وتكفير السيئات للمتقين ، كقوله تعالى : { إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ، وقوله تعالى : { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } ، وقوله : { وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } ، فإنَّه لم يُبين في هذه الآيات خصال التقوى ، ولا العمل الصالح ، ومن جملة ذلك : التوبة النصوح ، فمَنْ لم يتب ، فهو ظالم ، غيرُ متّقٍ .
وقد بين في سورة آل عمران خصالَ التقوى التي يغفر لأهلها ويدخلهم الجنَّة ، فذكر منها الاستغفار ، وعدم الإصرار ، فلم يضمن تكفيرَ السيئات ومغفرة الذنوب إلاَّ لمن كان على هذه الصفة ، و الله أعلم .
ومما يُستدلُّ به على أنَّ الكبائر لا تُكَفَّرُ بدونِ التوبة منها ، أو العقوبة عليها حديثُ عُبَادةَ بنِ الصامت ، قال : كنَّا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( بايعوني على أنْ لا تُشركوا بالله شيئاً ، ولا تسرقوا ، ولاتزنوا )) ، وقرأ عليهم الآية (( فمن وفى منكم ، فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئاً ، فعُوقِبَ به ، فهو كفَّارَةٌ له ، ومن أصاب من ذلك شيئاً ، فستره الله عليه ، فهو إلى الله ، إنْ شاء عذَّبه ، وإنْ شاء غفر له )) خرَّجاه في " الصحيحين "
، وفي روايةٍ لمسلم : (( من أتى منكم حداً فأقيم عليه فهو كفارته )) . وهذا يدلُّ على أنَّ الحدود كفارات . قال الشافعيُّ : لم أسمع في هذا البابِ - أنَّ الحد يكونُ كفَّارةً لأهله - شيئاً أحسنَ مِنْ حديث عُبادةَ ابن الصامت .
وقوله : (( فعوقب به )) يعمُّ العقوبات الشرعية ، وهي الحدود المقدَّرةُ أو غير المقدَّرة ، كالتعزيزات ، ويشمل العقوبات القدرية ، كالمصائب والأسقام والآلام ، فإنَّه صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : (( لا يصيبُ المسلمَ نصبٌ ولا وَصَبٌ ولا هَمٌّ ولا حزن حتَّى الشَّوكة يُشاكها إلا كفَّر الله بها خطاياه )). ورُوي عن عليٍّ أنَّ الحدَّ كفَّارةٌ لمن أقيم عليه ، وذكر ابنُ جرير الطبري في هذه المسألة اختلافاً بين الناس ، ورجَّحَ أنَّ إقامة الحدِّ بمجرَّده كفارة ، ووهَّن القول بخلاف ذلك جداً.
قلت : وقد رُوي عن سعيد بن المسيب وصفوانَ بنِ سليم أنَّ إقامة الحدِّ ليس بكفَّارة ، ولابدَّ معه من التَّوبة ، ورجَّحه طائفة من المتأخِّرين ، منهم : البغويُّ ، وأبو عبد الله بن تيمية في " تفسيريهما " ، وهو قولُ ابنِ حزم الظاهري، والأوّل قولُ مجاهد وزيد بن أسلم والثوري وأحمد .
وأما حديث أبي هريرة المرفوع : (( لا أدري : الحدودُ طهارةٌ لأهلها أم لا ؟ )) فقد خرَّجه الحاكم وغيره ، وأعلَّه البخاري ، وقال : لا يثبت ، وإنَّما هوَ من مراسيل الزهريِّ ، وهي ضعيفةٌ ، وغلط عبد الرزاق فوصله ، قالَ : وقد صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الحدود كفارة .
ومما يستدلُّ به من قال : الحدّ ليس بكفارة قولُه تعالى في المحاربين : { ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } وظاهره أنَّه تجتمع لهم عقوبة الدنيا والآخرة . ويُجابُ عنه بأنَّه ذكر عقوبتهم في الدنيا وعقوبتهم في الآخرة ، ولا يلزم اجتماعهما ، وأما استثناء (( من تاب )) فإنَّما استثناه من عقوبة الدنيا خاصة ، فإنَّ عقوبة الآخرة تسقط بالتوبةِ قبل القُدرة وبعدها .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ومن أصابَ شيئاً مِنْ ذلك ، فستره الله عليه ، فهو إلى الله إنْ شاء عذَّبه ، وإنْ شاء غفر له )) صريحٌ في أنَّ هذه الكبائر من لقي الله بها كانت جتحتَ مشيئتِهِ ، وهذا يدلُّ على أنَّ إقامةَ الفرائضِ لا تكفِّرها ولا تمحوها ، فإنَّ عموم المسلمين يُحافظون على الفرائض ، لاسيما مَنْ بايعهُم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، وخرج مِنْ ذلك مَنْ لقي الله وقد تاب منها بالنُّصوص الدَّالَّةِ من الكتاب والسنة على أنَّ من تابَ إلى الله ، تاب الله عليه ، وغفر له ، فبقى مَنْ لم يتُبْ داخلاً تحت المشيئة .
وأيضاً ، فيدلُّ على أنَّ الكبائرَ لا تكفِّرُها الأعمالُ : إنَّ الله لم يجعلْ للكبائر في الدُّنيا كفَّارةً واجبةً ، وإنَّما جعلَ الكفارةَ للصغائر ككفَّارةِ وطءِ المُظاهِرِ ، ووطءِ المرأة في الحيض على حديث ابن عباس الذي ذهب إليه الإمامُ أحمد وغيرُه ، وكفارة من ترك شيئاً من واجبات الحج ، أو ارتكاب بعضَ محظوراته ، وهي أربعةُ أجناس : هديٌ ، وعِتقٌ ، وصدقةٌ ، وصيامٌ ، ولهذا لا تجب الكفارة في قتل العمدِ عندَ جمهور العلماءِ ، ولا في اليمين الغموس أيضاً عند أكثرهم ، وإنَّما يؤمرُ القاتلُ بعتق رقبة استحباباً ، كما في حديث واثلة بن الأسقع : أنَّهم جاؤوا إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في صاحبٍ لهم قد أوجب ، فقال : (( اعتِقُوا عنه رقبةً يعتقه الله بها مِن النار )) . ومعنى أوجب : عَمِلَ عملاً يجب له به النارُ ، ويقال : إنَّه كان قتل قتيلاً . وفي " صحيح مسلم "عن ابنِ عمر : أنَّه ضربَ عبداً له ، فأعتقه وقال : ليس لي فيه مِنَ الأجر مثل هذا - وأخذ عوداً من الأرض - إني سمعت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( مَنْ لَطَمَ مملوكَه ، أو ضربه ، فإنَّ كفَّارتَه أنْ يَعتِقَهُ )) .
فإنْ قيل : فالمجامِعُ في رمضان يُؤمَرُ بالكفَّارةِ ، والفطرُ في رمضان مِنَ الكبائرِ ، قيل : ليست الكفارة للفطر ، ولهذا لا يجب عندَ الأكثرين على كلِّ مفطر في رمضان عمداً ، وإنَّما هي لِهَتْكِ حُرمةِ نهار رمضان بالجماع ، ولهذا لو كان مفطراً فطراً لا يجوزُ له في نهار رمضان ، ثمَّ جامع ، للزمته الكفارةُ عند الإمام أحمد لما ذكرنا .
وممَّا يدلُّ على أنَّ تكفيرَ الواجبات مختصٌّ بالصَّغائر ما خرَّجه البخاري عن حُذيفة ، قال : بَيْنا نحن جلوسٌ عند عمرَ ، إذ قال : أيُّكم يحفظُ قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة ؟ قال : قلتُ : (( فتنةُ الرجل في أهله وماله وولده وجارِه يُكَفِّرُها الصلاةُ والصدقةُ والأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكر )) قال : ليس عن هذا أسألك . وخرَّجه مسلم بمعناه ، وظاهر هذا السياق يقتضي رفعَه ، وفي رواية للبخاري أنَّ حذيفة قال : سمعتُه يقول : (( فتنة الرجل )) فذكره ، وهذا كالصريح في رفعه ، وفي روايةٍ لمسلم أنَّ هذا من كلام عمر .
وأما قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للذي قال له : أصبتُ حدَّاً ، فأقمه عليَّ ، فتركه حتى صلى ، ثم قال له : (( إنَّ الله غفر لك حَدَّك )) ، فليس صريحاً في أنَّ المراد به شيءٌ مِنَ الكبائر ؛ لأنَّ حدود الله محارمه كما قال تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه } وقوله : { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوهَا } ، وقوله : { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ } الآية إلى قوله : { وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } .
وفي حديث النواس بن سمعان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ضرب مثل الإسلام بالصراط المستقيم الذي على جنبتيه سُوران ، قال : (( والسورانِ حُدودُ الله )) . وقد سبق ذكره بتمامه .
فكلُّ من أصاب شيئاً من محارم الله، فقد أصابَ حدودَه ، وركبها ، وتعدَّاها . وعلى تقدير أنْ يكونَ الحدُّ الذي أصابه كبيرةً ، فهذا الرجل جاء نادماً تائباً ، وأسلم نفسه إلى إقامةِ الحدِّ عليه ، والنَّدمُ توبة ، والتوبةُ تُكفِّرُ الكبائرَ بغير تردُّدٍ ، وقد رُوي ما يُستدلُّ به على أنَّ الكبائر تكفرُ ببعض الأعمال الصالحة ، فخرَّجَ الإمامُ أحمد والترمذيُّ من حديث ابن عمر : أنَّ رجلاً أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسولَ الله ، إني أصبتُ ذنباً عظيماً ، فهل لي من توبة ؟ قالَ : (( هل لك مِنْ أمٍّ ؟ )) قالَ : لا ، قالَ : (( فهل لك من خالةٍ ؟ )) قال : نعم ، قال : (( فبِرَّها )) ، وخرَّجه ابن حبان في " صحيحه " والحاكم ، وقال : على شرط الشيخين ، لكن خرَّجه الترمذي من وجهٍ آخر مرسلاً ، وذكر أنَّ المرسلَ أصحُّ من الموصول ، وكذا قال عليُّ بنُ المديني والدارقطني
وروي عن عمرَ أنَّ رجلاً قال له : قتلتُ نفساً ، قال : أمُّك حية ؟ قال : لا ، قال : فأبوك ؟ قال : نعم ، قال : فبِرَّه وأحسن إليه ، ثم قال عمر : لو كانت أمُّه حيَّةً فبرَّها ، وأحسن إليها ، رجوتُ أنْ لا تطعَمه النارُ أبداً . وعن ابن عباس معناه أيضاً .
وكذلك المرأة التي عَمِلَت بالسحر بدُومَة الجندلِ ، وقدمت المدينةَ تسألُ عن
توبتها ، فوجدت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد توفي ، فقال لها أصحابُه : لو كان أبواك حَيَّيْنِ أو أحدهما كانا يكفيانك . خرَّجه الحاكم وقال : فيه إجماعُ الصحابة حِدْثَان وفاةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أنَّ برَّ الأبوين يكفيانها . وقال مكحول والإمام أحمد : بِرُّ الوالدين كفارةٌ للكبائر . وروي عن بعض السَّلف في حمل الجنائز أنَّه يَحطُّ الكبائر ، وروي مرفوعاً من وجوهٍ لا تَصِحُّ .
وقد صحَّ من رواية أبي بُردة أنَّ أبا موسى لما حضرته الوفاةُ قال : يا بَنِيَّ ، اذكروا صاحبَ الرَّغيف : كان رجلٌ يتعبَّدُ في صومعةٍ أُراه سبعينَ سنة ، فشبَّه الشيطانُ في عينه امرأةً ، فكان معها سبعةَ أيامٍ وسبعَ ليالٍ ، ثم كُشِفَ عن الرجل غطاؤه، فخرج تائباً، ثمَّ ذكر أنَّه باتَ بين مساكين ، فتُصُدِّقَ عليهم برغيف رغيف ، فأعطوه رغيفاً ، ففقده صاحبُه الذي كان يُعطاه ، فلمَّا علم بذلك ، أعطاه الرغيفَ وأصبح ميتاً ، فوُزِنَتِ السَّبعونَ سنة بالسَّبع ليال ، فرجحت الليالي ، ووُزِنَ الرَّغيفُ بالسَّبع اللَّيال ، فرجح الرغيف .
وروى ابنُ المبارك بإسناده في كتاب " البر والصلة " عن ابن مسعود ،
قال : عبَدَ اللهَ رجلٌ سبعين سنةً ، ثم أصابَ فاحشةً ، فأحبطَ الله عملَه ، ثم
أصابته زَمَانةٌ وأُقْعِدَ ، فرأى رجلاً يتصدَّقُ على مساكين ، فجاء إليه ، فأخذ
منه رغيفاً ، فتصدَّقَ به على مسكينٍ ، فغفرَ الله له ، وردَّ عليه عملَ سبعين
سنة .
وهذه كلُّها لا دِلالةَ فيها على تكفير الكبائر بمجرَّد العمل ؛ لأنَّ كلَّ من ذكر فيها كان نادماً تائباً من ذنبه ، وإنَّما كان سؤاله عن عملٍ صالح يتقرَّب به إلى الله بعد التوبة حتّى يمحوَ به أثَرَ الذنب بالكلية ، فإنَّ الله شرط في قبول التوبة ومغفرةِ الذنوب بها العملَ الصالح ، كقوله : { إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } ، وقوله : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } ، وقوله : { فَأَمَّا
مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ } ، وفي هذامتعلَّقٌ لمن يقول : إنَّ التائب بعد التوبة في المشيئة ، وكان هذا حال كثير مِنَ
الخائفين مِنَ السَّلف . وقال بعضهم لرجلٍ : هل أذنبت ذنباً ؟ قال : نعم ، قال : فعلمتَ أنَّ الله كتبه عليك ؟ قال : نعم ، قال : فاعمل حتّى تعلمَ أنَّ الله قد محاه . ومنه قولُ ابن مسعود : إنَّ المؤمن يرى ذنوبه كأنَّه في أصل جبل يخاف أنْ يقع
عليه ، وإنَّ الفاجر يرى ذنوبَه كذُبابٍ طار على أنفه ، فقال به هكذا . خرَّجه البخاري.
وكانوا يتَّهمُون أعمالهم وتوباتهم ، ويخافون أنْ لا يكونَ قد قُبِلَ منهم ذلك ، فكان ذلك يُوجِبُ لهم شدَّةَ الخوف ، وكثرةَ الاجتهاد في الأعمال الصالحة .
قال الحسن: أدركتُ أقواماً لو أنفق أحدهم ملءَ الأرض ما أمِنَ لِعظم الذنب في نفسه. وقال ابنُ عون : لا تَثِقْ بكثرة العمل ، فإنَّك لا تدري أيُقبل منك أم لا ، ولا تأمن ذنوبك ، فإنَّك لا تدري كُفِّرَتْ عنك أم لا ، إنَّ عملك مُغَيَّبٌ عنك كله .
والأظهر - والله أعلم - في هذه المسألة - أعني : مسألة تكفير الكبائر بالأعمال - أنَّه إنْ أُريدَ أنَّ الكبائر تُمحى بمجرَّد الإتيان بالفرائضِ ، وتقع الكبائر مكفرة بذلك كما تُكفَّرُ الصَّغائر باجتناب الكبائر ، فهذا باطلٌ .
وإنْ أريدَ أنَّه قد يُوازن يومَ القيامة بين الكبائر وبينَ بعض الأعمال ، فتُمحى
الكبيرة بما يُقابلها من العمل ، ويَسقُطُ العمل ، فلا يبقى له ثوابٌ ، فهذا قد يقع .
وقد تقدَّم عن ابنِ عمرَ أنَّه لمَّا أعتق مملوكَه الذي ضربه ، قال : ليس لي فيه مِنَ الأجر شيءٌ ، حيث كان كفارةً لذنبه ، ولم يكن ذنبُه مِنَ الكبائر ، فكيف بما كان من الأعمال مكفراً للكبائر ؟
وسبق أيضاً قولُ مَنْ قالَ مِنَ السَّلف : إنَّ السيئة تمحى ، ويسقط نظيرها حسنة من الحسنات التي هي ثواب العمل ، فإذا كانَ هذا في الصغائر ، فكيف بالكبائر ؟ فإنَّ بعضَ الكبائر قد يُحبِطُ بعضَ الأعمال المنافية لها ، كما يُبطل المنُّ والأذى الصدقةَ ، وتُبطلُ المعاملة بالرِّبا الجهادَ كما قالت عائشة . وقال حذيفةُ : قذفُ المحصنة يَهْدِمُ عملَ مئة سنة ، وروي عنه مرفوعاً خرَّجه البزار ، وكما يبطل ترك صلاة العصر العمل ، فلا يستنكر أنْ يبطل ثواب العمل الذي يكفر الكبائر .
وقد خرَّج البزار في "مسنده" والحاكم من حديث ابن عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : (( يُؤتَي بحسناتِ العبد وسيِّئاتِه يَوْمَ القيامة، فَيُقص أو يُقضى بعضُها من بعض، فإنْ بقيت له حسنةٌ ، وُسِّعَ له بها في الجنة )) .
وخرَّج ابنُ أبي حاتم من حديث ابن لَهيعة ، قال : حدَّثني عطاءُ بنُ دينار ، عن سعيد بن جُبير في قولِ الله - عز وجل - : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } ، قال : كان المسلمون يرون أنَّهم لا يُؤجرون على الشَّيءِ القليلِ إذا أعطوه ، فيجيءُ المسكينُ ، فيستقلُّون أنْ يُعطوه تمرةً وكِسرة وجَوزةً ونحو ذلك ، فيردُّونه ، ويقولون : ما هذا بشيء ، إنَّما نُؤجر على ما نُعطي ونحن نحبُّه ، وكان آخرون يرون أنَّهم لا يُلامون على الذَّنب اليسير مثل الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك ، يقولون : إنَّما وعد الله النار على الكبائر ، فرغَّبهم الله في القليل من الخير أنْ يعملوه ، فإنَّه يُوشِكُ أنْ يَكثُرَ ، وحذَّرهم اليسيرَ من الشرِّ ، فإنَّه يُوشِكُ أنْ يَكْثُرَ ، فنَزلت : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } ، يعني : وزن أصغر النمل { خَيْراً يَرَه } يعني : في كتابه ، ويَسُرُّهُ ذلك قال : يُكتب لكلِّ برٍّ وفاجر بكلِّ سيئةٍ سيئة واحدة ، وبكلِّ حسنة عشر حسنات ، فإذا كان يومُ القيامة ، ضاعف الله حسناتِ المؤمن أيضاً بكلِّ واحدةٍ عشراً ، فيمحو عنه بكلِّ حسنةٍ عشرَ سيئات ، فمن زادت حسناتُه على سيئاتِه مِثقالَ ذرَّةٍ ، دخل الجنة .
وظاهرُ هذا أنَّه تقع المقاصةُ بين الحسناتِ والسيئات ، ثم تسقط الحسناتُ المقابلة للسيئات ، ويُنظر إلى ما يَفضُلُ منها بعدَ المقاصة ، وهذا يُوافق قولَ مَنْ قال بأنَّ من رَجَحَتْ حسناتُه على سيئاته بحسنة واحدةٍ أُثيب بتلك الحسنة خاصة ، وسَقَطَ باقي حسناته في مقابلة سيئاته ، خلافاً لمن قال : يُثاب بالجميع ، وتسقُط سيئاتُه كأنَّها لم تكن ، وهذا في الكبائر ، أمَّا الصغائر ، فإنَّه قد تُمحى بالأعمال الصالحة مع بقاء ثوابها ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ألا أدُلُّكُم على ما يمحو الله به الخطايا ، ويرفعُ به الدرجات : إسباغُ الوضوء على المكاره ، وكثرَةُ الخُطا إلى المساجد ، وانتظارُ الصَّلاة بعد الصلاة )) فأثبت لهذه الأعمال تكفيرَ الخطايا ورَفْعَ الدَّرجات، وكذلك قولُه - صلى الله عليه وسلم - : (( مَنْ قَالَ : لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له ، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير مئة مرَّةٍ ، كتبَ الله له مئة حسنةٍ، ومُحيت عنه مئة سيئة ، وكانت له عَدْلَ عشر رقاب )) ، فهذا يدلُّ على أنَّ الذكر يمحو السيئات ، ويبقى ثوابُه لِعامله مضاعفاً .

، فَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَلَا تُغْفَرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ كَمَا قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ : " مَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ "(1)
فَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِوُجُوهِ :
أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ جَاءَ فِي الْفَرَائِضِ . كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)(2)
__________
(1) - أخرجه بهذا اللفظ أحمد في مسنده برقم(8949) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَاتٌ لَمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ » وهو صحيح
وهو في مسلم برقم(574 )عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ « الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ ».
(2) - وفي الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 926)
اجتناب الشئ معناه : المباعدة عنه وتركه جانبا بحيث تكون أنت فى جانب وهو فى جانب آخر ولا تلاقى بينكما .
وكبائر الذنوب : ما عظم منها ، وعظمت العقوبة عليه . كالشرك ، وقتل النفس بغير حق ، وأكل مال اليتيم ونحو ذلك من المحرمات .
والسيئات : جمع سيئة وهى الفعلة القبيحة ، وسميت بذلك؛ لأنها تسوء صاحبها عاجلا أو آجلا .
والمراد بالسيئات هنا : صغائر الذنوب بدليل مقابلتها بالكبائر .
والمعنى : إن تتركوا - يا معشر المؤمنين - كبائر الذنوب التى نهاكم الشرع عن اقترافها ، { نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } أى نسترها عليكم ، ونمحها عنكم حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل فضلا من الله عليكم ، ورحمة بكم .
{ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } أى وندخلكم فى الآخرة مدخلا حسنا وهو الجنة التى وعد الله بها عباده الصالحين . فهى مكان طيب يجد من يحل فيه الكثير من كرم الله ورضاه .
والمدخل - بضم الميم - كما قرأه الجمهور مصدر بمعنى الإِدخال ومفعول ندخلكم محذوف أى نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم إدخالا كريما .
ويصح أن يكون اسم مكان منصوبا على الظرفية عند سيبويه ، وعلى المفعولية عند الأخفش .
وقرأ نافع { مَّدْخَلاً } - بفتح الميم - على أنه اسم مكان للدخول ، ويجوز أن يكون مصدرا ميما . أى ندخلكم مكانا كريما أو ندخلكم دخولا كريما
هذا ، وقد استدل العلماء بهذه الآية على أن صغائر الذنوب يغفرها الله - تعالى - لعباده رحمة منه وكرما متى اجتنبوا كبائر الذنوب ، وصدقوا فى توبتهم إليه .
كما استدلوا بها على أن الذنوب منها الكبائر ومنها الصغائر؛ لأن هذه الآية قد فصلت بين كبائر الذنوب وبين ما يكفر باجتنابها وهو صغار الذنوب المعبر عنها بقوله - تعالى - : { نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } . ولأن الله - تعالى - يقول فى موضع آخر { وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة } قال الآلوسى ما ملخصه : واختلفوا فى حد الكبيرة على أقوال منها : أنها كل معصية أوجبت الحد . ومنها : أنها كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين وبضعف ديانته .
وقال الواحدى : الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفها العباد به ، وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها . ولكن الله - تعالى - أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا فى اجتناب المنهى عنه رجاء أن تجنب الكبائر . ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى ، وليلة القدر . وساعة الإِجابة .
وذهب جماعة إلى ضبطها بالعد من غير ضبط بحد . فعن ابن عباس وغيره أنها ما ذكره الله - تعالى - من أول هذه السورة إلى هنا . وقيل هى سبع بدليل ما جاء فى الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" اجتنبوا السبع الموبقات قالوا : وما هو يا رسول الله؟ قال : الشرك بالله - تعالى - والسحر ، وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق ، وأكل ما اليتيم ، وأكل الربا ، والتولى يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " .
فإن قيل : جاء فى روايات أخرى أن من الكبائر " اليمين الغموس " و " قول الزور " و " عقوق الوالدين "؟ قلنا فى الجواب : إن ذلك محمول على أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر ما ذكر منها قصدا لبيان المحتاج منها وقت الذكر وليس لحصره الكبائر فيه - فإن النص على هذه السيع بأنهن كبائر لا ينفى ما عداهن .
والذى نراه أن الذنوب منها الكبائر ومنها الصغائر ، وأن الصغائر يغفرها الله لعاده متى اجتنبوا الكبائر وأخلصوا دينهم لله ، وأن الكبائر هى ما حذر الشرع من ارتكابها تحذيرا شديدا ، وتوعد مرتكبها بسوء المصير ، كالإشراك بالله ، وقتل النفس بغير حق وغير ذلك من الفواحش التى يؤدى ارتكابها إلى إفساد شأن الأفراد والجماعات والتى ورد النهى عنها فى كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية . وأن الصغائر ، هى الذنوب اليسيرة التى يتركبها الشخص من غير إصرار عليها ولا استهانة بها أو مداومة عليها ، بل يعقبها بالتوبة الصادقة والعمل الصالح وصدق الله إذ يقول : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ } ولقد فتح الله - تعالى - لعباده باب التوبة من الذنوب صغيرها وكبيرها حتى لا ييأسوا من رحمته فقال - سبحانه - : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً }
وفي ظلال القرآن - (ج 2 / ص 107)
ما أسمح هذا الدين! وما أيسر منهجه! على كل ما فيه من هتاف بالرفعة والسمو والطهر والنظافة ، والطاعة . وعلى كل ما فيه من التكاليف والحدود ، والأوامر والنواهي ، التي يراد بها إنشاء نفوس زكية طاهرة؛ وإنشاء مجتمع نظيف سليم .
إن هذا الهتاف؛ وهذه التكاليف؛ لا تغفل - في الوقت ذاته - ضعف الإنسان وقصوره؛ ولا تتجاوز به حدود طاقته وتكوينه؛ ولا تتجاهل فطرته وحدودها ودوافعها؛ ولا تجهل كذلك دروب نفسه ومنحنياتها الكثيرة .
ومن ثم هذا التوازن بين التكليف والطاقة . وبين الأشواق والضرورات . وبين الدوافع والكوابح . وبين الأوامر والزواجر . وبين الترغيب والترهيب . وبين التهديد الرعيب بالعذاب عند المعصية والإطماع العميق في العفو والمغفرة . .
إنه حسبُ هذا الدين من النفس البشرية أن يتم اتجاهها لله؛ وأن تخلص حقاً في هذا الاتجاه ، وأن تبذل غاية الجهد في طاعته ورضاه . . فأما بعد ذلك . . فهناك رحمة الله . . هناك رحمة الله ترحم الضعف ، وتعطف على القصور؛ وتقبل التوبة ، وتصفح عن التقصير؛ وتكفر الذنب وتفتح الباب للعائدين ، في إيناس وفي تكريم . .
وآية بذل الطاقة اجتناب كبائر ما نهى الله عنه . أما مقارفة هذه الكبائر- وهي واضحة ضخمة بارزة؛ لا ترتكبها النفس وهي جاهلة لها أو غير واعية! فهي دليل على أن هذه النفس لم تبذل المحاولة المطلوبة؛ ولم تستنفد الطاقة في المقاومة . . وحتى هذه فالتوبة منها في كل وقت مع الإخلاص مقبولة برحمة الله التي كتبها على نفسه . . وقد قال فيها : { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } . وعدهم من { المتقين } .
إنما الذي نحن بصدده هنا هو تكفير السيئات والذنوب مباشرة من الله ، متى اجتنبت الكبائر؛ وهذا هو وعد الله هنا وبشراه للمؤمنين .
وفي الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 1336)
فيه مسألتان :
الأُولى لما نهى تعالى في هذه السورة عن آثامٍ هي كبائر ، وعَدَ على اجتنابها التخفيف من الصغائر ، ودلّ هذا على أن في الذنوب كبائرَ وصغائرَ . وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة الفقهاء ، وأن اللّمسة والنظرة تُكفَّر باجتناب الكبائر قَطْعاً بوعده الصدق وقوله الحق ، لا أنه يجب عليه ذلك . ونظير الكلام في هذا ما تقدّم بيانه في قبول التوبة في قوله تعالى : { إِنَّمَا التوبة عَلَى الله } ، فالله تعالى يغفر الصغائر باجتناب الكبائر ، لكن بضميمة أُخرى إلى الاجتناب وهي إقامة الفرائض . روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفِّراتٌ ما بينهنّ إذا اجتنب الكبائر " وروى أبو حاتم البُسْتيّ في صحيح مسنده عن " أبي هريرة وأبي سعيد الخُدْرِيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر ثم قال : «والذي نفسي بيده» ثلاث مرات ، ثم سكت فأكبّ كل رجل منا يبكي حزيناً ليَمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : «ما من عبد يؤدّي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له ثمانية أبواب من الجنة يوم القيامة حتى إنها لتصفّق» ثم تلا { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } " فقد تعاضد الكتاب وصحيحُ السنة بتكفير الصغائر قطعاً كالنظر وشِبهه . وبيّنت السنة أن المراد ب { تَجْتَنِبُواْ } ليس كلّ الاجتناب لجميع الكبائر . والله أعلم . وأما الأُصوليون فقالوا : لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر ، وإنما محمل ذلك على غلبة الظنّ وقوّة الرّجاء والمشيئةُ ثابتةٌ . ودلّ على ذلك أنه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض تكفيرَ صغائره قطعاً لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بألاّ تِباعة فيه ، وذلك نقض لعُرَى الشريعة . ولا صغيرة عندنا . قال القُشيريّ عبد الرحيم : والصحيح أنها كبائر ولكن بعضها أعظم وقعاً من بعض ، والحكمة في عدم التمييز أن يجتنب العبد جميع المعاصي .
قلت : وأيضاً فإن من نظر إلى نفس المخالفة كما قال بعضهم : لا تنظرْ إلى صِغر الذنب ولكن انظر من عصيت كانت الذنوب بهذه النسبة كلها كبائر ، وعلى هذا النحو يخرّج كلام القاضي أبي بكر بن الطيّب والأُستاذ أبي إسحاق الأسفرايني وأبي المعالي وأبي نصر عبد الرحيم القشيري وغيرهم؛ قالوا : وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها ، كما يقال الزنى صغيرة بإضافته إلى الكفر ، والقُبْلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنى ، ولا ذنب عندنا يُغفر باجتناب ذنب آخر ، بل كل ذلك كبيرة ومرتكبه في المشيئة غير الكفر؛ لقوله تعالى :{ إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] واحتجوا بقراءة من قرأ " إنْ تَجْتَنِبُوا كَبِيرَ مَا تنْهَوْنَ عَنْهُ " على التوحيد؛ وكبير الإثم الشرك . قالوا : وعلى الجمع فالمراد أجناس الكفر . والآيةُ التي قيّدت الحكم فتردّ إليها هذه المطلَقات كلها قولُه تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } . واحتجوا بما رواه مُسلم وغيرهُ عن أبي أُمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " «مَن اقتطع حق امرىء مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرّم عليه الجنة» فقال له رجل : يا رسول الله ، وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال : «وإن كان قضيباً من أَرَاك» " فقد جاء الوعيد الشديد على اليسير كما جاء على الكثير . وقال ابن عباس : الكبيرة كلّ ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب . وقال ابن مسعود : الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية؛ وتصديقُه قوله تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } . وقال طاوس : قيل لابن عباس الكبائر سبع؟ قال : هي إلى السبعين أقرب . وقال سعيد بن جُبير : قال رجل لابن عباس الكبائر سبع؟ قال : هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع؛ غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار . وروي عن ابن مسعود أنه قال : الكبائر أربع : اليأس من رَوح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، والشِّرك بالله؛ دل عليها القرآن . وروي عن ابن عمر : هي تسع : قتل النفس ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، ورَمْي المحصَنة ، وشهادة الزور ، وعقوق الوالدين ، والفِرار من الزّحف ، والسحر ، والإلحاد في البيت الحرام . ومن الكبائر عند العلماء : القِمار والسرقة وشرب الخمر وسَبّ السَّلَف الصالح وعدول الحكام عن الحق واتباع الهوى واليمين الفاجرة والقنوط من رحمة الله وسب الإنسان أبويه بأن يسُبّ رجلاً فيَسُبّ ذلك الرجلُ أبويه والسعي في الأرض فساداً ؛ إلى غير ذلك مما يكثر تَعداده حسب ما جاء بيانها في القرآن ، وفي أحاديث خرّجها الأئمة ، وقد ذكر مسلم في كتاب الإيمان منها جملةً وافرة . وقد اختلف الناس في تَعدادها وحصرها لاختلاف الآثار فيها ، والذي أقول : إنه قد جاءت فيها أحاديث كثيرة صِحاح وحِسان لم يُقصد بها الحصر ، ولكن بعضها أكبر من بعض بالنسبة إلى ما يكثر ضرره ، فالشرك أكبر ذلك كله ، وهو الذي لا يُغفر لنصّ الله تعالى على ذلك ، وبعده اليأس من رحمة الله؛ لأن فيه تكذيب القرآن؛ إذ يقول وقوله الحق : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 156 ] وهو يقول : لا يغفر له؛ فقد حَجَر واسعاً . هذا إذا كان معتقداً لذلك؛ ولذلك قال الله تعالى : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون } [ يوسف : 87 ] . وبعده القنوط؛ قال الله تعالى : { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون } [ الحجر : 56 ] . وبعده الأمن من مكر الله فيسترسل في المعاصي ويتّكل على رحمة الله من غير عمل؛ قال الله تعالى : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون } [ الأعراف : 99 ] . وقال تعالى : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين } [ فصلت : 23 ] وبعده القتل؛ لأن فيه إذهاب النفوس وإعدامَ الوجود ، واللِّواطُ فيه قطع النَّسل ، والزنى فيه اختلاط الأنساب بالمياه ، والخَمرُ فيه ذهاب العقل الذي هو مناط التكليف ، وترك الصلاة والأذان فيه تركُ إظهار شعائر الإسلام ، وشهادةُ الزور فيها استباحة الدماء والفروج والأموال ، إلى غير ذلك مما هو بيّن الضرر؛ فكلّ ذنب عظّم الشرْع التوعُّدَ عليه بالعقاب وشدّده ، أو عظّم ضرره في الوجود كما ذكرنا فهو كبيرة وما عداه صغيرة . فهذا يربط لك هذا الباب ويضبطه ، والله أعلم .
الثانية قوله تعالى : { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } قرأ أبو عمرو وأكثر الكوفيين «مُدخلا» بضم الميم ، فيحتمل أن يكون مصدرا ، أي إدخالا ، والمفعول محذوف أي وندخلكم الجنة إدخالا . ويحتمل أن يكون بمعنى المكان فيكون مفعولا . وقرأ أهل المدينة بفتح الميم ، فيجوز أن يكون مصدر دخل وهو منصوب بإضمار فعل؛ التقدير وندخلكم فتدخلون مدخَلا ، ودّل الكلام عليه . ويجوز أن يكون اسم مكان فينتصب على أنه مفعول به ، أي وندخلكم مكانا كريما وهو الجنة . وقال أبو سعيد بن الأعرابي : سمعت أبا داود السّجستاني يقول : سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول : المسلمون كلهم في الجنة؛ فقلت له : كيف؟ قال : يقول الله عز وجل { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } يعني الجنة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " فإذا كان الله عز وجل يغفر ما دون الكبائر والنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في الكبائر فأي ذنب يبقى على المسلمين . وقال علماؤنا : الكبائر عند أهل السنّة تُغفر لمن أقلع عنها قبل الموت حسب ما تقدّم . وقد يُغفر لمن مات عليها من المسلمين؛ كما قال تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } الآية والمراد بذلك من مات على الذنوب فلو كان المراد من تاب قبل الموت لم يكن للتفرقة بين الإشراك وغيره معنى إذ التائب من الشرك أيضاً مغفور له . ورُوي عن ابن مسعود أنه قال : خمس آيات من سورة النساء هي أحب إلي من الدنيا جميعاً قوله تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } وقوله { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] الآية ، وقوله تعالى : { وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [ النساء : 110 ] ، وقوله تعالى : { وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } [ النساء : 40 ] وقوله تعالى : { والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } [ النساء : 152 ] . وقال ابن عباس؛ ثمان آيات في سورة النساء ، هنّ خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت : { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } { والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } ، الآية ، { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 ] { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] { وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [ النساء : 110 ] { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ } [ النساء : 147 ] الآية .
وفي تفسير الرازي - (ج 5 / ص 179)
اعلم أنه تعالى لما قدم ذكر الوعيد أتبعه بتفصيل ما يتعلق به فذكر هذه الآية ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : من الناس من قال : جميع الذنوب والمعاصي كبائر . روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة ، فمن عمل شيئا منها فليستغفر الله ، فان الله تعالى لا يخلد في النار من هذه الأمة إلا راجعا عن الاسلام ، أو جاحدا فريضة ، أو مكذبا بقدر . واعلم أن هذا القول ضعيف لوجوه :
الحجة الأولى : هذه الآية ، فان الذنوب لو كانت بأسرها كبائر لم يصح الفصل بين ما يكفر باجتناب الكبائر وبين الكبائر .
الحجة الثانية : قوله تعالى : { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } [ القمر : 53 ] وقوله : { لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ] .
الحجة الثالثة : ان الرسول عليه الصلاة والسلام نص على ذنوب بأعيانها أنها كبائر ، كقوله : « الكبائر : الإشراك بالله واليمين الغموس وعقوق الوالدين وقتل النفس » وذلك يدل على أن منها ما ليس من الكبائر .
الحجة الرابعة : قوله تعالى : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان } [ الحجرات : 7 ] وهذا صريح في أن المنهيات أقسام ثلاثة : أولها : الكفر ، وثانيها : الفسوق . وثالثها : العصيان ، فلا بد من فرق بين الفسوق وبين العصيان ليصح العطف ، وما ذاك إلا لما ذكرنا من الفرق بين الصغائر وبين الكبائر ، فالكبائر هي الفسوق ، والصغائر هي العصيان . واحتج ابن عباس بوجهين : أحدهما : كثرة نعم من عصى . والثاني : إجلال من عصى ، فان اعتبرنا الأول فنعم الله غير متناهية ، كما قال : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ النحل : 18 ] وان اعتبرنا الثاني فهو أجل الموجودات وأعظمها ، وعلى التقديرين وجب أن يكون عصيانه في غاية الكبر ، فثبت أن كل ذنب فهو كبيرة .
والجواب من وجهين : الأول : كما أنه تعالى أجل الموجودات وأشرفها ، فكذلك هو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين ، وأغنى الأغنياء عن طاعات المطيعين وعن ذنوب المذنبين ، وكل ذلك يوجب خفة الذنب . الثاني : هب أن الذنوب كلها كبيرة من حيث أنها ذنوب ، ولكن بعضها أكبر من بعض ، وذلك يوجب التفاوت . إذا ثبت أن الذنوب على قسمين بعضها صغائر وبعضها كبائر ، فالقائلون بذلك فريقان : منهم من قال : الكبيرة تتميز عن الصغيرة في نفسها وذاتها ، ومنهم من قال : هذا الامتياز إنما يحصل لا في ذواتها ، بل بحسب حال فاعليها ، ونحن نشرح كل واحد من هذين القولين .
أما القول الأول : فالذاهبون اليه والقائلون به اختلفوا اختلافا شديداً ، ونحن نشير إلى بعضها ، فالأول : قال ابن عباس : كل ما جاء في القرآن مقرونا بذكر الوعيد فهو كبيرة ، نحو قتل النفس المحرمة وقذف المحصنة والزنا والربا وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف . الثاني : قال ابن مسعود : افتتحوا سورة النساء ، فكل شيء نهى الله عنه حتى ثلاث وثلاثين آية فهو كبيرة ، ثم قال : مصداق ذلك :{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } [ النساء : 31 ] الثالث : قال قوم : كل عمد فهو كبيرة . واعلم أن هذه الأقوال ضعيفة .
أما الأول : فلأن كل ذنب لا بد وأن يكون متعلق الذم في العاجل والعقاب في الآجل ، فالقول بأن كل ما جاء في القرآن مقرونا بالوعيد فهو كبيرة يقتضي أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه .
وأما الثاني : فهو أيضا ضعيف ، لأن الله تعالى ذكر كثيراً من الكبائر في سائر السور ، ولا معنى لتخصيصها بهذه السورة .
وأما الثالث : فضعيف أيضا ، لأنه ان أراد بالعمد أنه ليس بساه عن فعله ، فما هذا حاله هو الذي نهى الله عنه ، فيجب على هذا أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه ، وان أراد بالعمد أن يفعل المعصية مع العلم بأنها معصية ، فمعلوم أن اليهود والنصارى يكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم لا يعلمون أنه معصية ، وهو مع ذلك كفر كبير ، فبطلت هذه الوجوه الثلاثة . وذكر الشيخ الغزالي رحمه الله في منتخبات كتاب إحياء علوم الدين فصلا طويلا في الفرق بين الكبائر والصغائر فقال : فهذا كله قول من قال : الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب ذواتها وأنفسها .
وأما القول الثاني : وهو قول من يقول : الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب اعتبار أحوال فاعليها ، فهؤلاء الذين يقولون : إن لكل طاعة قدرا من الثواب ، ولكل معصية قدرا من العقاب ، فاذا أتى الانسان بطاعة واستحق بها ثوابا ، ثم أتى بمعصية واستحق بها عقابا ، فههنا الحال بين ثواب الطاعة وعقاب المعصية بحسب القسمة العقلية يقع على ثلاثة أوجه : أحدها : أن يتعادلا ويتساويا ، وهذا وإن كان محتملا بحسب التقسيم العقلي إلا أنه دل الدليل السمعي على أنه لا يوجد ، لأنه تعالى قال : { فَرِيقٌ فِى الجنة وَفَرِيقٌ فِى السعير } [ الشورى : 7 ] ولو وجد مثل هذا المكلف وجب أن لا يكون في الجنة ولا في السعير .
والقسم الثاني : أن يكون ثواب طاعته أزيد من عقاب معصيته ، وحينئذ ينحبط ذلك العقاب بما يساويه من الثواب ، ويفضل من الثواب شيء ، ومثل هذه المعصية هي الصغيرة ، وهذا الانحباط هو المسمى بالتكفير .
والقسم الثالث : أن يكون عقاب معصيته أزيد من ثواب طاعته ، وحينئذ ينحبط ذلك الثواب بما يساويه من العقاب ، ويفضل من العقاب شيء ، ومثل هذه المعصية هي الكبيرة ، وهذا الانحباط هو المسمى بالاحباط ، وبهذا الكلام ظهر الفرق بين الكبيرة وبين الصغيرة . وهذا قول جمهور المعتزلة .
واعلم أن هذا الكلام مبني علىأصول كلها باطلة عندنا . أولها : أن هذا مبني على أن الطاعة توجب ثوابا والمعصية توجب عقابا ، وذلك باطل لأنا بينا في كثير من مواضع هذا الكتاب أن صدور الفعل عن العبد لا يمكن إلا اذا خلق الله فيه داعية توجب ذلك الفعل ، ومتى كان كذلك امتنع كون الطاعة موجبة للثواب ، وكون المعصية موجبة للعقاب ، وثانيها : أن بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، إلا أنا نعلم ببديهة العقل أن من اشتغل بتوحيد الله وتقديسه وخدمته وطاعته سبعين سنة ، فان ثواب مجموع هذه الطاعات الكثيرة في هذه المدة الطويلة أكثر بكثير من عقاب شرب قطرة واحدة من الخمر ، مع أن الأمة مجمعة على أن شرب هذه القطرة من الكبائر ، فان أصروا وقالوا : بل عقاب شرب هذه القطرة أزيد من ثواب التوحيد وجميع الطاعات سبعين سنة فقد أبطلوا على أنفسهم أصلهم ، فانهم يبنون هذه المسائل على قاعدة الحسن والقبح العقليين ، ومن الأمور المتقررة في العقول أن من جعل عقاب هذا القدر من الجناية أزيد من ثواب تلك الطاعات العظيمة فهو ظالم ، فان دفعوا حكم العقل في هذا الموضع فقد أبطلوا على أنفسهم القول بتحسين العقل وتقبيحه ، وحينئذ يبطل عليهم كل هذه القواعد ، وثالثها : أن نعم الله تعالى كثيرة وسابقة على طاعات العبيد ، وتلك النعم السابقة موجبة لهذه الطاعات ، فكان أداء الطاعات أداء لما وجب بسبب النعم السابقة ، ومثل هذا لا يوجب في المستقبل شيئاً آخر ، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون شيء من الطاعات موجبا للثواب أصلا ، وإذا كان كذلك فكل معصية يؤتى بها فان عقابها يكون أزيد من ثواب فاعلها ، فوجب أن يكون جميع المعاصي كبائر ، وذلك أيضاً باطل . ورابعها : أن هذا الكلام مبني على القول بالاحباط ، وقد ذكرنا الوجوه الكثيرة في إبطال القول بالاحباط في سورة البقرة ، فثبت أن هذا الذي ذهبت المعتزلة اليه في الفرق بين الصغيرة والكبيرة قول باطل وبالله التوفيق .
المسألة الثانية : اختلف الناس في أن الله تعالى هل ميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر أم لا؟ فالأكثرون قالوا : إنه تعالى لم يميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر ، لأنه تعالى لما بين في هذه الآية أن الاجتناب عن الكبائر يوجب تكفير الصغائر ، فاذا عرف العبد أن الكبائر ليست إلا هذه الأصناف المخصوصة ، عرف أنه متى احترز عنها صارت صغائره مكفرة فكان ذلك إغراء له بالاقدام على تلك الصغائر ، والاغراء بالقبيح لا يليق بالجملة ، أما إذا لم يميز الله تعالى كل الكبائر عن كل الصغائر ، ولم يعرف في شيء من الذنوب أنه صغيرة ، ولا ذنب يقدم عليه إلا ويجوز كونه كبيرة فيكون ذلك زاجراً له عن الاقدام عليه . قالوا : ونظير هذا في الشريعة إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات وليلة القدر في ليالي رمضان ، وساعة الاجابة في ساعات الجمعة ، ووقت الموت في جميع الأوقات . والحاصل أن هذه القاعدة تقتضي أن لا يبين الله تعالى في شيء من الذنوب أنه صغيرة ، وأن لا يبين أن الكبائر ليست إلا كذا وكذا ، فانه لو بين ذلك لكان ما عداها صغيرة ، فحينئذ تصير الصغيرة معلومة ، ولكن يجوز أن يبين في بعض الذنوب أنه كبيرة . روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :" ما تعدون الكبائر " فقالوا : الله ورسوله أعلم ، فقال : " الاشراك بالله وقتل النفس المحرمة وعقوق الوالدين والفرار من الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وقول الزور وأكل الربا وقذف المحصنات الغافلات " وعن عبدالله بن عمر أنه ذكرها وزاد فيها : استحلال آمين البيت الحرام ، وشرب الخمر ، وعن ابن مسعود أنه زاد فيها : القنوط من رحمة الله واليأس من رحمة الله ، والأمن من مكر الله . وذكر عن ابن عباس أنها سبعة ، ثم قال : هي إلى السبعين أقرب . وفي رواية أخرى إلى السبعمائة أقرب ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : احتج أبو القاسم الكعبي بهذه الآية على القطع بوعيد أصحاب الكبائر فقال : قد كشف الله بهذه الآية الشبهة في الوعيد ، لأنه تعالى بعد أن قدم ذكر الكبائر ، بين أن من اجتنبها يكفر عن سيآته ، وهذا يدل على أنهم إذا لم يجتنبوها فلا تكفر ، ولو جاز أن يغفر تعالى لهم الكبائر والصغائر من غير توبة لم يصح هذا الكلام .
وأجاب أصحابنا عنه من وجوه : الأول : أنكم إما أن تستدلوا بهذه الآية من حيث أنه تعالى لما ذكر أن عند اجتناب الكبائر يكفر السيآت ، وجب أن عند عدم اجتناب الكبائر لا يكفرها ، لأن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه وهذا باطل . لأن عند المعتزلة هذا الأصل باطل ، وعندنا انه دلالة ظنية ضعيفة ، وإما أن تستدلوا به من حيث أن المعلق بكلمة «إن» على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء ، وهذا أيضا ضعيف ، ويدل عليه آيات : إحداها : قوله : { واشكروا الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ البقرة : 172 ] فالشكر واجب سواء عبد الله أو لم يعبد . وثانيها : قوله تعالى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الذى اؤتمن أمانته } [ البقرة : 283 ] وأداء الأمانة واجب سواء ائتمنه أو لم يفعل ذلك . وثالثها : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان } [ البقرة : 282 ] والاستشهاد بالرجل والمرأتين جائز سواء حصل الرجلان أو لم يحصلا . ورابعها : { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فرهان مَّقْبُوضَةٌ } [ البقرة : 283 ] والرهن مشروع سواء وجد الكاتب أو لم يجده . وخامسها : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } [ النور : 33 ] والاكراه على البغاء محرم ، سواء أردن التحصن أو لم يردن . وسادسها : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء } [ النساء : 3 ] والنكاح جائز سواء حصل ذلك الخوف أو لم يحصل ، وسابعها : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ } [ النساء : 101 ] والقصر جائز ، سواء حصل الخوف أو لم يحصل وثامنها : { فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } [ النساء : 11 ] والثلثان كما أنه حق الثلاثة فهو أيضاً حق الثنتين ، وتاسعها : قوله :{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ } [ النساء : 35 ] وذلك جائز سواء حصل الخوف أو لم يحصل . وعاشرها : قوله : { إِن يُرِيدَا إصلاحا يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا } [ النساء : 35 ] وقد يحصل التوفيق بدون إرادتيهما ، والحادي عشر : قوله : { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مّن سَعَتِهِ } [ النساء : 130 ] وقد يحصل الغنى بدون ذلك التفرق ، وهذا الجنس من الآيات فيه كثرة ، فثبت أن المعلق بكلمة «إن» على الشيء لا يلزم أن يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ، والعجب أن مذهب القاضي عبد الجبار في أصول الفقه هو أن المعلق بكملة «إن» على الشيء لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ، ثم إنه في التفسير استحسن استدلال الكعبي بهذه الآية ، وذلك يدل على أن حب الانسان لمذهبه قد يلقيه فيما لا ينبغي .
الوجه الثاني من الجواب : قال أبو مسلم الاصفهاني : إن هذه الآية إنما جاءت عقيب الآية التي نهى الله فيها عن نكاح المحرمات ، وعن عضل النساء وأخذ أموال اليتامى وغير ذلك ، فقال تعالى : إن تجتنبوا هذه الكبائر التي نهيناكم عنها كفرنا عنكم ما كان منكم في ارتكابها سالفا . وإذا كان هذا الوجه محتملا ، لم يتعين حمله على ما ذكره المعتزلة . وطعن القاضي في هذا الوجه من وجهين : الأول : أن قوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } عام ، فقصره على المذكور المتقدم لا يجوز . الثاني : أن قوله : إن باجتنابهم في المستقبل هذه المحرمات يكفر الله ما حصل منها في الماضي كلام بعيد؛ لأنه لا يخلو حالهم من أمرين اثنين : إما أن يكونوا قد تابوا من كل ما تقدم ، فالتوبة قد أزالت عقاب ذلك لاجتناب هذه الكبائر ، أو لا يكونوا قد تابوا من كل ما تقدم ، فمن أين أن اجتناب هذه الكبائر يوجب تكفير تلك السيآت؟ هذا لفظ القاضي في تفسيره .
والجواب عن الأول : أنا لا ندعي القطع بأن قوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } محمول على ما تقدم ذكره ، لكنا نقول : إنه محتمل ، ومع هذا الاحتمال لا يتعين حمل الآية على ما ذكروه . وعن الثاني : أن قولك : من أين أن اجتناب هذا الكبائر يوجب تكفير تلك السيئات؟ سؤال لا استدلال على فساد هذا القسم ، وبهذا القدر لا يبطل هذا الاحتمال ، وإذا حضر هذا الاحتمال بطل ما ذكرتم من الاستدلال والله أعلم .
الوجه الثالث : من الجواب عن هذا الاستدلال : هو أنا إذا أعطيناهم جميع مراداتهم لم يكن في الآية زيادة على أن نقول : إن من لم يجتنب الكبائر لم تكفر سيآته ، وحينئذ تصير هذه الآية عامة في الوعيد ، وعمومات الوعيد ليست قليلة ، فما ذكرناه جوابا عن سائر العمومات كان جوابا عن تمسكهم بهذه الآية ، فلا أعرف لهذه الآية مزيد خاصية في هذا الباب ، وإذا كان كذلك لم يبق لقول الكعبي : إن الله قد كشف الشبهة بهذه الآية عن هذه المسألة وجه .
الوجه الرابع : أن هذه الكبائر قد يكون فيها ما يكون كبيرا ، بالنسبة إلى شيء ، ويكون صغيراً بالنسبة إلى شيء آخر ، وكذا القول في الصغائر ، إلا أن الذي يحكم بكونه كبيرا على الاطلاق هو الكفر ، وإذا ثبت هذا فلم لا يجوز أن يكون المراد بقوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } الكفر؟ وذلك لأن الكفر أنواع كثيرة : منها الكفر بالله وبأنبيائه وباليوم الآخر وشرائعه ، فكان المراد أن من اجتنب عن الكفر كان ما وراءه مغفورا ، وهذا الاحتمال منطبق موافق لصريح قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48 ] وإذا كان هذا محتملا ، بل ظاهراً سقط استدلالهم بالكلية وبالله التوفيق .
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : إن عند اجتناب الكبائر يجب غفران الصغائر ، وعندنا أنه لا يجب عليه شيء ، بل كل ما يفعله فهو فضل وإحسان ، وقد تقدم ذكر دلائل هذه المسألة .
ثم قال تعالى : { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ المفضل عن عاصم { يَكْفُرْ وَيُدْخِلْكُمْ } بالياء في الحرفين على ضمير الغائب ، والباقون بالنون على استئناف الوعد ، وقرأ نافع { مُّدْخَلاً } بفتح الميم وفي الحج مثله ، والباقون بالضم ، ولم يختلفوا في { مُدْخَلَ صِدْقٍ } بالضم ، فبالفتح المراد موضع الدخول ، وبالضم المراد المصدر وهو الادخال ، أي : ويدخلكم إدخالا كريما ، وصف الادخال بالكرم بمعنى أن ذلك الادخال يكون مقرونا بالكرم على خلاف من قال الله فيهم : { الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ } [ الفرقان : 34 ]
المسألة الثانية : أن مجرد الاجتناب عن الكبائر لا يوجب دخول الجنة ، بل لا بد معه من الطاعات ، فالتقدير : ان أتيتم بجميع الواجبات ، واجتنبتم عن جميع الكبائر كفرنا عنكم بقية السيئات وأدخلناكم الجنة ، فهذا أحد ما يوجب الدخول في الجنة . ومن المعلوم أن عدم السبب الواحد لا يوجب عدم المسبب ، بل ههنا سبب آخر هو السبب الأصلي القوي ، وهو فضل الله وكرمه ورحمته ، كما قال : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } [ يونس : 58 ] ، والله أعلم .

[النساء/31] }، فَالْفَرَائِضُ مَعَ تَرْكِ الْكَبَائِرِ مُقْتَضِيَةٌ لِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ ،وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الزَّائِدَةُ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا ثَوَابٌ آخَرُ ،فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)سورة الزلزلة }(1)
__________
(1) -وفي الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 4554)
و " المثقال " مفعال من الثقل ، ويطلق على الشئ القليل الذى يحتمل الوزن ، و " الذرة " تطلق على أصغر النمل ، وعلى الغبار الدقيق الذى يتطاير من التراب عند النفخ فيه . والمقصود المبالغة فى الجزاء على الأعمال مهما بلغ صغرها ، وحقر وزنها .
والفاء : للتفريع على ما تقدم . أى : فى هذا اليوم يخرج الناس من قبورهم متفرقين لا يلوى أحد على أحد . متجهين إلى موقف الحساب ليطلعوا على جزاء أعاملهم الدنيوية . . فمن كان منهم قد عمل فى دنياه عملا صالحا رأى ثماره الطيبة ، حتى ولو كان هذا العمل فى نهاية القلة ، ومن كان منهم قد عمل عملا سيئا فى دنياه ، رأى ثماره السيئة ، حتى ولو كان هذا العمل - أيضا - فى أدنى درجات القلة .
فأنت ترى أن هاتين الآيتين قد جمعتا أسمى وأحكم ألوان الترغيب والترهيب ، ولذا قال كعب الأحبار : لقد أنزل الله - تعلى - على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم آيتين ، أحصتا ما فى التوراة والإِنجيل والزبور والصحف ، ثم قرأ هاتين الآيتين .
وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهاتين عددا من الأحاديث ، منها : ما أخرجه الإِمام أحمد . " أن صعصعة بن معاوية ، أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه هاتين الآيتين ، فقال : حسبى لا أبالى أن لا أسمع غيرها " وفى صحيح البخارى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا النار ولو بشق تمرة ، ولو بكلمة طيبة " .
وفى الصحيح - أيضاً - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك فى إناء المستقى ، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط " .
وكان صلى الله عليه وسلم يقول لعائشة : " يا عائشة ، استترى من النار ولو بشق تمرة ، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان . يا عائشة . إياك ومحقرات الذنوب ، فإن لها من الله - تعالى - طالبا " .
ومن الآيات الكريمة التى وردت فى معنى هاتين الآيتين قوله - تعالى - { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } وقوله - سبحانه - : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا جميعا ممن يواظبون على فعل الخيرات .
وفي تفسير الرازي - (ج 17 / ص 163)
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } أي زنة ذرة قال الكلبي : الذرة أصغر النمل ، وقال ابن عباس : إذا وضعت راحتك على الأرض ثم رفعتها فكل واحد مما لزق به من التراب مثقال ذرة فليس من عبد عمل خيراً أو شراً قليلاً أو كثيراً إلا أراه الله تعالى إياه .
المسألة الثانية : في رواية عن عاصم : { يَرَهُ } برفع الياء وقرأ الباقون : { يَرَهُ } بفتحها وقرأ بعضهم : { يَرَهُ } بالجزم .
المسألة الثالثة : في الآية إشكال وهو أن حسنات الكافر محبطة بكفره وسيئات المؤمن مغفورة ، إما ابتداء وإما بسبب اجتناب الكبائر ، فما معنى الجزاء بمثاقيل الذرة من الخير والشر؟ .
واعلم أن المفسرين أجابوا عنه من وجوه : أحدها : قال أحمد بن كعب القرظي : فمن يعمل مثقال ذرة من خير وهو كافر فإنه يرى ثواب ذلك في الدنيا حتى يلقى الآخرة ، وليس له فيها شيء ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً ، ويدل على صحة هذا التأويل ما روي أنه عليه السلام قال لأبي بكر : « يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر الله لك مثاقيل الخير حتى توفاها يوم القيامة » وثانيها : قال ابن عباس : ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيراً أو شراً إلا أراه الله إياه ، فأما المؤمن فيغفر الله سيئاته ويثيبه بحسناته ، وأما الكافر فترد حسناته ويعذب بسيئاته وثالثها : أن حسنات الكافر وإن كانت محبطة بكفره ولكن الموازنة معتبرة فتقدر تلك الحسنات انحبطت من عقاب كفره ، وكذا القول في الجانب الآخر فلا يكون ذلك قادحاً في عموم الآية ورابعها : أن تخصص عموم قوله : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } ونقول : المراد فمن يعمل من السعداء مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل من الأشقياء مثقال ذرة شراً يره .
المسألة الرابعة : لقائل أن يقول : إذا كان الأمر إلى هذا الحد فأين الكرم؟ والجواب : هذا هو الكرم ، لأن المعصية وإن قلت ففيها استخفاف ، والكريم لا يحتمله وفي الطاعة تعظيم ، وإن قل فالكريم لا يضيعه ، وكأن الله سبحانه يقول لا تحسب مثقال الذرة من الخير صغيراً ، فإنك مع لؤمك وضعفك لم تضيع مني الذرة ، بل اعتبرتها ونظرت فيها ، واستدللت بها على ذاتي وصفاتي واتخذتها مركباً به وصلت إلي ، فإذا لم تضيع ذرتي أفأضيع ذرتك! ثم التحقيق أن المقصود هو النية والقصد ، فإذا كان العمل قليلاً لكن النية خالصة فقد حصل المطلوب ، وإن كان العمل كثيراً والنية دائرة فالمقصود فائت ، ومن ذلك ما روى عن كعب : لا تحقروا شيئاً من المعروف ، فإن رجلاً دخل الجنة بإعارة إبرة في سبيل الله ، وإن امرأة أعانت بحبة في بناء بيت المقدس فدخلت الجنة .
وعن عائشة : «كانت بين يديها عنب فقدمته إلى نسوة بحضرتها ، فجاء سائل فأمرت له بحبة من ذلك العنب فضحك بعض من كان عندها ، فقالت : إن فيما ترون مثاقيل الذرة وتلت هذه الآية» ولعلها كان غرضها التعليم ، وإلا فهي كانت في غاية السخاوة . روي : «أن ابن الزبير بعث إليها بمائة ألف وثمانين ألف درهم في غرارتين ، فدعت بطبق وجعلت تقسمه بين الناس ، فلما أمست قالت : يا جارية فطوري هلمي فجاءت بخبز وزيت ، فقيل لها : أما أمسكت لنا درهماً نشتري به لحماً نفطر عليه ، فقالت : لو ذكرتيني لفعلت ذلك» وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في رجلين كان أحدهما يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة ، ويقول ما هذا بشيء ، وإنما نؤجر على ما نعطي! وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ، ويقول : لا شيء علي من هذا إنما الوعيد بالنار على الكبائر ، فنزلت هذه الآية ترغيباً في القليل من الخير فإنه يوشك أن يكثر ، وتحذيراً من اليسير من الذنب فإنه يوشك أن يكبر ، ولهذا قال عليه السلام : " اتقوا النار ولو بشق تمرة ، فمن لم يجد فبكلمة طيبة " والله سبحانه وتعالى أعلم ،
وفي الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 6198)
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } كان ابن عباس يقول : مَن يعمل من الكفار مثقال ذرّة خيراً يَرَهُ في الدنيا ، ولا يُثاب عليه في الآخرة ، ومن يعمل مثقال ذرّة من شر عُوقب عليه في الآخرة ، مع عقاب الشرك ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من المؤمنين يَرَهُ في الدنيا ، ولا يعاقَبْ عليه في الآخرة إذا مات ، ويُتجاوز عنه ، وإن عمل مثقال ذرّة من خير يُقْبلْ منه ، ويضاعفْ له في الآخرة . وفي بعض الحديث : " الذرّة لا زِنة لها " وهذا مَثَلٌ ضَرَبه الله تعالى : أنه لا يُغْفِل من عمل ابن آدم صغيرةً ولا كبيرة . وهو مِثل قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] . وقد تقدم الكلام هناك في الذرّ ، وأنه لا وزن له . وذكر بعض أهل اللغة أن الذرّ : أن يضرب الرجل بيده على الأرض ، فما علِق بها من التراب فهو الذَّرّ ، وكذا قال ابن عباس : إذا وضعت يدك على الأرض ورفعتها ، فكل واحد مما لزق من التراب ذَرَّة . وقال محمد بن كعب القُرَظِيّ : فمنْ يَعْمَل مِثقْالَ ذَرّة منْ خَيْر من كافر ، يرى ثوابه في الدنيا ، في نفسه وماله وأهله وولده ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير . ومن يعمل مثقال ذرّة من شرّ من مُوْمن ، يرى عُقوبته في الدنيا ، في نفسه وماله وولده وأهله ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شرّ . دليله ما رواه العلماء الأثبات من حديث أنس : أن هذه الآية نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يأكل ، فأمسك وقال : يا رسول الله ، وإنا لنُرَى ما عَمِلْنا من خير وشرّ؟ قال : " ما رأيت مما تكره فهو مثاقيل ذرّ الشرّ ، ويُدَّخَر لكم مثاقيلُ ذَرّ الخير ، حتى تُعْطَوْه يومَ القِيامة " . قال أبو إدريس : إن مِصْداقه في كتاب الله : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] . وقال مقاتل : نزلت في رجلين ، وذلك أنه لما نزل { وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ } [ الإنسان : 8 ] كان أحدهم يأتيه السائل ، فيستقل أن يعطِيه التمرة والكِسرة والجوزة . وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ، كالكَذبة والغِيبة والنظْرة ، ويقول : إنما أوعد الله النار على الكبائر؛ فنزلت ترغبهم في القليل من الخير أن يُعْطُوه؛ فإنه يوشِك أن يكثُر ، ويُحَذِّرهُمْ اليسيرَ من الذنب ، فإنه يوشِك أن يكثُر؛ وقاله سعيد بن جبير . والإِثم الصغير في عين صاحبه يوم القيامة أعظم من الجبال ، وجميع محاسنه أقل في عينه من كل شيء .
الثانية : قراءة العامة «يَرَهْ» بفتح الياء فيهما . وقرأ الجَحْدَرِيّ والسُّلَمِيّ وعيسى ابن عمر وأبان عن عاصم : «يُرَهْ» بضم الياء؛ أي يُريه اللَّهُ إياه .
والأَوْلَى الاختيار؛ لقوله تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً } [ آل عمران : 30 ] الآية . وسكن الهاء في قوله «يَرَه» في الموضعين هشام . وكذلك رواه الكسائي عن أبي بكر وأبي حَيْوة والمغيرة . واختلس يعقوب والزهري والجحدرِي وشيبة . وأشبع الباقون . وقيل «يَرَه» أي يرى جزاءه؛ لأن ما عمله قد مضى وعُدم فلا يُرَى . وأنشدوا :
إنّ منْ يَعْتدِي ويَكْسِبُ إِثْما ... وَزْنَ مِثْقالِ ذرّة سَيَرَاهُ
ويُجَازَى بفعله الشرَّ شرا ... وبفعل الجميلِ أيضاً جَزَاهُ
هكذا قوله تبارك ربِّي ... في إذا زُلزلت وجَل ثَناه
الثالثة : قال ابن مسعود : هذه أحكم آية في القرآن؛ وصَدّق . وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية؛ القائلون بالعموم ومن لَمْ يقل به . وروى كعب الأحبار أنه قال : لقد أنزل الله على محمد آيتين أحْصَتَا ما في التوراة والإنجيل والزَّبور والصُّحُف : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } . قال الشيخ أبو مَدْين في قوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } قال : في الحال قبل المآل . وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يسمي هذه الآية الآية الجامعة الفاذة؛ كما في الصحيح لما سئل عن الحُمُر وسكت عن البغال ، والجواب فيهما واحد؛ لأن البغل والحمار لا كَرّ فيهما ولا فرّ؛ فلما ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم ما في الخيل من الأجر الدائم ، والثواب المستمر ، سأل السائل عن الحُمُر ، لأنهم لم يكن عندهم يومئذٍ بَغْل ، ولا دخل الحجاز منها إلا بغلة النبيّ صلى الله عليه وسلم «الدُّلْدُل» ، التي أهداها له المقوقِس ، فأفتاه في الحَمِير بعموم الآية ، وإن في الحمار مثاقيل ذرّ كثيرة؛ قاله ابن العربيّ . وفي الموطأ : أن مِسْكيناً استطعم عائشة أم المؤمنين وبين يديها عِنَب؛ فقالت لإنسان : خذ حبة فأعطه إياها . فجعل ينظر إليها ويعجب؛ فقالت : أتعجب! كم ترى في هذه الحبَة من مثقال ذرّة . وروي عن سعد بن أبي وَقَّاص : أنه تصدق بتمرتين ، فقبض السائل يده ، فقال للسائل : ويقبل الله منا مثاقيل الذرّ ، وفي التمرتين مثاقيل ذرّ كثيرة . وروى المُطَّلب بن حَنْطَب : " أن أعرابياً سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يَقرأُها فقال : يا رسول الله ، أمثقالُ ذرّة! قال : «نعم» فقال الأعرابيّ : واسَوْأَتَاه! مِراراً : ثم قام وهو يقولها؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لقد دَخَلَ قلبَ الأَعْرابيّ الإيمانُ» " وقال الحسن : قَدِم صعصعة عَمّ الفرزدق على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلما سمع { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } الآيات؛ قال : لا أبالي ألا أسمع من القرآن غيرها ، حَسْبي ، فقد انتهت الموعظة؛ ذكره الثعلبي . ولفظ الماوردِيّ : ورُوي أن صعصعة بن ناجية جدّ الفرزدق أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم يستقرئه ، فقرأ عليه هذه الآية؛ فقال صعصعة : حسبي حسبي؛ إن عَمِلتُ مِثقالَ ذرَّةٍ شَرًّا رأيتُه . ورَوى مَعمر عن زيد بن أسلم : " أن رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : عَلِّمني مما علمك الله . فدفعه إلى رجل يعلمه؛ فعلمه { إِذَا زُلْزِلَتِ } حتى إذا بلغ { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } قال : حسبي . فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : «دَعُوهُ فإنَّهُ قد فَقُه» " ويحكى أن أعرابياً أخَّر «خَيْراً يَرَهُ» فقيل : قدمت وأخرت . فقال :
خذ بطنَ هَرشَى أو قَفاها فإنهُ ... كِلا جانِبي هَرْشَى لهنّ طرِيق

.
( الثَّانِي ) : أَنَّهُ قَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ قَدْ تَكُونُ مَعَ الْكَبَائِرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :{غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ }(1) .
وَفِي السُّنَنِ عَنِ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ :قَالَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى صَاحِبٍ لَنَا أَوْجَبَ - يَعْنِى - النَّارَ بِالْقَتْلِ فَقَالَ « أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقِ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ »(2).
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي { حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ }(3)
__________
(1) - سنن أبى داود برقم(1519 ) عن بِلاَلِ بْنِ يَسَارِ بْنِ زَيْدٍ مَوْلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ سَمِعْتُ أَبِى يُحَدِّثُنِيهِ عَنْ جَدِّى أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ » وهو صحيح .
وفي تحفة الأحوذي - (ج 8 / ص 475)
قَالَ الطِّيبِيُّ : الزَّحْفُ الْجَيْشُ الْكَثِيرُ الَّذِي يُرَى لِكَثْرَتِهِ كَأَنَّهُ يَزْحَفُ قَالَ فِي النِّهَايَةِ مِنْ زَحَفَ الصَّبِيُّ إِذَا دَبَّ عَلَى اِسْتِهِ قَلِيلًا قَلِيلًا . وَقَالَ الْمُظْهِرُ هُوَ اِجْتِمَاعُ الْجَيْشِ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ أَيْ مِنْ حَرْبِ الْكُفَّارِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ الْفِرَارُ بِأَنْ لَا يَزِيدَ الْكُفَّارُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا نَوَى التَّحَرُّفَ وَالتَّحَيُّزَ .
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 59)
وَمِنْ أَوْضَح مَا وَقَعَ فِي فَضْل الِاسْتِغْفَار مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيْره مِنْ حَدِيث يَسَار وَغَيْره مَرْفُوعًا " مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِر اللَّه الْعَظِيم الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم وَأَتُوب إِلَيْهِ غُفِرَتْ ذُنُوبه وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنْ الزَّحْف " قَالَ أَبُو نُعَيْم الْأَصْبِهَانِيّ : هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ بَعْض الْكَبَائِر تُغْفَر بِبَعْضِ الْعَمَل الصَّالِح ، وَضَابِطه الذُّنُوب الَّتِي لَا تُوجِب عَلَى مُرْتَكِبهَا حُكْمًا فِي نَفْس وَلَا مَال ، وَوَجْه الدَّلَالَة مِنْهُ أَنَّهُ مَثَّلَ بِالْفِرَارِ مِنْ الزَّحْف وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِر ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مِثْله أَوْ دُونه يُغْفَر إِذَا كَانَ مِثْل الْفِرَار مِنْ الزَّحْف ، فَإِنَّهُ لَا يُوجِب عَلَى مُرْتَكِبه حُكْمًا فِي نَفْس وَلَا مَال .
(2) - سنن أبى داود برقم(3966 ) وهو حسن لغيره
عون المعبود - (ج 8 / ص 487)
( أَعْتِقُوا عَنْهُ ) : أَيْ عَنْ قَتْله وَعِوَضه
( بِكُلِّ عُضْو مِنْهُ ) : أَيْ مِنْ الْعَبْد الْمُعْتَق بِفَتْحِ التَّاء
( عُضْوًا مِنْهُ ) : أَيْ مِنْ الْقَاتِل
( مِنْ النَّار ) : مُتَعَلِّق بِيُعْتِق وَلَعَلَّ الْمَقْتُول كَانَ مِنْ الْمُعَاهَدِينَ وَقَدْ قَتَلَهُ خَطَأً وَظَنُّوا أَنَّ الْخَطَأ مُوجِب لِلنَّارِ لِمَا فِيهِ مِنْ نَوْع تَقْصِير حَيْثُ لَمْ يَذْهَب طَرِيق الْحَزْم وَالِاحْتِيَاط كَذَا فِي الْمِرْقَاة .
(3) - صحيح البخارى برقم(1237 ) وصحيح مسلم برقم(282)
عَنْ أَبِى ذَرٍّ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَتَانِى آتٍ مِنْ رَبِّى فَأَخْبَرَنِى - أَوْ قَالَ بَشَّرَنِى - أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِى لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ » . قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ « وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ » .
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 201)
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ )فَهُوَ حُجَّة لِمَذْهَبِ أَهْل السَّنَة أَنَّ أَصْحَاب الْكَبَائِر لَا يُقْطَع لَهُمْ بِالنَّارِ ، وَأَنَّهُمْ إِنْ دَخَلُوهَا أُخْرِجُوا مِنْهَا وَخُتِمَ لَهُمْ بِالْخُلُودِ فِي الْجَنَّة . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا كُلّه مَبْسُوطًا . وَاَللَّه أَعْلَم .
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 4 / ص 261)
قَوْله : ( فَقُلْت وَإِنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ ) قَدْ يَتَبَادَر إِلَى الذِّهْن أَنَّ قَائِل ذَلِكَ هُوَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَقُول لَهُ الْمَلَك الَّذِي بَشَّرَهُ بِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ الْقَائِل هُوَ أَبُو ذَرّ وَالْمَقُول لَهُ هُوَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا بَيَّنَهُ الْمُؤَلِّف فِي اللِّبَاس . وَلِلتِّرْمِذِيِّ " قَالَ أَبُو ذَرّ يَا رَسُول اللَّه " وَيُمْكِن أَنْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ مُسْتَوْضِحًا وَأَبُو ذَرّ قَالَهُ مُسْتَبْعِدًا ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنهمَا فِي الرِّقَاق مِنْ طَرِيق زَيْد بْن وَهْب عَنْ أَبِي ذَرّ . قَالَ الزَّيْن بْن الْمُنِير : حَدِيث أَبِي ذَرّ مِنْ أَحَادِيث الرَّجَاء الَّتِي أَفْضَى الِاتِّكَال عَلَيْهَا بِبَعْضِ الْجَهَلَة إِلَى الْإِقْدَام عَلَى الْمُوبِقَات ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى ظَاهِره فَإِنَّ الْقَوَاعِد اِسْتَقَرَّتْ عَلَى أَنَّ حُقُوق الْآدَمِيِّينَ لَا تَسْقُط بِمُجَرَّدِ الْمَوْت عَلَى الْإِيمَان ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَم مِنْ عَدَم سُقُوطهَا أَنْ لَا يَتَكَفَّل اللَّه بِهَا عَمَّنْ يُرِيد أَنْ يُدْخِلهُ الْجَنَّة ، وَمِنْ ثَمَّ رَدَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي ذَرّ اِسْتِبْعَاده . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِقَوْلِهِ " دَخَلَ الْجَنَّة " أَيْ صَارَ إِلَيْهَا إِمَّا اِبْتِدَاء مِنْ أَوَّل الْحَال وَإِمَّا بَعْد أَنْ يَقَع مَا يَقَع مِنْ الْعَذَاب ، نَسْأَل اللَّه الْعَفْو وَالْعَافِيَة . وَفِي هَذَا الْحَدِيث " مَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه نَفَعَتْهُ يَوْمًا مِنْ الدَّهْر ، أَصَابَهُ قَبْل ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ " وَسَيَأْتِي بَيَان حَاله فِي كِتَاب الرِّقَاق . وَفِي الْحَدِيث أَنَّ أَصْحَاب الْكَبَائِر لَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّار ، وَأَنَّ الْكَبَائِر لَا تَسْلُب اِسْم الْإِيمَان ، وَأَنَّ غَيْر الْمُوَحِّدِينَ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّة . وَالْحِكْمَة فِي الِاقْتِصَار عَلَى الزِّنَا وَالسَّرِقَة الْإِشَارَة إِلَى جِنْس حَقّ اللَّه تَعَالَى وَحَقّ الْعِبَاد ، وَكَأَنَّ أَبَا ذَرّ اِسْتَحْضَرَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِن " لِأَنَّ ظَاهِره مُعَارِض لِظَاهِرِ هَذَا الْخَبَر ، لَكِنَّ الْجَمْع بَيْنهمَا عَلَى قَوَاعِد أَهْل السُّنَّة بِحَمْلِ هَذَا عَلَى الْإِيمَان الْكَامِل وَبِحَمْلِ حَدِيث الْبَاب عَلَى عَدَم التَّخْلِيد فِي النَّار . قَوْله : ( عَلَى رَغْم أَنْف أَبِي ذَرّ ) بِفَتْحِ الرَّاء وَسُكُون الْمُعْجَمَة وَيُقَال بِضَمِّهَا وَكَسْرهَا ، وَهُوَ مَصْدَر رَغَمَ بِفَتْحِ الْغَيْن وَكَسْرهَا مَأْخُوذ مِنْ الرَّغْم وَهُوَ التُّرَاب ، وَكَأَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ بِأَنْ يُلْصَق أَنْفه بِالتُّرَابِ .
مشكل الآثار للطحاوي - (ج 8 / ص 489)
باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوابه لمن قال له بعد قوله : « من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة » : وإن زنى ، وإن سرق ؟ وبقوله له : « وإن زنى ، وإن سرق »
3366 - حدثنا أبو أمية ، وفهد ، قالا : حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : حدثنا زيد بن وهب ، قال : حدثنا والله أبو ذر بالربذة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتاني جبريل صلى الله عليه وسلم فأخبرني أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله عز وجل شيئا دخل الجنة » قلت : يا رسول الله ، وإن زنى وإن سرق ؟ قال : « وإن زنى ، وإن سرق »
3367 - وحدثنا أبو أمية ، وفهد ، قالا : حدثنا عمر بن حفص ، قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، قال : حدثني أبو صالح ، عن أبي الدرداء نحوه ، قال : قلت : يا رسول الله ، وإن زنى وإن سرق ؟ قال : « وإن زنى وإن سرق ، وإن رغم أنف أبي الدرداء » وحدثنا أبو أمية وفهد ، قالا : حدثنا عمر بن حفص ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : قلت لزيد بن وهب ، يعني لما حدثه الحديث الذي ذكرناه في أول هذا الباب أنه بلغني أنه أبو الدرداء ، فقال : أشهد لحدثنيه أبو ذر بالربذة وحدثنا بكار بن قتيبة ، قال : حدثنا أبو داود ح وحدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم الأزدي ، قالا : حدثنا هشام بن أبي عبد الله ، عن حماد ، عن زيد بن وهب ، عن أبي ذر ، قال حماد : ما بيني وبين أبي ذر غيره ، قال : « انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو الغرقد ، وانطلقت معه ، ثم ذكر مثل الحديث الأول سواء حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا روح بن عبادة ، عن حاتم بن أبي صغيرة ، قال : حدثنا حبيب بن أبي ثابت ، أن أبا سليمان الجهني حدثه ، قال : حدثني أبو ذر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر مثله حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ، وعبيد الله بن موسى العبسي ، قالا : حدثنا مهدي بن ميمون ، عن واصل الأحدب ، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذر ، ثم ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله ، غير أنه قال : » أتاني آت من ربي عز وجل « ولم يذكر جبريل صلى الله عليه وسلم
3368 - وحدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا الحسن بن موسى الأشيب ، قال : حدثنا شيبان يعني النحوي ، عن منصور بن المعتمر ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن سلمة بن نعيم وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من لقي الله عز وجل لا يشرك به شيئا ، دخل الجنة وإن زنى وإن سرق »
3369 - وحدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا أبو عمر الحوضي ، قال : حدثنا مرجى بن رجاء ، عن محمد بن الزبير ، عن رجاء بن حيوة ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : « قال جبريل عليه السلام : » من قال : لا إله إلا الله ، دخل الجنة « قال : قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : » وإن زنى وإن سرق «
3370 - حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي ، قال : حدثنا أبو المليح ، عن يزيد بن يزيد ، عن يزيد بن الأصم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه : « ولمن خاف مقام ربه جنتان ( سورة : الرحمن آية رقم : 46) ، قال : يا رسول الله : وإن زنى وإن سرق ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » وإن زنى وإن سرق ، وإن رغم أنف أبي هريرة «
3371 - وحدثنا أحمد بن داود ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى القطان ، قال : حدثنا نعيم بن حكيم ، قال : حدثني أبو مريم ، قال : سمعت أبا الدرداء يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : « من شهد أن لا إله إلا الله ، أو مات لا يشرك بالله عز وجل شيئا ، دخل الجنة ، أو لم يدخل النار » قال : قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : « وإن زنى وإن سرق ، وإن رغم أنف أبي الدرداء »
3372 - حدثنا أبو أمية ، قال حدثنا روح بن عبادة ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخبرنا أبو عمران ، عن أبي بكر بن أبي موسى ، عن أبيه أبي موسى أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومه ، فقال : « أبشروا وبشروا من وراءكم ، أنه من قال : لا إله إلا الله صادقا بها دخل الجنة » فخرجوا يبشرون الناس ، فلقيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فبشروه ، فردهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « من ردكم ؟ » فقالوا : ردنا عمر ، فقال : « لم رددتهم يا عمر ؟ » قال : إذا يتكل ( الاتكال : الاعتماد على رحمة الله والتكاسل في العمل) الناس يا رسول الله « وفيما ذكرنا في الباب الذي قبل هذا الباب ما يغني عن الكلام في هذا الباب غير أنا نأتي في هذا الباب بمعنى فيه توكيد ما جئنا به في ذلك الباب إن شاء الله وهو أنه إذا كان من قال : » لا إله إلا الله « قد قالها عارفا بما يجب على أهلها ، فقد قالها وهو عارف بمقام الله عز وجل وبما يرجوه أهلها عند خوفهم خلافه والخروج عن أمره ، وفي ذلك ما يدل على أن حال الزنى وحال السرقة اللذين كانا منه قد زال عنهما إلى ضدهما على ما قد ذكرنا في ذلك الباب الأول ، ودل على ذلك أيضا ما في حديث أبي موسى الذي ذكرناه في هذا الباب أنه من قال : لا إله إلا الله صادقا بها وكان معنى قوله : » صادقا بها « والله أعلم أي : موفيا لها حقها ، وقد ذكرنا في هذا الباب أيضا حديث يزيد بن الأصم عن أبي هريرة : ولمن خاف مقام ربه جنتان (سورة : الرحمن آية رقم : 46) ، وقد كان الباب الأول أولى به ، فذهب عنا ذكره هناك ، فذكرناه هاهنا ؛ لأن البابين جميعا من جنس واحد وقد سأل سائل عن معنى قول الله : فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ( سورة : الفرقان آية رقم : 70) ، ما قيل في ذلك ؟ فكان جوابنا له في ذلك والله عز وجل نسأله التوفيق أن الذي وجدناه عن المتقدمين فيه :
3373 - ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن سفيان ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد : فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ( سورة : الفرقان آية رقم : 70) ، قال : « الإيمان مكان الكفر » والذي وجدناه مما يقوله أهل العربية فيه أن ذلك على الحذف ، وأنه بمعنى : أولئك الذين يبدل الله مكان سيئاتهم حسنات ، فحذف ، كمثل قوله عز وجل : واسأل القرية التي كنا فيها ( سورة : يوسف آية رقم : 82) ، بمعنى : واسأل أهل القرية التي كنا فيها ، فحذف ذكر أهل القرية ، وهم المرادون ، والله أعلم ، وبه التوفيق
وفي تأويل مختلف الحديث - (ج 1 / ص 49)
قالوا: حديثان متناقضان، قالوا: رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ثم رويتم أنه قال: من قال لا غله إلا الله فهو في الجنة وإن زنى وإن سرق. وفي هذا تناقض واختلاف.
قال أبو محمد: ونحن نقول: إنه ليس ههنا بنعمة الله تناقض ولا اختلاف لأن الإيمان في اللغة التصديق يقول الله تعالى: " وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين " أي بمصدق لنا ومنه قول الناس ما أومن بشيء مما تقول أي ما أصدق به. والموصوف بالإيمان ثلاثة نفر رجل صدق بلسانه دون قلبه كالمنافقين فيقول قد آمن كما قال الله تعالى في المنافقين: " ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا " وقال: " إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى " ثم قال: " من آمن منهم بالله واليوم الآخر " لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولو كان أراد بالذين آمنوا ههنا المسلمين لم يقل: " من آمن بالله واليوم الآخر " لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وإنما أراد المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم والذين هادوا والنصارى ولا نقول له مؤمن كما أنا لا نقول للمنافقين مؤمنون وإن قلنا قد آمنوا لأن إيمانهم لم يكن عن عقد ولا نية وكذلك نقول لعاصي الأنبياء صلى الله عليهم وسلم عصى وغوى ولا نقول عاص ولا غاو لأن ذنبه لم يكن عن إرهاص ولا عقد كذنوب أعداء الله عز وجل.
ورجل صدق بلسانه وقلبه مع تدنس بالذنوب وتقصير في الطاعات من غير إصرار فنقول: قد آمن وهو مؤمن ما تناهى عن الكبائر فإذا لا بسها لم يكن في حال الملابسة مؤمناً يريد مستكمل الإيمان. ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن يريد في وقته ذلك لأنه قبل ذلك الوقت غير مصر فهو مؤمن وبهد ذلك الوقت غير مصر فهو مؤمن تائب ومما يزيد في وضوح هذا الحديث الآخر إذا زنى سلب الإيمان فإن تاب ألبسه.
ورجل صدق بلسانه وقلبه وأدى الفرائض واجتنب الكبائر فذلك المؤمن حفاً المستكمل شرائط الإيمان وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يؤمن من لم يأمن جاره بوائقه يريد ليس بمستكمل الإيمان وقال: لم يؤمن من لم يأمن المسلمون من لسانه ويده أي ليس بمستكمل الإيمان وقال: لم يؤمن ن بات شبعان وبات جاره طاوياً أي لم يستكمل الإيمان. وهذا شبيه بقوله: لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله تعالى عليه يريد لا كمال وضوء ولا فضيلة وضوء. وكذلك قول عمر رضي الله عنه: لا إيمان لمن لم يحج. يريد لا كمال إيمان والناس يقولون فلان لا عقل له. يريدون ليس هو مستكمل العقل ولا دين له أي ليس بمستكمل الدين.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: من قال لا إله إلا الله فهو في الجنة وإن زنى وإن سرق فإنه لا يخلو من وجهين أحدهما أن يكون قاله على العاقبة يريد أن عاقبة أمره إلى الجنة وإن عذب بالزنا والسرقة. والآخر أن تلحقه رحمة الله تعالى وشفاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيصير إلى الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله. حدثني إسحق بن إبراهيم ابن حبيب بن الشهيد عن أبيه عن جده عن الحسن أنه قال: لا إله إلا الله ثمن الجنة. وحدثني محمد بن يحيى القطعي قال: أنا عمر بن علي عن موسى ابن المسيب الثقفي قال: سمعت سالم بن أبي الجعد يحدث عن المعرور بن سويد عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول ربكم ابن آدم إنك إن تأتني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا تشرك بي شيئاً جعلت لك قرابها مغفرة ولا أبالي. وحدثني أبو مسعود الدرامي هو من ولد خراش قال: حدثني جدي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل شطر أمتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكثر لعلكم ترون أن شفاعتي للمتقين لا ولكنها للمتلطخين بالذنوب.==ج2==

ال الجزء الثاني {ج2.}من كتاب : أسباب رفع العقوبة عن العبد شيخ الإسلام ابن تيمية


== ( الثَّالِثُ ) : أَنَّ قَوْلَهُ لِأَهْلِ بَدْرٍ وَنَحْوِهِمْ : { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ }(1)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(3007 ) وصحيح مسلم برقم( 6557)عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى رَافِعٍ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيًّا - رضى الله عنه - يَقُولُ بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ قَالَ « انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً وَمَعَهَا كِتَابٌ ، فَخُذُوهُ مِنْهَا » . فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ فَقُلْنَا أَخْرِجِى الْكِتَابَ . فَقَالَتْ مَا مَعِى مِنْ كِتَابٍ . فَقُلْنَا لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ . فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا ، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا حَاطِبُ ، مَا هَذَا » . قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لاَ تَعْجَلْ عَلَىَّ ، إِنِّى كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِى قُرَيْشٍ ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا ، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ ، يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِى ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِى ، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لَقَدْ صَدَقَكُمْ » . قَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِى أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ . قَالَ « إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ » .
العقاص : جمع عقيصة أو عقصة وهى الضفائر
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 13 / ص 492)
قَوْله : ( اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ )كَذَا فِي مُعْظَم الطُّرُق ، وَعِنْد الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيق مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَة " فَإِنِّي غَافِر لَكُمْ " وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ " غَفَرْت " أَيْ أَغْفِر ، عَلَى طَرِيق التَّعْبِير عَنْ الْآتِي بِالْوَاقِعِ مُبَالَغَة فِي تَحَقُّقه . وَفِي " مَغَازِي اِبْن عَائِذ " مِنْ مُرْسَل عُرْوَة " اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَسَأَغْفِرُ لَكُمْ " وَالْمُرَاد غُفْرَان ذُنُوبهمْ فِي الْآخِرَة ، وَإِلَّا فَلَوْ وَجَبَ عَلَى أَحَدهمْ حَدّ مَثَلًا لَمْ يَسْقُط فِي الدُّنْيَا . وَقَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ : لَيْسَ هَذَا عَلَى الِاسْتِقْبَال ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْمَاضِي ، تَقْدِيره اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ أَيّ عَمَل كَانَ لَكُمْ فَقَدْ غُفِرَ ، قَالَ : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْمُسْتَقْبَلِ كَانَ جَوَابه فَسَأَغْفِرُ لَكُمْ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ إِطْلَاقًا فِي الذُّنُوب وَلَا يَصِحّ ، وَيُبْطِلهُ أَنَّ الْقَوْم خَافُوا مِنْ الْعُقُوبَة بَعْد حَتَّى كَانَ عُمَر يَقُول : يَا حُذَيْفَة ، بِاَللَّهِ هَلْ أَنَا مِنْهُمْ ؟ وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيّ بِأَنَّ " اِعْمَلُوا " صِيغَة أَمْر وَهِيَ مَوْضُوعَة لِلِاسْتِقْبَالِ ، وَلَمْ تَضَع الْعَرَب صِيغَة الْأَمْر لِلْمَاضِي لَا بِقَرِينَةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا لِأَنَّهُمَا بِمَعْنَى الْإِنْشَاء وَالِابْتِدَاء ، وَقَوْله " اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ " يُحْمَل عَلَى طَلَب الْفِعْل ، وَلَا يَصِحّ أَنْ يَكُون بِمَعْنَى الْمَاضِي ، وَلَا يُمْكِن أَنْ يُحْمَل عَلَى الْإِيجَاب فَتَعَيَّنَ لِلْإِبَاحَةِ . قَالَ : وَقَدْ ظَهَرَ لِي أَنَّ هَذَا الْخِطَاب خِطَاب إِكْرَام وَتَشْرِيف ، تَضَمَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ حَصَلَتْ لَهُمْ حَالَة غُفِرَتْ بِهَا ذُنُوبهمْ السَّالِفَة ، وَتَأَهَّلُوا أَنْ يُغْفَر لَهُمْ مَا يُسْتَأْنَف مِنْ الذُّنُوب اللَّاحِقَة ، وَلَا يَلْزَم مِنْ وُجُود الصَّلَاحِيَّة لِلشَّيْءِ وُقُوعه . وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّه صِدْق رَسُوله فِي كُلّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا عَلَى أَعْمَال أَهْل الْجَنَّة إِلَى أَنْ فَارَقُوا الدُّنْيَا ، وَلَوْ قُدِّرَ صُدُور شَيْء مِنْ أَحَدهمْ لَبَادَرَ إِلَى التَّوْبَة وَلَازَمَ الطَّرِيق الْمُثْلَى . وَيَعْلَم ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالهمْ بِالْقَطْعِ مَنْ اِطَّلَعَ عَلَى سِيَرهمْ اِنْتَهَى . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِقَوْلِهِ " فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ " أَيْ ذُنُوبكُمْ تَقَع مَغْفُورَة ، لَا أَنَّ الْمُرَاد أَنَّهُ لَا يَصْدُر مِنْهُمْ ذَنْب . وَقَدْ شَهِدَ مِسْطَح بَدْرًا وَوَقَعَ فِي حَقّ عَائِشَة كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِير سُورَة النُّور ، فَكَأَنَّ اللَّه لِكَرَامَتِهِمْ عَلَيْهِ بَشَّرَهُمْ عَلَى لِسَان نَبِيّه أَنَّهُمْ مَغْفُور لَهُمْ وَلَوْ وَقَعَ مِنْهُمْ مَا وَقَعَ .

إنْ حُمِلَ عَلَى الصَّغَائِرِ أَوْ عَلَى الْمَغْفِرَةِ مَعَ التَّوْبَةِ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ .
فَكَمَا لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى الْكُفْرِ لِمَا قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكُفْرَ لَا يُغْفَرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ(1) لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى مُجَرَّدِ الصَّغَائِرِ الْمُكَفَّرَةِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ .
( الرَّابِعُ ) : أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ أَنَّ « أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلاَةُ فَإِنْ كَانَ أَكْمَلَهَا كُتِبَتْ لَهُ كَامِلَةً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَكْمَلَهَا قَالَ لِلْمَلاَئِكَةِ انْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لِعَبْدِى مِنْ تَطَوُّعٍ فَأَكْمِلُوا بِهَا مَا ضَيَّعَ مِنْ فَرِيضَةٍ ثُمَّ الزَّكَاةُ ثُمَّ تُؤْخَذُ الأَعْمَالُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ »(2).
وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ النَّقْصَ الْمُكَمِّلَ لَا يَكُونُ لِتَرْكِ مُسْتَحَبٍّ ؛ فَإِنَّ تَرْكَ الْمُسْتَحَبِّ لَا يَحْتَاجُ إلَى جبران وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ الْمُسْتَحَبِّ الْمَتْرُوكِ وَالْمَفْعُولِ ،فَعُلِمَ أَنَّهُ يَكْمُلُ نَقْصُ الْفَرَائِضِ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ .
وَهَذَا لَا يُنَافِي مِنْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ النَّافِلَةَ حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ مَعَ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ مُعَارِضًا لِلْأَوَّلِ لَوَجَبَ تَقْدِيمُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ وَأَشْهَرُ (3)
__________
(1) - وفي مسند أحمد برقم(18304)عَنِ ابْنِ شِمَاسَةَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَالَ لَمَّا أَلْقَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِى قَلْبِى الإِسْلاَمَ - قَالَ - أَتَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- لِيُبَايِعَنِى فَبَسَطَ يَدَهُ إِلَىَّ فَقُلْتُ لاَ أُبَايِعُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى تَغْفِرَ لِى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِى. قَالَ فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يَا عَمْرُو أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ يَا عَمْرُو أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الذُّنُوبِ » وهو حديث صحيح.
وفي سنن ابن ماجه برقم(4391 ) عَنْ أَبِى عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ » وهو صحيح لغيره.
(2) - مسند أحمد برقم(17417) وسنن الترمذى برقم(415 ) وهو صحيح
وفي تحفة الأحوذي - (ج 1 / ص 451)
" إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ " بِالرَّفْعِ عَلَى نِيَابَةِ الْفَاعِلِ
" يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ " أَيْ الْمَفْرُوضَةُ . قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ : لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : إِنَّ أَوَّلَ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ . فَحَدِيثُ الْبَابِ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحَدِيثُ الصَّحِيحِ مَحْمُولٌ عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ . فَإِنْ قِيلَ : فَأَيُّهُمَا يُقَدَّمُ مُحَاسَبَةُ الْعِبَادِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ أَوْ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَى حُقُوقِهِمْ ، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ تَوْقِيفِيٌّ وَظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَقَعُ أَوَّلًا الْمُحَاسَبَةُ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ حُقُوقِ الْعِبَادِ اِنْتَهَى . وَقِيلَ الْأَوَّلُ مِنْ تَرْكِ الْعِبَادَاتِ وَالثَّانِي مِنْ فِعْلِ السَّيِّئَاتِ
وفي شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 4 / ص 265)
وهذا بالنسبة لحق الله عز وجل فإن صلحت فقد أفلح ونجح وإلا فعلى العكس خاب وخسر والعياذ بالله أما بالنسبة لحقوق الآدميين فأول ما يقضى بين الناس في الدماء لأنها أعظم الحقوق الدماء يعني القتل ثم يأتي بقية المحاسبة على ما يبقى ولكن الله عز وجل إذا حاسب العبد على الصلاة وصحت أفلح ونجح وإلا خاب وخسر ثم يحمد الله عز وجل أن ينظر في أعماله هل له نوافل فإنها تكمل بها الفرائض ولهذا كان من فضل الله ورحمته ونعمته وإحسانه أن شرع لنا النوافل خلف الصلوات وقبلها وفي كل وقت إلا الأوقات المنهي عنها وذلك لأن الإنسان لابد أن يكون في صلاته خلل فيكمل بهذه النوافل فالظهر له أربع ركعات قبلها بتسليمين وركعتان بعدها وصلاة العصر ليس لها راتبه لكن لها سنة مطلقة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم بين كل أذانين صلاة صلاة المغرب لها راتبة بعدها ركعتان وسنة مطلقة قبلها صلاة العشاء بعدها ركعتان الفجر قبلها ركعتان صلاة الليل صلاة الوتر صلاة الضحى كل هذه النوافل يزداد بها أجر المصلي ويكمل بها النقص الذي حصل في الفريضة وهذه من نعمة الله عز وجل نسأل الله أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته
(3) - وفي مجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 225)
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } . فالمتقربون إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ : هُمْ الْأَبْرَارُ الْمُقْتَصِدُونَ أَصْحَابُ الْيَمِينِ والمتقربون إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ الَّتِي يُحِبُّهَا بَعْدَ الْفَرَائِضِ . هُمْ السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ وَإِنَّمَا تَكُونُ النَّوَافِلُ بَعْدَ الْفَرَائِضِ . وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ فِي وَصِيَّتِهِ لِعُمَرِ ابْنِ الْخَطَّابِ : اعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ عَلَيْك حَقًّا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ وَحَقًّا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ النَّافِلَةَ حَتَّى تُؤَدِّيَ الْفَرِيضَةَ . والاتحادية يَزْعُمُونَ أَنَّ قُرْبَ النَّوَافِلِ : يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ عَيْنُ الْحَقِّ عَيْنَ أَعْضَائِهِ وَأَنَّ قُرْبَ الْفَرَائِضِ : يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ عَيْنَ وُجُودِهِ كُلِّهِ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ بَلْ كُفْرٌ صَرِيحٌ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِذَا كَانَ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ آخِرُ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ فِي الدُّنْيَا فَلَيْسَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَفْضَلَ الْأَوْلِيَاءِ وَلَا أَكْمَلَهُمْ بَلْ أَفْضَلُهُمْ وَأَكْمَلُهُمْ سَابِقُوهُمْ الَّذِينَ هُمْ أَخَصُّ بِأَفْضَلِ الرُّسُلِ مِنْ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الْوَلِيُّ أَعْظَمَ اخْتِصَاصًا بِالرَّسُولِ وَأَخْذًا عَنْهُ وَمُوَافَقَةً لَهُ : كَانَ أَفْضَلَ إذْ الْوَلِيُّ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ؛ فَعَلَى قَدْرِ الْمُتَابَعَةِ لِلرَّسُولِ : يَكُونُ قَدْرُ الْوِلَايَةِ لِلَّهِ .

،وَهَذَا غَرِيبٌ رَفْعُهُ وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ فِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْر لِعُمَرِ(1)
__________
(1) - السُّنَّةُ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ الْخَلَّالِ >> جَامِعُ أَمْرِ الْخِلَافَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ >> برقم(345 ) عَنْ زُبَيْدٍ ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْتَخْلِفُهُ ، فَقَالَ النَّاسُ : " تَسْتَخْلِفُ عَلَيْنَا عُمَرَ فَظًّا غَلِيظًا ، فَلَوْ قَدْ وَلِيَنَا كَانَ أَفَظَّ وَأَغْلَظَ ، فَمَاذَا تَقُولُ لِرَبِّكَ إِذَا لَقِيتَهُ ، وَقَدِ اسْتَخْلَفْتَ عَلَيْنَا عُمَرَ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : " أَبِرَبِّي تُخَوِّفُونِي ؟ أَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْهِمْ خَيْرَ أَهْلِكَ " ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ ، فَقَالَ : إِنِّي مُوصِيكَ بِوَصِيَّةٍ ، إِنْ أَنْتَ حَفِظْتَهَا ، إِنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ ، وَإِنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ ، وَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ نَافِلَةً حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ ، وَإِنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمْ فِي الدُّنْيَا الْحَقَّ ، وَثِقَلِهِ عَلَيْهِمْ ، وَحَقٌّ لِمِيزَانٍ لَا يُوضَعُ فِيهِ إِلَّا الْحَقُّ أَنْ يَكُونَ ثَقِيلًا ، وَإِنَّمَا خَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ فِي الدُّنْيَا ، وَخِفَّتِهِ عَلَيْهِمْ ، وَحَقٌّ لِمِيزَانٍ أَنْ لَا يُوضَعَ فِيهِ إِلَّا الْبَاطِلُ أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِأَصْلَحَ مَا عَمِلُوا ، وَأَنَّهُ يَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَيَقُولُ قَائِلٌ : لَا أَبْلَغُ هَؤُلَاءِ ، وَذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ بِأَسْوَأِ الَّذِي عَمِلُوا ، وَأَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ صَالِحَ مَا عَمِلُوا ، فَيَقُولُ الْقَائِلُ : أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ ، وَذَكَرَ آيَةَ الرَّحْمَةِ وَآيَةَ الْعَذَابِ ، لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ رَاغِبًا زَاهِدًا ، وَلَا يَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ غَيْرَهُ ، وَلَا يُلْقِي بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ ، فَإِنْ أَنْتَ حَفِظْتَ وَصِيَّتِي لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنَ الْمَوْتِ ، وَلَا بُدَّ لَكَ مِنْهُ ، وَإِنْ أَنْتَ ضَيَّعْتَ وَصِيَّتِي لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَبْغَضَ إِلَيْكَ مِنَ الْمَوْتِ ، وَلَنْ تُعْجِزَهُ " * وهو صحيح غيره
وفي مجموع الفتاوى - (ج 22 / ص 38)
وَسُئِلَ : عَنْ الْعَمَلِ الَّذِي لِلَّهِ بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ ، وَالْعَمَلِ الَّذِي بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا عَمَلُ النَّهَارِ الَّذِي لَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ بِاللَّيْلِ ، وَعَمَلُ اللَّيْلِ الَّذِي لَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ بِالنَّهَارِ : فَهُمَا صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، لَا يَحِلُّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُؤَخِّرَهُمَا إلَى اللَّيْلِ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ } . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ } . فَأَمَّا مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا } . وَأَمَّا مَنْ فَوَّتَهَا مُتَعَمِّدًا فَقَدْ أَتَى كَبِيرَةً مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا يَصِحُّ فِعْلُهَا قَضَاءً أَصْلًا ، وَمَعَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ لَا تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْوَاجِبِ ، وَلَا يَقْبَلُهَا اللَّهُ مِنْهُ بِحَيْثُ يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْعِقَابُ ، وَيَسْتَوْجِبُ الثَّوَابَ ؛ بَلْ يُخَفِّفُ عَنْهُ الْعَذَابَ بِمَا فَعَلَهُ مِنْ الْقَضَاءِ ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ إثْمُ التَّفْوِيتِ ، وَهُوَ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَى مُسْقِطٍ آخَرَ ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَلَيْهِ حَقَّانِ : فَعَلَ أَحَدَهُمَا ، وَتَرَكَ الْآخَرَ . قَالَ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } وَتَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا مِنْ السَّهْوِ عَنْهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَقَالَ تَعَالَى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ إضَاعَتُهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا ، فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْوَيْلَ لِمَنْ أَضَاعَهَا وَإِنْ صَلَّاهَا ، وَمَنْ كَانَ لَهُ الْوَيْلُ لَمْ يَكُنْ قَدْ يُقْبَلُ عَمَلُهُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ ذُنُوبٌ أُخَرُ . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ فِي نَفْسِ الْعَمَلِ لَمْ يُتَقَبَّلْ ذَلِكَ الْعَمَلُ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : فِي وَصِيَّتِهِ لِعُمَرِ : وَاعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ ، وَحَقًّا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ ، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ النَّافِلَةَ حَتَّى تُؤَدِّيَ الْفَرِيضَةَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 5794)
أما قول الصديق رضي الله عنه: إن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدي الفريضة . فالمقصود أن الإنسان لا يثاب على النافلة حتى تؤدى الفريضة، بمعنى أنه إذا فعل النافلة مع نقص الفريضة كانت جبراً لها وإكمالا فلم يكن فيها ثواب النافلة، ويبين ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن وجدت تامة كتبت تامة، وإن كان انتقض منها شيئا قال انظروا هل تجدوا له من تطوع، فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه، ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك . رواه النسائي عن أبي هريرة وصححه الألباني . ولهذا قال بعض السلف النافلة لاتكون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وغيره يحتاج للمغفرة. قال ابن تيمية: فإذا لم يكن العبد قد أدى الفرائض كما أمر لم يحصل له مقصود النوافل ولا يظلمه الله فإن الله لا يظلم مثقال ذرة بل يقيمها مقام نظيرها من الفرائض كمن عليه ديون لأناس ويريد أن يتطوع لهم بأشياء، فإن وفاهم وتطوع لهم كان عادلاً محسناً، وإن وفاهم ولم يتطوع كان عادلا، وإن أعطاهم ما يقوم مقام دينهم وجعل ذلك تطوعا كان غالطا في جعله، بل يكون من الواجب الذي يستحقونه . اهـ. ومما سبق يتبين أن المقصود من قول أبي بكر ليس ترك النوافل حتى إتمام الفرائض الفائتة، وإنما المقصود عدم تحصيل الثواب المرجو من النافلة إلا إذا أدى الفريضة كاملة كما شرعها الله وإلا جبرت النقص الواقع في الفريضة.

؛ وَقَدْ ذَكَرَهُ أَحْمَد فِي " رِسَالَتِهِ فِي الصَّلَاةِ " . وَذَلِكَ لِأَنَّ قَبُولَ النَّافِلَةِ يُرَادُ بِهِ الثَّوَابُ عَلَيْهَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى النَّافِلَةِ حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ ،فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ النَّافِلَةَ مَعَ نَقْصِ الْفَرِيضَةِ كَانَتْ جَبْرًا لَهَا وَإِكْمَالًا لَهَا . فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا ثَوَابُ نَافِلَةٍ ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : النَّافِلَةُ لَا تَكُونُ إلَّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1)، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَغَيْرُهُ يَحْتَاجُ إلَى الْمَغْفِرَةِ (2)
__________
(1) - لقوله تعالى :{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} (79) سورة الإسراء
(2) - صحيح البخارى -برقم(4837 )عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ « أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا » .
فتح الباري لابن حجر - (ج 4 / ص 110)
قَالَ اِبْن بَطَّال : فِي هَذَا الْحَدِيث أَخَذَ الْإِنْسَان عَلَى نَفْسه بِالشِّدَّةِ فِي الْعِبَادَة وَإِنْ أَضَرَّ ذَلِكَ بِبَدَنِهِ ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ عِلْمه بِمَا سَبَقَ لَهُ فَكَيْف بِمَنْ لَمْ يَعْلَم بِذَلِكَ فَضْلًا عَمَّنْ لَمْ يَأْمَن أَنَّهُ اِسْتَحَقَّ النَّار . اِنْتَهَى . وَمَحَلّ ذَلِكَ مَا إِذَا لَمْ يُفْضِ إِلَى الْمَلَال ، لِأَنَّ حَال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ أَكْمَلَ الْأَحْوَال ، فَكَانَ لَا يَمَلّ مِنْ عِبَادَة رَبّه وَإِنْ أَضَرَّ ذَلِكَ بِبَدَنِهِ ، بَلْ صَحَّ أَنَّهُ قَالَ " وَجُعِلَتْ قُرَّة عَيْنِي فِي الصَّلَاة " كَمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيث أَنَس ، فَأَمَّا غَيْره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا خَشِيَ الْمَلَل لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكْرِه نَفْسه ، وَعَلَيْهِ يُحْمَل قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " خُذُوا مِنْ الْأَعْمَال مَا تُطِيقُونَ ، فَإِنَّ اللَّه لَا يَمَلّ حَتَّى تَمَلُّوا " . وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّة الصَّلَاة لِلشُّكْرِ ، وَفِيهِ أَنَّ الشُّكْر يَكُون بِالْعَمَلِ كَمَا يَكُون بِاللِّسَانِ كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى ( اِعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا ) وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : ظَنَّ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ سَبَب تَحَمُّله الْمَشَقَّة فِي الْعِبَادَة أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْبُد اللَّه خَوْفًا مِنْ الذُّنُوب وَطَلَبًا لِلْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَة فَمَنْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ غُفِرَ لَهُ لَا يَحْتَاج إِلَى ذَلِكَ ، فَأَفَادَهُمْ أَنَّ هُنَاكَ طَرِيقًا آخَر لِلْعِبَادَةِ وَهُوَ الشُّكْر عَلَى الْمَغْفِرَة وَإِيصَال النِّعْمَة لِمَنْ لَا يَسْتَحِقّ عَلَيْهِ فِيهَا شَيْئًا فَيَتَعَيَّن كَثْرَة الشُّكْر عَلَى ذَلِكَ ، وَالشُّكْر الِاعْتِرَاف بِالنِّعْمَةِ وَالْقِيَام بِالْخِدْمَةِ ، فَمَنْ كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ سُمِّيَ شَكُورًا ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ سُبْحَانه وَتَعَالَى ( وَقَلِيل مِنْ عِبَادِي الشَّكُور ) . وَفِيهِ مَا كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ مِنْ الِاجْتِهَاد فِي الْعِبَادَة وَالْخَشْيَة مِنْ رَبّه ، قَالَ الْعُلَمَاء : إِنَّمَا أَلْزَم الْأَنْبِيَاء أَنْفُسهمْ بِشِدَّةِ الْخَوْف لِعِلْمِهِمْ بِعَظِيمِ نِعْمَة اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُ اِبْتَدَأَهُمْ بِهَا قَبْل اِسْتِحْقَاقهَا . فَبَذَلُوا مَجْهُودهمْ فِي عِبَادَته لِيُؤَدُّوا بَعْض شُكْره ، مَعَ أَنَّ حُقُوق اللَّه أَعْظَم مِنْ أَنْ يَقُوم بِهَا الْعِبَاد . وَاَللَّه أَعْلَم .
وفي تحفة الأحوذي - (ج 1 / ص 450)
قَالَ اِبْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ : أَيْ اُتْرُكْ تِلْكَ الْكُلْفَةَ نَظَرًا إِلَى الْمَغْفِرَةِ فَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ، لَا بَلْ أَلْزَمُهَا وَإِنْ غُفِرَ لِي لِأَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا . ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ : الْفَاءُ مُسَبَّبٌ عَنْ مَحْذُوفٍ أَيْ أَأَتْرُكُ قِيَامِي وَتَهَجُّدِي لِمَا غُفِرَ لِي فَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ، يَعْنِي أَنَّ غُفْرَانَ اللَّهِ إِيَّايَ سَبَبٌ لِأَنْ أَقُومَ وَأَتَهَجَّدَ شُكْرًا لَهُ فَكَيْفَ أَتْرُكُهُ .

. وَتَأَوَّلَ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} (79) سورة الإسراء ، وَلَيْسَ إذَا فَعَلَ نَافِلَةً وَضَيَّعَ فَرِيضَةً تَقُومُ النَّافِلَةُ مَقَامَ الْفَرِيضَةِ مُطْلَقًا؛ بَلْ قَدْ تَكُونُ عُقُوبَتُهُ عَلَى تَرْكِ الْفَرِيضَةِ أَعْظَمَ مِنْ ثَوَابِ النَّافِلَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْعَبْدُ إذَا نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا إذَا ذَكَرَهَا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ (1). فَلَوْ كَانَ لَهَا بَدَلٌ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ لَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ .
قِيلَ : هَذَا خَطَأٌ .
فَإِنْ قِيلَ هَذَا يُقَالُ فِي جَمِيعِ مُسْقِطَاتِ الْعِقَابِ .
فَيُقَالُ : إذَا كَانَ الْعَبْدُ يُمْكِنُهُ رَفْعُ الْعُقُوبَةِ بِالتَّوْبَةِ لَمْ يَنْهَ عَنْ الْفِعْلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَبْدَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكَ الْمَحْظُورَ (2)؛ لِأَنَّ الْإِخْلَالَ بِذَلِكَ سَبَبٌ لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ وَإِنْ جَازَ مَعَ إخْلَالِهِ أَنْ يَرْتَفِعَ الْعِقَابُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، كَمَا عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَمِيَ مِنْ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ وَإِنْ كَانَ مَعَ تَنَاوُلِهِ لَهَا يُمْكِنُ رَفْعُ ضَرَرِهَا بِأَسْبَابِ مِنْ الْأَدْوِيَةِ .
وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ رَحِيمٌ - أَمَرَهُمْ بِمَا يُصْلِحُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا يُفْسِدُهُمْ ثُمَّ إذَا وَقَعُوا فِي أَسْبَابِ الْهَلَاكِ لَمْ يؤيسهم مِنْ رَحْمَتِهِ (3)
__________
(1) - صحيح مسلم برقم(1601 ) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلاَةِ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِى ».
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 2 / ص 487)
فِيهِ : وُجُوب قَضَاء الْفَرِيضَة الْفَائِتَة سَوَاء تَرَكَهَا بِعُذْرٍ كَنَوْمٍ وَنِسْيَان أَوْ بِغَيْرِ عُذْر ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ فِي الْحَدِيث بِالنِّسْيَانِ لِخُرُوجِهِ عَلَى سَبَب ، لِأَنَّهُ إِذَا وَجَبَ الْقَضَاء عَلَى الْمَعْذُور فَغَيْره أَوْلَى بِالْوُجُوبِ ، وَهُوَ مِنْ بَاب التَّنْبِيه بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى . وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا ) فَمَحْمُول عَلَى الِاسْتِحْبَاب ؛ فَإِنَّهُ يَجُوز تَأْخِير قَضَاء الْفَائِتَة بِعُذْرٍ عَلَى الصَّحِيح ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه وَدَلِيله . وَشَذَّ بَعْض أَهْل الظَّاهِر فَقَالَ : لَا يَجِب قَضَاء الْفَائِتَة بِغَيْرِ عُذْر ، وَزَعَمَ أَنَّهَا أَعْظَم مِنْ أَنْ يَخْرُج مِنْ وَبَال مَعْصِيَتهَا بِالْقَضَاءِ ، وَهَذَا خَطَأ مِنْ قَائِله وَجَهَالَة . وَاللَّهُ أَعْلَم . وَفِيهِ دَلِيل لِقَضَاءِ السُّنَن الرَّاتِبَة إِذَا فَاتَتْ ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَالْخِلَاف فِي ذَلِكَ .
(2) - صحيح مسلم برقم(6259 ) عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ قَالاَ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ...».
(3) - قال تعالى : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) }[الزمر/53-55]
وفي ظلال القرآن - (ج 6 / ص 240) وفي ظلال القرآن - (ج 1 / ص 410)
إنها الرحمة الواسعة التي تسع كل معصية . كائنة ما كانت وإنها الدعوة للأوبة . دعوة العصاة المسرفين الشاردين المبعدين في تيه الضلال . دعوتهم إلى الأمل والرجاء والثقة بعفو الله . إن الله رحيم بعباده . وهو يعلم ضعفهم وعجزهم . ويعلم العوامل المسلطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجه . ويعلم أن الشيطان يقعد لهم كل مرصد . ويأخذ عليهم كل طريق . ويجلب عليهم بخيله ورجله . وأنه جاد كل الجد في عمله الخبيث ! ويعلم أن بناء هذا المخلوق الإنساني بناء واه . وأنه مسكين سرعان ما يسقط إذا أفلت من يده الحبل الذي يربطه والعروة التي تشده . وأن ما ركب في كيانه من وظائف ومن ميول ومن شهوات سرعان ما ينحرف عن التوازن فيشط به هنا أو هناك ; ويوقعه في المعصية وهو ضعيف عن الاحتفاظ بالتوازن السليم . .
يعلم الله - سبحانه - عن هذا المخلوق كل هذا فيمد له في العون ; ويوسع له في الرحمة ; ولا يأخذه بمعصيته حتى يهيىء له جميع الوسائل ليصلح خطأه ويقيم خطاه على الصراط . وبعد أن يلج في المعصية , ويسرف في الذنب , ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره , ولم يعد يقبل ولا يستقبل . في هذه اللحظة لحظة اليأس والقنوط , يسمع نداء الرحمة الندي اللطيف:
قل يا عبادي الذين اسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر الذنوب جميعاً . إنه هو الغفور الرحيم . .
وليس بينه - وقد أسرف في المعصية , ولج في الذنب , وأبق عن الحمى , وشرد عن الطريق - ليس بينه وبين الرحمة الندية الرخية , وظلالها السمحة المحيية . ليس بينه وبين هذا كله إلا التوبة . التوبة وحدها . الأوبة إلى الباب المفتوح الذي ليس عليه بواب يمنع , والذي لا يحتاج من يلج فيه إلى استئذان:
(وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون . واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون) . .
الإنابة . والإسلام . والعودة إلى أفياء الطاعة وظلال الاستسلام . . هذا هو كل شيء . بلا طقوس ولا مراسم ولا حواجز ولا وسطاء ولا شفعاء !
إنه حساب مباشر بين العبد والرب . وصلة مباشرة بين المخلوق والخالق . من أراد الأوبة من الشاردين فليؤب . ومن أراد الإنابة من الضالين , فلينب . ومن أراد الاستسلام من العصاة فليستسلم . وليأت . . ليأت وليدخل فالباب مفتوح . والفيء والظل والندى والرخاء:كله وراء الباب لا حاجب دونه ولا حسيب !
وهيا . هيا قبل فوات الأوان . هيا (من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون) . . فما هنالك من نصير . هيا فالوقت غير مضمون . وقد يفصل في الأمر وتغلق الأبواب في أية لحظة من لحظات الليل والنهار . هيا .
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 4848)
قوله تعالى : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } وإن شئت حذفت الياء؛ لأن النداء موضع حذف . النحاس : ومن أجلّ ما روي فيه ما رواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال : لما اجتمعنا على الهجرة ، اتّعدتُ أنا وهشام بن العاصي بن وائل السَّهْمي ، وعَيَّاش بن أبي ربيعة بن عُتْبة ، فقلنا : الموعد أضاة بني غفار ، وقلنا : من تأخر منا فقد حُبِس فليمض صاحبه ، فأصبحت أنا وعياش بن عتبة وحُبس عنا هشام ، وإذا به قد فُتن فافتتن ، فكنا نقول بالمدينة : هؤلاء قد عرفوا الله عز وجل وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم افتتنوا لبلاءٍ لحقهم لا نرى لهم توبة ، وكانوا هم أيضاً يقولون هذا في أنفسهم ، فأنزل الله عز وجل في كتابه : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } إلى قوله تعالى : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } [ الزمر : 60 ] قال عمر : فكتبتها بيدي ثم بعثتها إلى هشام . قال هشام : فلما قدمت عليّ خرجت بها إلى ذي طُوًى فقلت : اللهم فهمنيها فعرفت أنها نزلت فينا ، فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان قوم من المشركين قَتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم أو بعثوا إليه : إن ما تدعو إليه لحسن أوَ تخبرنا أن لنا توبة؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } ذكره البخاري بمعناه . وقد مضى في آخر «الفرقان» . وعن ابن عباس أيضاً نزلت في أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له ، وكيف نهاجر ونُسْلم وقد عبدنا مع الله إلهاً آخر وقتلنا النفس التي حرم الله! فأنزل الله هذه الآية . وقيل : إنها نزلت في قوم من المسلمين أسرفوا على أنفسهم في العبادة ، وخافوا ألاّ يتقبل منهم لذنوب سبقت لهم في الجاهلية . وقال ابن عباس أيضاً وعطاء : نزلت في وحشِيّ قاتل حمزة؛ لأنه ظن أن الله لا يقبل إسلامه : وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : " أتَى وَحْشيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ فقال : يا محمد أتيتك مستجيراً فأجرني حتى أسمع كلام الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قد كنت أحبّ أن أراك على غير جوار فأما إذ أتيتني مستجيراً فأنت في جواري حتى تسمع كلام الله» قال : فإني أشركت بالله وقتلت النفس التي حرم الله وزنيت ، هل يقبل الله مني توبة؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ } [ الفرقان : 68 ] إلى آخر الآية فتلاها عليه؛ فقال أرى شرطاً فلعلي لا أعمل صالحاً ، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله . فنزلت : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] فدعا به فتلا عليه؛ قال : فلعلي ممن لا يشاء أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله . فنزلت : { ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } فقال : نعم الآن لا أرى شرطاً . فأسلم "
وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن شَهْر بن حَوْشَب عن أسماء : أنها سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } . وفي مصحف ابن مسعود { إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً لِمَنْ يَشَاءُ } . قال أبو جعفر النحاس : وهاتان القراءتان على التفسير ، أي يغفر الله لمن يشاء . وقد عرف الله عز وجل من شاء أن يغفر له ، وهو التائب أو من عمل صغيرة ولم تكن له كبيرة ، ودلّ على أنه يريد التائب ما بعده { وَأَنيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ } فالتائب مغفور له ذنوبه جميعاً ، يدل على ذلك { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ } [ طه : 82 ] فهذا لا إشكال فيه . وقال عليّ بن أبي طالب : ما في القرآن آية أوسع من هذه الآية { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } وقد مضى هذا في «سبحان» . وقال عبد الله بن عمر : وهذه أرجى آية في القرآن فردّ عليهم ابن عباس وقال أرجى آية في القرآن قوله تعالى : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } [ الرعد : 6 ] وقد مضى في «الرعد» . وقرىء «وَلاَ تَقْنِطُوا» بكسر النون وفتحها . وقد مضى في «الحجر» بيانه .
قوله تعالى : { وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ } أي ارجعوا إليه بالطاعة . لما بين أن من تاب من الشرك يغفر له أمر بالتوبة والرجوع إليه ، والإنابة الرجوع إلى الله بالإخلاص . { وَأَسْلِمُواْ لَهُ } أي اخضعوا له وأطيعوا { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب } في الدنيا { ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } أي لا تمنعون من عذابه . وروي من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من السعادة أن يطيل الله عمر المرء في الطاعة ويرزقه الإنابة ، وإن من الشقاوة أن يعمل المرء ويعجب بعمله "

بَلْ جَعَلَ لَهُمْ أَسْبَابًا يَتَوَصَّلُونَ بِهَا إلَى رَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ ،وَلِهَذَا قِيلَ : إنَّ الْفَقِيهَ كُلُّ الْفَقِيهِ الَّذِي لَا يُؤَيِّسُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَا يُجَرِّئُهُمْ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ (1)
__________
(1) - وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 151)
وَأَمَّا مَا يُذْكَرُ عَنْ " غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ " أَنَّهُمْ قَالُوا : لَنْ يَدْخُلَ النَّارَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ فَلَا نَعْرِفُ قَائِلًا مَشْهُورًا مِنْ الْمَنْسُوبِينَ إلَى الْعِلْمِ يُذْكَرُ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ . و " أَيْضًا " فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدّ شَهِدَ لِشَارِبِ الْخَمْرِ الْمَجْلُودِ مَرَّاتٍ بِأَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَنَهَى عَنْ لَعْنَتِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِقَدْرِ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِينَ قَذَفُوا عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ فِيهِمْ مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ لَمَّا حَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يَصِلَهُ : { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } . وَإِنْ قِيلَ : إنَّ مِسْطَحًا وَأَمْثَالَهُ تَابُوا لَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يَشْرُطْ فِي الْأَمْرِ بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ وَالصَّفْحِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ التَّوْبَةَ . وَكَذَلِكَ { حَاطِبُ بْنُ أَبِي بلتعة كَاتَبَ الْمُشْرِكِينَ بِأَخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَرَادَ عُمَرُ قَتْلَهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْل بَدْرٍ فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ ؟ } . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } وَهَذِهِ النُّصُوصُ تَقْتَضِي : أَنَّ السَّيِّئَاتِ مَغْفُورَةٌ بِتِلْكَ الْحَسَنَاتِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ مَعَ ذَلِكَ تَوْبَةً ؛ وَإِلَّا فَلَا اخْتِصَاصَ لِأُولَئِكَ بِهَذَا ؛ وَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي الْمَغْفِرَةَ بِذَلِكَ الْعَمَلِ . وَإِذَا قِيلَ : إنَّ هَذَا لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أُولَئِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا صَغَائِرُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ أَيْضًا . وَأَنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ تَجْوِيزَ الْكَبِيرَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَغْفُورِ لَهُمْ و " أَيْضًا " قَدْ دَلَّتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ : عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ الذُّنُوبِ تَزُولُ عَنْ الْعَبْدِ بِنَحْوِ عَشَرَةِ أَسْبَابٍ . " أَحَدُهَا " التَّوْبَةُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ " السَّبَبُ الثَّانِي " الِاسْتِغْفَارُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ : أَيْ رَبِّ أَذْنَبْت ذَنْبًا فَاغْفِرْ لِي فَقَالَ : عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ قَدْ غَفَرْت لِعَبْدِي ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ أَذْنَبْت ذَنْبًا آخَرَ . فَاغْفِرْهُ لِي فَقَالَ رَبُّهُ : عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ قَدْ غَفَرْت لِعَبْدِي فَلْيَفْعَلْ مَا شَاءَ قَالَ ذَلِكَ : فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمِ يُذْنِبُونَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ } . وَقَدْ يُقَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الِاسْتِغْفَارُ هُوَ مَعَ التَّوْبَةِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ { مَا أَصَرَّ مَنْ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ } وَقَدْ يُقَالُ : بَلْ الِاسْتِغْفَارُ بِدُونِ التَّوْبَةِ مُمْكِنٌ وَاقِعٌ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ فَإِنَّ هَذَا الِاسْتِغْفَارَ إذَا كَانَ مَعَ التَّوْبَةِ مِمَّا يُحْكَمُ بِهِ عَامٌّ فِي كُلِّ تَائِبٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ التَّوْبَةِ فَيَكُونُ فِي حَقِّ بَعْضِ الْمُسْتَغْفِرِينَ الَّذِينَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُمْ عِنْدَ الِاسْتِغْفَارِ مِنْ الْخَشْيَةِ وَالْإِنَابَةِ مَا يَمْحُو الذُّنُوبَ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ بِأَنَّ قَوْلَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ثَقُلَتْ بِتِلْكَ السَّيِّئَاتِ ؛ لَمَّا قَالَهَا بِنَوْعِ مِنْ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ الَّذِي يَمْحُو السَّيِّئَاتِ وَكَمَا غَفَرَ لِلْبَغِيِّ بِسَقْيِ الْكَلْبِ لِمَا حَصَلَ فِي قَلْبِهَا إذْ ذَاكَ مِنْ الْإِيمَانِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ . " السَّبَبُ الثَّالِثُ " : الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ } وَقَالَ : { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } وَقَالَ : { مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } وَقَالَ { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } وَقَالَ : { فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ . } وَقَالَ : { مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ } وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا فِي الصِّحَاحِ . وَقَالَ : { الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ وَالْحَسَدُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ } . وَسُؤَالُهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَقُولُوا الْحَسَنَاتُ إنَّمَا تُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ فَقَطْ فَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَلَا تُغْفَرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ كَمَا قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ : " مَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ " فَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِوُجُوهِ . أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ جَاءَ فِي الْفَرَائِضِ . كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } فَالْفَرَائِضُ مَعَ تَرْكِ الْكَبَائِرِ مُقْتَضِيَةٌ لِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الزَّائِدَةُ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا ثَوَابٌ آخَرُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } . ( الثَّانِي ) : أَنَّهُ قَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ قَدْ تَكُونُ مَعَ الْكَبَائِرِ كَمَا فِي { قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ } وَفِي السُّنَنِ { أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَوْجَبَ . فَقَالَ : أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقْ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ . } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي { حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ . } . ( الثَّالِثُ ) : أَنَّ { قَوْلَهُ لِأَهْلِ بَدْرٍ وَنَحْوِهِمْ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ } إنْ حُمِلَ عَلَى الصَّغَائِرِ أَوْ عَلَى الْمَغْفِرَةِ مَعَ التَّوْبَةِ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ . فَكَمَا لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى الْكُفْرِ لِمَا قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكُفْرَ لَا يُغْفَرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى مُجَرَّدِ الصَّغَائِرِ الْمُكَفَّرَةِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ . ( الرَّابِعُ ) : أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ { حَدِيثٍ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ عَمَلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلَاةُ فَإِنْ أَكْمَلَهَا وَإِلَّا قِيلَ : اُنْظُرُوا هَلْ لَهُ مِنْ تَطَوُّعٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ أُكْمِلَتْ بِهِ الْفَرِيضَةُ ثُمَّ يُصْنَعُ بِسَائِرِ أَعْمَالِهِ كَذَلِكَ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ النَّقْصَ الْمُكَمِّلَ لَا يَكُونُ لِتَرْكِ مُسْتَحَبٍّ ؛ فَإِنَّ تَرْكَ الْمُسْتَحَبِّ لَا يَحْتَاجُ إلَى جبران وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ الْمُسْتَحَبِّ الْمَتْرُوكِ وَالْمَفْعُولِ فَعُلِمَ أَنَّهُ يَكْمُلُ نَقْصُ الْفَرَائِضِ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ . وَهَذَا لَا يُنَافِي مِنْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ النَّافِلَةَ حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ مَعَ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ مُعَارِضًا لِلْأَوَّلِ لَوَجَبَ تَقْدِيمُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ وَأَشْهَرُ وَهَذَا غَرِيبٌ رَفْعُهُ وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ فِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْر لِعُمَرِ ؛ وَقَدْ ذَكَرَهُ أَحْمَد فِي " رِسَالَتِهِ فِي الصَّلَاةِ " . وَذَلِكَ لِأَنَّ قَبُولَ النَّافِلَةِ يُرَادُ بِهِ الثَّوَابُ عَلَيْهَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى النَّافِلَةِ حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ النَّافِلَةَ مَعَ نَقْصِ الْفَرِيضَةِ كَانَتْ جَبْرًا لَهَا وَإِكْمَالًا لَهَا . فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا ثَوَابُ نَافِلَةٍ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : النَّافِلَةُ لَا تَكُونُ إلَّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَغَيْرُهُ يَحْتَاجُ إلَى الْمَغْفِرَةِ . وَتَأَوَّلَ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ } وَلَيْسَ إذَا فَعَلَ نَافِلَةً وَضَيَّعَ فَرِيضَةً تَقُومُ النَّافِلَةُ مَقَامَ الْفَرِيضَةِ مُطْلَقًا بَلْ قَدْ تَكُونُ عُقُوبَتُهُ عَلَى تَرْكِ الْفَرِيضَةِ أَعْظَمَ مِنْ ثَوَابِ النَّافِلَةِ . فَإِنْ قِيلَ : الْعَبْدُ إذَا نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا إذَا ذَكَرَهَا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . فَلَوْ كَانَ لَهَا بَدَلٌ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ لَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ . قِيلَ : هَذَا خَطَأٌ فَإِنْ قِيلَ هَذَا يُقَالُ فِي جَمِيعِ مُسْقِطَاتِ الْعِقَابِ . فَيُقَالُ : إذَا كَانَ الْعَبْدُ يُمْكِنُهُ رَفْعُ الْعُقُوبَةِ بِالتَّوْبَةِ لَمْ يَنْهَ عَنْ الْفِعْلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَبْدَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكَ الْمَحْظُورَ ؛ لِأَنَّ الْإِخْلَالَ بِذَلِكَ سَبَبٌ لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ وَإِنْ جَازَ مَعَ إخْلَالِهِ أَنْ يَرْتَفِعَ الْعِقَابُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ كَمَا عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَمِيَ مِنْ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ وَإِنْ كَانَ مَعَ تَنَاوُلِهِ لَهَا يُمْكِنُ رَفْعُ ضَرَرِهَا بِأَسْبَابِ مِنْ الْأَدْوِيَةِ . وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ رَحِيمٌ - أَمَرَهُمْ بِمَا يُصْلِحُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا يُفْسِدُهُمْ ثُمَّ إذَا وَقَعُوا فِي أَسْبَابِ الْهَلَاكِ لَمْ يؤيسهم مِنْ رَحْمَتِهِ بَلْ جَعَلَ لَهُمْ أَسْبَابًا يَتَوَصَّلُونَ بِهَا إلَى رَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ وَلِهَذَا قِيلَ : إنَّ الْفَقِيهَ كُلُّ الْفَقِيهِ الَّذِي لَا يُؤَيِّسُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَا يُجَرِّئُهُمْ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ . وَلِهَذَا يُؤْمَرُ الْعَبْدُ بِالتَّوْبَةِ كُلَّمَا أَذْنَبَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِشَيْخِهِ : إنِّي أُذْنِبُ قَالَ : تُبْ قَالَ : ثُمَّ أَعُودُ ، قَالَ : تُبْ قَالَ : ثُمَّ أَعُودُ ، قَالَ : تُبْ قَالَ : إلَى مَتَى قَالَ : إلَى أَنْ تُحْزِنَ الشَّيْطَانَ . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ } . وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَصَلَاتُهُ إذَا اسْتَيْقَظَ أَوْ ذَكَرَهَا كَفَّارَةً لَهَا تَبْرَأُ بِهَا الذِّمَّةُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ وَيَرْتَفِعُ عَنْهُ الذَّمُّ وَالْعِقَابُ وَيَسْتَوْجِبُ بِذَلِكَ الْمَدْحَ وَالثَّوَابَ وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ فَلَا نَعْلَمُ الْقَدْرَ الَّذِي يَقُومُ ثَوَابُهُ مَقَامَ ذَلِكَ وَلَوْ عُلِمَ فَقَدْ لَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ مَعَ سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ ثُمَّ إذَا قَدَّرَ أَنَّهُ أُمِرَ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ صَارَ وَاجِبًا فَلَا يَكُونُ تَطَوُّعًا وَالتَّطَوُّعَاتُ شُرِعَتْ لِمَزِيدِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى . فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ } الْحَدِيثَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ قَدْ أَدَّى الْفَرَائِضَ كَمَا أُمِرَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَقْصُودُ النَّوَافِلِ وَلَا يَظْلِمُهُ اللَّهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ بَلْ يُقِيمُهَا مَقَامَ نَظِيرِهَا مِنْ الْفَرَائِضِ كَمَنْ عَلَيْهِ دُيُونٌ لِأُنَاسِ يُرِيدُ أَنْ يَتَطَوَّعَ لَهُمْ بِأَشْيَاءَ : فَإِنْ وَفَّاهُمْ وَتَطَوَّعَ لَهُمْ كَانَ عَادِلًا مُحْسِنًا . وَإِنْ وَفَّاهُمْ وَلَمْ يَتَطَوَّعْ كَانَ عَادِلًا ، وَإِنْ أَعْطَاهُمْ مَا يَقُومُ مَقَامَ دِينِهِمْ وَجَعَلَ ذَلِكَ تَطَوُّعًا كَانَ غالطا فِي جَعْلِهِ ؛ بَلْ يَكُونُ مِنْ الْوَاجِبِ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ . وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ " الْمُعْتَزِلَةَ " يَفْتَخِرُونَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ " التَّوْحِيدِ " وَ " الْعَدْلِ " وَهُمْ فِي تَوْحِيدِهِمْ نَفَوْا الصِّفَاتِ نَفْيًا يَسْتَلْزِمُ التَّعْطِيلَ وَالْإِشْرَاكَ . وَأَمَّا " الْعَدْلُ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ " فَهُوَ أَنْ لَا يَظْلِمَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَأَنَّهُ : مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وَهُمْ يَجْعَلُونَ جَمِيعَ حَسَنَاتِ الْعَبْدِ وَإِيمَانِهِ حَابِطًا بِذَنْبِ وَاحِدٍ مِنْ الْكَبَائِرِ وَهَذَا مِنْ الظُّلْمِ الَّذِي نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْهُ فَكَانَ وَصْفُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْعَدْلِ الَّذِي وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْلَى مِنْ جَعْلِ الْعَدْلِ هُوَ التَّكْذِيبُ بِقَدَرِ اللَّهِ . ( الْخَامِسُ ) : أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شَيْئًا يُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ إلَّا الْكُفْرَ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ شَيْئًا يُحْبِطُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ إلَّا التَّوْبَةَ . وَ " الْمُعْتَزِلَةُ مَعَ الْخَوَارِجِ " يَجْعَلُونَ الْكَبَائِرَ مُحْبِطَةً لِجَمِيعِ الْحَسَنَاتِ حَتَّى الْإِيمَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } فَعَلَّقَ الْحُبُوطَ بِالْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِكَافِرِ وَالْمُعَلَّقُ بِشَرْطِ يَعْدَمُ عِنْدَ عَدَمِهِ . وَقَالَ تَعَالَى { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } وَقَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْأَنْبِيَاءَ : { وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وَقَالَ : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } . فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ إذَا لَمْ يُغْفَرْ وَأَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ حُبُوطُ حَسَنَاتِ صَاحِبِهِ ، وَلَمَّا ذَكَرَ سَائِرَ الذُّنُوبِ غَيْرَ الْكُفْرِ لَمْ يُعَلِّقْ بِهَا حُبُوطَ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ ، وَقَوْلُهُ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } . لِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ ، وقَوْله تَعَالَى { لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَتَضَمَّنُ الْكُفْرَ فَيَقْتَضِي الْحُبُوطَ وَصَاحِبُهُ لَا يَدْرِي كَرَاهِيَةَ أَنْ يُحْبَطَ أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يُحْبَطَ فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْكُفْرِ الْمُقْتَضِي لِلْحُبُوطِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِلْكُفْرِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ ؛ فَيَنْهَى عَنْهَا خَشْيَةَ أَنْ تُفْضِيَ إلَى الْكُفْرِ الْمُحْبِطِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } - وَهِيَ الْكُفْرُ - { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَإِبْلِيسُ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ فَصَارَ كَافِرًا ؛ وَغَيْرُهُ أَصَابَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ . وَقَدْ احْتَجَّتْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } قَالُوا : فَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ مِنْ الْمُتَّقِينَ فَلَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْهُ عَمَلًا فَلَا يَكُونُ لَهُ حَسَنَةٌ وَأَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ الْإِيمَانُ فَلَا يَكُونُ مَعَهُ إيمَانٌ فَيَسْتَحِقُّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ وَقَدْ أَجَابَتْهُمْ الْمُرْجِئَةُ : بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُتَّقِينَ مَنْ يَتَّقِي الْكُفْرَ فَقَالُوا لَهُمْ : اسْمُ الْمُتَّقِينَ فِي الْقُرْآنِ يَتَنَاوَلُ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلثَّوَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } وَأَيْضًا فَابْنَا آدَمَ حِينَ قَرَّبَا قُرْبَانًا لَمْ يَكُنْ الْمُقَرِّبُ الْمَرْدُودُ قُرْبَانُهُ حِينَئِذٍ كَافِرًا وَإِنَّمَا كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ إذْ لَوْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يَتَقَرَّبْ وَأَيْضًا فَمَا زَالَ السَّلَفُ يَخَافُونَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَوْ أُرِيدَ بِهَا مَنْ يَتَّقِي الْكُفْرَ لَمْ يَخَافُوا وَأَيْضًا فَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْمُتَّقِينَ وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ لَيْسَ بِكَافِرِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي خِطَابِ الشَّارِعِ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ . وَ " الْجَوَابُ الصَّحِيحُ " : أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ كَمَا قَالَ الفضيل بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْله تَعَالَى { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قِيلَ : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ فَمَنْ عَمِلَ لِغَيْرِ اللَّهِ - كَأَهْلِ الرِّيَاءِ - لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ذَلِكَ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَهُ } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ } وَقَالَ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارِ } وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } أَيْ فَهُوَ مَرْدُودٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ . فَمَنْ اتَّقَى الْكُفْرَ وَعَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُتَّقِيًا فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ وَإِنْ كَانَ مُتَّقِيًا لِلشِّرْكِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } وَفِي حَدِيثِ { عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَخَافُ أَنْ يُعَذَّبُ ؟ قَالَ : لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ } . وَخَوْفُ مَنْ خَافَ مِنْ السَّلَفِ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ لِخَوْفِهِ أَنْ لَا يَكُونَ أَتَى بِالْعَمَلِ عَلَى وَجْهِهِ الْمَأْمُورِ : وَهَذَا أَظْهَرُ الْوُجُوهِ فِي اسْتِثْنَاءِ مَنْ اسْتَثْنَى مِنْهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَفِي أَعْمَالِ الْإِيمَانِ كَقَوْلِ أَحَدِهِمْ : أَنَا مُؤْمِنٌ " إنْ شَاءَ اللَّهُ " - وَصَلَّيْت - إنْ شَاءَ اللَّهُ - لِخَوْفِ أَنْ لَا يَكُونَ آتَى بِالْوَاجِبِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا عَلَى جِهَةِ الشَّكِّ فِيمَا بِقَلْبِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ ؛ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْآيَةِ : إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ الْعَمَلَ إلَّا مِمَّنْ يَتَّقِي الذُّنُوبَ كُلَّهَا لِأَنَّ الْكَافِرَ وَالْفَاسِقَ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ لَيْسَ مُتَّقِيًا فَإِنْ كَانَ قَبُولُ الْعَمَلِ مَشْرُوطًا بِكَوْنِ الْفَاعِلِ حِينَ فِعْلِهِ لَا ذَنْبَ لَهُ امْتَنَعَ قَبُولُ التَّوْبَةِ . بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَطَ التَّقْوَى فِي الْعَمَلِ فَإِنَّ التَّائِبَ حِينَ يَتُوبُ يَأْتِي بِالتَّوْبَةِ الْوَاجِبَةِ وَهُوَ حِينَ شُرُوعِهِ فِي التَّوْبَةِ مُنْتَقِلٌ مِنْ الشَّرِّ إلَى الْخَيْرِ لَمْ يَخْلُصْ مِنْ الذَّنْبِ بَلْ هُوَ مُتَّقٍ فِي حَالِ تَخَلُّصِهِ مِنْهُ . وَ " أَيْضًا " فَلَوْ أَتَى الْإِنْسَانُ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى كَبِيرَةٍ ثُمَّ تَابَ لَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ سَيِّئَاتُهُ بِالتَّوْبَةِ وَتُقْبَلُ مِنْهُ تِلْكَ الْحَسَنَاتُ وَهُوَ حِينَ أَتَى بِهَا كَانَ فَاسِقًا . وَ " أَيْضًا " فَالْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ وَعَلَيْهِ لِلنَّاسِ مَظَالِمُ مِنْ قَتْلٍ وَغَصْبٍ وَقَذْفٍ - وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إذَا أَسْلَمَ - قَبْلَ إسْلَامِهِ مَعَ بَقَاءِ مَظَالِمِ الْعِبَادِ عَلَيْهِ ؛ فَلَوْ كَانَ الْعَمَلُ لَا يُقْبَلُ إلَّا مِمَّنْ لَا كَبِيرَةَ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُ الذِّمِّيِّ حَتَّى يَتُوبَ مِنْ الْفَوَاحِشِ وَالْمَظَالِمِ ؛ بَلْ يَكُونُ مَعَ إسْلَامِهِ مُخَلَّدًا وَقَدْ كَانَ النَّاسُ مُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَهُمْ ذُنُوبٌ مَعْرُوفَةٌ وَعَلَيْهِمْ تَبِعَاتٌ فَيُقْبَلُ إسْلَامُهُمْ وَيَتُوبُونَ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ التَّبِعَاتِ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ لَمَّا أَسْلَمَ وَكَانَ قَدْ رَافَقَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَغَدَرَ بِهِمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَجَاءَ فَأَسْلَمَ فَلَمَّا جَاءَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْمُغِيرَةُ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ دَفَعَهُ الْمُغِيرَةُ بِالسَّيْفِ فَقَالَ : مَنْ هَذَا فَقَالُوا : ابْنُ أُخْتِك الْمُغِيرَةُ فَقَالَ يَا غدر أَلَسْت أَسْعَى فِي غُدْرَتِكَ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا الْإِسْلَامُ فَأَقْبَلُهُ وَأَمَّا الْمَالُ فَلَسْت مِنْهُ فِي شَيْءٍ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } وَقَالُوا لِنُوحِ : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } { قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } { إنْ حِسَابُهُمْ إلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ } . وَلَا نَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ جَاءَهُ ذِمِّيٌّ يُسْلِمُ فَقَالَ لَهُ لَا يَصِحُّ إسْلَامُك حَتَّى لَا يَكُونَ عَلَيْك ذَنْبٌ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَعْمَالِ الْبِرِّ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ .
وفي الآداب الشرعية - (ج 1 / ص 79)
فَصْلٌ ( فِي عَدَمِ صِحَّةِ تَوْبَةِ الْمُصِرِّ ، وَكَيْفِيَّةِ التَّوْبَةِ مِنْ الذُّنُوبِ ) وَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ أَصَرَّ عَلَى مِثْلِهِ .
وَلَا يُقَالُ لِلتَّائِبِ ظَالِمٌ وَلَا مُسْرِفٌ ، وَلَا تَصِحُّ مِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ ، ذَكَرَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالشَّرْحِ وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ .
وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْإِرْشَادِ وَفِي الْفُصُولِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي رِيَاضِ الصَّالِحِينَ عَنْ الْعُلَمَاءِ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : سَأَلْتُ أَبِي عَنْ رَجُلٍ اخْتَانَ مِنْ رَجُلٍ مَالًا ، ثُمَّ أَنْفَقَهُ ، وَأَتْلَفَهُ ، ثُمَّ إنَّهُ نَدِمَ عَلَى مَا فَعَلَ وَتَابَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي فَهَلْ يَكُونُ فِي نَدَمِهِ وَتَوْبَتِهِ مَا يُرْجَى لَهُ بِهِ إنْ مَاتَ عَلَى فَقْرِهِ خَلَاصٌ مِمَّا عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ أَبِي : لَا بُدَّ لِهَذَا الرَّجُلِ مِنْ أَنْ يُؤَدِّيَ الْحَقَّ وَإِنْ مَاتَ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ فِيمَنْ غَصَبَ أَرْضًا : لَا يَكُونُ تَائِبًا حَتَّى يَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا ، إنْ عَلِمَ شَيْئًا بَاقِيًا مِنْ السَّرِقَةِ رَدَّهَا عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَقَالَ فِيمَنْ أَخَذَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ : تَوْبَتُهُ أَنْ يَرُدَّ مَا أَخَذَ .
فَإِنْ وَرِثَهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ عَدْلًا حَتَّى يَرُدَّ مَا أَخَذَ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ : هَذَا أَهْوَنُ ، لَيْسَ هُوَ أَخْرَجَهُ ، وَأَعْجَبُ إلَيَّ أَنْ يَرُدَّهُ .
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ فِيمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَسَأَلَهُ صَالِحٌ تَوْبَتُهُ أَنْ يُصَلِّيَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَقِيلَ : بَلَى وَاَللَّهُ تَعَالَى يُعَوِّضُ الْمَظْلُومَ قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ .
وَقَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَمَظَالِمُ الْعِبَادِ تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْهَا عَلَى الصَّحِيحِ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمَنْ مَاتَ نَادِمًا عَلَيْهَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُجَازِي لِلْمَظْلُومِ عَنْهُ كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ { لَا يَدْخُلُ النَّارَ تَائِبٌ مِنْ ذَنْبِهِ } .
وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى فَعَلَى الْمَنْعِ يَرُدُّ مَا أَثِمَ بِهِ وَتَابَ بِسَبَبِهِ ، أَوْ بَذَلَهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ أَوْ يَنْوِي ذَلِكَ إذَا أَمْكَنَهُ وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ فِي الْحَالِ وَأَخَّرَ ذَلِكَ بِرِضَاءِ مُسْتَحِقِّهِ ، وَأَنْ يَسْتَحِلَّ مِنْ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَنَحْوِهِمَا قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ الْحَرِيرِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ جَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إيَّاكُمْ وَالْغِيبَةَ فَإِنَّ الْغِيبَةَ أَشَدُّ مِنْ الزِّنَا ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَزْنِي فَيَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ ، وَإِنَّ صَاحِبَ الْغِيبَةِ لَا يُغْفَرُ لَهُ حَتَّى يَغْفِرَ لَهُ صَاحِبُهُ } عَبَّادٌ ضَعِيفٌ وَأَبُو رَجَاءٍ قَالَ الْعُقَيْلِيُّ : مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَهُ { مَوْتُ الْغَرِيبِ شَهَادَةٌ } .
وَقِيلَ إنْ عَلِمَ بِهِ الْمَظْلُومُ وَإِلَّا دَعَا لَهُ وَاسْتَغْفَرَ وَلَمْ يَعْلَمْهُ ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّهُ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ : إنْ تَابَ مِنْ قَذْفِ إنْسَانٍ أَوْ غِيبَتِهِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ هَلْ يُشْتَرَطُ لِتَوْبَتِهِ إعْلَامُهُ وَالتَّحْلِيلُ مِنْهُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لِمَا رَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { مَنْ اغْتَابَ رَجُلًا ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لَهُ مِنْ بَعْدُ غُفِرَ لَهُ غِيبَتُهُ } وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { كَفَّارَةُ مَنْ اغْتَابَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ } وَلِأَنَّ فِي إعْلَامِهِ إدْخَالَ غَمٍّ عَلَيْهِ قَالَ الْقَاضِي : فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ كَفَّارَةَ الِاغْتِيَابِ مَا رَوَى أَنَسٌ وَذَكَرَهُ ، وَخَبَرُ أَنَسٍ الْمَذْكُورُ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَفِيهِ عَنْبَسَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَتْرُوكٌ وَذَكَرَ مِثْلَهُ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعِيدٍ وَفِيهِ سَلْمَانُ بْنُ عَمْرٍو كَذَّابٌ ، وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَفِيهِ حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْأَيْلِيُّ مَتْرُوكٌ .
وَذَكَرَ أَيْضًا حَدِيثَ أَنَسٍ فِي الْحَدَائِقِ وَقَالَ : إنَّهُ لَا يَذْكُرُ فِيهَا إلَّا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ : قَالَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كَفَّارَةُ مَنْ اغْتَبْتَهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ : التَّوْبَةُ مِنْ الْغِيبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْتَهُ .
فَقَالَ سُفْيَانُ : بَلْ تَسْتَغْفِرُ مِمَّا قُلْتَ فِيهِ ، فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : لَا تُؤْذُوهُ مَرَّتَيْنِ .
وَمِثْلُ قَوْلِ ابْنِ الْمُبَارَكِ اخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ الصَّلَاحِ الشَّافِعِيُّ فِي فَتَاوِيهِ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ قَالَ : فَكُلُّ مَظْلِمَةٍ فِي الْعِرْضِ مِنْ اغْتِيَابِ صَادِقٍ وَبَهْتِ كَاذِبٍ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْقَذْفِ إذْ الْقَذْفُ قَدْ يَكُونُ صِدْقًا فَيَكُونُ فِي الْمَغِيبِ غِيبَةً وَقَدْ يَكُونُ كَذِبًا فَيَكُونُ بَهْتًا ، وَاخْتَارَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَا يُعْلِمُهُ بَلْ يَدْعُو لَهُ دُعَاءً يَكُونُ إحْسَانًا إلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ مَظْلَمَتِهِ كَمَا رُوِيَ فِي الْأَثَرِ .
وَعَنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَتَمْتُهُ أَوْ لَعَنْتُهُ ، أَوْ سَبَبْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ إلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَهَذَا صَحِيحُ الْمَعْنَى مِنْ وَجْهٍ كَذَا قَالَ وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الْمُسْنَدِ وَالصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمْ وَفِيهِ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ عَلَى رَبِّهِ وَفِيهِ { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ } .
وَقَالَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَارِمٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنَا السُّمَيْطُ عَنْ أَبِي السَّوَّارِ الْعَدَوِيِّ عَنْ خَالِهِ قَالَ : { رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُنَاسٌ يَتْبَعُونَهُ قَالَ فَاتَّبَعْتُهُ مَعَهُمْ قَالَ فَفَجَأَنِي الْقَوْمُ يَسْعَوْنَ وَأَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَنِي ضَرْبَةً إمَّا بِعَسِيبٍ أَوْ قَضِيبٍ أَوْ سِوَاكٍ أَوْ شَيْءٍ كَانَ فَوَاَللَّهِ مَا أَوْجَعَنِي قَالَ : فَبِتُّ لَيْلَةً قُلْتُ مَا ضَرَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا لِشَيْءٍ عَلِمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ، وَحَدَّثَتْنِي نَفْسِي أَنْ آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَصْبَحْتُ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّكَ دَاعٍ لَا تَكْسِرْ قَرْنَ رَعِيَّتِكَ ، فَلَمَّا صَلَّيْنَا الْغَدَاةَ أَوْ قَالَ أَصْبَحْنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أُنَاسًا يَتْبَعُونِي وَإِنِّي لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَتْبَعُونِي ، اللَّهُمَّ فَمَنْ ضَرَبْتُ أَوْ سَبَبْتُ فَاجْعَلْهَا لَهُ كَفَّارَةً وَأَجْرًا أَوْ قَالَ مَغْفِرَةً وَرَحْمَةً } أَوْ كَمَا قَالَ إسْنَادٌ جَيِّدٌ .
وَلَعَلَّ مُرَادَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ أَجَابَ الْعُلَمَاءُ بِوَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) الْمُرَادُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ وَلَكِنَّهُ فِي الظَّاهِرِ مُسْتَوْجِبٌ لَهُ فَيُظْهِرُ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِحْقَاقَهُ لِذَلِكَ بِأَمَارَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَيَكُونُ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِالْحُكْمِ الظَّاهِرِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ .
( وَالثَّانِي ) : أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ سَبِّهِ وَدُعَائِهِ وَنَحْوِهِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بَلْ هُوَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي وَصْلِ كَلَامِهِمْ بِلَا نِيَّةٍ كَقَوْلِهِمْ : تَرِبَتْ يَمِينُكَ وَعَقْرَى وَحَلْقَى لَا يَقْصِدُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَقِيقَةَ الدُّعَاءِ فَخَافَ أَنْ يُصَادِفَ إجَابَةً فَسَأَلَ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ وَرَغِبَ إلَيْهِ فِي أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ رَحْمَةً وَكَفَّارَةً وَقُرْبَةً وَطَهُورًا وَأَجْرًا ، وَإِنَّمَا كَانَ يَقَعُ هَذَا مِنْهُ نَادِرًا وَلَمْ يَكُنْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَلَا لَعَّانًا وَلَا مُنْتَقِمًا لِنَفْسِهِ ، وَفِي الْحَدِيثِ { أَنَّهُمْ قَالُوا اُدْعُ عَلَى دَوْسٍ فَقَالَ : اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ إنَّ الْمُرَادَ عِنْدَ فَوْرَةِ الْغَضَبِ لِأَمْرٍ يَخُصُّهُ ، أَوْ لِرَدْعٍ يَرْدَعُهُ بِذَلِكَ الْكَلَامِ عَنْ التَّجَرُّؤِ إلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ لَا لَعْنِهِ فِي الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ فِي الزَّجْرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ رَحْمَةً فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ احْتِمَالًا حَسَنًا ؛ لِأَنَّ لَعْنَتَهُ عِنْدَ مَنْ لَعَنَهُ غَايَةٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ ارْتِكَابِ مَا لَعَنَهُ عَلَيْهِ وَتَوْبَتِهِ فَسَمَّى اللَّعْنَةَ رَحْمَةً حَيْثُ كَانَتْ آيِلَةً إلَى الرَّحْمَةِ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ كَلَامُهُ الْمُتَقَدِّمُ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ فِي قَوْلِهِ { أَنَّ رَجُلًا اعْتَرَضَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْأَلَهُ فَصَاحَ بِهِ النَّاسُ فَقَالَ دَعُوا الرَّجُلَ أَرِبَ مَا لَهُ } قِيلَ أَرِبَ بِوَزْنِ عَلِمَ ، وَمَعْنَاهَا الدُّعَاءُ عَلَيْهِ أَيْ : أُصِيبَتْ آرَابُهُ وَسَقَطَتْ وَهِيَ كَلِمَةٌ لَا يُرَادُ بِهَا وُقُوعُ الْأَمْرِ كَمَا يُقَالُ : تَرِبَتْ يَدَاكَ وَقَاتَلَكَ اللَّهُ ، وَإِنَّمَا تُذْكَرُ فِي مَعْرِضِ التَّعَجُّبِ وَفِي هَذَا التَّعَجُّبِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا تَعَجُّبُهُ مِنْ حِرْصِ السَّائِلِ وَمُزَاحَمَتِهِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا رَآهُ بِهَذِهِ الْحَالِ مِنْ الْحِرْصِ غَلَبَهُ طَبْعُ الْبَشَرِيَّةِ فَدَعَا عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ { اللَّهُمَّ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَمَنْ دَعَوْتُ عَلَيْهِ فَاجْعَلْ دُعَائِي لَهُ رَحْمَةً } وَقِيلَ مَعْنَاهُ احْتَاجَ فَسَأَلَ مِنْ أَرِبَ الرَّجُلُ يَأْرَبُ إذَا احْتَاجَ .
ثُمَّ قَالَ " مَا لَهُ " ؟ أَيْ : أَيُّ شَيْءٍ بِهِ وَمَا يُرِيدُ ؟ ( وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ) أَرَبٌ بِوَزْنِ جَمَلٍ أَيْ : حَاجَةٌ لَهُ ، وَمَا زَائِدَةٌ لِلتَّقْلِيلِ أَيْ : لَهُ حَاجَةٌ يَسِيرَةٌ .
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ حَاجَةٌ جَاءَتْ بِهِ ، فَحَذَفَ ثُمَّ سَأَلَ فَقَالَ " مَا لَهُ " .
( وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ ) أَرِبٌ بِوَزْنِ كَتِفٍ ، وَالْأَرِبُ الْحَاذِقُ الْكَامِلُ أَيْ : هُوَ أَرِبٌ فَحَذَفَ الْمُبْتَدَأَ ثُمَّ سَأَلَ فَقَالَ " مَا لَهُ " أَيْ : مَا شَأْنُهُ .
وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ إعْلَامِهِ فَإِنَّ فِي إعْلَامِهِ زِيَادَةَ إيذَاءٍ لَهُ فَإِنَّ تَضَرُّرَ الْإِنْسَانِ بِمَا عَلِمَهُ مِنْ شَتْمِهِ أَبْلَغُ مِنْ تَضَرُّرِهِ بِمَا لَا يَعْلَمُ .
ثُمَّ قَدْ يَكُونُ سَبَبُ الْعُدْوَانِ عَلَى الظَّالِمِ أَوَّلًا إذْ النُّفُوسُ لَا تَقِفُ غَالِبًا عِنْدَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ ، فَتَبَصَّرْ هَذَا فَفِي إعْلَامِهِ هَذَانِ الْفَسَادَانِ .
وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ ثَالِثَةٌ وَلَوْ كَانَتْ بِحَقٍّ وَهُوَ زَوَالُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ كَمَالِ الْأُلْفِ وَالْمَحَبَّةِ ، أَوْ تَجَدُّدُ الْقَطِيعَةِ وَالْبِغْضَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْجَمَاعَةِ وَنَهَى عَنْ الْفُرْقَةِ .
وَهَذِهِ الْمَفْسَدَةُ قَدْ تَعْظُمُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ وَلَيْسَ فِي إعْلَامِهِ فَائِدَةٌ إلَّا تَمْكِينُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ كَمَا لَوْ عَلِمَ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعَاقِبَ إمَّا بِالْمِثْلِ إنْ أَمْكَنَ أَوْ بِالتَّعْزِيرِ أَوْ بِالْحَدِّ وَإِذَا كَانَ فِي الْإِيفَاءِ مِنْ الْجِنْسِ مَفْسَدَةٌ عُدِلَ إلَى غَيْرِ الْجِنْسِ كَمَا فِي الْقَذْفِ .
وَفِي الْفِدْيَةِ وَفِي الْجِرَاحِ إذَا خِيفَ الْحَيْفُ ، وَهُنَا قَدْ لَا يَكُونُ حَيْفٌ إلَّا فِي غَيْرِ الْجِنْسِ أَمَّا الْعُقُوبَةُ أَوْ الْأَخْذُ مِنْ الْحَسَنَاتِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ فَلْيَأْتِهِ فَلْيَسْتَحِلَّهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَيْسَ فِيهِ دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ إلَّا الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ فَإِنْ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ حَسَنَاتِ صَاحِبِهِ فَأُعْطِيَهَا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ فَأُلْقِيَتْ عَلَى صَاحِبِهِ ثُمَّ يُلْقَى فِي النَّارِ } .
وَإِذَا كَانَ فَيُعْطِيهِ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً بَدَلَ الْحَسَنَةِ فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ فَالدُّعَاءُ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارُ إحْسَانٌ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بَدَلَ الذَّمِّ لَهُ وَهَذَا عَامٌّ فِيمَنْ طَعَنَ عَلَى شَخْصٍ أَوْ لَعَنَهُ أَوْ تَكَلَّمَ بِمَا يُؤْذِيهِ أَمْرًا أَوْ خَبَرًا بِطَرِيقِ الْإِفْتَاءِ أَوْ التَّحْضِيضِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ أَعْمَالَ اللِّسَانِ أَعْظَمُ مِنْ أَعْمَالِ الْيَدِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا ، حَتَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلٍ ، أَوْ شُبْهَةٍ ثُمَّ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ فَإِنَّ كَفَّارَةَ ذَلِكَ أَنْ يُقَابِلَ الْإِسَاءَةَ إلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ بِالشَّهَادَةِ لَهُ بِمَا فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ وَالشَّفَاعَةِ لَهُ بِالدُّعَاءِ فَيَكُونُ الثَّنَاءُ وَالدُّعَاءُ بَدَلَ الطَّعْنِ وَاللَّعْنِ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا أَنْوَاعُ الطَّعْنِ وَاللَّعْنِ الْجَارِي بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ أَوْ غَيْرِ سَائِغٍ كَالتَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ كَمَا يَقَعُ بَيْنَ أَصْنَافِ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالنُّهَى مِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ تَارَةً بِتَأْوِيلٍ مُجَرَّدٍ ، وَتَارَةً بِتَأْوِيلٍ مَشُوبٍ بِهَوًى ، وَتَارَةً بِهَوًى مَحْضٍ ، بَلْ تَخَاصُمُ هَذَا الضَّرْبِ بِالْكَلَامِ وَالْكُتُبِ كَتَخَاصُمِ غَيْرِهِمْ بِالْأَيْدِي وَالسِّلَاحِ وَغَيْرِهِ ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِقِتَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالْبَغْيِ ، وَالطَّائِفَتَيْنِ الْبَاغِيَتَيْنِ ، الْعَادِلَتَيْنِ مِنْ وَجْهٍ وَالْبَاغِيَتَيْنِ مِنْ وَجْهٍ .
وَهَذَا بَابٌ نَافِعٌ جِدًّا وَالْحَاجَةُ إلَيْهِ مَاسَّةٌ جِدًّا فَعَلَى هَذَا لَوْ سَأَلَ الْمَقْذُوفُ وَالْمَسْبُوبُ لِقَاذِفِهِ هَلْ فَعَلَ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الِاعْتِرَافُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ إذْ تَوْبَتُهُ صَحَّتْ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّدَمِ وَفِي حَقِّ الْعَبْدِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَنَحْوِهِ ، وَهَلْ يَجُوزُ الِاعْتِرَافُ ، أَوْ يُسْتَحَبُّ ، أَوْ يُكْرَهُ ، أَوْ يَحْرُمُ ؟ الْأَشْبَهُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ فَقَدْ يَكُونُ الِاعْتِرَافُ أَصْفَى لِلْقُلُوبِ كَمَا يَجْرِي بَيْنَ الْأَوِدَّاءِ مِنْ ذَوِي الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ ، وَقَدْ تَكُونُ فِيهِ مَفْسَدَةُ الْعُدْوَانِ عَلَى النَّاسِ أَوْ رُكُوبُ كَبِيرَةٍ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِرَافُ قَالَ : وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَكْذِبَ بِالْجُحُودِ الصَّرِيحِ ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ الصَّرِيحَ مُحَرَّمٌ وَالْمُبَاحُ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ هَلْ هُوَ التَّعْرِيضُ أَوْ الصَّرِيحُ ؟ فِيهِ خِلَافٌ ، فَمَنْ جَوَّزَ الصَّرِيحَ هُنَاكَ فَهَلْ يُجَوِّزُهُ هُنَا ؟ فِيهِ نَظَرٌ وَلَكِنْ يُعَرِّضُ فَإِنَّ الْمَعَارِيضَ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُرْوَى عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّهُ بَلَغَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَيْءٌ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ بِالْمَعَارِيضِ وَقَالَ : أُرَقِّعُ دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ أَوْ كَمَا قَالَ .
وَعَلَى هَذَا فَإِذَا اُسْتُحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ وَيُعَرِّضَ ؛ لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ بِالِاسْتِحْلَافِ ، فَإِذَا كَانَ قَدْ تَابَ وَصَحَّتْ تَوْبَتُهُ لَمْ يَبْقَ لِذَلِكَ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلَا تَجِبُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ ، لَكِنْ مَعَ عَدَمِ التَّوْبَةِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْمَظْلُومِ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى عَدَاوَتِهِ وَظُلْمِهِ فَإِذَا أَنْكَرَ بِالتَّعْرِيضِ كَانَ كَاذِبًا فَإِذَا حَلَفَ كَانَتْ يَمِينُهُ غَمُوسًا .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَيْضًا : سُئِلْتُ عَنْ نَظِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ رَجُلٌ تَعَرَّضَ لِامْرَأَةِ غَيْرِهِ فَزَنَى بِهَا ثُمَّ تَابَ مِنْ ذَلِكَ وَسَأَلَهُ زَوْجُهَا عَنْ ذَلِكَ فَأَنْكَرَ فَطَلَبَ اسْتِحْلَافَهُ ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ كَانَتْ يَمِينُهُ غَمُوسًا ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ قَوِيَتْ التُّهْمَةُ ، وَإِنْ أَقَرَّ جَرَى عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا مِنْ الشَّرِّ أَمْرٌ عَظِيمٌ ؟ فَأَفْتَيْتُهُ أَنَّهُ يَضُمُّ إلَى التَّوْبَةِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى الْإِحْسَانَ إلَى الزَّوْجِ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ ، وَالصَّدَقَةِ عَنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ بِإِزَاءِ إيذَائِهِ لَهُ فِي أَهْلِهِ ، فَإِنَّ الزِّنَا بِهَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحَقُّ زَوْجِهَا مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ فِي عِرْضِهِ ، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يَنْجَبِرُ بِالْمِثْلِ كَالدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ ، بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْقَذْفِ الَّذِي جَزَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، فَتَكُونُ تَوْبَةُ هَذَا كَتَوْبَةِ الْقَاذِفِ ، وَتَعْرِيضُهُ كَتَعْرِيضِهِ ، وَحَلْفُهُ عَلَى التَّعْرِيضِ كَحَلْفِهِ .
وَأَمَّا لَوْ ظَلَمَهُ فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إيفَاءِ الْحَقِّ فَإِنَّ لَهُ بَدَلًا ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ وَبَيْنَ تَوْبَةِ الْقَاذِفِ .
وَهَذَا الْبَابُ وَنَحْوُهُ فِيهِ خَلَاصٌ عَظِيمٌ وَتَفْرِيجُ كُرُبَاتٍ لِلنُّفُوسِ مِنْ آثَارِ الْمَعَاصِي وَالْمَظَالِمِ فَإِنَّ الْفَقِيهَ كُلَّ الْفَقِيهِ الَّذِي لَا يُؤْيِسُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلَا يُجَرِّئُهُمْ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى .
وَجَمِيعُ النُّفُوسِ لَا بُدَّ أَنْ تُذْنِبَ فَتَعْرِيفُ النُّفُوسِ مَا يُخَلِّصُهَا مِنْ الذُّنُوبِ مِنْ التَّوْبَةِ وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَاتِ كَالْكَفَّارَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ فَوَائِدِ الشَّرِيعَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : فَإِنْ كَانَتْ الْمَظْلِمَةُ فَسَادَ زَوْجَةِ جَارِهِ أَوْ غَيْرِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَهَتْكِ فِرَاشِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : اُحْتُمِلَ أَنْ لَا يَصِحَّ إحْلَالُهُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُسْتَبَاحُ بِإِبَاحَتِهِ ابْتِدَاءً فَلَا يَبْرَأُ بِإِحْلَالِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَعِنْدِي أَنَّهُ يَبْرَأُ بِالْإِحْلَالِ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِلَّهُ فَإِنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَيَجُوزُ أَنْ يَبْرَأَ بِالْإِحْلَالِ بَعْدَ وُقُوعِ الْمَظْلِمَةِ وَلَا يَمْلِكُ إبَاحَتَهَا ابْتِدَاءً كَالدَّمِ وَالْقَذْفِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لَهُ أَنَّهُ يُلَاعِنُ زَوْجَتَهُ وَيَفْسَخُ نِكَاحَهَا لِأَجْلِ التُّهْمَةِ بِهِ وَغَلَبَةِ ذَلِكَ عَلَى ظَنِّهِ وَإِنَّمَا يُتَحَالَفُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ انْتَهَى كَلَامُهُ .

.
وَلِهَذَا يُؤْمَرُ الْعَبْدُ بِالتَّوْبَةِ كُلَّمَا أَذْنَبَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِشَيْخِهِ : إنِّي أُذْنِبُ قَالَ : تُبْ قَالَ : ثُمَّ أَعُودُ ، قَالَ : تُبْ قَالَ : ثُمَّ أَعُودُ ، قَالَ : تُبْ قَالَ : إلَى مَتَى قَالَ : إلَى أَنْ تُحْزِنَ الشَّيْطَانَ (1)
__________
(1) - وفي فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 5993)
رقم الفتوى 57184 الشيطان يقنط الناس من رحمة الله تعالى
تاريخ الفتوى : 10 ذو القعدة 1425
السؤال
. أنا شاب أبلغ من العمر 17 عاما ومشكلتي أني والحمد لله التزمت منذ 3 أشهر ولكني قمت بارتكاب كثير من الكبائر مثل عقوق الوالدين والزنا ولكني الحمد لله تبت إلى الله وأرجو أن يتقبل مني التوبة والذي يشغلني هو أني تنتابني بعض الوساوس بأن الله لن يغفر لي حيث أني أفعل الكثير من المعاصي ثم أنكث توبتي وأنا أعلم أن هذا قنوط من رحمة الله ولكن ماذا أفعل وينتابني أيضا بعض الأفكار السيئة مثل تخيل شكل الله عز وجل والمصيبة أني ذات مرة تخيلت الرسول عليه الصلاة والسلام في أوضاع وهو يجامع زوجاته وأشعر بالشك في دين الإسلام ولكني مطمئن إلى أني مسلم ولكن أريد أن أعرف ردا على تساؤلي وهو أني إذا دارت في نفسي أفكار سيئة ووساوس ولكني لم أؤمن بها هل أحاسب على تلك الأفكار أم لا وماذا أفعل بشأن فعل الكبائر هل أني عندما أتوب وأعمل أعمالا صالحة يتقبلها الله إن شاء؟! وأرجو الإفادة .جزاكم الله خيرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحمد لله أن وفقك للتوبة من هذه الكبائر قبل أن يدهمك الموت، وحينئذ لا ينفع الندم.
ونبشرك بأن الله يقبل توبة من جاءه نادما. قال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ {التوبة: 104}. وقال أيضا: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا {النساء: 110}.
فالتوبة تجب ما قبلها، وتمحو الذنوب السالفة. قال صلى الله عليه وسلم: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. بل إن التائب تتبدل سيئاته حسنات. قال تعالى بعد أن توعد مرتكبي الفواحش بالعذاب الأليم قال: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {الفرقان: 70}.
فأحسن الظن بربك وارج رحمته، ووازن بين خوفك منه وطمعك في سعة رحمته. قال تعالى عن المؤمنين: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا {السجدة: 16}. وانظر الفتوى رقم: 16907 .
وكما عققت والديك من قبل فأحسن إليهما الآن، فإن الحسنات يذهبن السيئات، واجتهد في تحصيل الزوجة الصالحة إن كان ذلك ممكنا لتحصن فرجك وتعف نفسك، فإن لم تستطع فاسرد الصوم، فإن له تأثيرا بالغا في كسر حدة الشهوة. قال صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء . رواه البخاري ومسلم .
واحذر من القنوط واليأس من رحمة الله. قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر: 53}.
واعلم أن الشيطان يقنط الناس من رحمة الله تعالى حتى يزهدوا في التوبة ولا يسارعوا إليها، ولذلك قال تعالى: إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ {يوسف: 87}. وقال أيضا: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ {الحجر: 56}.
فإذا وقعت في بعض المعاصي بعد أن تبت منها فجدد التوبة، فإن الله يفرح بتوبة العبد إذا جاء نادما. ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أذنب عبد ذنبا فقال: أي رب أذنبت ذنبا فاغفر لي، فقال: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنبا آخر، فقال أي رب أذنبت ذنبا آخر فاغفر لي، فقال ربه: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، فليفعل ما يشاء .
وقال بعض السلف لشيخه: إني أذنبت، قال: تب، قال ثم أعود، قال: تب، قال: ثم أعود، قال: تب، قال: إلى متى؟ قال: إلى أن تحزن الشيطان. وانظر الفتوى: 24031 .
واحذر الاسترسال مع ما يقع في قلبك من تخيلات بشأن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو تشكيك في دين الإسلام.
واعلم أن هذه الخواطر الرديئة لا تضرك إذا استعذت بالله من الشيطان الرجيم وانقطعت ولم تسترسل معها. قال صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به نفسها ما لم تعمل أو تتكلم . رواه البخاري ومسلم .
واعلم أن كونك ترفض هذه الوساوس وتستقبحها دليل على أن فيك إيمانا وخوفا من الله. وانظر الفتويين: 187 ، 7950 فإن فيهما بيان ذلك.
كما نوصيك بالبحث عن الشباب الصالحين المتمسكين بالدين فتنخرط فيهم، وتنتظم في سلكهم فتحافظ على الصلاة معهم في جماعة، وتتلو معهم القرآن، وتتعلم معهم العلم النافع، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
كما ننصحك بكثرة الاستماع إلى الأشرطة الإسلامية وبمطالعة كتاب في سيرة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى تزداد معرفة به وبأحواله، فيزداد حبك له فتحشر في زمرته.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
-------------
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 1324)
رقم الفتوى 61553 الوقوع في الذنب بعد التوبة منه
تاريخ الفتوى : 19 ربيع الأول 1426
السؤال
بالنسبة لموضوع الاستغفار, أجد نفسي في حيرة شديدة في فهم التناقض في بعض النصوص كالآتي: هناك أقوال تنص على أن المستغفر من الذنب لا ذنب له و إن عاد إلى الذنب في اليوم سبعين مرة (حديث نبوي) وأن العبد إذا ذكر أن له ربا بعد الزلة الثالثة فإن الله عز وجل يقول لعبده اعمل ما تشاء (حديث قدسي). كيف يمكن أن نضع هذه النصوص مع النصوص الأخرى والتى تنص على أن العائد إلى الذنب كالمستخف بربه وأنه لا تقبل توبة العبد إلا بعد أن ينوي الانقطاع من الذنب. فأحيانا يكون العبد صادقا في توبتة ومع ذلك يقع في الذنب مرة أخرى ولو بعد حين؟
أفيدونى أفادكم الله.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم أخي الكريم أن الله تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، لا سيما إن تاب صاحبه و حقق شروط التوبة وهي: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما فات، والعزم على أن لا يعود إلى الذنب مرة أخرى، وأن تكون التوبة قبل بلوغ الروح الحلقوم، وأن تكون التوبة في وقتها أي: قبل طلوع الشمس من مغربها، وكذلك ورد المظالم إلى أهلها إن كانت فيما له تعلق بحقوق الآدميين أو طلب العفو منهم، وإذا تاب المذنب من ذنب دون ذنب قبل الله توبته مما تاب منه، والواجب عليه أن يتوب من الجميع، فإذا عاد إلى الذنب فإن عليه أن يتوب وهكذا، ولا يستسلم للشيطان ويصر على الذنب فإن الوقوع في الذنب مصيبة والإصرار عليه مصيبة أعظم لأن الإنسان ليس معصوما عن المعاصي ولو كان تقيا، فقد قال الله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ*وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ*أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ {آل عمران:133ـ136}. وإذا استزلك الشيطان فضعفت بعد توبتك وأذنبت، فجدد لذنبك توبة، ففي الصحيحين: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أذنب عبد ذنبا، فقال: أي رب أذنبت ذنبا فاغفرلي ، فقال: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنبا آخر فقال: أي رب أذنبت ذنبا آخر، فاغفره لي، فقال ربه: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد
غفرت لعبدي فليفعل ما شاء، قال ذلك في الثالثة أو الرابعة ) أي ما دام يذنب ثم يستغفر. وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو لم تذنبوا لذهب لله بكم، ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم . وقال بعضهم لشيخه : إني أذنبت، قال: تب، قال: ثم أعود، قال: تب، قال: ثم أعود، قال: تب، قال: إلى متى؟ قال: إلى أن تحزن الشيطان . . ولا تعارض بين هذه الأحاديث وبين شرط التوبة وهو العزم على عدم العود إلى الذنب وأنها لاتصح إلا بذلك فإن الإنسان بشر معرض للوقوع في الذنب مرة أخرى بعد أن تاب منه التوبة المتضمنة للعزم على عدم العود، وقد جاء في النصوص السابقة ما يدل على ذلك ولم تعده مستخفا بربه لمجرد وقوعه في الذنب بعد توبته منه، ولم نقف على الحديث الذي ذكرته ولو صح فيحمل على محمل لايتعارض مع ما سبق كأن يكون أخل بشرط من شروط التوبة أو نحو ذلك مما لا يتعارض مع ما ثبت من النصوص التي سقناها سابقا. والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
--------------
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 5141)
رقم الفتوى 66163 هل تكرار الذنب وتكرار التوبة من الإصرار على المعصية
تاريخ الفتوى : 17 رجب 1426
السؤال
شاب تاب وندم على ما فعل واستقام على الطريق المستقيم... ولكن تبقى رواسب لجاهليته ويذنب ذنبا ما لا يستطيع أن يفارقه، ولكنه حينا بعد حين يلوم نفسه ويتوب من هذا الذنب، ولكنه سرعان ما يرجع.. فهل في ذلك إصرار على الذنب... مع العلم بأنه يتوب ويتألم من هذا الذنب، ولكنه سريعا ما يعود أو يبقى فترة من الزمن تائبا من هذا الذنب، ولكنه يرجع إليه... فهل هذا إصرار أم لا... وماذا يفعل هذا الشاب؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فعلى هذا الشاب أن يأخذ نفسه بالشدة ويفطمها عن هذا الذنب الذي يعاوده الفينة بعد الفينة، فيتوب منه توبة نصوحاً يعزم فيها على عدم العودة أبداً، وذلك لأنه لا يعلم متى تأتيه منيته، وليحذر أن يدركه الموت وهو قائم على معصية الله، فيختم له بخاتمة السوء والعياذ بالله، وانظر شروط التوبة النصوح في الفتوى رقم: 9694 ، والفتوى رقم: 5450 .
فإذا تاب توبة نصوحاً ثم زيَّن له الشيطان المعصية فزلت قدمه وقارفها، فليسارع إلى تجديد التوبة مرة أخرى، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ {الأعراف:201}، قال الحافظ ابن كثير : يخبر تعالى عن المتقين من عباده الذين أطاعوه فيما أمر وتركوا ما عنه زجر أنهم إذا مسهم: أي أصابهم طائف... ومنهم من فسره بالهم بالذنب، ومنهم من فسره بإصابة الذنب. وقوله: تذكروا: أي: عقاب الله وجزيل ثوابه ووعده ووعيده -فتابوا وأنابوا واستعاذوا بالله ورجعوا إليه من قريب، فإذا هم مبصرون: أي: قد استقاموا وصحوا مما كانوا فيه. انتهى. باختصار.
وكون هذا الشخص يقع في الذنب ثم يتوب ثم يقع في الذنب ثم يتوب ليس معناه أنه مصر عليه، بل قد يكون ذلك دليلاً على حبه لله ورغبته في التوبة، وكراهته للذنب والمعصية لأنه يكره المداومة على فعلها، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {آل عمران:135}، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن عبداً أصاب ذنبا وربما قال أذنب ذنباً فقال: رب أذنبت وربما قال: أصبت فاغفر لي، فقال ربه: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبا أو أذنب ذنبا، فقال رب: أذنبت أو أصبت آخر فاغفره، فقال: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا وربما قال: أصبت ذنبا، قال: قال رب أصبت أو قال أذنبت آخر فاغفره لي، فقال :علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدي ثلاثا فليعمل ما شاء. قال النووي: وفي الحديث أن الذنوب ولو تكررت مائة مرة بل ألفا وأكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته، أو تاب عن الجميع توبة واحدة صحت توبته. وقوله في الحديث: اعمل ما شئت. معناه: ما دمت تذنب فتتوب غفرت لك.
ولكن ليس في هذا الحديث ترخيص في فعل الذنوب، ولكن فيه الحث على التوبة لمن وقع في الذنب، وأنه لا يستمر على فعله، وقد قال بعضهم لشيخه: إني أذنبت، قال: تب، قال: ثم أعود، قال: تب، قال: ثم أعود، قال: تب، قال: إلى متى؟ قال: إلى أن تحزن الشيطان.
فكثرة التوبة من الأمور المحمودة عند الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون. رواه الترمذي وابن ماجه .
وينبغي للتائب أن يتخذ تدابير تعينه على الاستقامة والاستمرار على التوبة وعدم النكوص وتنكب الطريق، ومن هذه التدابير:
1- دعاء الله بذل وإلحاح أن يرزقه الاستقامة وأن يعينه على التمسك بدينه، وخير ما يُدعى به ما كان يدعو به رسول الله صلى الله عيله وسلم: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. رواه الترمذي .
2- اجتناب أماكن المعصية وأصدقاء السوء الذين يزينون المعاصي له ويرغبونه فيها، وفي المقابل اتخاذ رفقة صالحة من الشباب المستقيم المتمسك بالدين، فإن صحبتهم من أعظم أسباب الاستقامة والثبات على التوبة بعد الله تعالى، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، وقد قال الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا {الكهف:28}، فعلى ذلك التائب أن يفتش عن هؤلاء الشباب، فيعبد الله معهم ويتعاون معهم على فعل الخيرات وطلب العلم النافع، وللمزيد من الفائدة انظر الفتاوى ذات الأرقام التالية: 10800 ، 1208 ، 16610 ، 12744 ، 21743 .
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه

. وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : « إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ »(1). وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَصَلَاتُهُ إذَا اسْتَيْقَظَ(2) أَوْ ذَكَرَهَا كَفَّارَةً لَهَا تَبْرَأُ بِهَا الذِّمَّةُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ ،وَيَرْتَفِعُ عَنْهُ الذَّمُّ وَالْعِقَابُ وَيَسْتَوْجِبُ بِذَلِكَ الْمَدْحَ وَالثَّوَابَ ،وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ فَلَا نَعْلَمُ الْقَدْرَ الَّذِي يَقُومُ ثَوَابُهُ مَقَامَ ذَلِكَ وَلَوْ عُلِمَ فَقَدْ لَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ مَعَ سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ، ثُمَّ إذَا قَدَّرَ أَنَّهُ أُمِرَ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ صَارَ وَاجِبًا فَلَا يَكُونُ تَطَوُّعًا، وَالتَّطَوُّعَاتُ شُرِعَتْ لِمَزِيدِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ } الْحَدِيثَ(3)
__________
(1) - مسند أحمد برقم(615) والدولابى 2/62 والفضائل ( 1191) والحلية 3/178 -179 وبنحوه الشعب ( 7120 و 7121 و 7122) مرفوعاً وموقوفاً والإتحاف 8/595
وهو حسن لغيره
المفتن : الممتحن يمتحنه الله بالذنب ثم يتوب
(2) - سنن الدارمى برقم(1276)عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « مَنْ نَسِىَ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِى) » صحيح .
(3) - صحيح البخارى برقم(6502 )عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِى عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ » .
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 342)
قَوْله ( وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا اِفْتَرَضْت عَلَيْهِ ) يَجُوزُ فِي " أَحَبّ " الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا اللَّفْظِ جَمِيعُ فَرَائِضِ الْعَيْنِ وَالْكِفَايَةِ ، وَظَاهِرُهُ الِاخْتِصَاصُ بِمَا اِبْتَدَأَ اللَّه فَرْضِيَّتَهُ ، وَفِي دُخُول مَا أَوْجَبَهُ الْمُكَلَّف عَلَى نَفْسِهِ نَظَرٌ لِلتَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ اِفْتَرَضْت عَلَيْهِ ، إِلَّا إِنْ أُخِذَ مِنْ جِهَة الْمَعْنَى الْأَعَمِّ ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ أَدَاء الْفَرَائِض أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّه . قَالَ الطُّوفِيُّ : الْأَمْرُ بِالْفَرَائِضِ جَازِمٌ وَيَقَعُ بِتَرْكِهَا الْمُعَاقَبَةُ بِخِلَافِ النَّفْلِ فِي الْأَمْرَيْنِ وَإِنْ اِشْتَرَكَ مَعَ الْفَرَائِضِ فِي تَحْصِيلِ الثَّوَابِ فَكَانَتْ الْفَرَائِضُ أَكْمَلَ ، فَلِهَذَا كَانَتْ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَشَدَّ تَقْرِيبًا ، وَأَيْضًا فَالْفَرْضُ كَالْأَصْلِ وَالْأُسِّ وَالنَّفْلُ كَالْفَرْعِ وَالْبِنَاءِ ، وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْفَرَائِضِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ اِمْتِثَالُ الْأَمْرِ وَاحْتِرَامُ الْآمِرِ وَتَعْظِيمُهُ بِالِانْقِيَادِ إِلَيْهِ وَإِظْهَارُ عَظَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ فَكَانَ التَّقَرُّبُ بِذَلِكَ أَعْظَمَ الْعَمَلِ ، وَاَلَّذِي يُؤَدِّي الْفَرَائِض قَدْ يَفْعَلهُ خَوْفًا مِنْ الْعُقُوبَةِ وَمُؤَدِّي النَّفْلِ لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا إِيثَارًا لِلْخِدْمَةِ فَيُجَازَى بِالْمَحَبَّةِ الَّتِي هِيَ غَايَةُ مَطْلُوبِ مَنْ يَتَقَرَّبُ بِخِدْمَتِهِ .
قَوْله ( وَمَا زَالَ ) فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " وَمَا يَزَالُ " بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَةِ .
قَوْله ( يَتَقَرَّب إِلَيَّ ) التَّقَرُّب طَلَبُ الْقُرْبِ ، قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْقُشَيْرِيُّ : قُرْبُ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ يَقَعُ أَوَّلًا بِإِيمَانِهِ ، ثُمَّ بِإِحْسَانِهِ . وَقُرْبُ الرَّبِّ مِنْ عَبْدِهِ مَا يَخُصُّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ عِرْفَانِهِ ، وَفِي الْآخِرَة مِنْ رِضْوَانه ، وَفِيمَا بَيْن ذَلِكَ مِنْ وُجُوه لُطْفه وَامْتِنَانه . وَلَا يَتِمُّ قُرْبُ الْعَبْدِ مِنْ الْحَقِّ إِلَّا بِبَعْدِهِ مِنْ الْخَلْقِ . قَالَ : وَقُرْب الرَّبّ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عَامٌّ لِلنَّاسِ ، وَبِاللُّطْفِ وَالنُّصْرَةِ خَاصٌّ بِالْخَوَاصِّ ، وَبِالتَّأْنِيسِ خَاصٌّ بِالْأَوْلِيَاءِ . وَوَقَعَ فِي حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ " يَتَحَبَّبُ إِلَىَّ " بَدَلَ " يَتَقَرَّبُ " وَكَذَا فِي حَدِيث مَيْمُونَةَ .
قَوْله ( بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أَحْبَبْته ) فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " أُحِبَّهُ " ظَاهِرُهُ أَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ تَقَعُ بِمُلَازَمَةِ الْعَبْدِ التَّقَرُّبَ بِالنَّوَافِلِ ، وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ بِمَا تَقَدَّمَ أَوَّلًا أَنَّ الْفَرَائِضَ أَحَبُّ الْعِبَادَاتِ الْمُتَقَرَّبِ بِهَا إِلَى اللَّهِ فَكَيْفَ لَا تُنْتِجُ الْمَحَبَّةَ ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ النَّوَافِلِ مَا كَانَتْ حَاوِيَةً لِلْفَرَائِضِ مُشْتَمِلَةً عَلَيْهَا وَمُكَمِّلَةً لَهَا ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ " اِبْن آدَم . إِنَّك لَنْ تُدْرِكَ مَا عِنْدِي إِلَّا بِأَدَاءِ مَا اِفْتَرَضْت عَلَيْك " وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ : مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّهُ إِذَا أَدَّى الْفَرَائِض وَدَامَ عَلَى إِتْيَان النَّوَافِل مِنْ صَلَاة وَصِيَام وَغَيْرهمَا أَفْضَى بِهِ ذَلِكَ إِلَى مَحَبَّة اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ اِبْن هُبَيْرَة : يُؤْخَذ مِنْ قَوْله " مَا تَقْرَب إِلَخْ " أَنَّ النَّافِلَة لَا تُقَدَّمُ عَلَى الْفَرِيضَة ، لِأَنَّ النَّافِلَة إِنَّمَا سُمِّيَتْ نَافِلَةً لِأَنَّهَا تَأْتِي زَائِدَةً عَلَى الْفَرِيضَةِ ، فَمَا لَمْ تُؤَدَّ الْفَرِيضَةُ لَا تَحْصُلُ النَّافِلَةُ ، وَمَنْ أَدَّى الْفَرْضَ ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ النَّفْل وَأَدَامَ ذَلِكَ تَحَقَّقَتْ مِنْهُ إِرَادَةُ التَّقَرُّبِ اِنْتَهَى . وَأَيْضًا فَقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّ التَّقَرُّبَ يَكُون غَالِبًا بِغَيْرِ مَا وَجَبَ عَلَى الْمُتَقَرِّب كَالْهَدِيَّةِ وَالتُّحْفَة بِخِلَافِ مَنْ يُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِنْ خَرَاجٍ أَوْ يَقْضِي مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ . وَأَيْضًا فَإِنَّ مِنْ جُمْلَة مَا شُرِعَتْ لَهُ النَّوَافِل جَبْر الْفَرَائِض كَمَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِم " اُنْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَتَكْمُلُ بِهِ فَرِيضَتُهُ " الْحَدِيث بِمَعْنَاهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ التَّقَرُّب بِالنَّوَافِلِ أَنْ تَقَع مِمَّنْ أَدَّى الْفَرَائِضَ لَا مَنْ أَخَلَّ بِهَا كَمَا قَالَ بَعْض الْأَكَابِرِ : مَنْ شَغَلَهُ الْفَرْضُ عَنْ النَّفْلِ فَهُوَ مَعْذُورٌ وَمَنْ شَغَلَهُ النَّفْلُ عَنْ الْفَرْضِ فَهُوَ مَغْرُورٌ .

، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ قَدْ أَدَّى الْفَرَائِضَ كَمَا أُمِرَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَقْصُودُ النَّوَافِلِ، وَلَا يَظْلِمُهُ اللَّهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ (1)بَلْ يُقِيمُهَا مَقَامَ نَظِيرِهَا مِنْ الْفَرَائِضِ، كَمَنْ عَلَيْهِ دُيُونٌ لِأُنَاسِ يُرِيدُ أَنْ يَتَطَوَّعَ لَهُمْ بِأَشْيَاءَ : فَإِنْ وَفَّاهُمْ وَتَطَوَّعَ لَهُمْ كَانَ عَادِلًا مُحْسِنًا(2) . وَإِنْ وَفَّاهُمْ وَلَمْ يَتَطَوَّعْ كَانَ عَادِلًا ، وَإِنْ أَعْطَاهُمْ مَا يَقُومُ مَقَامَ دِينِهِمْ وَجَعَلَ ذَلِكَ تَطَوُّعًا كَانَ غالطا فِي جَعْلِهِ ؛ بَلْ يَكُونُ مِنْ الْوَاجِبِ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ .
وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ " الْمُعْتَزِلَةَ (3)
__________
(1) - قال تعالى : {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (40) سورة النساء
(2) - سنن ابن ماجه برقم(2287 )عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى » وهو صحيح لغيره.
(3) - وفي فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 4108)
رقم الفتوى 17236 المعتزلة..ماهيتهم..عقائدهم..المعتزلة الجدد
تاريخ الفتوى : 16 ذو الحجة 1424
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم
السؤال:ما الفرق بين كل من أهل السنة,والمرجئة,والمعتزلة,والأشاعرة,الماتريدية؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد سبق الفرق بين أهل السنة وبين الأشاعرة والماتريدية في الفتوى رقم:
10400 16542 10346
وأما الفرق بينهم وبين المعتزلة فيتضح ذلك ببيان عقيدة المعتزلة، وهذه نبذه مختصرة عنهم وعن عقيدتهم، ومن أراد التوسع فليراجع كتب العقائد كشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز وكتب شيخ الإسلام كالعقيدة التدمرية، ودرء تعارض العقل والنقل .. وسموا المعتزلة لأن واصل بن عطاء اعتزل مجلس الحسن البصري وقدر أن مرتكب الكبيرة كالزنا وشرب الخمر لا مؤمن ولا كافر في الدنيا بل هو في منزلة بين المنزلتين كالمسافر بين بلدين لاينسب لإحداهما. وأما في الآخرة فهو مخلد في النار إن لم يتب. وقيل سموا بذلك لأنهم أوجبوا اعتزال مرتكب الكبيرة ومقاطعته.
ثم حرروا مذهبهم في خمسة أصول وهي:
الأول التوحيد: ويقصدون به نفي صفات الله، وقالوا: إن الصفات ليست شيئاً غير الذات وإلا تعدد القدماء في نظرهم، ولذلك نفوا رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وقالوا بخلق القرآن إلى غير ذلك من الضلال.
الثاني العدل : ويقصدون به أن الله لايخلق أفعال العباد ولايريد الفساد بل العباد هم الذين يفعلونها بالقدرة التي جعلها الله فيهم، وأنه لا يأمر إلا بما يريد ولا ينهى إلا عما يكره، ولم يهتدوا إلى التفريق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، ولوا اهتدوا إلى ذلك لعلموا أن الله يريد الكفر والفساد بالإرادة الكونية لحكمة يعلمها سبحانه، ولا يريدها بالإرادة الشرعية. وبين الإرادتين فوارق من أهمها أن الإرادة الكونية لا تلازمها المحبة، وأما الإرادة الشرعية فإنها تلازمها المحبة. فلا يريد الله شيئاً إرادة شرعية إلا وهو يحبه سبحانه.
الثالث الوعد والوعيد: ويقصدون به أن الله يجازي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته ولايغفر لمرتكب الكبيرة، فعدله يقتضي ذلك وهو أنه لا يغفر له، ومن ثم أنكروا الشفاعة لأهل الكبائر.
الرابع المنزلة بين المنزلتين: في حق مرتكب الكبيرة. وقد سبق بيان هذا.
الخامس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ويقصدون به وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن هذا الأصل قالوا بوجوب الخروج على الحاكم إذا خالف وانحرف عن الحق؛ ولو لم يكن ما ارتكبه كفراً بواحاً. ومن مبادئ المعتزلة الاعتماد على العقل كلياً وتقديمه على النقل في مسائل العقائد وغيرها. والقول بأن النقل الصحيح يعارض العقل الصريح دعوى مفتعلة منقوضة من أساسها، بل الشرع والعقل يتوافقان ولله الحمد والمنة، وعند توهم التعارض يقدم النقل لأنه عن المعصوم.
وللأسف الشديد يحاول بعض الكتاب والمفكرين إحياء الاعتزال من جديد بعد أن عفى عليه الزمن أو كاد، فألبسوه ثوباً جديداً وأطلقوا عليه أسماء جديدة مثل: العقلانية، والتنوير، والتجديد، والتحرر الفكري، والمعاصرة، والتيار الديني المستنير ونحو ذلك. ولكن تصدى لهم أهل السنة والجماعة وفضحوهم وبينوا عوارهم ولله الحمد والمنة. كما تصدى أهل الحق لأسلافهم من قبل.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه

" يَفْتَخِرُونَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ " التَّوْحِيدِ " وَ " الْعَدْلِ " وَهُمْ فِي تَوْحِيدِهِمْ نَفَوْا الصِّفَاتِ نَفْيًا يَسْتَلْزِمُ التَّعْطِيلَ وَالْإِشْرَاكَ . وَأَمَّا " الْعَدْلُ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ " فَهُوَ أَنْ لَا يَظْلِمَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَأَنَّهُ : مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (1)،وَهُمْ يَجْعَلُونَ جَمِيعَ حَسَنَاتِ الْعَبْدِ وَإِيمَانِهِ حَابِطًا بِذَنْبِ وَاحِدٍ مِنْ الْكَبَائِرِ ،وَهَذَا مِنْ الظُّلْمِ الَّذِي نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْهُ فَكَانَ وَصْفُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْعَدْلِ الَّذِي وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْلَى مِنْ جَعْلِ الْعَدْلِ هُوَ التَّكْذِيبُ بِقَدَرِ اللَّهِ .
( الْخَامِسُ ) : أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شَيْئًا يُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ إلَّا الْكُفْرَ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ شَيْئًا يُحْبِطُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ إلَّا التَّوْبَةَ . وَ " الْمُعْتَزِلَةُ مَعَ الْخَوَارِجِ " يَجْعَلُونَ الْكَبَائِرَ مُحْبِطَةً لِجَمِيعِ الْحَسَنَاتِ حَتَّى الْإِيمَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(2)
__________
(1) - قال تعالى : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ(7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) }سورة الزلزلة
(2) - وفي تفسير الرازي - (ج 3 / ص 269)
المسألة الثالثة : ظاهر الآية يقتضي أن الارتداد إنما يتفرع عليه الأحكام المذكورة إذا مات المرتد على الكفر ، أما إذا أسلم بعد الردة لم يثبت شيء من هذه الأحكام ، وقد تفرع على هذه النكتة بحث أصولي وبحث فروعي ، أما البحث الأصولي فهو أن جماعة من المتكلمين زعموا أن شرط صحة الإيمان والكفر حصول الموافاة ، فالإيمان لا يكون إيماناً إلا إذا مات المؤمن عليه والكفر لا يكون كفراً إلا إذا مات الكافر عليه ، قالوا : لأن من كان مؤمناً ثم ارتد والعياذ بالله فلو كان ذلك الإيمان الظاهر إيماناً في الحقيقة لكان قد استحق عليه الثواب الأبدي ، ثم بعد كفره يستحق العقاب الأبدي فإما أن يبقى الاستحقاقان وهو محال ، وإما أن يقال : إن الطارىء يزيل السابق وهذا محال لوجوه أحدها : أن المنافاة حاصلة بين السابق والطارىء ، فليس كون الطارىء مزيلاً للسابق أولى من كون السابق دافعاً للطارىء ، بل الثاني أولى لأن الدفع أسهل من الرفع وثانيها : أن المنافاة إذا كانت حاصلة من الجانبين ، كان شرط طريان الطارىء زوال السابق فلو عللنا زوال السابق بطريان الطارىء لزم الدور وهو محال وثالثها : أن ثواب الإيمان السابق وعقاب الكفر الطارىء ، إما أن يكونا متساويين أو يكون أحدهما أزيد من الآخر ، فإن تساويا وجب أن يتحابط كل واحد منهما بالآخر ، فحينئذ يبقى المكلف لا من أهل الثواب ولا من أهل العقاب وهو باطل بالإجماع ، وإن ازداد أحدهما على الآخر ، فلنفرض أن السابق أزيد ، فعند طريان الطارىء لا يزول إلا ما يساويه ، فحينئذ يزول بعض الاستحقاقات دون البعض مع كونها متساوية في الماهية ، فيكون ذلك ترجيحاً من غير مرجح وهو محال ، لنفرض أن السابق أقل فحينئذ إما أن يكون الطارىء الزائد ، يكون جملة أجزائه مؤثرة في إزالة السابق فحينئذ يجتمع على الأثر الواحد مؤثرات مستقلة وهو محال ، وإما أن يكون المؤثر في إزالة السابق بعض أجزاء الطارىء دون البعض ، وحينئذ يكون اختصاص ذلك البعض بالمؤثرية ترجيحاً للمثل من غير مرجح وهو محال ، فثبت بما ذكرنا أنه إذا كان مؤمناً ثم كفر ، فذلك الإيمان السابق ، وإن كنا نظنه إيماناً إلا أنه ما كان عند الله إيماناً ، فظهر أن الموافاة شرط لكون الإيمان إيماناً ، والكفر كفراً ، وهذا هو الذي دلت الآية عليه ، فإنها دلت على أن شرط كون الردة موجبة لتلك الأحكام أن يموت المرتد على تلك الردة .
أما البحث الفروعي : فهو أن المسلم إذا صلى ثم ارتد ثم أسلم في الوقت قال الشافعي رحمه الله : لا إعادة عليه ، وقال أبو حنيفة رحمه الله : لزمه قضاء ما أدى وكذلك الحج ، حجة الشافعي رضي الله تعالى عنه قوله تعالى : { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم } شرط في حبوط العمل أن يموت وهو كافر ، وهذا الشخص لم يوجد في حقه هذا الشرط ، فوجب أن لا يصير عمله محبطاً ، فإن قيل : هذا معارض بقوله :{ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 88 ] وقوله : { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [ المائدة : 5 ] لا يقال : حمل المطلق على المقيد واجب .
لأنا نقول : ليس هذا من باب المطلق والمقيد ، فإنهم أجمعوا على أن من علق حكماً بشرطين ، وعلقه بشرط أن الحكم ينزل عند أيهما وجد ، كمن قال لعبده : أنت حر إذا جاء يوم الخميس ، أنت حر إذا جاء يوم الخميس والجمعة : لا يبطل واحد منهما ، بل إذا جاء يوم الخميس عتق ، ولو كان باعه فجاء يوم الخميس ولم يكن في ملكه ، ثم اشتراه ثم جاء يوم الجمعة وهو في ملكه عتق بالتعليق الأول .
والسؤال الثاني : عن التمسك بهذه الآية أن هذه الآية دلت على أن الموت على الردة شرط لمجموع الأحكام المذكورة في هذه الآية ، ونحن نقول به فإن من جملة هذه الأحكام : الخلود في النار وذلك لا يثبت إلا مع هذا الشرط ، وإنما الخلاف في حبط الأعمال ، وليس في الآية دلالة على أن الموت على الردة شرط فيه .
والجواب : أن هذا من باب المطلق والمقيد لا من باب التعليق بشرط واحد وبشرطين ، لأن التعليق بشرط وبشرطين إنما يصح لو لم يكن تعليقه بكل واحد منهما مانعاً من تعليقه بالآخر ، وفي مسألتنا لو جعلنا مجرد الردة مؤثراً في الحبوط لم يبق للموت على الردة أثر في الحبوط أصلاً في شيء من الأوقات ، فعلمنا أن هذا ليس من باب التعليق بشرط وبشرطين بل من باب المطلق والمقيد .
وأما السؤال الثاني : فجوابه أن الآية دلت على أن الردة إنما توجب الحبوط بشرط الموت على الردة ، وإنما توجب الخلود في النار بشرط الموت على الردة ، وعلى هذا التقدير فذلك السؤال ساقط .
أما قوله تعالى : { فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والأخرة } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال أهل اللغة أصل الحبط أن تأكل الإبل شيئاً يضرها فتعظم بطونها فتهلك وفي الحديث « وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم » فسمى بطلان الأعمال بهذا لأنه كفساد الشيء بسبب ورود المفسد عليه .
المسألة الثانية : المراد من إحباط العمل ليس هو إبطال نفس العمل ، لأن العمل شيء كما وجد فني وزال ، وإعدام المعدوم محال ، ثم اختلف المتكلمون فيه ، فقال المثبتون للإحباط والتكفير : المراد منه أن عقاب الردة الحادثة يزيل ثواب الإيمان السابق ، إما بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي هاشم وجمهور المتأخرين من المعتزلة أولاً بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي علي ، وقال المنكرون للإحباط بهذا المعنى المراد من الإحباط الوارد في كتاب الله هو أن المرتد إذا أتى بالردة فتلك الردة عمل محبط لأن الآتي بالردة كان يمكنه أن يأتي بدلها بعمل يستحق به ثواباً فإذا لم يأت بذلك العمل الجيد وأتى بدله بهذا العمل الرديء الذي لا يستفيد منه نفعاً بل يستفيد منه أعظم المضار يقال : إنه أحبط عمله أي أتى بعمل باطل ليس فيه فائدة بل فيه مضرة ، ثم قال المنكرون للإحباط هذا الذي ذكرناه في تفسير الإحباط ، إما أن يكون حقيقة في لفظ الإحباط ، وإما أن لا يكون ، فإن كان حقيقة فيه وجب المصير إليه ، وإن كان مجازاً وجب المصير إليه ، لأنا ذكرنا الدلائل القاطعة في مسألة أن الموافاة شرط في صحة الإيمان ، على أن القول بأن أثر الفعل الحادث يزيل أثر الفعل السابق محال .
المسألة الثالثة : أما حبوط الأعمال في الدنيا ، فهو أنه يقتل عند الظفر به ويقاتل إلى أن يظفر به ولا يستحق من المؤمنين موالاة ولا نصراً ولا ثناء حسناً ، وتبين زوجته منه ولا يستحق الميراث من المسلمين ، ويجوز أن يكون المعنى في قوله : { حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا } أن ما يريدونه بعد الردة من الإضرار بالمسلمين ومكايدتهم بالإنتقال عن دينهم يبطل كله ، فلا يحصلون منه على شيء لإعزاز الله الإسلام بأنصاره فتكون الأعمال على هذا التأويل ما يعملونه بعد الردة ، وأما حبوط أعمالهم في الآخرة فعند القائلين بالإحباط معناه أن هذه الردة تبطل استحقاقهم للثواب الذي استحقوه بأعمالهم السالفة ، وعند المنكرين لذلك معناه : أنهم لا يستفيدون من تلك الردة ثواباً ونفعاً في الآخرة بل يستفيدون منها أعظم المضار ، ثم بين كيفية تلك المضرة فقال تعالى : { وَأُوْلئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } .
وفي ظلال القرآن - (ج 1 / ص 208)
ومن يرتدد عن الإسلام وقد ذاقه وعرفه؛ تحت مطارق الأذى والفتنة - مهما بلغت - هذا مصيره الذي قرره الله له . . حبوط العمل في الدنيا والآخرة . ثم ملازمة العذاب في النار خلوداً .
إن القلب الذي يذوق الإسلام ويعرفه ، لا يمكن أن يرتد عنه ارتداداً حقيقياً أبداً . إلا إذا فسد فساداً لا صلاح له . وهذا أمر غير التقية من الأذى البالغ الذي يتجاوز الطاقة . فالله رحيم . رخص للمسلم - حين يتجاوز العذاب طاقته - أن يقي نفسه بالتظاهر ، مع بقاء قلبه ثابتاً على الإسلام مطمئناً بالإيمان . ولكنه لم يرخص له في الكفر الحقيقي ، وفي الارتداد الحقيقي ، بحيث يموت وهو كافر . . والعياذ بالله . .
وهذا التحذير من الله قائم إلى آخر الزمان . . ليس لمسلم عذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك دينه ويقينه ، ويرتد عن إيمانه وإسلامه ، ويرجع عن الحق الذي ذاقه وعرفه . . وهناك المجاهدة والمجالدة والصبر والثبات حتى يأذن الله . والله لا يترك عباده الذين يؤمنون به ، ويصبرون على الأذى في سبيله . فهو معوضهم خيراً : إحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة .

(217) سورة البقرة ، فَعَلَّقَ الْحُبُوطَ بِالْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِكَافِرِ وَالْمُعَلَّقُ بِشَرْطِ يَعْدَمُ عِنْدَ عَدَمِهِ . وَقَالَ تَعَالَى :{.. وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(1) (5) سورة المائدة ،وَقَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْأَنْبِيَاءَ : { وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)}(2)
__________
(1) - وفي الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 1182)
أي : ومن يكفر بشرائع الله وبتكاليفه التي أنزلها على نبيه صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله ، أي : خاب سعيه . وفسد عمله الذي عمله . وهو في الآخرة من الهالكين الذين ضيعوا ما عملوه في الدنيا من أعمال بسبب انتهاكهم لحرمات الله وأحكام دينه .
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة : الترهيب من مخالفة أوامر الله والترغيب في طاعته - سبحانه - .
وفي ظلال القرآن - (ج 2 / ص 321)
إن هذه التشريعات كلها منوطة بالإيمان؛ وتنفيذها كما هي هو الإيمان؛ أو هو دليل الإيمان . فالذي يعدل عنها إنما يكفر بالإيمان ويستره ويغطيه ويجحده . والذي يكفر بالإيمان يبطل عمله ويصبح رداً عليه لا يقبل منه ، ولا يقر عليه . . والحبوط مأخوذ من انتفاخ الدابة وموتها إذا رعت مرعى ساماً . . وهو تصوير لحقيقة العمل الباطل . فهو ينتفخ ثم ينعدم أثره كالدابة التي تتسمم وتنتفخ وتموت . . وفي الآخرة تكون الخسارة فوق حبوط العمل وبطلانه في الدنيا . .
وهذا التعقيب الشديد ، والتهديد المخيف ، يجيء على إثر حكم شرعي يختص بحلال وحرام في المطاعم والمناكح . . فيدل على ترابط جزئيات هذا المنهج؛ وأن كل جزئية فيه هي « الدين » الذي لا هوادة في الخلاف عنه ، ولا قبول لما يصدر مخالفاً له في الصغير أو في الكبير .
(2) - وفي ظلال القرآن - (ج 1 / ص 163)
وهذا تقرير لينابيع الهدى في هذه الأرض . فهدى الله للبشر يتمثل فيما جاءت به الرسل . وينحصر المستيقن منه , والذي يجب اتباعه , في هذا المصدر الواحد , الذي يقرر الله - سبحانه - أنه هو هدى الله ; وأنه هو الذي يهدي إليه من يختار من عباده . . ولو أن هؤلاء العباد المهديين حادوا عن توحيد الله , وتوحيد المصدر الذي يستمدون منه هداه , وأشركوا بالله في الاعتقاد أو العبادة أو التلقي , فإن مصيرهم أن يحبط عنهم عملهم:أي ان يذهب ضياعا , ويهلك كما تهلك الدابة التي ترعى نبتا مسموما فتنتفخ ثم تموت . . وهذا هو الأصل اللغوي للحبوط !
وفي الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 1495)
وقوله { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أى ، ولو فرض أن أشرك بالله أولئك المهديون المختارون لبطل وسقط عنهم ثواب ما كانوا يعملونه من أعمال صالحة فكيف بغيرهم .
قال ابن كثير : فى هذه الآية تشديد لأمر الشرك وتغليظ لشأنه ، وتعظيم لملابسته ، كقوله - تعالى - { وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } والشرط لا يقتضى جواز الوقوع ، فهو كقوله ، { قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } وكقوله : { لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ } وقوله { أولئك الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب والحكم والنبوة } اسم الإشارة فيه يعود إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية عشرة والمعطوفين عليهم باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية وغيرها من النعوت الجليلة .
وقصر بعضهم عودته على الأنبياء فحسب وإليه ذهب ابن جرير والرازى أى : أولئك المصطفون الأخيار هم الذين آتيناهم الكتاب أى جنسه المتحقق فى ضمن أى فرد كان من أفراد الكتب السماوية .
والمرد بإيتائه : التفهيم التام لما اشتمل عليه من حقائق وأحكام ، وذلك أعم من أن يكون بالإنزال ابتداء أو بالإيراث بقاء ، فإن المذكورين لم ينزل على كل واحد منهم كتاب معين .
والحكم أى : الحكمة وهى علم الكتاب ومعرفة ما فيه من الأحكام . أو الإصابة فى القول والعمل . أو القضاء بين الناس بالحق .
و { والنبوة } أى : الرسالة .
وقوله { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ } أى : فإن يكفر بهذه الثلاث التى اجتمعت فيك يا محمد هؤلاء المشركون من أهل مكة ، فلن يضرك كفرهم لأنا قد وفقنا للإيمان بها قوما كراما ليسوا بها بكافرين فى وقت من الأوقات وإنما هم مستمرون على الإيمان بك والتصديق برسالتك وفى ذلك ما فيه من التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن إعراض بعض قومه عن دعوته .
والمراد بالقوم الذين وكلوا بالقيام بحق هذه الرسالة ووفقوا للإيمان بها أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار مطلقاً ، لأنهم هم الذين دافعوا عن دعوة الإسلام وبذلوا فى سبيل إعلانها نفوسهم وأموالهم ، ويدخل معهم كل من سار على نهجهم فى كل زمان ومكان .
وقيل : المراد بهم أهل المدينة من الأنصار . وقيل : المراد بهم الأنبياء المذكورون وأتباعهم ، وقيل غير ذلك .
والذى نراه أن الرأى الأول ارجح لأن أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم هم المقابلون لكفار قريش الذين كفروا بها .
وفى التكنية عن توفيقهم للإيمان بها بالتوكيل الذى أصله الحفظ للشىء ومراعاته ، وإيذان بفخامة وعلو قدرها .
قال الإمام الرازى : " دلت هذه الآية على أن الله - تعالى - سينصر نبيه ، ويقوى دينه ، ويجعله مستعليا على كل من عاداه ، قاهراً لكل من نازعه ، وقد وقع هذا الذى أخبر الله عنه فى هذا الموضع ، فكان جاريا مجرى الإخبار عن الغيب فيكون معجزاً " .

[الأنعام/87-88] ، وَقَالَ : {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (65) سورة الزمر، مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :{إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا }(1)
__________
(1) - وفي الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 1520)
وفي قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } ردّ على الخوارج؛ حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر . وقد تقدّم القول في هذا المعنى . وروى الترمذِيّ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ما في القرآن آية أحبّ إليّ من هذه الآية : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ } ( قال ) : هذا حديث غريب . قال ابن فُورَك : وأجمع أصحابنا على أنه لا تخليد إلا للكافر ، وأن الفاسق من أهل القبلة إذا مات غير تائب فإنه إن عُذب بالنار فلا مَحالة أنه يخرج منها بشفاعة الرسول؛ أو بابتداء رحمةٍ من الله تعالى . وقال الضحاك : إن شيخاً من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا ، إلا أني لم أُشرِك بالله شيئاً منذ عرفته وآمنت به ، فما حالي عند الله؟ فأنزل الله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ } .
وفي تفسير الرازي - (ج 5 / ص 227)
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : هذه الآية دالة على أن اليهودي يسمى مشركا في عرف الشرع ، ويدل عليه وجهان : الأول : أن الآية دالة على أن ما سوى الشرك مغفور ، فلو كانت اليهودية مغايرة للشرك لوجب أن تكون مغفورة بحكم هذه الآية ، وبالاجماع هي غير مغفورة ، فدل على أنها داخلة تحت اسم الشرك . الثاني : أن اتصال هذه الآية بما قبلها إنما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود ، فلولا أن اليهودية داخلة تحت اسم الشرك ، وإلا لم يكن الأمر كذلك .
فان قيل : قوله تعالى : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَادُواْ } [ الحج : 17 ] إلى قوله : { والذين أَشْرَكُواْ } [ الحج : 17 ] عطف المشرك على اليهودي ، وذلك يقتضي المغايرة .
قلنا : المغايرة حاصلة بسبب المفهوم اللغوي ، والاتحاد حاصل بسبب المفهوم الشرعي ، ولا بد من المصير إلى ما ذكرناه دفعا للتناقض . إذا ثبتت هذه المقدمة فنقول : قال الشافعي رضي الله عنه : المسلم لا يقتل بالذمي ، وقال أبو حنيفة : يقتل . حجة الشافعي أن الذمي مشرك لما ذكرناه ، والمشرك مباح الدم لقوله تعالى : اقتلوا المشركين . فكان الذمي مباح الدم على الوجه الذي ذكرناه ومباح الدم هو الذي لا يجب القصاص على قاتله ، ولا يتوجه النهي عن قتله ترك العمل بهذا الدليل في حق النهي ، فوجب أن يبقى معمولا به في سقوط القصاص عن قاتله .
المسألة الثانية : هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على العفو عن أصحاب الكبائر .
واعلم أن الاستدلال بها من وجوه :
الوجه الأول : أن قوله : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } معناه لا يغفر الشرك على سبيل التفضل لأنه بالاجماع لا يغفر على سبيل الوجوب ، وذلك عندما يتوب المشرك عن شركه ، فاذا كان قوله : إن الله لا يغفر الشرك هو أنه لا يغفره على سبيل التفضل ، وجب أن يكون قوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } هو أن يغفره على سبيل التفضل؛ حتى يكون النفي والاثبات متواردين على معنى واحد . ألا ترى أنه لو قال : فلان لا يعطي أحدا تفضلا ، ويعطي زائدا فانه يفهم منه أنه يعطيه تفضلا ، حتى لو صرح وقال : لا يعطي أحدا شيئاً على سبيل التفضل ويعطي أزيد على سبيل الوجوب ، فكل عاقل يحكم بركاكة هذا الكلام ، فثبت أن قوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } على سبيل التفضل . إذا ثبت هذا فنقول : وجب أن يكون المراد منه أصحاب الكبائر قبل التوبة ، لأن عند المعتزلة غفران الصغيرة وغفران الكبيرة بعد التوبة واجب عقلا ، فلا يمكن حمل الآية عليه ، فاذا تقرر ذلك لم يبق إلا حمل الآية على غفران الكبيرة قبل التوبة وهو المطلوب . الثاني : أنه تعالى قسم المنهيات على قسمين : الشرك وما سوى الشرك ، ثم إن ما سوى الشرك يدخل فيه الكبيرة قبل التوبة ، والكبيرة بعد التوبة والصغيرة ، ثم حكم على الشرك بأنه غير مغفور قطعا ، وعلى ما سواه بأنه مغفور قطعا ، لكن في حق من يشاء ، فصار تقدير الآية أنه تعالى يغفر كل ما سوى الشرك ، لكن في حق من شاء . ولما دلت الآية على أن كل ما سوى الشرك مغفور ، وجب أن تكون الكبيرة قبل التوبة أيضاً مغفورة . الثالث : أنه تعالى قال : { لِمَن يَشَاء } فعلق هذا الغفران بالمشيئة ، وغفران الكبيرة بعد التوبة وغفران الصغيرة مقطوع به ، وغير معلق على المشيئة ، فوجب أن يكون الغفران المذكور في هذه الآية هو غفران الكبيرة قبل التوبة وهو المطلوب ، واعترضوا على هذا الوجه الأخير بأن تعليق الأمر بالمشيئة لا ينافي وجوبه ، ألا ترى أنه تعالى قال بعد هذه الآية : { بَلِ الله يُزَكّى مَن يَشَاء } [ النساء : 49 ] ثم إنا نعلم أنه تعالى لا يزكي إلا من كان أهلا للتزكية ، وإلا كان كذباً ، والكذب على الله محال ، فكذا ههنا .
واعلم أنه ليس للمعتزلة على هذه الوجوه كلام يلتفت إليه إلا المعارضة بعمومات الوعيد ، ونحن نعارضها بعمومات الوعد ، والكلام فيه على الاستقصاء مذكور في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : { بلى مَن كَسَبَ سَيّئَةً وأحاطت بِهِ خَطِيئَتُهُ فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } [ البقرة : 81 ] فلا فائدة في الاعادة . وروى الواحدي في البسيط باسناده عن ابن عمر قال : كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات الرجل منا على كبيرة شهدنا أنه من أهل النار ، حتى نزلت هذه الآية فأمسكنا عن الشهادات . وقال ابن عباس : إني لأرجو كما لا ينفع مع الشرك عمل ، كذلك لا يضر مع التوحيد ذنب . ذكر ذلك عند عمر بن الخطاب فسكت عمر . وروي مرفوعا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « اتسموا بالايمان وأقربوا به فكما لا يخرج إحسان المشرك المشرك من إشراكه كذلك لا تخرج ذنوب المؤمن المؤمن من إيمانه » . المسألة الثانية : روي عن ابن عباس انه قال : لما قتل وحشي حمزة يوم أحد ، وكانوا قد وعدوه بالاعتاق ان هو فعل ذلك ، ثم أنهم ما وفوا له بذلك ، فعند ذلك ندم هو وأصحابه فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذنبهم ، وانه لا يمنعهم عن الدخول في الاسلام إلا قوله تعالى : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ } [ الفرقان : 68 ] فقالوا : قد ارتكبنا كل ما في الآية ، فنزل قوله : { إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالحا } [ الفرقان : 70 ] فقالوا : هذا شرط شديد نخاف أن لا نقوم به ، فنزل قوله : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } فقالوا : نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته ، فنزل { قُلْ ياعِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } [ الزمر : 53 ] فدخلوا عند ذلك في الاسلام . وطعن القاضي في هذه الرواية وقال : ان من يريد الايمان لا يجوز منه المراجعة على هذا الحد؛ ولأن قوله : { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } [ الزمر : 53 ] لو كان على اطلاقه لكان ذلك اغراء لهم بالثبات على ما هم عليه .
والجواب عنه : لا يبعد أن يقال : انهم استعظموا قتل حمزة وايذاء الرسول إلى ذلك الحد ، فوقعت الشبهة في قلوبهم أن ذلك هل يغفر لهم أم لا ، فلهذا المعنى حصلت المراجعة . وقوله : هذا إغراء بالقبيح ، فهو انه إنما يتم على مذهبه ، أما على قولنا : انه تعالى فعال لما يريد ، فالسؤال ساقط ، والله أعلم .
ثم قال : { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً } أي اختلق ذنبا غير مغفور ، يقال : افترى فلان الكذب إذا اعتمله واختلقه ، وأصله من الفرى بمعنى القطع
في ظلال القرآن - (ج 2 / ص 240)
والشرك بالله - كما أسلفنا في هذا الجزء عند تفسير مثل هذه الآية من قبل - يتحقق باتخاذ آلهة مع الله اتخاذاً صريحاً على طريقة الجاهلية العربية وغيرها من الجاهليات القديمة - كما يتحقق بعدم إفراد الله بخصائص الألوهية؛ والاعتراف لبعض البشر بهذه الخصائص . كإشراك اليهود والنصارى الذي حكاه القرآن من أنهم { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } ولم يكونوا عبدوهم مع الله . ولكن كانوا فقط اعترفوا لهم بحق التشريع لهم من دون الله . فحرموا عليهم وأحلوا لهم . فاتبعوهم في هذا .
ومنحوهم خاصية من خصائص الألوهية! فحق عليهم وصف الشرك . وقيل عنهم إنهم خالفوا ما أمروا به من التوحيد { وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً } فيقيموا له وحده الشعائر ، ويتلقوا منه وحده الشرائع والأوامر .
ولا غفران لذنب الشرك - متى مات صاحبه عليه - بينما باب المغفرة مفتوح لكل ذنب سواه . . عندما يشاء الله . . والسبب في تعظيم جريمة الشرك ، وخروجها من دائرة المغفرة ، أن من يشرك بالله يخرج عن حدود الخير والصلاح تماماً؛ وتفسد كل فطرته بحيث لا تصلح أبداً :{ ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً } . .
ولو بقي خيط واحد صالح من خيوط الفطرة لشده إلى الشعور بوحدانية ربه؛ ولو قبل الموت بساعة . . فأما وقد غرغر - وهو على الشرك - فقد انتهى أمره وحق عليه القول :{ ونصله جهنم وساءت مصيراً! } .

(48) سورة النساء. فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ إذَا لَمْ يُغْفَرْ وَأَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ حُبُوطُ حَسَنَاتِ صَاحِبِهِ(1) ، وَلَمَّا ذَكَرَ سَائِرَ الذُّنُوبِ غَيْرَ الْكُفْرِ لَمْ يُعَلِّقْ بِهَا حُبُوطَ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ ، وَقَوْلُهُ : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (28) سورة محمد. لِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ ، وقَوْله تَعَالَى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (2) سورة الحجرات، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَتَضَمَّنُ الْكُفْرَ فَيَقْتَضِي الْحُبُوطَ وَصَاحِبُهُ لَا يَدْرِي كَرَاهِيَةَ أَنْ يُحْبَطَ أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يُحْبَطَ فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ ،لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْكُفْرِ الْمُقْتَضِي لِلْحُبُوطِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِلْكُفْرِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ (2)
__________
(1) - قال تعالى :{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) [الكهف/103-107] }
(2) - وفي لقاءات الباب المفتوح - (ج 103 / ص 6)
الأمور التي تعين على ترك المعصية:
السؤال: فضيلة الشيخ! ما هي الأمور التي تعين الإنسان على ترك المعصية؟
الجواب: أهم شيء يعين الإنسان على ترك المعصية خوف الله عز وجل, وأن يردد في فكره قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6] وأن يؤمن ويوقن بأن أي عمل يعمله فإنه سيلاقي ربه بذلك. ثانياً: أن يفكر في العاقبة، ما هي العاقبة من المعصية؟ عواقب المعاصي سيئة؛ لأنها تهون على العبد معصية الله عز وجل, فلا يزال مع الشيطان حتى يوصله إلى الشرك, ولهذا قال بعض أهل العلم: إن المعاصي بريد الكفر. أي: أن الإنسان يرتحل منها مرحلة مرحلة حتى يصل إلى غايته -والعياذ بالله- ويدل لهذا القول قول الله تبارك وتعالى: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:13-14] فالذنوب لما رانت على القلب -والعياذ بالله- أرته آيات الله القرآن العظيم أنه أساطير الأولين يعني: سواليف, فإذا تأمل الإنسان في عواقب المعصية فإن هذه من أسباب تركها. ثالثاً: أن يعلم أن المعصية لا تزيده من الله إلا بعداً, وإذا ابتعد عن الله ابتعد الناس عنه, لأن الإنسان إذا ابتعد عن الله -والعياذ بالله- صار في قلبه وحشة, وصار كأن صفحة أمامه يقرؤها الناس بمعايبه ومعاصيه، وتجده قد كتب عليه الذل، فيتأمل مثل هذه الأشياء وهذا مما يقويه على ترك المعصية. رابعاً: ومن أسباب ذلك أيضاً: إذا كانت المعصية بسبب معاشرة بعض أهل السوء فليبتعد عنهم ويجتنبهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مثّل جليس السوء بنافخ الكير, قال: (إما أن يحرق ثيابك, وإما أن تجد منه رائحة خبيثة).
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 4420)
رقم الفتوى 34468 هل تقبل حسنات مرتكب الكبائر
تاريخ الفتوى : 08 جمادي الأولى 1424
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هل يستطيع الإنسان أن يزود رصيد حسناته وهو مرتكب كبائر كالنميمة والزنا والسرقة وغيرها وهل يقبل الله منه؟ وهل يوجد إنسان يدخل الجنة وهو مصر على معاص كبيرة ولكن ترجح كفة حسناته؟ وتمنياتي لكم بالتوفيق.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالكبائر لا تحبط جميع الحسنات، ولا تمنع قبولها، ولكن قد تُحبط من الحسنات بقدرها عند وزن أعماله، فإن رجحت حسناته على سيئاته كان من أهل الثواب، وإن رجحت سيئاته على حسناته كان من أهل العقاب، كما في الحديث الذي رواه البخاري في "الأدب المفرد" ورواه أيضاً غيره عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة وهما يسير ومن يعمل بهما قليل. قيل: وما هما يا رسول الله؟ قال: يُكبِّر أحدكم في دبر كل صلاة عشرًا، ويحمد عشرًا، ويسبح عشرًا، فذلك خمسون ومائة على اللسان وألف وخمسمائة في الميزان، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يعدهنَّ بيده، وإذا أوى إلى فراشه سبحه وحمده وكبره، فتلك مائة على اللسان وألف في الميزان، فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمسمائة سيئة، قيل: يا رسول الله كيف لا يحصيهما. قال: يأتي أحدكم الشيطان في صلاته فيذكره حاجة كذا وكذا فلا يذكره. قال الألباني : صحيح.
فدل هذا الحديث على وزن الحسنات والسيئات والمقاصة بينهما، وقد قرر أهل العلم أنه لا يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما لا يحبط جميع السيئات إلا التوبة، فصاحب الكبيرة إذا أتى بحسنات يبتغي بها رضا الله أثابه الله ذلك، وإن كان مستحقًا العقوبة العظيمة على كبيرته.
وبهذا تعلم أن مرتكب الكبائر يمكنه أن يزيد رصيده من الحسنات وأن الله يقبلها منه، وأن من رجحت كفة حسناته على كفة سيئاته إذا اتقاه فيها وعملها خالصة لوجهه دخل الجنة.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: عن رجل مسلم يعمل عملاً يستوجب أن يبنى له قصر في الجنة ويغرس له غراس باسمه، ثم يعمل ذنوبًا يستوجب بها النار، فإذا دخل النار كيف يكون اسمه أنه في الجنة وهو في النار؟ فأجاب: وإن تاب عن ذنوبه توبة نصوحاً فإن الله يغفر له ولا يحرمه ما كان وعده بل يعطيه ذلك، وإن لم يتب وزنت حسناته وسيئاته، فإن رجحت حسناته على سيئاته كان من أهل الثواب، وإن رجحت سيئاته على حسناته كان من أهل العذاب. وما أعد له من الثواب يحبط حينئذ بالسيئات التي زادت على حسناته، كما أنه إذا عمل سيئات استحق بها النار ثم عمل بعدها حسنات تذهب السيئات. والله أعلم.
ولكن ينبغي أن يعلم أن الإصرار على المعاصي ولاسيما الكبائر سبب لسوء الخاتمة والعياذ بالله، كما قال تعالى: فَلْيَحَذَرِ الْذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبُهُمْ فَتْنَةٌ أَوْ يُصِيبُهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[النور:].
وفي مسند أحمد وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه ذاك الرين الذي ذكر الله عز وجل في القرآن كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[المطففين:] قال الشيخ شعيب الأرناؤوط : إسناده قوي.
ولذا قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر. كما أن الحمى بريد الموت. وفي مسند أحمد وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وهو على المنبر: ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر الله لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون قال الشيخ شعيب الأرناؤوط : إسناده حسن.
فعلى من ابتلي بشيء من الكبائر أن يبادر إلى التوبة قبل أن يختم له بسوء عياذًا بالله من ذلك.
وراجع للأهمية الفتوى رقم: 24874 ، والفتوى رقم: 28748 .
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 4506)
رقم الفتوى 45849 محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه
تاريخ الفتوى : 30 محرم 1425
السؤال
أنا شاب عمري 28 سنة مصاب بالشيزوفرينيا منذ سن 12 عاما تقريباً، وقد ابتدأت بأخذ العلاج منذ 14 إلى الآن عانيت ما يعادل أكثر من سرطان هذا باعتراف الأطباء، وحسب اعتقاد الأطباء فإن الشفاء ميؤوس منه والله أعلم، والحمد لله الذي من علي بهذا المرض لأنه حلمي الأول والأخر بأن أكون من المقربين في الجنة، لكن كيف مع كثرة ذنوبي أعني بالنسبة لمن يريد هذه المنزلة العالية وربما أقل إذا عجزت عن ترك ذنوبي الثلاثة الإفراط في التدخين وسماع المعازف ومشاهدة الأفلام الأجنبية كل يوم تقريباً مع أني بعت التلفاز لأسيطر على ما أشاهد من أي مجون وأحب القرآن وكتب الشرع، وأنا هنا مريض وحيد عاجز عن العمل لا أريد الموت إلا مقرباً، وما عدت احتمل الدنيا أريد الحياة الحقيقية مقرباً في الجنة اليوم قبل الغد ما عدت أطيق فراق الحور والقصور، فليتني الآن في المدينة والدجال واقف فأخرج له هل لي أمل أن أدخل الجنة من المقربين قريباً جداً، إذا سألت الله سبحانه مع كل هذه الذنوب هل أنتظر شفاعة معاناتي أم هذا اعتداء في الدعاء ثم يأس؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يعجل لك بالشفاء والعافية، واعلم أنه ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله، ومن الدواء استعمال الرقية الشرعية والأذكار المأثورة والإلحاح على الله بالدعاء، موقناً بالإجابة معتصماً بالله متوكلاً عليه متبرئاً من كل حول وقوة لغيره، وأبشر بحسن العاقبة، وننصح في هذا الصدد بالكتابة إلى قسم الاستشارات بالشبكة وستجد عندهم إن شاء الله تعالى ما تنتفع به.
وأما ما ذكرت من الذنوب فاعلم أن الذنوب سبب لكل بلاء وشر في الدنيا والآخرة، والآيات في هذا المعنى كثيرة، كقوله تعالى: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40]، وقوله تعالى: فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [الأنعام:6]، وقوله تعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا [نوح:25].
فعليك بالمبادرة إلى التوبة النصوح والإقلاع عن الذنوب إن أردت النجاة يوم القيامة، فضلاً عن أن تكون من المقربين.
وأما معاناتك للمرض فهي سبب لتكفير الذنوب كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه. متفق عليه.
ولكن لا تغتر بذلك، فإن الذنوب إذا اجتمعت على الإنسان أهلكته، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: إياكم ومحقرات الذنوب، كقوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه. رواه أحمد .
وقال بعض السلف : المعاصي بريد الكفر كما أن الحمى بريد الموت.
وليس في سؤالك لله الجنة مع صدور الذنوب منك اعتداء في الدعاء، ولكن تجب عليك التوبة كما قدمنا ولا تيأس من رحمة الله، فإنه لا ييأس من رحمة الله إلا القوم الكافرون، وراجع للأهمية الفتاوى ذات الأرقام التالية: 30129 ، 26230 ، 27224 ، 28748 ، 26549 ، 29853 ، 32068 .
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه

؛ فَيَنْهَى عَنْهَا خَشْيَةَ أَنْ تُفْضِيَ إلَى الْكُفْرِ الْمُحْبِطِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } - وَهِيَ الْكُفْرُ - { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }(1)
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 3996)
قوله تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } بهذه الآية احتجّ الفقهاء على أن الأمر على الوجوب . ووجهها أن الله تبارك وتعالى قد حذّر من مخالفة أمره ، وتوعّد بالعقاب عليها بقوله : { أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فتحرُم مخالفته ، فيجب امتثال أمره . والفتنة هنا القتل؛ قاله ابن عباس . عطاء : الزلازل والأهوال . جعفر بن محمد : سلطان جائر يُسلّط عليهم . وقيل : الطبع على القلوب بشؤم مخالفة الرسول . والضمير في «أَمْرِهِ» قيل هو عائد إلى أمر الله تعالى؛ قاله يحيى بن سلام . وقيل : إلى أمر رسوله عليه السلام؛ قاله قتادة . ومعنى { يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } أي يُعرضون عن أمره . وقال أبو عبيدة والأخفش : «عن» في هذا الموضع زائدة . وقال الخليل وسيبويه : ليست بزائدة؛ والمعنى؛ يخالفون بعد أمره؛ كما قال :
. . . لم تَنْتَطِق عن تَفَضُّلِ ... ومنه قوله : «فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ» أي بعد أمر ربه . و«أن» في موضع نصب بِ«يَحْذر» . ولا يجوز عند أكثر النحويين حذِر زيداً ، وهو في «أن» جائز؛ لأن حروف الخفض تحذف معها .
تفسير الرازي - (ج 11 / ص 379)
أما قوله : { فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الأخفش ( عن ) صلة والمعنى يخالفون أمره وقال غيره معناه يعرضون عن أمره ويميلون عن سنته فدخلت ( عن ) لتضمين المخالفة معنى الإعراض .
المسألة الثانية : كما تقدم ذكر الرسول فقد تقدم ذكر الله تعالى لكن القصد هو الرسول فإليه ترجع الكناية ، وقال أبو بكر الرازي : الأظهر أنها لله تعالى لأنه يليه ، وحكم الكناية رجوعها إلى ما يليها دون ما تقدمها .
المسألة الثالثة : الآية تدل على أن ظاهر الأمر للوجوب ، ووجه الاستدلال به أن نقول : تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر ومخالف الأمر مستحق للعقاب فتارك المأمور به مستحق للعقاب ولا معنى للوجوب إلا ذلك ، إنما قلنا إن تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر ، لأن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه ، والمخالفة ضد الموافقة فكانت مخالفة الأمر عبارة عن الإخلال بمقتضاه فثبت أن تارك المأمور به مخالف ، وإنما قلنا إن مخالف الأمر مستحق للعقاب لقوله تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فأمر مخالف هذا الأمر بالحذر عن العقاب ، والأمر بالحذر عن العقاب إنما يكون بعد قيام المقتضى لنزول العقاب ، فثبت أن مخالف أمر الله تعالى أو أمر رسوله قد وجد في حقه ما يقتضي نزول العذاب ، فإن قيل لا نسلم أن تارك المأمور به مخالف للأمر قوله موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه ومخالفته عبارة عن الإخلال بمقتضاه ، قلنا لا نسلم أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه ، فما الدليل عليه؟ ثم إنا نفسر موافقة الأمر بتفسيرين أحدهما : أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الذي يقتضيه الأمر فإن الأمر لو اقتضاه على سبيل الندب ، وأنت تأتي به على سبيل الوجوب كان ذلك مخالفة للأمر الثاني : أن موافقة الأمر عبارة عن الاعتراف بكون ذلك الأمر حقاً واجب القبول فمخالفته تكون عبارة عن إنكار كونه حقاً واجب القبول ، سلمنا أن ما ذكرته يدل على أن مخالفة الأمر عبارة عن ترك مقتضاه لكنه معارض بوجوه أخر ، وهو أنه لو كان ترك المأمور به مخالفة للأمر لكان ترك المندوب لا محالة مخالفة لأمر الله تعالى ، وذلك باطل وإلا لاستحق العقاب على ما بينتموه في المقدمة الثانية ، سلمنا أن تارك المأمور به مخالف للأمر فلم قلت إن مخالف الأمر مستحق للعقاب لقوله تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } ؟ قلنا لا نسلم أن هذه الآية دالة على أمر من يكون مخالفاً للأمر بالحذر بل هي دالة على الأمر بالحذر عن مخالفة الأمر ، فلم لا يجوز أن يكون كذلك؟ سلمنا ذلك لكنها دالة على أن المخالف عن الأمر يلزمه الحذر ، فلم قلت إن مخالف الأمر لا يلزمه الحذر؟ فإن قلت لفظة ( عن ) صلة زائدة فنقول الأصل في الكلام لا سيما في كلام الله تعالى أن لا يكون زائداً ، سلمنا دلالة الآية على أن مخالف أمر الله تعالى مأمور بالحذر عن العذاب ، فلم قلت إنه يجب عليه الحذر عن العذاب؟ أقصى ما في الباب أنه ورد الأمر به لكن لم قلت إن الأمر للوجوب؟ وهذا أول المسألة ، فإن قلت هب أنه لا يدل على وجوب الحذر لكن لا بد وأن يدل على حسن الحذر ، وحسن الحذر إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب قلت : لا نسلم أن حسن الحذر مشروط بقيام المقتضي لنزول العذاب بل الحذر يحسن عند احتمال نزول العذاب ولهذا يحسن الاحتياط وعندنا مجرد الاحتمال قائم لأن هذه المسألة احتمالية لا قطعية ، سلمنا دلالة الآية على وجود ما يقتضي نزول العقاب ، لكن لا في كل أمر بل في أمر واحد لأن قوله { عَنْ أَمْرِهِ } لا يفيد إلا أمراً واحداً ، وعندما أن أمراً واحداً يفيد الوجوب ، فلم قلت إن كل أمر كذلك؟ سلمنا أن كل أمر كذلك ، لكن الضمير في قوله : { عَنْ أَمْرِهِ } يحتمل عوده إلى الله تعالى وعوده إلى الرسول ، والآية لا تدل إلا على أن الأمر للوجوب في حق أحدهما ، فلم قلتم إنه في حق الآخر كذلك؟ الجواب : قوله لم قلتم إن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه؟ قلنا الدليل عليه أن العبد إذا امتثل أمر السيد حسن أن يقال إن هذا العبد موافق للسيد ويجري على وفق أمره ، ولو لم يمتثل أمره يقال إنه ما وافقه بل خالفه ، وحسن هذا الإطلاق معلوم بالضرورة من أهل اللغة فثبت أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه ، قوله الموافقة عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الذي يقتضيه الأمر ، قلنا لما سلمتم أن موافقة الأمر لا تحصل إلا عند الإتيان بمقتضى الأمر ، فنقول لا شك أن مقتضى الأمر هو الفعل لأن قوله : افعل لا يدل إلا على اقتضاء الفعل ، وإذا لم يوجد الفعل لم يوجد مقتضى الأمر ، فلا توجد الموافقة فوجب حصول المخالفة لأنه ليس بين الموافقة والمخالفة واسطة قوله : الموافقة عبارة عن اعتقاد كون ذلك الأمر حقاً واجب القبول ، قلنا هذا لا يكون موافقة للأمر بل يكون موافقة للدليل الدال على أن ذلك الأمر حق ، فإن موافقة الشيء عبارة عن الإتيان بما يقتضي تقرير مقتضاه ، فإذا دل على حقية الشيء كان الاعتراف بحقيته يقتضي تقرير مقتضى ذلك الدليل ، أما الأمر فلما اقتضى دخول الفعل في الوجود كانت موافقته عبارة عما يقرر ذلك الدخول وإدخاله في الوجود يقتضي تقرير دخوله في الوجود فكانت موافقة الأمر عبارة عن فعل مقتضاه . قوله لو كان كذلك لكان تارك المندوب مخالفاً فوجب أن يستحق العقاب ، قلنا هذا الإلزام إنما يصح أن لو كان المندوب مأموراً به وهو ممنوع ، قوله لم لا يجوز أن يكون قوله : { فَلْيَحْذَرِ } أمراً بالحذر عن المخالف لا أمراً للمخالف بالحذر؟ قلنا لو كان كذلك لصار التقدير فليحذر المتسللون لواذاً عن الذين يخالفون أمره وحينئذ يبقى قوله : { أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ضائعاً لأن الحذر ليس فعلاً يتعدى إلى مفعولين . قوله كلمة ( عن ) ليست بزائدة ، قلنا ذكرنا اختلاف الناس فيها في المسألة الأولى . قوله لم قلتم إن قوله : { فَلْيَحْذَرِ } يدل على وجوب الحذر عن العقاب؟ قلنا لا ندعي وجوب الحذر ، ولكن لا أقل من جواز الحذر ، وذلك مشروط بوجود ما يقتضي وقوع العقاب . قوله لم قلت إن الآية تدل على أن كل مخالف للأمر يستحق العقاب؟ قلنا لأنه تعالى رتب نزول العقاب على المخالفة فوجب أن يكون معللاً به ، فيلزم عمومه لعموم العلة . قوله هب أن أمر الله أو أمر رسوله للوجوب ، فلم قلتم إن الأمر كذلك؟ قلنا لأنه لا قائل بالفرق ، والله أعلم .
المسألة الرابعة : من الناس من قال لفظ الأمر مشترك بين الأمر القولي وبين الشأن والطريق ، كما يقال أمر فلان مستقيم . وإذا ثبت ذلك كان قوله تعالى : { عَنْ أَمْرِهِ } يتناول قول الرسول وفعله وطريقته ، وذلك يقتضي أن كل ما فعله عليه الصلاة والسلام يكون واجباً علينا ، وهذه المسألة مبنية على أن الكناية في قوله { عَنْ أَمْرِهِ } راجعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، أما لو كانت راجعة إلى الله تعالى فالبحث ساقط بالكلية ، وتمام تقرير ذلك ذكرناه في أصول الفقه ، والله أعلم .
أما قوله تعالى : { أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فالمراد أن مخالفة الأمر توجب أحد هذين الأمرين ، والمراد بالفتنة العقوبة في الدنيا ، والعذاب الأليم عذاب الآخرة ، وإنما ردد الله تعالى حال ذلك المخالف بين هذين الأمرين لأن ذلك المخالف قد يموت من دون عقاب الدنيا وقد يعرض له ذلك في الدنيا ، فلهذا السبب أورده تعالى على سبيل الترديد ، ثم قال الحسن : الفتنة هي ظهور نفاقهم ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : القتل . وقيل : الزلازل والأهوال ، وعن جعفر بن محمد يسلط عليهم سلطان جائر .

(63) سورة النور ، وَإِبْلِيسُ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ فَصَارَ كَافِرًا ؛ وَغَيْرُهُ أَصَابَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ . وَقَدْ احْتَجَّتْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(1) (27) سورة المائدة، قَالُوا : فَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ مِنْ الْمُتَّقِينَ فَلَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْهُ عَمَلًا فَلَا يَكُونُ لَهُ حَسَنَةٌ ،وَأَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ الْإِيمَانُ فَلَا يَكُونُ مَعَهُ إيمَانٌ فَيَسْتَحِقُّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ.
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 1669)
الثانية وفي قول هابيل : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } كلام قبله محذوف؛ لأنه لما قال له قابيل : { لأَقْتُلَنَّكَ } قال له : ولم تقتلني وأنا لم أجنِ شيئاً؟ ، ولا ذنب لي في قبول الله قرباني ، أما إني اتقيته وكنتُ علي لاحِبِ الحق وإنما يتقبل الله من المتقين . قال ابن عطية : المراد بالتقوى هنا اتقاء الشرك بإجماع أهل السّنة؛ فمن اتقاه وهو موحِّد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة؛ وأما المتقي الشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من القبول والختم بالرحمة؛ علم ذلك بإخبار الله تعالى لا أن ذلك يجب على الله تعالى عقلاً . وقال عدِي بن ثابت وغيره : قربان متقي هذه الأمة الصلاة .
قلت : وهذا خاص في نوع من العبادات . وقد رَوى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تبارك وتعالى قال من عادى لي ولياً فقد اذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينهُ ولئن استعاذني لأعيذنّه وما تردّدت عن شيء أنا فاعله تردّدي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مَسَاءته " .
تفسير الرازي - (ج 6 / ص 33)
المسألة الثانية : إنما صار القربانين مقبولاً والآخر مردوداً لأن حصول التقوى شرط في قبول الأعمال . قال تعالى هاهنا حكاية عن المحق { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } وقال فيما أمرنا به من القربان بالبدن { لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ } [ الحج : 37 ] فأخبر أن الذي يصل إلى حضرة الله ليس إلا التقوى والتقوى من صفات القلوب قال عليه الصلاة والسلام : « التقوى هاهنا » وأشار إلى القلب ، وحقيقة التقوى أمور : أحدها : أن يكون على خوف ووجل من تقصير نفسه في تلك الطاعة فيتقى بأقصى ما يقدر عليه عن جهات التقصير ، وثانيها : أن يكون في غاية الاتقاء من أن يأتي بتلك الطاعة لغرض سوى طلب مرضاة الله تعالى . وثالثها : أن يتقى أن يكون لغير الله فيه شركة ، وما أصعب رعاية هذه الشرائط! وقيل في هذه القصة : إن أحدهما جعل قربانه أحسن ما كان معه ، والآخر جعل قربانه أردأ ما كان معه . وقيل : إنه أضمر أنه لا يبالي سواء قبل أو لم يقبل ولا يزوج أخته من هابيل . وقيل : كان قابيل ليس من أهل التقوى والطاعة ، فلذلك لم يقبل الله قربانه .
الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 1235)
أي : قال هابيل لقابيل ناصحا ومرشداً : إنما يتقبل الله الأعمال والصدقات من عباده المتقين الذين يخشونه في السر والعلن؛ وليس من سواهم من الظالمين الحاسدين لغيرهم على ما آتاهم الله من نعم ، فعليك أن تكون من المتقين لكي يقبل منك الله .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف كان قوله : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } جوابا لقوله : { لأَقْتُلَنَّكَ } ؟ قلت : لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له : إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى ، لا من قبلي ، فلم تقتلني؟ ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان . وفيه دليل على أن الله - تعالى - لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق .

وَقَدْ أَجَابَتْهُمْ الْمُرْجِئَةُ : بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُتَّقِينَ مَنْ يَتَّقِي الْكُفْرَ فَقَالُوا لَهُمْ : اسْمُ الْمُتَّقِينَ فِي الْقُرْآنِ يَتَنَاوَلُ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلثَّوَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) }، وَأَيْضًا فَابْنَا آدَمَ حِينَ قَرَّبَا قُرْبَانًا لَمْ يَكُنْ الْمُقَرِّبُ الْمَرْدُودُ قُرْبَانُهُ حِينَئِذٍ كَافِرًا وَإِنَّمَا كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ إذْ لَوْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يَتَقَرَّبْ ، وَأَيْضًا فَمَا زَالَ السَّلَفُ يَخَافُونَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ،وَلَوْ أُرِيدَ بِهَا مَنْ يَتَّقِي الْكُفْرَ لَمْ يَخَافُوا وَأَيْضًا فَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْمُتَّقِينَ وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ لَيْسَ بِكَافِرِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي خِطَابِ الشَّارِعِ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ .
وَ " الْجَوَابُ الصَّحِيحُ " : أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ كَمَا قَالَ الفضيل بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْله تَعَالَى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك:2] قَالَ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قِيلَ : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ، (1)
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 3 / ص 124)
وَلَا بُدَّ فِي عِبَادَتِهِ مِنْ أَصْلَيْنِ .
أَحَدُهُمَا إخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ وَالثَّانِي مُوَافَقَةُ أَمْرِهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا ؛ وَقَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْله تَعَالَى { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالُوا يَا أَبَا عَلِيٍّ : مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ ؟ قَالَ : إذَا كَانَ الْعَمَلُ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا ؛ وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى اتِّبَاعِ مَا شَرَعَ لَهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَفِعْلِ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ مِنْ الدِّينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } كَمَا ذَمَّهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ حَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ . وَالدِّينُ الْحَقُّ أَنَّهُ لَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ .
مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 172)
وَالْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ وَالِاسْتِقَامَةُ وَلُزُومُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَقْصُودُهَا وَاحِدٌ وَلَهَا أَصْلَانِ :" أَحَدُهُمَا " أَلَّا يُعْبَدَ إلَّا اللَّهُ . وَ " الثَّانِي " أَنْ يُعْبَدَ بِمَا أَمَرَ وَشَرَعَ لَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ . قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الْإِحْسَانُ وَهُوَ فِعْلُ الْحَسَنَاتِ . و " الْحَسَنَاتُ " هِيَ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ فَمَا كَانَ مِنْ الْبِدَعِ فِي الدِّينِ الَّتِي لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهَا وَلَا رَسُولُهُ فَلَا تَكُونُ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَلَا مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا أَنَّ مَنْ يَعْمَلُ مَا لَا يَجُوزُ كَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ لَيْسَ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَلَا مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ . { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } وَقَوْلُهُ : { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } فَهُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِكَ خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا . وَقَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْلِهِ : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالُوا : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ ؟ قَالَ :إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ . فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ جَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ دَاخِلًا فِي اسْمِ الْعِبَادَةِ فَلِمَاذَا عَطَفَ عَلَيْهَا غَيْرَهَا ؛ كَقَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَقَوْلِهِ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ }

فَمَنْ عَمِلَ لِغَيْرِ اللَّهِ - كَأَهْلِ الرِّيَاءِ - لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ذَلِكَ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ « قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِى غَيْرِى تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ »(1)..
__________
(1) - صحيح مسلم برقم(7666 )
شرح النووي على مسلم - (ج 9 / ص 370)
وَالْمُرَاد أَنَّ عَمَل الْمُرَائِي بَاطِل لَا ثَوَاب فِيهِ ، وَيَأْثَم بِهِ .
لقاءات الباب المفتوح - (ج 90 / ص 2)
شرطي قبول العبادة:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا هو اللقاء التسعون من لقاءات الباب المفتوح التي تتم في كل خميس من كل أسبوع، وهذا هو الخميس العشرون من شهر ذي القعدة من عام (1415هـ). لقاؤنا هذا اليوم سيشتمل على صفة العمرة والحج بإيجاز، ثم في اللقاءات الأخرى سوف نتكلم عن أركان وواجبات الحج والعمرة، ثم عن محظورات الإحرام إن شاء الله تعالى. من المعلوم لنا جميعاً أن العبادة لا تتم إلا بشرطين: الشرط الأول: الإخلاص لله. الشرط الثاني: المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. دليل هذا قوله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5] فـ(مخلصين له الدين) هذا الإخلاص، و(حنفاء) هذه المتابعة، وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن الله تعالى قال: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) فهذا الإخلاص. المتابعة: ثبت في الصحيحين أيضاً عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وفي لفظ: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) إذاً.. لا بد من الإخلاص والمتابعة. ولا تتحقق المتابعة ألا بمعرفة كيف كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يفعل حتى نكون متبعين له، ولهذا ينبغي لنا ونحن نفعل العبادات أن نستحضر هذين الأمرين: الإخلاص والمتابعة. الإخلاص: بأن لا نبتغي بعباداتنا إلا وجه الله والدار الآخرة، وأن نستشعر أيضاً أننا نمتثل أوامر الله، فمثلاً: عند الوضوء، نحن نتوضأ نغسل الأعضاء المغسولة منها ونمسح الممسوح لكن ينبغي أن نستحضر بأننا نمتثل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6] إلى آخره. حتى يتم الإخلاص والإذعان والذل لله عز وجل. ثم نستحضر أيضاً أننا نتابع الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا؛ لأن هذا مما أمرنا به، كما قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].......
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 3480)
رقم الفتوى 7515 إخلاص النية لا يتم إلا بالعمل الخالص الصواب
تاريخ الفتوى : 16 محرم 1422
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
كيف يمكن إخلاص النية و كيف يمكن الحفاظ على ذلك الإخلاص؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالإخلاص هو: إرادة الإنسان بعمله وجه الله تعالى.
وسبيل الوصول إليه بأن يعلم الإنسان أن الله تعالى هو المستحق وحده للعبادة، وأنه المنعم المتفضل الذي لا يليق بعبده أن يلتفت إلى غيره، وأن كل عمل أريد به غير وجه الله، فهو عمل حابط مردود.
قال الله تعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) [هود: 15، 16].
وفي الحديث القدسي قال الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" رواه مسلم.
وروى ابن خزيمة في صحيحه بإسناد حسن عن محمود بن لبيد قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس إياكم وشرك السرائر" قالوا: يا رسول الله وما شرك السرائر؟ قال: "يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الرجال إليه، فذلك شرك السرائر".
وقال تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) [الملك: 2].
قال الفضيل بن عياض في تفسير العمل الحسن: أخلصه وأصوبه، فقيل له: ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصاً، ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، فالخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة. انتهى.
وينبغي للعبد أن يتعاهد إخلاصه، وأن يحاسب نفسه، وأن يفتش في أحوالها، فإن الإخلاص عزيز، وهو أشد شيء على النفس، كما قال التابعي الجليل ابن أبي ملكية: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه. والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : « لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاَةً بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلاَ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ »(1).
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاَةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ »(2).
وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : « مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا ، فَهْوَ رَدٌّ » (3)
__________
(1) - سنن النسائى برقم(140 ) صحيح
شرح سنن النسائي - (ج 1 / ص 111)
حَاشِيَةُ السِّنْدِيِّ :
قَوْله ( لَا يَقْبَل اللَّه )قَبُول اللَّه تَعَالَى الْعَمَل رِضَاهُ بِهِ وَثَوَابه عَلَيْهِ فَعَدَم الْقَبُول أَنْ لَا يُثِيبهُ عَلَيْهِ
( بِغَيْرِ طُهُور )بِضَمِّ الطَّاء فِعْل التَّطْهِير وَهُوَ الْمُرَاد هَاهُنَا وَبِفَتْحِهَا اِسْم لِلْمَاءِ أَوْ التُّرَاب وَقِيلَ بِالْفَتْحِ يُطْلَق عَلَى الْفِعْل وَالْمَاء فَهَاهُنَا يَجُوز الْوَجْهَانِ وَالْمَعْنَى بِلَا طُهُور وَلَيْسَ الْمَعْنَى صَلَاة مُلْتَبِسَة بِشَيْءٍ مُغَايِر لِلطُّهُورِ إِذْ لَا بُدَّ مِنْ مُلَابَسَة الصَّلَاة بِمَا يُغَايِر الطُّهُور ضِدّ الطُّهُور حَمْلًا لِمُطْلَقِ الْمُغَايِر عَلَى الْكَامِل وَهُوَ الْحَدَث
( مِنْ غُلُول ) بِضَمِّ الْغَيْن الْمُعْجَمَة أَصْله الْخِيَانَة فِي خُفْيَة وَالْمُرَاد مُطْلَق الْخِيَانَة وَالْحَرَام وَغَرَض الْمُصَنِّف رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى أَنَّ الْحَدِيث يَدُلّ عَلَى اِفْتِرَاض الْوُضُوء لِلصَّلَاةِ وَنُوقِشَ بِأَنَّ دَلَالَة الْحَدِيث عَلَى الْمَطْلُوب يَتَوَقَّف عَلَى دَلَالَته عَلَى اِنْتِفَاء صِحَّة الصَّلَاة بِلَا طُهُور وَلَا دَلَالَة عَلَيْهِ بَلْ عَلَى اِنْتِفَاء الْقَبُول وَالْقَبُول أَخَصّ مِنْ الصِّحَّة وَلَا يَلْزَم مِنْ اِنْتِفَاء الْأَخَصّ اِنْتِفَاء الْأَعَمّ وَلِذَا وَرَدَ اِنْتِفَاء الْقَبُول فِي مَوَاضِع مَعَ ثُبُوت الصِّحَّة كَصَلَاةِ الْعَبْد الْآبِق وَقَدْ يُقَال الْأَصْل فِي عَدَم الْقَبُول هُوَ عَدَم الصِّحَّة وَهُوَ يَكْفِي فِي الْمَطْلُوب إِلَّا إِذَا دَلَّ دَلِيل عَلَى أَنَّ عَدَم الْقَبُول لِأَمْرٍ آخَر سِوَى عَدَم الصِّحَّة وَلَا دَلِيل هَاهُنَا وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .
(2) - سنن أبى داود برقم(641 ) وهو صحيح
عون المعبود - (ج 2 / ص 161)
( لَا يَقْبَل اللَّه صَلَاة حَائِض ) : أَيْ لَا تَصِحّ صَلَاة الْمَرْأَة الْبَالِغَة ، إِذَا الْأَصْل فِي نَفْي الْقَبُول نَفْي الصِّحَّة إِلَّا لِدَلِيلٍ ، كَذَا فِي الْمِرْقَاة . قَالَ الْخَطَّابِيّ : يُرِيد بِالْحَائِضِ الْمَرْأَة الَّتِي بَلَغَتْ سِنّ الْحَيْض وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الَّتِي هِيَ فِي أَيَّام حَيْضهَا ، لِأَنَّ " الْحَائِض لَا تُصَلِّي بِوَجْهٍ " : وَقَالَ فِي الْمِرْقَاة : قِيلَ الْأَصْوَب أَنْ يُرَاد بِالْحَائِضِ مَنْ شَأْنهَا الْحَيْض لِيَتَنَاوَل الصَّغِيرَة أَيْضًا ، فَإِنَّ سَتْر رَأْسهَا شَرْط لِصِحَّةِ صَلَاتهَا أَيْضًا
( إِلَّا بِخِمَارٍ ) : " أَيْ مَا يُتَخَمَّر بِهِ مِنْ سِتْر رَأْس . وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيث : مَنْ سَوَّى بَيْن الْحُرَّة وَالْأَمَة فِي الْعَوْرَة لِعُمُومِ ذِكْر الْحَائِض وَلَمْ يُفَرِّق بَيْن الْحُرَّة وَالْأَمَة وَهُوَ قَوْل أَهْل الظَّاهِر ، وَفَرَّقَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَالْجُمْهُور بَيْن عَوْرَة الْحُرَّة وَالْأَمَة ، فَجَعَلُوا عَوْرَة الْأَمَة مَا بَيْن السُّرَّة وَالرُّكْبَة كَالرَّجُلِ ، وَقَالَ مَالِك : الْأَمَة عَوْرَتهَا كَالْحُرَّةِ حَاشَا شَعْرهَا فَلَيْسَ بِعَوْرَةٍ ، وَكَأَنَّهُ رَأَى الْعَمَل فِي الْحِجَاز عَلَى كَشْف الْإِمَاء لِرُءُوسِهِنَّ ، هَكَذَا حَكَاهُ عَنْهُ اِبْن عَبْد الْبَرّ فِي الِاسْتِذْكَار . قَالَ الْعِرَاقِيّ فِي شَرْح التِّرْمِذِيّ : وَالْمَشْهُور عَنْهُ أَنَّ عَوْرَة الْأَمَة كَالرَّجُلِ ، كَذَا فِي النَّيْل .
(3) - صحيح مسلم برقم(4590 )
شرح النووي على مسلم - (ج 6 / ص 150)
وَمَعْنَاهُ : فَهُوَ بَاطِل غَيْر مُعْتَدّ بِهِ .
وَهَذَا الْحَدِيث قَاعِدَة عَظِيمَة مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام ، وَهُوَ مِنْ جَوَامِع كَلِمه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ صَرِيح فِي رَدّ كُلّ الْبِدَع وَالْمُخْتَرَعَات .
وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة زِيَادَة وَهِيَ أَنَّهُ قَدْ يُعَانِد بَعْض الْفَاعِلِينَ فِي بِدْعَة سَبَقَ إِلَيْهَا ، فَإِذَا اُحْتُجَّ عَلَيْهِ بِالرِّوَايَةِ الْأُولَى يَقُول : أَنَا مَا أَحْدَثْت شَيْئًا فَيُحْتَجّ عَلَيْهِ بِالثَّانِيَةِ الَّتِي فِيهَا التَّصْرِيح بِرَدِّ كُلّ الْمُحْدَثَات ، سَوَاء أَحْدَثَهَا الْفَاعِل ، أَوْ سَبَقَ بِإِحْدَاثِهَا .
وَفِي هَذَا الْحَدِيث : دَلِيل لِمَنْ يَقُول مِنْ الْأُصُولِيِّينَ : إِنَّ النَّهْي يَقْتَضِي الْفَسَاد . وَمَنْ قَالَ : لَا يَقْتَضِي الْفَسَاد يَقُول هَذَا خَبَر وَاحِد ، وَلَا يَكْفِي فِي إِثْبَات هَذِهِ الْقَاعِدَة الْمُهِمَّة ، وَهَذَا جَوَاب فَاسِد .
وَهَذَا الْحَدِيث مِمَّا يَنْبَغِي حِفْظه وَاسْتِعْمَاله فِي إِبْطَال الْمُنْكَرَات ، وَإِشَاعَة الِاسْتِدْلَال بِهِ .
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 4384)
رقم الفتوى 17613 البدعة في ضوء الكتاب والسنة..تعريفها وخطرها
تاريخ الفتوى : 17 جمادي الأولى 1423
السؤال
ما هي البدعة
آمل إجابة مفصلة في ضوء الكتاب والسنة والفقه (خاصة للفقه الحنفي) لأن الغالبية في مجتمعنا أضاف إضافات؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد عرف محمد الخادمي الحنفي البدع بقوله: جمع بدعة خلاف السنة اعتقاداً وعملاً وقولاً، وهذا معنى ما قالوا: البدعة في الشريعة إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكر أيضاً: أن المعنى الشرعي للبدعة هو: الزيادة في الدين أو النقصان منه الحادثان بعد الصحابة بغير إذن من الشرع.
وبهذا التعريف يعلم أنه لا اختلاف بين تعريف الحنفية للبدعة، وتعريف غيرهم من العلماء من أهل المذاهب الأخرى، فالشاطبي عرف البدعة بقوله: طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه.
وقوله (تضاهي الشرعية) أي: تشبه الطريقة الشرعية لكنها في الحقيقة مضادة لها، وقد مثل الشاطبي للبدعة بقوله: ومنها: التزام الكيفيات والهيئات المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيداً، وما أشبه ذلك.
ومنها: التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شبعان وقيام ليلته. انتهى
ومن الضوابط التي وضعها العلماء للبدعة قولهم: كل عمل لم يعمله النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود المقتضي له، وعدم المانع من فعله، ففعله بعد ذلك بدعة، وهذا يخرج صلاة التراويح وجمع القرآن من البدعة، لأن صلاة التراويح لم يستمر النبي صلى الله عليه وسلم على فعلها (جماعة) لوجود المانع، وهو الخوف من أن تفرض.
وأما جمع القرآن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، لعدم وجود المقتضي لذلك، فلما كثر الناس واتسعت الفتوحات وخاف الصحابة من دخول العجمة جمعوا القرآن.
وليعلم المسلم أن البدعة خطرها عظيم على صاحبها وعلى الناس وعلى الدين، وهي مردودة على صاحبها يوم القيامة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد" رواه البخاري ومسلم .
وعند مسلم : "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد" ، وقوله: في أمرنا أي: في ديننا، وقوله: رد أي: مردود على صاحبه كائناً من كان.
وأيضاً: البدعة ضلالة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" رواه النسائي .
نعوذ بالله من البدع ومن النار.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه

. أَيْ فَهُوَ مَرْدُودٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ . فَمَنْ اتَّقَى الْكُفْرَ وَعَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُتَّقِيًا فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ وَإِنْ كَانَ مُتَّقِيًا لِلشِّرْكِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (1)(60) سورة المؤمنون ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ (الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا أَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أَهُوَ الرَّجُلُ يَزْنِى وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ قَالَ « لاَ يَا بِنْتَ أَبِى بَكْرٍ أَوْ لاَ يا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّى وَيَتَصَدَّقُ وَهُوَ يَخَافُ أَنْ لا يُقْبَلَ مِنْهُ »(2)
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3023)
قرأ القراء السبعة { يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ } بالمد ، على أنه من الإتيان بمعنى الإعطاء ، والوجل : استشعار الخوف . يقال : وَجِل فلان وَجَلاً فهو واجل ، إذا خاف ، أى : يعطون ما يعطون من الصدقات وغيرها من ألوان البر ، ومع ذلك فإن قلوبهم خائفة أن لا يقبل منهم هذا العطاء ، لأى سبب من الأسباب فهم كما قال بعض الصالحين : لقد أدركنا أقواماً كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم ، أشفق منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها .
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : أى : يعطون العطاء وهم خائفون أن لا يتقبل منهم ، لخوفهم أن يكونوا قد قصروا فى القيام بشروط الإعطاء ، وهذا من باب الإشفاق والاحتياط .
كما روى الإمام أحمد عن عائشة أنها قالت : " يا رسول الله { والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } هو الذى يسرق ويزنى ويشرب الخمر ، وهو يخاف الله - عز وجل -؟
قال : " لا يا بنت الصديق ، ولكنه الذى يصلى ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله - تعالى - " " .
ثم قال - رحمه الله - وقد قرأ آخرون : { والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ . . } من الإتيان . أى : يفعلون ما فعلوا وهم خائفون . . .
والمعنى على القراءة الأولى - وهى قراءة الجمهور : السبعة وغيرهم - أظهر لأنه قال - بعد ذلك - : { أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } فجعلهم من السابقين ، ولو كان المعنى على القراءة الأخرى ، لأوشك أن لا يكونوا من السابقين ، بل من المقتصدين أو المقتصرين .
وجملة { وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } حال من الفاعل فى قوله - تعالى - { يُؤْتُونَ } .
وجملة { أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } تعليلية بتقدير اللام ، وهى متعلقة بقوله : { وَجِلَةٌ } .
أى : وقلوبهم خائفة من عدم القبول لأنهم إلى ربهم راجعون ، فيحاسبهم على بواعث أقوالهم وأعمالهم ، وهم - لقوة إيمانهم - يخشون التقصير فى أى جانب من جوانب طاعتهم له - عز وجل - .
وقد جاءت هذه الصفات الكريمة - كما يقول الإمام الرازى - فى نهاية الحسن ، لأن الصفة الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز عما لا ينبغى ، والثانية : دلت على قوة إيمانهم بآيات ربهم ، والثالثة دلت على شدة إخلاصهم ، والرابعة : دلت على أن المستجمع لتلك الصفات يأتى بالطاعات مع الوجل والخوف من التقصير ، وذلك هو نهاية مقامات الصديقين ، رزقنا الله - سبحانه - الوصول إليها .
واسم الإشارة فى قوله - تعالى - : { أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات } يعود إلى هؤلاء المؤمنين الموصوفين بتلك الصفات الجليلة .
(2) - مسند أحمد برقم(26453) حديث حسن
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 2153)
رقم الفتوى 52671 الشعور بالتقصير يدفع صاحبه إلى المبادرة لفعل الصالحات
تاريخ الفتوى : 13 رجب 1425
السؤال
الصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم:
شيخنا: أنا امرأة ملتزمة بتعاليم الله سبحانه وتعالى ورسوله ولله الحمد، ولكن يراودني أحساس دائم بأني مقصرة بتعاليم الله عز وجل، فمثلاً عندما أدفع صدقة أحس بإن هذه الصدقة غير كافية وأنني مهما عملت من صلاة أو زكاة فأنني أبقى مقصرة مع الله تعالى بشيء لا أعرف ما هو، الذي زاد في خوفي أني منذ فترة قصيرة حلمت بأني مت ووضعوني في النعش وبدأوا في إنزالي في الحفرة، فبدأت أحس بذهاب كل الناس الذين كانوا حزينين علي جداً وكان أخرهم زوجي، وكان بطيئاً جداً بخطواته لا يريد تركي لعلمه بأني أخاف جداً لوحدي، المهم أني بدأت أقول لنفسي معقول انتهى كل شيء معقول أنني حتى لم أقدم لربي أي شيء كيف سأقابله ماذا أقول له ماذا عملت ليوم كهذا، أخيراً، استسلمت للأمر الواقع وبدأت أخبر نفسي كيف يقولون إن القبر ضيق أنا أراه واسعاً وكيف يقولون إن القبر مظلم أنا أراه مضيئاً ثم قلت يا ربي أنا أعلم أنه لا فائدة من الكلام الآن ولكني صادقة في قولي وأنت تعلم الغيوب كنت أتمنى أن أكون في وضع أحسن مما هو عليه الآن فجأة كأنني عدت إلى الحياة وبعدها سمعت صوت يخبرني ها قد عدت إلى الحياة أريني ماذا ستعملين، شيخنا أحسست بأن هذا إنذار من شيء معين ولكن لا أعرف ما هو، أرجو مساعدتي لأن هذا الموضوع يقلقني بجد؟ ولكم جزيل الشكر.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلمي رحمك الله أن هذا قد يكون من الخوف المحمود الذي وصف الله به أهل الإيمان، قال الله تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ {النحل:50}، وقال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ {المؤمنون:60}، قالت عائشة : يا رسول الله أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ؟ قال: لا يا بنت أبي بكر أو لا يا بنت الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق وهو يخاف أن لا يقبل منه. رواه الترمذي وأحمد واللفظ له.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزلة. ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة . رواه الترمذي والحاكم في المستدرك وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
فالخوف والشعور بالتقصير يدفعان صاحبهما إلى المبادرة بالأعمال الصالحة وهذا ما كان عليه السلف الصالح، جمعوا إحساناً وخشية، أما المنافق فيجمع إساءة وأمناً، كما قال الحسن البصري ، ولما نزل قوله تعالى: مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِه ِ {النساء:123}، بكى أبو بكر الصديق وقال : يا رسول الله كيف الفلاح بعد هذه الآية؟ فقال: أصلحك الله يا أبا بكر ألست تنصب ألست تحزن أليست تصيبك اللأواء؟ قال: نعم، قال: فذلك جزاؤه . رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الترغيب، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية على استقامته وتبحره في علوم الإسلام وجهاده في سبيل الله يقول: لا زلت حتى اليوم أجدد إيماني ولم أسلم بعد إسلاماً صحيحاً . وكان يقول: أنا المكدي وابن المكدي وكذلك كان أبي وجدي . انتهى.
أما ما تذكرينه من رؤيا فهي بشرى خير إن شاء الله والمعنى والله أعلم أن تقدمي المزيد من العمل الصالح والمزيد من الخوف والرجاء، والله نسأل أن يتقبل منك صالح الأعمال.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه

..
وَخَوْفُ مَنْ خَافَ مِنْ السَّلَفِ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ لِخَوْفِهِ أَنْ لَا يَكُونَ أَتَى بِالْعَمَلِ عَلَى وَجْهِهِ الْمَأْمُورِ : وَهَذَا أَظْهَرُ الْوُجُوهِ فِي اسْتِثْنَاءِ مَنْ اسْتَثْنَى مِنْهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَفِي أَعْمَالِ الْإِيمَانِ كَقَوْلِ أَحَدِهِمْ : أَنَا مُؤْمِنٌ " إنْ شَاءَ اللَّهُ " -(1)
__________
(1) -تفسير الرازي - (ج 7 / ص 362)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
واعلم أن الله تعالى لما ذكر هذه الصفات الخمس : أثبت للموصوفين بها أموراً ثلاثة : الأول : قوله : { أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله : { حَقّاً } بماذا يتصل . فيه قولان : أحدهما : بقوله : { هُمُ المؤمنون } أي هم المؤمنون بالحقيقة . والثاني : أنه تم الكلام عند قوله : { أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون } ثم ابتدأ وقال : { حَقّاً لَّهُمْ درجات } .
المسألة الثانية : ذكروا في انتصاب { حَقّاً } وجوهاً : الأول : قال الفراء : التقدير : أخبركم بذلك حقاً ، أي أخباراً حقاً ، ونظيره قوله : { أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون حَقّاً } [ النساء : 151 ] والثاني : قال سيبويه : إنه مصدر مؤكد لفعل محذوف يدل عليه الكلام ، والتقدير : وإن الذي فعلوه كان حقاً صدقاً . الثالث : قال الزجاج . التقدير : أولئك هم المؤمنون أحق ذلك حقاً .
المسألة الثالثة : اتفقوا على أنه يجوز للمؤمن أن يقول أنا مؤمن ، واختلفوا في أنه هل يجوز للرجل أن يقول أنا مؤمن حقاً أم لا؟ فقال أصحاب الشافعي : الأولى أن يقول الرجل : أنا مؤمن إن شاء الله ، ولا يقول أنا مؤمن حقاً . وقال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله : الأولى أن يقول أنا مؤمن حقاً ، ولا يجوز أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، أما الذين قالوا إنه يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، فلهم فيه مقامان :
المقام الأول : أن يكون ذلك لأجل حصول الشك في حصول الإيمان .
المقام الثاني : أن لا يكون الأمر كذلك . أما المقام الأول ، فتقريره : أن الإيمان عند الشافعي رضي الله عنه عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل . ولا شك أن كون الإنسان آتياً بالأعمال الصالحة أمر مشكوك فيه ، والشك في أحد أجزاء الماهية يوجب الشك في حصول تلك الماهية ، فالإنسان وإن كان جازماً بحصول الاعتقاد والإقرار ، إلا أنه لما كان شاكاً في حصول العمل كان هذا القدر يوجب كونه شاكاً في حصول الإيمان ، وأما عند أبي حنيفة رحمه الله ، فلما كان الإيمان اسماً للاعتقاد والقول ، وكان العمل خارجاً عن مسمى الإيمان ، لم يلزم من الشك في حصول الأعمال الشك في الإيمان . فثبت أن من قال إن الإيمان عبارة عن مجموع الأمور الثلاثة يلزمه وقوع الشك في الإيمان ، ومن قال العمل خارج عن مسمى الإيمان يلزمه نفي الشك عن الإيمان ، وعند هذا ظهر أن الخلاف ليس إلا في اللفظ فقط . وأما المقام الثاني : وهو أن نقول : إن قوله : أنا مؤمن إن شاء الله ليس لأجل الشك ، فيه وجوه : الأول : أن كون الرجل مؤمناً أشرف صفاته وأعرف نعوته وأحواله ، فإذا قال أنا مؤمن ، فكأنه مدح نفسه بأعظم المدائح . فوجب أن يقول : إن شاء الله ليصير هذا سبباً لحصول الانكسار في القلب وزوال العجب . روي أن أبا حنيفة رحمه الله ، قال لقتادة : لم تستثني في إيمانك . قال اتباعاً لإبراهيم عليه السلام في قوله :{ والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين } [ الشعراء : 82 ] فقال أبو حنيفة رحمه الله : هلا اقتديت به في قوله : { أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى } [ البقرة : 260 ] وأقول : كان لقتادة أن يجيب ، ويقول : إنه بعد أن قال : { بلى } قال : { ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } فطلب مزيد الطمأنينة ، وهذا يدل على أنه لا بد من قول إن شاء الله . الثاني : أنه تعالى ذكر في هذه الآية أن الرجل لا يكون مؤمناً إلا إذا كان موصوفاً بالصفات الخمسة ، وهي الخوف من الله ، والإخلاص في دين الله ، والتوكل على الله ، والإتيان بالصلاة والزكاة لوجه الله تعالى . وذكر في أول الآية ما يدل على الحصر ، وهو قوله : { إِنَّمَا المؤمنون الذين } هم كذا وكذا . وذكر في آخر الآية قوله : { أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً } وهذا أيضاً يفيد الحصر ، فلما دلت هذه الآية على هذا المعنى ، ثم إن الإنسان لا يمكنه القطع على نفسه بحصول هذه الصفات الخمس ، لا جرم كان الأولى أن يقول : إن شاء الله . روى أن الحسن سأله رجل وقال : أمؤمن أنت؟ فقال : الإيمان إيمانان ، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، فأنا مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قوله : { إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا؟ الثالث : أن القرآن العظيم دل على أن كل من كان مؤمناً ، كان من أهل الجنة فالقطع بكونه مؤمناً يوجب القطع بكونه من أهل الجنة ، وذلك لا سبيل إليه ، فكذا هذا . ونقل عن الثوري أنه قال : من زعم أنه مؤمن بالله حقاً ، ثم لم يشهد بأنه من أهل الجنة ، فقد آمن بنصف الآية . والمقصود أنه كما لا سبيل إلى القطع بأنه من أهل الجنة ، فكذلك لا سبيل إلى القطع بأنه مؤمن . الرابع : أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب وعن المعرفة ، وعلى هذا فالرجل إنما يكون مؤمناً في الحقيقة عند ما يكون هذا التصديق وهذه المعرفة حاصلة في القلب حاضرة في الخاطر ، فأما عند زوال هذا المعنى ، فهو إنما يكون مؤمناً بحسب حكم الله ، أما في نفس الأمر فلا .
إذا عرفت هذا لم يبعد أن يكون المراد بقوله إن شاء الله عائداً إلى استدامة مسمى الإيمان واستحضار معناه أبداً دائماً من غير حصول ذهول وغفلة عنه ، وهذا المعنى محتمل . الخامس : أن أصحاب الموافاة يقولون : شرط كونه مؤمناً في الحال حصول الموافاة على الإيمان ، وهذا الشرط لا يحصل إلا عند الموت ، ويكون مجهولاً ، والموقوف على المجهول مجهول . فلهذا السبب حسن أن يقال : أنا مؤمن إن شاء الله . السادس : أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله عند الموت ، والمراد صرف هذا الاستثناء إلى الخاتمة والعاقبة ، فإن الرجل وإن كان مؤمناً في الحال ، إلا أن بتقدير أن لا يبقى ذلك الإيمان في العاقبة؛ كان وجوده كعدمه ، ولم تحصل فائدة أصلاً ، فكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء هذا المعنى . السابع : أن ذكر هذه الكلمة لا ينافي حصول الجزم والقطع ، ألا ترى أنه تعالى قال : { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاء الله ءامِنِينَ } [ الفتح : 27 ] وهو تعالى منزه عن الشك والريب . فثبت أنه تعالى إنما ذكر ذلك تعليماً منه لعباده ، هذا المعنى ، فكذا ههنا الأولى ذكر هذه الكلمة الدالة على تفويض الأمور إلى الله ، حتى يحصل ببركة هذه الكلمة دوام الإيمان . الثامن : أن جماعة من السلف ذكروا هذه الكلمة ، ورأينا لهم ما يقويه في كتاب الله وهو قوله تعالى : { أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً } وهم المؤمنون في علم الله وفي حكمه ، وذلك يدل على وجود جمع يكونون مؤمنين ، وعلى وجود جمع لا يكونون كذلك . فالمؤمن يقول : إن شاء الله حتى يجعله الله ببركة هذه الكلمة من القسم الأول لا من القسم الثاني . أما القائلون : أنه لا يجوز ذكر هذه الكلمة فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه : الأول : أن المتحرك يجوز أن يقول : أنا متحرك ولا يجوز أن يقول أنا متحرك إن شاء الله ، وكذا القول في القائم والقاعد ، فكذا ههنا وجب أن يكون المؤمن مؤمناً ، ولا يجوز أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، وكما أن خروج الجسم عن كونه متحركاً في المستقبل لا يمنع من الحكم عليه بكونه متحركاً حال قيام الحركة به فكذلك احتمال زوال الإيمان في المستقبل ، لا يقدح في كونه مؤمناً في الحال . الثاني : أنه تعالى قال : { أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً } فقد حكم تعالى عليهم بكونهم مؤمنين حقاً فكان قوله إن شاء الله يوجب الشك فيما قطع الله عليه بالحصول وذلك لا يجوز .
والجواب عن الأول : أن الفرق بين وصف الإنسان بكونه مؤمناً ، وبين وصفه بكونه متحركاً ، حاصل من الوجوه الكثيرة التي ذكرناها ، وعند حصول الفرق يتعذر الجمع ، وعن الثاني أنه تعالى حكم على الموصوفين بالصفات المذكورة بكونهم مؤمنين حقاً ، وذلك الشرط مشكوك فيه ، والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط . فهذا يقوي عين مذهبنا . والله أعلم .
الإبانة الكبرى لابن بطة - (ج 3 / ص 198)
1169 - حدثنا أبو شيبة عبد العزيز بن جعفر ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا مالك بن مغول ، عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب ، عن عائشة ، رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله : ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ( سورة : المؤمنون آية رقم : 60) هو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر ؟ قال : « لا يا بنت الصديق ، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ، وهو يخاف أن لا يقبل منه » قال الشيخ : فلما أن لزم قلوبهم هذا الإشفاق ، لزموا الاستثناء في كلامهم ، وفي مستقبل أعمالهم ، فمن صفة أهل العقل والعلم : أن يقول الرجل : أنا مؤمن إن شاء الله ، لا على وجه الشك ، ونعوذ بالله من الشك في الإيمان ، لأن الإيمان إقرار لله بالربوبية ، وخضوع له في العبودية ، وتصديق له في كل ما قال وأمر ونهى . فالشاك في شيء من هذا كافر لا محالة ، ولكن الاستثناء يصح من وجهين : أحدهما نفي التزكية لئلا يشهد الإنسان على نفسه بحقائق الإيمان وكوامله ، فإن من قطع على نفسه بهذه الأوصاف شهد لها بالجنة ، وبالرضاء وبالرضوان ، ومن شهد لنفسه بهذه الشهادة كان خليقا بضدها ، أرأيت لو أن رجلا شهد عند بعض الحكام على شيء تافه نزر ، فقال له الحاكم : لست أعرفك ولكني أسأل عنك ، ثم أسمع شهادتك فقال له : إنك لن تسأل عني أعلم بي مني أنا رجل ذكي عدل ، مأمون رضي ، جائز الشهادة ، ثابت العدالة . أليس كان قد أخبر عن نفسه بضعف بصيرته ، وقلة عقله بما دل الحاكم على رد شهادته ، وأغناه عن المسألة عنه ، فما ظنك بمن قطع على نفسه بحقائق الإيمان التي هي من أوصاف النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحكم لنفسه بالخلود في جنات النعيم . ويصح الاستثناء أيضا من وجه آخر يقع على مستقبل الأعمال ومستأنف الأفعال وعلى الخاتمة ، وبقية الأعمار ، ويريد إني مؤمن إن ختم الله لي بأعمال المؤمنين ، وإن كنت عند الله مثبتا في ديوان أهل الإيمان ، وإن كان ما أنا عليه من أفعال المؤمنين أمرا يدوم لي ويبقى علي حتى ألقى الله به ، ولا أدري هل أصبح وأمسي على الإيمان أم لا ؟ وبذلك أدب الله نبيه والمؤمنين من عباده ، قال تعالى : ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ( سورة : الكهف آية رقم : 23) . فأنت لا يجوز لك إن كنت ممن يؤمن بالله وتعلم أن قلبك بيده يصرفه كيف شاء أن تقول قولا حزما حتما : إني أصبح غدا مؤمنا ، ولا تقول : إني أصبح غدا كافرا ولا منافقا ، إلا أن تصل كلامك بالاستثناء فتقول : إن شاء الله ، فهكذا أوصاف العقلاء من المؤمنين
وفي بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية - (ج 1 / ص 466)
( وَيَصِحُّ أَنْ يَقُولَ مَنْ وُجِدَا ) التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ ( فِيهِ أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا ) لِتَحَقُّقِ الْإِيمَانِ فِيهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَحَقَّقْ بِأَنْ كَانَ شَاكًّا أَوْ مُتَرَدِّدًا أَوْ خَالِي الذِّهْنِ لَكَانَ كَافِرًا وَمَنْ شَكَّ فِي إيمَانِهِ فَهُوَ كَافِرٌ ( وَلَا يَنْبَغِي ) أَيْ لَا يَلِيقُ بَلْ يَجُوزُ ( أَنْ يَقُولَ أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانُ تَغْيِيرٍ يُبْطِلُ جَمِيعَ الْعُقُودِ فَيَرْفَعُ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ لِلتَّأَدُّبِ أَوْ التَّبَرُّكِ وَالْإِحَالَةِ إلَى مَشِيئَتِهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ أَوْ لِلشَّكِّ فِي عَاقِبَتِهِ أَوْ التَّبَرِّي مِنْ تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ وَالْإِعْجَابِ بِحَالِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ السَّلَفِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي نَفْسِهِ لَكِنْ الْأَوْلَى تَرْكُهُ لِإِيهَامِ الشَّكِّ وَقَدْ أُمِرْنَا بِاتِّقَاءِ مَوَاضِعِ التُّهَمِ .
وَبِالْجُمْلَةِ نِزَاعُ الْفَرِيقَيْنِ رَاجِعٌ إلَى اللَّفْظِ ( وَالْإِيمَانُ بِهَذَا الْمَعْنَى ) أَيْ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ ( مَخْلُوقٌ ) كَسَائِرِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ ( كَسْبِيٌّ ) أَيْ حَاصِلٌ بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ بِالِاخْتِيَارِ كَصَرْفِ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَقَدْ عَرَفْت حَالَ مَا يَحْصُلُ بِالضَّرُورَةِ ( وَأَمَّا ) الْإِيمَانُ ( بِمَعْنَى هِدَايَةِ الرَّبِّ تَعَالَى لِعَبْدِهِ إلَى مَعْرِفَتِهِ ) بِلَا كَيْفٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ ( فَغَيْرُ مَخْلُوقٍ ) لِأَنَّ الْهِدَايَةَ مِنْ التَّكْوِينِ وَهُوَ قَدِيمٌ عِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ وَإِنْ كَانَ حَادِثًا عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ قِيلَ : عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ مَنْ قَالَ : الْإِيمَانُ مَخْلُوقٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ وَكَذَا عَكْسُهُ .

وَصَلَّيْت - إنْ شَاءَ اللَّهُ - لِخَوْفِ أَنْ لَا يَكُونَ آتَى بِالْوَاجِبِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا عَلَى جِهَةِ الشَّكِّ فِيمَا بِقَلْبِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ ؛ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْآيَةِ : إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ الْعَمَلَ إلَّا مِمَّنْ يَتَّقِي الذُّنُوبَ كُلَّهَا، لِأَنَّ الْكَافِرَ وَالْفَاسِقَ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ لَيْسَ مُتَّقِيًا فَإِنْ كَانَ قَبُولُ الْعَمَلِ مَشْرُوطًا بِكَوْنِ الْفَاعِلِ حِينَ فِعْلِهِ لَا ذَنْبَ لَهُ امْتَنَعَ قَبُولُ التَّوْبَةِ . بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَطَ التَّقْوَى فِي الْعَمَلِ ، فَإِنَّ التَّائِبَ حِينَ يَتُوبُ يَأْتِي بِالتَّوْبَةِ الْوَاجِبَةِ وَهُوَ حِينَ شُرُوعِهِ فِي التَّوْبَةِ مُنْتَقِلٌ مِنْ الشَّرِّ إلَى الْخَيْرِ لَمْ يَخْلُصْ مِنْ الذَّنْبِ بَلْ هُوَ مُتَّقٍ فِي حَالِ تَخَلُّصِهِ مِنْهُ .
وَ " أَيْضًا " فَلَوْ أَتَى الْإِنْسَانُ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى كَبِيرَةٍ ثُمَّ تَابَ لَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ سَيِّئَاتُهُ بِالتَّوْبَةِ وَتُقْبَلُ مِنْهُ تِلْكَ الْحَسَنَاتُ وَهُوَ حِينَ أَتَى بِهَا كَانَ فَاسِقًا .
وَ " أَيْضًا " فَالْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ وَعَلَيْهِ لِلنَّاسِ مَظَالِمُ مِنْ قَتْلٍ وَغَصْبٍ وَقَذْفٍ - وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إذَا أَسْلَمَ - قَبْلَ إسْلَامِهِ مَعَ بَقَاءِ مَظَالِمِ الْعِبَادِ عَلَيْهِ ؛ فَلَوْ كَانَ الْعَمَلُ لَا يُقْبَلُ إلَّا مِمَّنْ لَا كَبِيرَةَ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُ الذِّمِّيِّ حَتَّى يَتُوبَ مِنْ الْفَوَاحِشِ وَالْمَظَالِمِ ؛ بَلْ يَكُونُ مَعَ إسْلَامِهِ مُخَلَّدًا وَقَدْ كَانَ النَّاسُ مُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَهُمْ ذُنُوبٌ مَعْرُوفَةٌ وَعَلَيْهِمْ تَبِعَاتٌ فَيُقْبَلُ إسْلَامُهُمْ وَيَتُوبُونَ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ التَّبِعَاتِ .

كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ لَمَّا أَسْلَمَ وَكَانَ قَدْ رَافَقَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَغَدَرَ بِهِمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَجَاءَ فَأَسْلَمَ فَلَمَّا جَاءَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْمُغِيرَةُ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ دَفَعَهُ الْمُغِيرَةُ بِالسَّيْفِ فَقَالَ : مَنْ هَذَا فَقَالُوا : ابْنُ أُخْتِك الْمُغِيرَةُ فَقَالَ يَا غدر أَلَسْت أَسْعَى فِي غُدْرَتِكَ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا الْإِسْلَامُ فَأَقْبَلُهُ وَأَمَّا الْمَالُ فَلَسْت مِنْهُ فِي شَيْءٍ }(1)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(2731 و2732 ) عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ ، حَتَّى كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِى خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ » . فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ ، وَسَارَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِى يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا ، بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ . فَقَالَ النَّاسُ حَلْ حَلْ . فَأَلَحَّتْ ، فَقَالُوا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ ، خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ ، ثُمَّ قَالَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يَسْأَلُونِى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا » . ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ ، قَالَ فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ ، عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا ، فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ ، وَشُكِىَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعَطَشُ ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّىِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ ، إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِىُّ فِى نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ ، وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ ، فَقَالَ إِنِّى تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَىٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَىٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَمَعَهُمُ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الْحَرْبُ ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً ، وَيُخَلُّوا بَيْنِى وَبَيْنَ النَّاسِ ، فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا ، وَإِلاَّ فَقَدْ جَمُّوا ، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ ، لأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِى هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِى ، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ » . فَقَالَ بُدَيْلٌ سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ . قَالَ فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا قَالَ إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ ، وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلاً ، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا ، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ لاَ حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَىْءٍ . وَقَالَ ذَوُو الرَّأْىِ مِنْهُمْ هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ . قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا ، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ أَىْ قَوْمِ أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ قَالُوا بَلَى . قَالَ أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ قَالُوا بَلَى . قَالَ فَهَلْ تَتَّهِمُونِى . قَالُوا لاَ . قَالَ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّى اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظٍ ، فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَىَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِى وَوَلَدِى وَمَنْ أَطَاعَنِى قَالُوا بَلَى . قَالَ فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ ، اقْبَلُوهَا وَدَعُونِى آتِهِ . قَالُوا ائْتِهِ . فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ أَىْ مُحَمَّدُ ، أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى ، فَإِنِّى وَاللَّهِ لأَرَى وُجُوهًا ، وَإِنِّى لأَرَى أَوْشَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ . فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ امْصُصْ بَظْرَ اللاَّتِ ، أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ فَقَالَ مَنْ ذَا قَالُوا أَبُو بَكْرٍ . قَالَ أَمَا وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْلاَ يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِى لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لأَجَبْتُكَ . قَالَ وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ ، وَقَالَ لَهُ أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ فَقَالَ مَنْ هَذَا قَالُوا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ . فَقَالَ أَىْ غُدَرُ ، أَلَسْتُ أَسْعَى فِى غَدْرَتِكَ وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ ، فَقَتَلَهُمْ ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَمَّا الإِسْلاَمَ فَأَقْبَلُ ، وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِى شَىْءٍ » . ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَيْنَيْهِ . قَالَ فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِى كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ أَىْ قَوْمِ ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِىِّ وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ ، يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مُحَمَّدًا ، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِى كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ ، فَاقْبَلُوهَا . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى كِنَانَةَ دَعُونِى آتِهِ . فَقَالُوا ائْتِهِ . فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « هَذَا فُلاَنٌ ، وَهْوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ » . فَبُعِثَتْ لَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِى لِهَؤُلاَءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ . فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ . فَقَالَ دَعُونِى آتِهِ . فَقَالُوا ائْتِهِ . فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « هَذَا مِكْرَزٌ وَهْوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ » . فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو . قَالَ مَعْمَرٌ فَأَخْبَرَنِى أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ » . قَالَ مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِىُّ فِى حَدِيثِهِ فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ هَاتِ ، اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا ، فَدَعَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - الْكَاتِبَ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ » . قَالَ سُهَيْلٌ أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا هُوَ وَلَكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ . كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ . فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ وَاللَّهِ لاَ نَكْتُبُهَا إِلاَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ » . ثُمَّ قَالَ « هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ » . فَقَالَ سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلاَ قَاتَلْنَاكَ ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « وَاللَّهِ إِنِّى لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِى . اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ » . قَالَ الزُّهْرِىُّ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ « لاَ يَسْأَلُونِى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا » . فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ » . فَقَالَ سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لاَ تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَكَتَبَ . فَقَالَ سُهَيْلٌ وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ ، إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا . قَالَ الْمُسْلِمُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِى قُيُودِهِ ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ ، حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ . فَقَالَ سُهَيْلٌ هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَىَّ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ » . قَالَ فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَىْءٍ أَبَدًا . قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « فَأَجِزْهُ لِى » . قَالَ مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ . قَالَ « بَلَى ، فَافْعَلْ » . قَالَ مَا أَنَا بِفَاعِلٍ . قَالَ مِكْرَزٌ بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ . قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ أَىْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ، أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِى اللَّهِ . قَالَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَتَيْتُ نَبِىَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ أَلَسْتَ نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ « بَلَى » . قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ « بَلَى » . قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا قَالَ « إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهْوَ نَاصِرِى » . قُلْتُ أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ قَالَ « بَلَى ، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ » . قَالَ قُلْتُ لاَ . قَالَ « فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ » . قَالَ فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ يَا أَبَا بَكْرٍ ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ بَلَى . قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ بَلَى . قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا قَالَ أَيُّهَا الرَّجُلُ ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَيْسَ يَعْصِى رَبَّهُ وَهْوَ نَاصِرُهُ ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ . قُلْتُ أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ قَالَ بَلَى ، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ . قَالَ الزُّهْرِىِّ قَالَ عُمَرُ فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالاً . قَالَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ « قُومُوا فَانْحَرُوا ، ثُمَّ احْلِقُوا » . قَالَ فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِىَ مِنَ النَّاسِ . فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ . فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ . فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ ، قَامُوا فَنَحَرُوا ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا ، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا ، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ) حَتَّى بَلَغَ ( بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِى الشِّرْكِ ، فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ ، وَالأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ - رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ - وَهْوَ مُسْلِمٌ فَأَرْسَلُوا فِى طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ ، فَقَالُوا الْعَهْدَ الَّذِى جَعَلْتَ لَنَا . فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ وَاللَّهِ إِنِّى لأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلاَنُ جَيِّدًا . فَاسْتَلَّهُ الآخَرُ فَقَالَ أَجَلْ ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ ، لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ . فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْهِ ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ ، وَفَرَّ الآخَرُ ، حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ رَآهُ « لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا » . فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِى وَإِنِّى لَمَقْتُولٌ ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ ، قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ ، قَدْ رَدَدْتَنِى إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَنْجَانِى اللَّهُ مِنْهُمْ . قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ » . فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ . قَالَ وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ ، فَلَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ ، فَجَعَلَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلاَّ لَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلاَّ اعْتَرَضُوا لَهَا ، فَقَتَلُوهُمْ ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ لَمَّا أَرْسَلَ ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهْوَ آمِنٌ ، فَأَرْسَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ) حَتَّى بَلَغَ ( الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ) وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِىُّ اللَّهِ ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ .
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 8 / ص 283)
قَوْله : ( أَيْ غُدَر ) بِالْمُعْجَمَةِ بِوَزْنِ عُمَر مَعْدُول عَنْ غَادِر مُبَالَغَة فِي وَصْفه بِالْغَدْرِ .
قَوْله : ( أَلَسْت أَسْعَى فِي غَدْرَتك ) أَيْ أَلَسْت أَسْعَى فِي دَفْع شَرّ غَدْرَتك ؟ وَفِي مَغَازِي عُرْوَة " وَاَللَّه مَا غَسَلْت يَدَيَّ مِنْ غَدْرَتك ، لَقَدْ أَوْرَثْتنَا الْعَدَاوَة فِي ثَقِيف " وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " وَهَلْ غَسَلْت سَوْأَتك إِلَّا بِالْأَمْسِ " قَالَ اِبْن هِشَام فِي السِّيرَة : أَشَارَ عُرْوَة بِهَذَا إِلَى مَا وَقَعَ لِلْمُغِيرَةِ قَبْل إِسْلَامه ، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ ثَلَاثَة عَشَر نَفَرًا مِنْ ثَقِيف مِنْ بَنِي مَالِك فَغَدَرَ بِهِمْ وَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالهمْ ، فَتَهَايَجَ الْفَرِيقَانِ بَنُو مَالِك وَالْأَحْلَاف رَهْط الْمُغِيرَة فَسَعَى عُرْوَة بْن مَسْعُود عَمّ الْمُغِيرَة حَتَّى أَخَذُوا مِنْهُ دِيَة ثَلَاثَة عَشَر نَفْسًا وَاصْطَلَحُوا . وَفِي الْقِصَّة طُول . وَقَدْ سَاقَ اِبْن الْكَلْبِيّ وَالْوَاقِدِيّ الْقِصَّة ، وَحَاصِلهَا أَنَّهُمْ كَانُوا خَرَجُوا زَائِرِينَ الْمُقَوْقِس بِمِصْرَ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَعْطَاهُمْ وَقَصَّرَ بِالْمُغِيرَةِ فَحَصَلَتْ لَهُ الْغَيْرَة مِنْهُمْ ، فَلَمَّا كَانُوا بِالطَّرِيقِ شَرِبُوا الْخَمْر ، فَلَمَّا سَكِرُوا وَنَامُوا وَثَبَ الْمُغِيرَة فَقَتَلَهُمْ وَلَحِقَ بِالْمَدِينَةِ فَأَسْلَمَ .
قَوْله : ( أَمَّا الْإِسْلَام فَأَقْبَل )
بِلَفْظِ الْمُتَكَلِّم أَيْ أَقْبَلهُ .
قَوْله : ( وَأَمَّا الْمَال فَلَسْت مِنْهُ فِي شَيْء ) أَيْ لَا أَتَعَرَّض لَهُ لِكَوْنِهِ أَخَذَهُ غَدْرًا . وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَحِلّ أَخْذ أَمْوَال الْكُفَّار فِي حَال الْأَمْن غَدْرًا لِأَنَّ الرُّفْقَة يُصْطَحَبُونَ عَلَى الْأَمَانَة وَالْأَمَانَة تُؤَدَّى إِلَى أَهْلهَا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا ، وَأَنَّ أَمْوَال الْكُفَّار إِنَّمَا تَحِلّ بِالْمُحَارَبَةِ وَالْمُغَالَبَة ، وَلَعَلَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الْمَال فِي يَده لِإِمْكَانِ أَنْ يُسْلِم قَوْمه فَيَرُدّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالهمْ ، وَيُسْتَفَاد مِنْ الْقِصَّة أَنَّ الْحَرْبِيّ إِذَا أَتْلَفَ مَال الْحَرْبِيّ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَان ، وَهَذَا أَحَد الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ .

، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}(1)
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 1918)
قوله تعالى : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } الآية . قال المشركون؛ ولا نرضى بمجالسة أمثال هؤلاء يعنون سَلْمان وصُهَيباً وبِلالاً وخَبَّاباً فاطردهم عنك؛ وطلبوا أن يَكتب لهم بذلك ، فهمّ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، ودعا عليّاً ليكتب؛ فقام الفقراء وجلسوا ناحية؛ فأنزل الله الآية . ولهذا أشار سعد بقوله في الحديث الصحيح : فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع؛ وسيأتي ذكره . وكان النبي صلى الله عليه وسلم إنما مال إلى ذلك طمعاً في إسلامهم ، وإسلام قومهم ، ورأى أن ذلك لا يفوّت أصحابه شيئاً ، ولا ينقص لهم قدراً ، فمال إليه فأنزل الله الآية ، فنهاه عما همَّ به من الطّرد لا أنه أوقع الطرد . روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر ، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : اطرد هؤلاءِ عنك لا يجترئون علينا؛ قال : وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هُذَيل وبلال ورجلان لست أسميهما ، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع ، فحدث نفسه ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } . قيل : المراد بالدعاء المحافظة على الصَّلاة المكتوبة في الجماعة؛ قاله ابن عباس ومجاهد والحسن . وقيل : الذكر وقراءة القرآن . ويحتمل أن يريد الدعاء في أوّل النهار وآخره؛ ليستفتحوا يومهم بالدعاء رغبة في التوفيق ، ويختموه بالدعاء طلباً للمغفرة . { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي طاعته ، والإخلاص فيها ، أي يخلصون في عبادتهم وأعمالهم لله ، ويتوجهون بذلك إليه لا لغيره . وقيل : يريدون الله الموصوف بأن له الوجه كما قال : { ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام } [ الرحمن : 27 ] وهو كقوله : { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ } [ الرعد : 22 ] . وخص الغداة والعشيّ بالذكر؛ لأن الشغل غالب فيهما على الناس ، ومن كان في وقت الشغل مقبلاً على العبادة كان في وقت الفراغ من الشغل أعمل . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يصبر نفسه معهم كما أمره الله في قوله : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } [ الكهف : 28 ] فكان لا يقوم حتى يكونوا هم الذين يبتدئون القيام ، وقد أخرج هذا المعنى مبيناً مكملاً ابن ماجه في سننه " عن خَبّاب في قول الله عزّ وجلّ : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي } إلى قوله : { فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } قال : جاء الأقرعُ بن حابِس التميميّ وعُيينة بن حِصْن الفَزَاريّ فوجدا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صُهَيب وبِلال وعَمّار وخَبّاب ، قاعداً في ناس من الضعفاء من المؤمنين؛ فلما رأوهم حَوْل النبي صلى الله عليه وسلم حَقَروهم؛ فأتوه فخلوا به وقالوا : إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلساً تَعرفُ لنا به العرب فضلنا ، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبُد ، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك ، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت؛ قال : «نعم» قالوا : فاكتب لنا عليك كتاباً؛ قال : فدعا بصحيفة ودعا عليّاً رضي الله عنه ليكتب ونحن قعود في ناحية؛ فنزل جبريل عليه السَّلام فقال : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } ثم ذكر الأقرع بن حابِس وعُيَيْنة بن حِصْن؛ فقال : { وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين } [ الأنعام : 53 ] ثم قال : { وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } [ الأنعام : 54 ] قال : فدنونا منه حتى وضعنا رُكَبنا على رُكْبته؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا فإذا أراد أن يقوم قام وتَركَنَا : فأنزل الله عزّ وجلّ { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا } ولا تجالس الأشراف { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا } يعني عُيَنْنة والأقرع { واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } [ الكهف : 28 ] أي هلاكاً قال : أَمْر عُيَيْنة والأقرع؛ ثم ضرب لهم مَثَل الرجلين ومَثَل الحياة الدنيا . قال خَبَّاب : فكنا نقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بلغنا الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم "؛ رواه عن أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القَطَّان حدّثنا عمرو بن محمد العَنْقَزِيّ حدّثنا أسباط عن السُّديّ عن أبي سعيد الأزْدي وكان قارىء الأزد عن أبي الكنود عن خَبّاب؛ وأخرجه أيضاً " عن سعد قال : نزلت هذه الآية فينا ستة ، فيّ وفي ابن مسعود وصُهَيب وعمّار والمِقْداد وبلال؛ قال : قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لا نرضى أن نكون أتباعاً لهم فاطردهم ، قال : فدخل قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ما شاء الله أن يدخل؛ فأنزل الله عزّ وجلّ { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي } الآية " وقرىء «بِالغُدْوَةِ» وسيأتي بيانه في «الكهف» إن شاء الله .
قوله تعالى : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } أي من جزائهم ولا كفاية أرزاقهم ، أي جزاؤهم ورزقهم على الله ، وجزاؤك ورزقك على الله لا على غيره . «مِن» الأولى للتبعيض ، والثانية زائدة للتوكيد . وكذا { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ } المعنى وإذا كان الأمر كذلك فأقبل عليهم وجالسهم ولا تطردهم مراعاة لحق من ليس على مثل حالهم في الدّين والفضل؛ فإن فعلت كنت ظالماً .
وحاشاه من وقوع ذلك منه ، وإنما هذا بيان للأحكام ، ولئلا يقع مثل ذلك من غيره من أهل السلام؛ وهذا مثل قوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] وقد علم الله منه أنه لا يُشرِك ولا يَحبط عمله . «فَتَطْرُدَهُمْ» جواب النفي . { فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } نصب بالفاء في جواب النهي؛ المعنى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم فتكون من الظالمين ، وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم ، على التقديم والتأخير . والظلم أصله وضع الشيء في غير موضعه؛ وقد تقدّم في «البقرة» مستوفى . وقد حصل من قوّة الآية والحديث النهي عن أن يعظم أحد لجاهه ولثوبه ، وعن أن يحتقر أحد لخموله ولرثاثة ثوبيه .

(52) سورة الأنعام ، وَقَالُوا لِنُوحِ : { قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) (1)[الشعراء] } . وَلَا نَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ جَاءَهُ ذِمِّيٌّ يُسْلِمُ فَقَالَ لَهُ: لَا يَصِحُّ إسْلَامُك حَتَّى لَا يَكُونَ عَلَيْك ذَنْبٌ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَعْمَالِ الْبِرِّ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ .
( السَّبَبُ الرَّابِعُ الدَّافِعُ لِلْعِقَابِ ) : دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُؤْمِنِ (2):
مِثْلُ صَلَاتِهِمْ عَلَى جِنَازَتِهِ، فَعَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلِّى عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إِلاَّ شُفِّعُوا فِيهِ » (3)
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3171)
والأرذلون : جمع الأرذل . وهو الأقل من غيره فى المال والجاه والنسب .
أى : قال قوم نوح له عندما دعاهم إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - : يا نوح أنؤمن لك ، والحال أن الذين اتبعوك من سفلة الناس وفقرائهم ، وأصحاب الحرف الدنيئة فينا . . ؟
وهذا المنطق المرذول قد حكاه القرآن فى كثير من آياته ، على ألسنة المترفين ، وهم يردون على أنبيائهم عندما يدعونهم إلى الدين الحق . .
وهنا يرد عليهم نوح ردا حكيما قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبِّي } .
أى : قال لهم على سبيل الاستنكار لما واجهوه به : وأى علم لى بأعمال أتباعى ، إن الذى يعلم حقيقة نواياهم وأعمالهم هو الله - تعالى - أما أنا فوظيفتى قبول أعمال الناس على حسب ظواهرها .
وهؤلاء الضعفاء - الأرذلون فى زعمكم - ليس حسابهم إلا على الله - تعالى - وحده ، فهو أعلم ببواطنهم وبأحوالهم منى ومنكم { لَوْ تَشْعُرُونَ } أى : لو كنتم من أهل الفهم والشعور بحقائق الأمور لا بزيفها ، لعلمتم سلامة ردى عليكم ولكنكم قوم تزنون الناس بميزان غير عادل ، لذا قلتم ما قلتم .
ثم يحسم الأمر معهم فى هذه القضية فيقول : { وَمَآ أَنَاْ } بحال من الأحوال { بِطَارِدِ المؤمنين } الذين اتبعونى وصدقونى وآمنوا بدعوتى سواء أكانوا من الأرذلين - فى زعمكم - أم من غيرهم ، { إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أى : ليست وظيفتى إلا الإنذار الواضح للناس بسوء المصير ، إذا ما استمروا على كفرهم ، سواء أكانوا من الأغنياء أم من الفقراء .
فأنت ترى أن نوحا - عليه السلام - قد جمع فى رده عليهم ، بين المنطق الرصين الحكيم ، وبين الحزم والشجاعة والزجر الذى يخرس ألسنتهم .
في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 352)
وهم يعنون بالأرذلين الفقراء . وهم السابقون إلى الرسل والرسالات , وإلى الإيمان والاستسلام . لا يصدهم عن الهدى كبرياء فارغة , ولا خوف على مصلحة أو وضع أو مكانة . ومن ثم فهم الملبون السابقون . فأما الملأ من الكبراء فتقعد بهم كبرياؤهم , وتقعد بهم مصالحهم , القائمة على الأوضاع المزيفة , المستمدة من الأوهام والأساطير , التي تلبس ثوب الدين . ثم هم في النهاية يأنفون أن يسويهم التوحيد الخالص بالجماهير من الناس , حيث تسقط القيم الزائفة كلها , وترتفع قيمة واحدة . قيمة الإيمان والعمل الصالح . قيمة واحدة ترفع قوما وتخفض آخرين . بميزان واحد هو ميزان العقيدة والسلوك القويم .
ومن ثم يجيبهم نوح الجواب الذي يقرر القيم الثابتة ; ويحدد اختصاص الرسول , ويدع أمر الناس وحسابهم لله على ما يعملون .
(قال:وما علمي بما كانوا يعملون ? إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون . وما أنا بطارد المؤمنين . إن أنا إلا نذير مبين) .
والكبراء يقولون دائما عن الفقراء:إن عاداتهم وأخلاقهم لا ترضي العلية , ولا تطاق في أوساط الطبقة الراقية ذات الحس المرهف والذوق اللطيف ! فنوح يقول لهم:إنه لا يطلب إلى الناس شيئا سوى الإيمان . وقد آمنوا . فأما عملهم قبله فموكول إلى الله , وهو الذي يزنه ويقدره . ويجزيهم على الحسنات والسيئات . وتقدير الله هو الصحيح (لو تشعرون) بالقيم الحقة التي ترجح في ميزان الله . وما وظيفتي إلا الإنذار والإفصاح:(إن أنا إلا نذير مبين) .
(2) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1186) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 2446) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 983) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 686) وففروا إلى الله1 - (ج 1 / ص 428و429)
(3) - صحيح مسلم برقم(2241 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 3 / ص 366)
قَالَ الْقَاضِي : قِيلَ هَذِهِ الْأَحَادِيث خَرَجَتْ أَجْوِبَة لِسَائِلِينَ سَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ ، فَأَجَابَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ عَنْ سُؤَاله . هَذَا كَلَام الْقَاضِي ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِقَبُولِ شَفَاعَة مِائَة فَأَخْبَرَ بِهِ ، ثُمَّ بِقَبُولِ شَفَاعَة أَرْبَعِينَ ، ثُمَّ ثَلَاثَة صُفُوف وَإِنْ قَلَّ عَدَدهمْ ، فَأَخْبَرَ بِهِ ، وَيَحْتَمِل أَيْضًا أَنْ يُقَال : هَذَا مَفْهُوم عَدَد ، وَلَا يَحْتَجّ بِهِ جَمَاهِير الْأُصُولِيِّينَ فَلَا يَلْزَم مِنْ الْإِخْبَار عَنْ قَبُول شَفَاعَة مِائَة مَنْع قَبُول مَا دُون ذَلِكَ ، وَكَذَا فِي الْأَرْبَعِينَ مَعَ ثَلَاثَة صُفُوف ، وَحِينَئِذٍ كُلّ الْأَحَادِيث مَعْمُول بِهَا وَيَحْصُل الشَّفَاعَة بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثَلَاثَة صُفُوف وَأَرْبَعِينَ .
وفي شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 4 / ص 99)
قال النووي رحمه الله باب استحباب تكثير المصلين على الميت ثم ذكر المؤلف رحمه الله ثلاثة أحاديث حديث عائشة وحديث عبد الله بن عباس وحديث مالك بن هبيرة رضي الله عنهم وكلها تدل على أنه كلما كثر الجمع على الميت كان ذلك أفضل وأرجى للشفاعة ففي حديث عائشة أنه من صلى عليه طائفة من الناس يبلغون مائة يشفعون له إلا شفعهم الله فيه ومعلوم أن المصلين على الجنازة يشفعون إلى الله عز وجل لهذا الميت فهم يسألون من الله له المغفرة والرحمة والدعاء للميت في الجنازة من أوجب ما يكون في الصلاة بل هو ركن من أركان الصلاة لا تصح صلاة الجنازة إلا به إلا المسبوق وحديث ابن عباس يدل على أنه من قام على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه أي قبل شفاعتهم فيه وهذه بشرى للمؤمن إذا كثر المصلون على جنازته فشفعوا له عند الله أن الله تعالى يشفعهم فيه .
أما حديث مالك بن هبيرة ففيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب يعني وجبت له الجنة وهذه الأحاديث كلها تدل على أنه كلما كثر الجمع كان أفضل ولهذا نجد أن بعض الناس إذا صلى على جنازة في مسجد نبه أهل المساجد الأخرى ليحضروا إليه حتى يكثر الجمع فينبغي للإمام إذا رأى الناس الذين جاءوا ليشهدوا صلاة الجنازة قد فاتهم شيء من صلاة الفريضة ألا يتعجل بالصلاة على الميت حتى ينتهي الذين يقضون صلاتهم ليشاركوا الحاضرين في الصلاة على الميت فيكون ذلك أكثر للجمع وربما تكون دعوة واحد منهم هي المستجابة وكون بعض الناس بعدما يسلم يقوم ويصلي على الجنازة وخلفه صف أو أكثر فهذا وإن كان جائزا لكن الأفضل أن ينتظر حتى يتم الناس صلاتهم ويصلون على الجنازة وهذا لا يفوت شيئا كثيرا غاية ما هنالك عشر دقائق على الأكثر ..

.
وَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مَاتَ ابْنٌ لَهُ بِقُدَيْدٍ أَوْ بِعُسْفَانَ فَقَالَ يَا كُرَيْبُ انْظُرْ مَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنَ النَّاسِ. قَالَ فَخَرَجْتُ فَإِذَا نَاسٌ قَدِ اجْتَمَعُوا لَهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ تَقُولُ هُمْ أَرْبَعُونَ قَالَ نَعَمْ. قَالَ أَخْرِجُوهُ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلاً لاَ يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلاَّ شَفَّعَهُمُ اللَّهُ فِيهِ ». رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ(1)
__________
(1) - صحيح مسلم برقم(2242 )
بيان مشكل الآثار ـ الطحاوى - (ج 1 / ص 141)
اب بيان مشكل ما روي عن رسول الله عليه السلام فيمن صلت عليه من الموتى جماعة من المسلمين فشفعوا له أنهم يشفعون فيه إذا كان لهم عدد ذكر مقداره فيما روي عنه في ذلك
حدثنا يونس أنبأ ابن وهب أخبرني ابن جريج أن أيوب بن أبي تميمة أخبره أن أبا قلابة أخبره أن عبد الله بن يزيد رضيع عائشة أخبره أن عائشة زوج النبي عليه السلام أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من رجل مسلم يموت فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا مائة فيشفعوا له إلا شفعوا فيه
حدثنا حسين بن نصير
حدثنا علي بن معبد
حدثنا عبيد الله يعني ابن عمرو عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة عن النبي عليه السلام قال لا يموت أحد من
@ 243 @ المسلمين فتصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا مائة فيشفعوا له إلا شفعوا فيه
حدثنا أحمد بن شعيب حدثنا عمرو بن زرارة ثنا إسماعيل وهو ابن إبراهيم عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد رضيع عائشة رضي الله عنها عن عائشة عن النبي عليه السلام مثله
حدثنا محمد بن خزيمة حدثنا حجاج بن منهال ثنا حماد بن سلمة ثنا أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد الخطمي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله عليه السلام قال ما من مسلم يموت فيصلي عليه أمة من الناس يبلغون أن يكونوا مائة إلا شفعوا فيه قال أبو جعفر هكذا يقول حماد في إسناد هذا الحديث عن عبد الله بن يزيد الخطمي والناس يخالفونه في ذلك ويقولون عبد الله بن يزيد رضيع عائشة وهو أشبه بالصواب في ذلك والله أعلم وعبد الله بن يزيد الخطمي هو رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم غير حديث منها ما حدثنا ابن أبي داود حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي بردة قال كنت جالسا عند أمير قد سماه فجعل يتردد عليه برءوس الخوارج قال فجعلت كلما رأيت رأسا منها قلت إلى النار فقال عبد الله بن يزيد يا ابن أخي سمعت رسول الله عليه السلام يقول يكون عذاب هذه الأمة في دنياها قال أبو جعفر وذكره محمد بن سعد في كتاب الطبقات وقال عبد الله بن يزيد الخطمي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن نزل الكوفة واختط بها دارا وولاه عليها عبد الله بن الزبير ثم رجعنا إلى ما كنا فيه من عدد المصلين على الجنازة الشفعاء لصاحبها
حدثنا ابن معبد حدثنا علي بن الحسن بن شقيق حدثنا أبو حمزة يعني السكري واسمه محمد بن ميمون عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام قال من صلى عليه مائة من المسلمين غفر له ووجدنا أبا أمية قد حدثنا قال حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا شيبان يعني أبا معاوية بن عبد الرحمن النحوي عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام قال من صلى عليه مائة من المسلمين غفر له وقد روى ابن عباس عن رسول الله عليه السلام في عدد الجماعة المشفعين في هذا المعنى ما قد حدثنا عيسى بن إبراهيم الغافقي ثنا ابن وهب حدثني أبو صخر حميد بن زياد عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن كريب عن ابن عباس أنه مات ابن له بقديد أو بعسفان فقال لكريب انظر ما اجتمع له من الناس قال فخرجت فإذا ناس قد اجتمعوا قال أخرجوه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه ووجدنا عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوافق ما رويناه في هذا الباب عن عائشة وأبي هريرة عن رسول الله عليه السلام ويخالف ما رويناه فيه عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما
حدثنا أحمد بن شعيب أنبأ سويد بن نصر أنبأ عبد الله يعني ابن المبارك عن سلام بن أبي مطيع عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد رضيع عائشة عن عائشة عن النبي عليه السلام قال ما من ميت يصلي عليه جماعة من المسلمين يبلغون أن يكونوا مائة يشفعون إلا شفعوا فيه قال سلام فحدثت به شعيب بن الحبحاب فقال حدثني به أنس عن النبي عليه السلام فقال قائل من أين جاء هذا الاختلاف في هذه الروايات فكان جوابنا عن ذلك بتوفيق الله تعالى أنه يحتمل أن يكون الله جاد عباده المؤمنين بالغفران لمن صلى عليه مائة منهم بشفاعتهم له ثم جاد له بالغفران بشفاعة أربعين منهم فكان خبر ابن عباس بذلك هو آخر ما كان منه عز وجل مما جاد بسببه بالغفران للمصلى عليه من المؤمنين بشفاعتهم وكان خبر عائشة وأبي هريرة متقدمين لذلك فقال ولم حملت ذلك على ما ذكرت ولم تحمله على أن حديث عائشة وأبي هريرة هما المتأخران وحديث ابن عباس هو المتقدم فكان جوابنا له عن ذلك بتوفيق الله وعونه أن الله تعالى ليس من صفته أن يجود بغفران بمعنى ثم يرجع عن الغفران بذلك المعنى وقد يجوز أن يجود بالغفران بمعنى ثم يجود بالغفران بأقل من ذلك المعنى وبأيسره على خلقه الذين جاد بذلك عليهم فبان بما ذكرنا الوجه الذي جاء منه اختلاف العددين في الآثار التي رويناها والله نسأله التوفيق

.
وَهَذَا دُعَاءٌ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ . فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ الْمَغْفِرَةُ عَلَى الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ الَّذِي اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ وَكُفِّرَتْ عَنْهُ الصَّغَائِرُ وَحْدَهُ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مَغْفُورٌ لَهُ عِنْدَ الْمُتَنَازِعِينَ . فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ لِلْمَيِّتِ (1)
__________
(1) - مسند أحمد برقم(22694) عَنْ مُعَاذٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَنْ يَنْفَعَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ وَلَكِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ فَعَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ عِبَادَ اللَّهِ » وهو حديث حسن لغيره.
فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 8 / ص 154)
4264 - (الدعاء ينفع مما نزل) من المصائب والمكاره أي يسهل تحمل ما نزل من البلاء فيصبره أو يرضيه حتى أنه لا يكون متمنياً خلافه (ومما لم ينزل) منها بأن يصرف ذلك عنه أو يمده قبل النزول بتأييد إلهي من عنده حتى لا يعبأ به إذا نزل (فعليكم عباد اللّه) بحذف حرف النداء (بالدعاء) قال الطيبي: الفاء جزاء شرط محذوف يعني إذا رزق بالدعاء الصبر والتحمل بالقضاء النازل ويرد به القضاء غير النازل فالزموا عباد اللّه الدعاء وحافظوا عليه وخص عباد اللّه بالذكر تحريضاً على الدعاء وإشارة إلى أن الدعاء هو العبادة فالزموا واجتهدوا وألحوا فيه وداوموا عليه لأن به يحاز الثواب ويحصل ما هو الصواب وكفى به شرفاً أن تدعوه فيجيبك ويختار لك ما هو الأصلح في العاجل والآجل وخص عباد اللّه بالذكر زيادة في الحث وإيماء إلى أن الدعاء هو العبادة.
فتاوى يسألونك - (ج 6 / ص 300)
حديث لا يرد القضاء إلا الدعاء
يقول السائل : ما معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :( لا يرد القضاء إلا الدعاء ) ؟
الجواب : ينبغي أن يعلم أولاً أن سؤال الله تعالى ودعائه من الأمور المرغب فيها شرعاً قال الإمام النووي :[ اعلم أن المذهب المختار الذي عليه الفقهاء والمحدثون وجماهير العلماء من الطوائف كلها من السلف والخلف أن الدعاء مستحب ، قال الله تعالى : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) سورة غافر الآية 60 . وقال تعالى :( ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ) سورة الأعراف الآية 55 . الأذكار ص340 .
وجاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء ) رواه الترمذي وابن ماجة وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/138 .
وعنه أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( من سرّه أن يستجيب الله تعالى له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء ) رواه الترمذي وقال الشيخ الألباني حديث حسن انظر صحيح سنن الترمذي 3/140.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( الدعاء هو العبادة ) ثم قرأ ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) سورة غافر الآية 60 . رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وقال الترمذي : حديث حسن صحيح وصححه الألباني في المصدر السابق .
وعن جابر - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :( ما من أحد يدعو بدعاء إلا آتاه الله ما سأل أو كف عنه من سوء مثله ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ) رواه الترمذي وحسنه الشيخ الألباني المصدر السابق 3/140 .
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - :( ما على الأرض من مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بمأثم أو بقطيعة رحم . فقال رجل من القوم إذاً نكثر ؟ قال : الله أكثر ) رواه الترمذي وقال حسن صحيح وكذا قال الألباني في المصدر السابق 1/181 .
إذا تقرر هذا فنعود للحديث النبوي محل السؤال فأقول هذا الحديث ورد بلفظ آخر وهو :( لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر ) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي ورواه الترمذي بلفظ :( لا يرد القضاء إلا الدعاء ) وهو حديث حسن كما قال الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/225 .
وقد قرر العلماء :[ أن الدعاء سبب في حصول الخير وأن هناك أشياء مقدرة ومربوطة بأسباب فإذا تحقق السبب وقع المقدر وإذا لم يتحقق السبب لم يقع ، فإذا دعا المسلم ربه حصل له الخير وإذا لم يدع وقع به الشر كما جعل الله صلة الرحم سبباً لطول العمر وقطيعة الرحم سبباً لضده ] المنتقى من فتاوى الفوزان 2/103 .
وقال العلامة ابن القيم :[ والدعاء من أنفع الأدوية وهو عدو البلاء يدافعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل وهو سلاح المؤمن كما روى الحاكم في صحيحه من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال :قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السموات والأرض وله مع البلاء ثلاث مقامات : أحدها أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه ، الثاني أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفاً ، الثالث أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه وقد روى الحاكم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( لا يغني حذر من قدر والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة ) وفيه أيضاً من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء . وفيه أيضاً من حديث ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ) ] . الجواب الكافي ص4 .
وقال العلامة ابن القيم أيضاً :[ وها هنا سؤال مشهور وهو أن المدعو به إن كان قد قدر لم يكن بد من وقوعه دعا به العبد أو لم يدع وإن لم يكن قد قدر لم يقع سواء سأله العبد أو لم يسأله فظنت طائفة صحة هذا السؤال فتركت الدعاء وقالت لا فائدة فيه وهؤلاء مع فرط جهلهم وضلالهم متناقضون فإن اطرد مذهبهم لوجب تعطيل جميع الأسباب فيقال لأحدهم إن كان الشبع والري قد قدرا لك فلا بد من وقوعهما أكلت أو لم تأكل وإن لم يقدرا لم يقعا أكلت أو لم تأكل وإن كان الولد قدر لك فلا بد منه وطأت الزوجة والأمة أو لم تطأهما وإن لم يقدر لم يكن فلا حاجة إلى التزويج والتسري وهلم جرا ، فهل يقال هذا عاقل أو آدمي بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قوامه وحياته فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً وتكايس بعضهم وقال الاشتغال بالدعاء من باب التعبد المحض يثيب الله عليه الداعي من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجه ما ولا فرق عند هذا الكيس بين الدعاء والإمساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب وارتباط الدعاء عندهم به كارتباط السكوت ولا فرق وقالت طائفة أخرى أكيس من هؤلاء بل الدعاء علامة مجردة نصبها الله سبحانه أمارة على قضاء الحاجة فمتى وفق العبد للدعاء كان ذلك علامة له وأمارة على أن حاجته قد قضيت وهذا كما إذا رأيت غيماً أسوداً بارداً في زمن الشتاء فإن ذلك دليل وعلامة على أنه يمطر قالوا وهكذا حكم الطاعات مع الثواب والكفر والمعاصي مع العقاب هي أمارات محضة لوقوع الثواب والعقاب لأنها أسباب له وهكذا عندهم الكسر مع الإنكسار والحرق مع الإحراق والإزهاق مع القتل ليس شيء من ذلك سبباً ألبتة ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلا بمجرد الإقتران العادي لا التأثير السببي وخالفوا بذلك الحس والعقل والشرع والفطرة وسائر طوائف العقلاء بل أضحكوا عليهم العقلاء . والصواب أن ههنا قسماً ثالثاً غير ما ذكره السائل وهو أن هذا المقدور قدر بأسباب ومن أسبابه الدعاء فلم يقدر مجرداً عن سببه ولكن قدر بسببه فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور ومتى لم يأت بالسبب انتقى المقدور وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب . وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال ودخول النار بالأعمال وهذا القسم هو الحق . وحينئذٍ فالدعاء من أقوى الأسباب فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال لا فائدة في الدعاء كما لا يقال لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء ولا أبلغ في حصول المطلوب ولما كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الأمة بالله ورسوله وأفقههم في دينه كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم وكان عمر رضي الله عنه يستنصر به على عدوه وكان أعظم جنده وكان يقول للصحابة لستم تنصرون بكثرة وإنما تنصرون من السماء وكان يقول إني لا أحمل همَّ الإجابة ولكن همَّ الدعاء فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه ] الجواب الكافي ص 8-9 .
وقال أبو حامد الغزالي :[ فإن قلت فما فائدة الدعاء والقضاء لا مرد له فاعلم أن من القضاء رد البلاء بالدعاء فالدعاء سبب لرد البلاء واستجلاب الرحمة كما أن الترس سبب لرد السهم والماء سبب لخروج النبات من الأرض فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان وليس من شرط الاعتراف بقضاء الله تعالى أن لا يحمل السلاح وقد قال تعالى ( خذوا حذركم ) وأن لا يسقي الارض بعد بث البذر فيقال إن سبق القضاء بالنبات نبت البذر وإن لم يسبق لم ينبت بل ربط الأسباب بالمسببات هو القضاء الأول الذي هو كملح البصر أو هو أقرب وترتيب تفصيل المسببات على تفاصيل الأسباب على التدريج والتقدير هو القدر والذي قدر الخير قدره بسبب والذي قدر الشر قدر لدفعه سبباً فلا تناقص بين هذه الأمور عند من انفتحت بصيرته ثم في الدعاء من الفائدة ما ذكرناه في الذكر فإنه يستدعي حضور القلب مع الله وهو منتهى العبادات ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -:( الدعاء مخ العبادة ) والغالب على الخلق أنه لا تنصرف قلوبهم إلى ذكر الله عز وجل إلا عند إلمام حاجة وإرهاق ملمة فإن الإنسان إذا مسه الشر فذو دعاء عريض فالحاجة تحوج إلى الدعاء والدعاء يرد القلب إلى الله عز وجل بالتضرع والاستكانة فيحصل به الذكر الذي هو أشرف العبادات ولذلك صار البلاء موكلاً بالأنبياء عليهم السلام ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل لأنه يرد القلب بالإفتقار والتضرع إلى الله عز وجل ويمنع من نسيانه وأما الغنى فسبب للبطر في غالب الأمور فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ] إحياء علوم الدين==

ج3..كتاب : أسباب رفع العقوبة عن العبد  لشيخ الإسلام ابن تيمية

==( السَّبَبُ الْخَامِسُ ) : مَا يُعْمَلُ لِلْمَيِّتِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ (1):
كَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا(2)، فَإِنَّ هَذَا يَنْتَفِعُ بِهِ بِنُصُوصِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ (3)
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1186) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 2446) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 983) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 686) وففروا إلى الله1 - (ج 1 / ص 429)
(2) - في صحيح مسلم برقم(4310 )عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ».
شرح النووي على مسلم - (ج 6 / ص 21)
قَالَ الْعُلَمَاء : مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ عَمَل الْمَيِّت يَنْقَطِع بِمَوْتِهِ ، وَيَنْقَطِع تَجَدُّد الْجَوَاب لَهُ ، إِلَّا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة ؛ لِكَوْنِهِ كَانَ سَبَبهَا ؛ فَإِنَّ الْوَلَد مِنْ كَسْبه ، وَكَذَلِكَ الْعِلْم الَّذِي خَلَّفَهُ مِنْ تَعْلِيم أَوْ تَصْنِيف ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَة الْجَارِيَة ، وَهِيَ الْوَقْف .
وَفِيهِ فَضِيلَة الزَّوَاج لِرَجَاءِ وَلَد صَالِح ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان اِخْتِلَاف أَحْوَال النَّاس فِيهِ ، وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي كِتَاب النِّكَاح . وَفِيهِ دَلِيل لِصِحَّةِ أَصْل الْوَقْف ، وَعَظِيم ثَوَابه ، وَبَيَان فَضِيلَة الْعِلْم ، وَالْحَثّ عَلَى الِاسْتِكْثَار مِنْهُ . وَالتَّرْغِيب فِي تَوْرِيثه بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّصْنِيف وَالْإِيضَاح ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَار مِنْ الْعُلُوم الْأَنْفَع فَالْأَنْفَع . وَفِيهِ أَنَّ الدُّعَاء يَصِل ثَوَابه إِلَى الْمَيِّت ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَة ، وَهُمَا مُجْمَع عَلَيْهِمَا ، وَكَذَلِكَ قَضَاء الدَّيْن كَمَا سَبَقَ .
وَأَمَّا الْحَجّ فَيَجْزِي عَنْ الْمَيِّت عِنْد الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ ، وَهَذَا دَاخِل فِي قَضَاء الدَّيْن إِنْ كَانَ حَجًّا وَاجِبًا ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا وَصَّى بِهِ وَهُوَ مِنْ بَاب الْوَصَايَا ، وَأَمَّا إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَام فَالصَّحِيح أَنَّ الْوَلِيّ يَصُوم عَنْهُ ، وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَة فِي كِتَاب الصِّيَام .
وَأَمَّا قِرَاءَة الْقُرْآن وَجَعْل ثَوَابهَا لِلْمَيِّتِ وَالصَّلَاة عَنْهُ وَنَحْوهمَا فَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور أَنَّهَا لَا تَلْحَق الْمَيِّت ، وَفِيهَا خِلَاف ، وَسَبَقَ إِيضَاحه فِي أَوَّل هَذَا الشَّرْح فِي شَرْح مُقَدِّمَة صَحِيح مُسْلِم .
(3) - سنن النسائى برقم(3671 ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّهُ أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ إِنَّ أُمِّى مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ أَفَيُجْزِئُ عَنْهَا أَنْ أَعْتِقَ عَنْهَا قَالَ « أَعْتِقْ عَنْ أُمِّكَ » وهو صحيح .
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 3851)
رقم الفتوى 8132 هل الصلاة عن الميت مشروعة
تاريخ الفتوى : 02 ذو الحجة 1424
السؤال
هل يجوز أن أصلي عن الميت؟ أم أنه يقتصر على الدعاء والصدقة والصيام له؟
وهل ما يقام في بعض الدول العربية ويسمى الشادر- قراءة القرآن في الطرق العامة- يعتبر بدعة ولماذا؟
جزاكم الله خيرا عنا وعن جميع المسلمين
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالأصل أن لا يصلي أحد عن أحد، قال القرطبي رحمه الله ( وأجمعوا أنه لا يصلي أحد عن أحد ) انتهى من تفسير القرطبي لقوله تعالى ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ) (النجم:39)
وذلك لأن الصلاة من العبادات البدنية المحضة فلا تدخلها النيابة.
وإن كان المراد أن تصلي نافلة ثم تهب ثوابها للميت، فهذا أجازه جماعة من أهل العلم.
قال في متن الإقناع من كتب الحنابلة: (وكل قربة فعلها المسلم وجعل ثوابها أو بعضها كالنصف ونحوه، لمسلم حي أو ميت جاز، ونفعه، لحصول الثواب له... من تطوع وواجب، تدخله النيابة كحج ونحوه، أولا ( أي لا تدخله النيابة) كصلاة وكدعاء واستغفار وصدقة وأضحية وأداء دين وصوم وقراءة وغيرها).
وقال في شرحه كشاف القناع: ( وقول المصنف: أو لا، كصلاة: هو معنى قول القاضي: إذا صلى فرضاً وأهدى ثوابه صحت الهدية وأجزأ ما عليه، قال في المبدع: وفيه بُعد) انتهى.
والأشهر عند الحنابلة أنه لا يصح هبة ثواب الفرض، قال في شرح منتهى الإرادات ( ولو صلى فرضاً وأهدى ثوابه لميت لم يصح في الأشهر، وقال القاضي: يصح. وبعد) انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالصدقة على الميت، وأمر أن يصام عنه الصوم، فالصدقة عن الموتى من الأعمال الصالحة، وكذلك ما جاءت به السنة في الصوم عنهم. وبهذا وغيره احتج من قال من العلماء: إنه يجوز إهداء ثواب العبادات المالية والبدنية إلى موتى المسلمين. كما هو مذهب أحمد وأبي حنيفة، وطائفة من أصحاب مالك والشافعي.
فإذا أهدي لميت ثواب صيام أو صلاة أو قراءة جاز ذلك وأكثر أصحاب مالك والشافعي يقولون: إنما شرع ذلك في العبادات المالية.
ومع هذا لم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعاً وصاموا وحجوا أو قرأوا القرآن، يهدون ثواب ذلك لموتاهم المسلمين، ولا بخصوصهم، بل كان عادتهم كما تقدم- أي فعل العبادة لأنفسهم مع الدعاء والصدقة للميت- فلا ينبغي للناس أن يبدلوا طريق السلف، فإنه أفضل وأكمل) انتهى من الفتاوى الكبرى ج 3 ص 37
ولهذا فالأفضل والأكمل أن يقتصر المسلم على ما وردت به السنة كالدعاء للميت والصدقة، والصيام عنه إذا كان عليه صوم واجب، وكذلك الحج عنه إذا كان عليه حج واجب، لأدلة كثيرة منها:
قوله صلى الله عليه وسلم "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به" رواه مسلم.
وعند النسائي: أن سعداً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أمي ماتت ولم توص، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم".
وعند النسائي أيضاً: "إن أمي ماتت وعليها نذر، أفيجزئ عنها أن أعتق عنها؟ قال: نعم".
وفي صحيح البخاري ومسلم: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: نعم، فدين الله أحق أن يقضى".
وعند الترمذي وأبي داود، وأحمد أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي ماتت ولم تحج، أفأحج عنها؟ قال: نعم، حجي عنها". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
أما إقامة السرادقات (الشادر) في الطرق العامة لقراءة القرآن على روح الميت، فهو بدعة، لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو أمر محدث، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد" رواه البخاري ومسلم، وقوله في (أمرنا) أي: في ديننا، وقوله (رد) أي: مردود على صاحبه كائناً من كان.
ولو كان ذلك مشروعاً لسبقنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، فالاجتماع بهذه الكيفية، وبهذه الطريقة مع ما يحدث من مخالفات أخرى، كشرب الدخان، والتباهي، والفخر، والإسراف، والتبذير الذي يحدث في هذه المناسبات إلى غير ذلك من المخالفات لا يشك عاقل - مع كل ذلك- في عدم مشروعيته والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه

وَالْحَجُّ (1)
__________
(1) - مسند أحمد برقم(23734)ٍ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّى بِجَارِيَةٍ فَمَاتَتْ أُمِّى وَبَقِيَتِ الْجَارِيَةُ. فَقَالَ « قَدْ وَجَبَ أَجْرُكِ وَرَجَعَتْ إِلَيْكِ فِى الْمِيرَاثِ ». قَالَتْ فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى أُمِّى صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا قَالَ « نَعَمْ ». قَالَتْ فَإِنَّ أُمِّى لَمْ تَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ « حُجِّى عَنْ أُمِّكِ » صحيح .
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 6776)
رقم الفتوى 68012 الحج عن الميت بأجرة
تاريخ الفتوى : 07 رمضان 1426
السؤال
أنا أبي متوفى منذ زمن بعيد ولم يحج وسمعت بالتلفزيون أنه يجوز الحج عن المتوفى ببعث قيمة من المال، فكيف يتم ذلك، وما هي القيمة المادية لذلك، أرجو منكم إفادتي في هذا الموضوع؟ وجزاكم الله ألف خير.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن مات ولم يحج فإنه يشرع الحج عنه بأن يحج عنه قريبه أو شخص أجنبي بشرط أن يكون من يحج عنه قد حج عن نفسه فإن طلب الأجرة على الحج عنه وجب ذلك إن كان للميت تركة وإلا استحب التبرع بذلك عنه، قال الإمام الشيرازي في المهذب: وتجوز النيابة في حج الفرض في موضعين:
إحداهما: في حق الميت إذا مات وعليه حج، والدليل عليه حديث بريدة.
والثاني: في حق من لا يقدر على الثبوت على الراحلة إلا بمشقة غير معتادة كالزمن والشيخ الكبير، والدليل عليها ما روى ابن عباس رضي الله عنه أن امرأة من خثعم أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم، قالت: أينفعه ذلك؟ قال: نعم، كما لو كان على أبيك دين فقضيته نفعه. ولأنه أيس من الحج بنفسه فناب عنه غيره كالميت. انتهى.
وحديث بريدة الذي أشار إليه المصنف رواه مسلم عن بريدة قال: أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: يا رسول الله إن أمي ماتت ولم تحج، قال: حجي عن أمك.
وعليه فلك توكيل شخص بأجرة تتفقان عليها ليقوم بأداء مناسك الحج نيابة عن والدك، وإذا كان النائب في السعودية مثلاً فلا يلزمه السفر إلى البلد الذي كان فيه والدكم بل له أن يحرم للحج من أي ميقات شاء، ولو لم يكن ميقات الشخص المنوب عنه، أما إحرامه من داخل المواقيت فلا يجوز على مذهب جماهير العلماء وهو الذي نختاره.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7406)
«النّيابة عن الغير في أداء دين اللّه»
8 - دَين اللّه الماليّ المحض كالزّكاة والصّدقات والكفّارات تجوز فيه النّيابة عن الغير سواء أكان من هو في ذمّته قادراً على ذلك بنفسه أم لا ، لأنّ الواجب فيها إخراج المال وهو يحصل بفعل النّائب ، وسواء أكان الأداء عن الحيّ أم عن الميّت ، إلاّ أنّ الأداء عن الحيّ لا يجوز إلاّ بإذنه باتّفاقٍ وذلك للافتقار في الأداء إلى النّيّة لأنّها عبادة فلا تسقط عن المكلّف بدون إذنه.
أمّا بالنّسبة للميّت فلا يشترط الإذن إذ يجوز التّبرّع بأداء الدّين عن الميّت ،وهذا في الجملة.
وأمّا العبادات البدنيّة المحضة كالصّلاة والصّوم فلا تجوز النّيابة فيها حال الحياة لقول اللّه تعالى : «وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى» وقول عبد اللّه بن عبّاسٍ رضي الله عنهما : لا يصلّي أحد عن أحدٍ ولا يصوم أحد عن أحدٍ.
قال الكاسانيّ : أي في حقّ الخروج عن العهدة لا في حقّ الثّواب ، وهذا باتّفاقٍ ، وكذلك الحكم بعد الممات عند الحنفيّة والمالكيّة.
وهذا الحكم إنّما هو بالنّسبة لقضاء العبادة نفسها عن الميّت.
أمّا فدية الصّيام وكفّارة الإفطار فيجوز للورثة أن يتبرّعوا بها عن الميّت إذا لم يوص.
أمّا إذا أوصى فقال الحنفيّة فتؤدّى من ثلث ماله.
ولغيرهم من الفقهاء تفصيل ينظر في مصطلح : « وصيّة » .
أمّا عند الشّافعيّة فلا يجوز القضاء عن الميّت عمّا ترتّب في ذمّته من صلاةٍ فاتته ومات دون قضائها.
وأمّا الصّوم فما ترتّب في ذمّة الميّت منه ففي الجديد لا يصحّ الصّوم عنه لأنّه عبادة بدنيّة لا تدخلها النّيابة في حال الحياة فكذلك بعد الموت ، وإنّما يكفّر عنه بإخراج مدٍّ من طعامٍ عن كلّ يومٍ فاته ، وفي القديم يجوز أن يصوم وليّه عنه لخبر الصّحيحين : « من مات وعليه صيام صام عنه وليّه » ، وهذا هو الأظهر ، قال السّبكيّ ويتعيّن أن يكون هو المختار والمفتى به ، والقولان يجريان في الصّيام المنذور إذا لم يؤدّ.
وأمّا الحنابلة فقد فصّلوا بين الواجب بأصل الشّرع من صلاةٍ وصيامٍ وبين ما أوجبه الإنسان على نفسه من نذر صلاةٍ وصيامٍ.
فقالوا : من مات وفي ذمّته صلاة مفروضة لم تؤدّ ، أو صيام رمضان لم يؤدّ ، فلا تجوز النّيابة عن الميّت في ذلك ، لأنّ هذه العبادات لا تدخلها النّيابة حال الحياة فبعد الموت كذلك.
أمّا ما أوجبه الإنسان على نفسه بالنّذر من صلاةٍ وصومٍ وتمكّن من الأداء ولم يفعل حتّى مات سنّ لوليّه فعل النّذر عنه لحديث ابن عبّاسٍ : « جاءت امرأة إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول اللّه إنّ أمّي ماتت وعليها صوم نذرٍ أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمّك دين فقضيتيه أكان يؤدّي ذلك عنها ؟ قالت : نعم ، قال : فصومي عن أمّك » .
لأنّ النّذر أخفّ حكماً من الواجب بأصل الشّرع.
ويجوز لغير الوليّ فعل ما على الميّت من نذرٍ بإذنه وبدون إذنه.
وقد اختلف الفقهاء بالنّسبة للحجّ لما فيه من جانبٍ ماليٍّ وجانبٍ بدنيٍّ ، فمن كان عاجزاً بنفسه عن أداء الحجّ وأمكنه الأداء بماله بإنابة غيره مناب نفسه لزمه الإنابة في الحجّ عنه، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وبعض فقهاء المالكيّة ، والمشهور عندهم عدم جواز النّيابة في الحجّ.
وهذا بالنّسبة للحيّ في الجملة.
أمّا من مات وكان مستطيعاً ولم يحجّ فعند الشّافعيّة والحنابلة يجب القضاء من رأس مال تركته ، لما روى بريدة قال : « أتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت : يا رسول اللّه إنّ أمّي ماتت ولم تحجّ ، فقال لها النّبيّ صلى الله عليه وسلم : حجّي عن أمّك » .
ولأنّه حقّ تدخله النّيابة حال الحياة فلم يسقط بالموت كدين الآدميّ ، وسواء في ذلك حجّ الفريضة والنّذر ، فإن حجّ عنه الوارث بنفسه أو باستئجارٍ سقط الحجّ عن الميّت.
وأضاف الشّافعيّة أنّه لو حجّ عن الميّت أجنبيّ جاز ولو بلا إذنٍ كما إنّ له أن يقضي دينه بلا إذنٍ.
وعند الحنفيّة والمالكيّة يجوز تبرّع الوارث بالحجّ بنفسه عن الميّت أو بالإحجاج عنه رجلاً آخر ولكن مع الكراهة عند المالكيّة.

. بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : « مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ » (1)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(1952 ) ومسلم برقم(2748 )
شرح النووي على مسلم - (ج 4 / ص 144)
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْم وَاجِب مِنْ رَمَضَان ، أَوْ قَضَاء أَوْ نَذْر أَوْ غَيْره ، هَلْ يُقْضَى عَنْهُ ؟ وَلِلشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَة قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ : أَشْهَرُهُمَا : لَا يُصَام عَنْهُ ، وَلَا يَصِحّ عَنْ مَيِّت صَوْم أَصْلًا .
وَالثَّانِي : يُسْتَحَبّ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَصُوم عَنْهُ ، وَيَصِحّ صَوْمه عَنْهُ وَيَبْرَأُ بِهِ الْمَيِّتُ ، وَلَا يَحْتَاج إِلَى إِطْعَامٍ عَنْهُ ، وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الصَّحِيح الْمُخْتَار الَّذِي نَعْتَقِدُهُ ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ مُحَقِّقُو أَصْحَابنَا الْجَامِعُونَ بَيْن الْفِقْه وَالْحَدِيث لِهَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة ، وَأَمَّا الْحَدِيث الْوَارِد " مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَام أُطْعِمَ عَنْهُ " فَلَيْسَ بِثَابِتٍ ، وَلَوْ ثَبَتَ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيث بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى جَوَاز الْأَمْرَيْنِ ، فَإِنَّ مَنْ يَقُول بِالصِّيَامِ يَجُوز عِنْده الْإِطْعَام ، فَثَبَتَ أَنَّ الصَّوَابَ الْمُتَعَيِّنَ تَجْوِيزُ الصِّيَامِ ، وَتَجْوِيز الْإِطْعَام ، وَالْوَلِيّ مُخَيَّرٌ بَيْنهمَا ، وَالْمُرَاد بِالْوَلِيِّ الْقَرِيب ، سَوَاء كَانَ عَصَبَةً أَوْ وَارِثًا أَوْ غَيْرَهُمَا ، وَقِيلَ : الْمُرَاد الْوَارِث ، وَقِيلَ : الْعَصَبَة ، وَالصَّحِيح الْأَوَّل ، وَلَوْ صَامَ عَنْهُ أَجْنَبِيٌّ إِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْوَلِيّ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا فِي الْأَصَحّ ، وَلَا يَجِب عَلَى الْوَلِيّ الصَّوْم عَنْهُ ، لَكِنْ يُسْتَحَبّ .
هَذَا تَلْخِيص مَذْهَبِنَا فِي الْمَسْأَلَة ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مِنْ السَّلَف : طَاوُسٌ وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالزُّهْرِيّ وَقَتَادَة وَأَبُو ثَوْر ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْث وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو عُبَيْد فِي صَوْم النَّذْر دُون رَمَضَان وَغَيْره ، وَذَهَبَ الْجُمْهُور إِلَى أَنَّهُ لَا يُصَام عَنْ مَيِّت لَا نَذْر وَلَا غَيْره ، حَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة ، وَرِوَايَة عَنْ الْحَسَن وَالزُّهْرِيّ ، وَبِهِ قَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض وَغَيْره : هُوَ قَوْل جُمْهُور الْعُلَمَاء ، وَتَأَوَّلُوا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ يُطْعِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ ، بَلْ بَاطِلٌ ، وَأَيُّ ضَرُورَةٍ إِلَيْهِ وَأَيُّ مَانِع يَمْنَع مِنْ الْعَمَل بِظَاهِرِهِ مَعَ تَظَاهُرِ الْأَحَادِيثِ ، مَعَ عَدَم الْمُعَارِض لَهَا ، قَالَ الْقَاضِي وَأَصْحَابنَا : وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَنْهُ صَلَاةٌ فَائِتَة ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يُصَام عَنْ أَحَد فِي حَيَاته ، وَإِنَّمَا الْخِلَاف فِي الْمَيِّت . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا قَوْل اِبْن عَبَّاس : ( إِنَّ السَّائِل رَجُل ) ، وَفِي رِوَايَة : ( اِمْرَأَة ) ، وَفِي رِوَايَة : ( صَوْم شَهْر ) ، وَفِي رِوَايَة ( صَوْم شَهْرَيْنِ ) فَلَا تَعَارُض بَيْنهمَا ، فَسَأَلَ تَارَة رَجُل ، وَتَارَة اِمْرَأَة ، وَتَارَة عَنْ شَهْر ، وَتَارَة عَنْ شَهْرَيْنِ .
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث جَوَاز صَوْم الْوَلِيِّ عَنْ الْمَيِّت كَمَا ذَكَرْنَا ، وَجَوَاز سَمَاع كَلَام الْمَرْأَة الْأَجْنَبِيَّة فِي الِاسْتِفْتَاء وَنَحْوه مِنْ مَوَاضِعِ الْحَاجَةِ ، وَصِحَّةُ الْقِيَاسِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ ) وَفِيهَا : قَضَاءُ الدَّيْن عَنْ الْمَيِّت ، وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَيْهِ ، وَلَا فَرْق بَيْن أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهُ وَارِثٌ أَوْ غَيْره فَيَبْرَأُ بِهِ بِلَا خِلَاف . وَفِيهِ دَلِيل لِمَنْ يَقُول : إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْن لِلَّهِ تَعَالَى وَدَيْن لِآدَمِيٍّ وَضَاقَ مَالُهُ ، قُدِّمَ دَيْن اللَّه تَعَالَى ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَدَيْن اللَّه أَحَقّ بِالْقَضَاءِ ) .
وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال لِلشَّافِعِيِّ : أَصَحّهَا : تَقْدِيم دَيْن اللَّه تَعَالَى لِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَالثَّانِي : تَقْدِيم دَيْن الْآدَمِيّ ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الشُّحِّ وَالْمُضَايَقَةِ . وَالثَّالِث : هُمَا سَوَاء ، فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا .
وَفِيهِ : أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِلْمُفْتِي أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى وَجْه الدَّلِيل إِذَا كَانَ مُخْتَصَرًا وَاضِحًا ، وَبِالسَّائِلِ إِلَيْهِ حَاجَة ، أَوْ يَتَرَتَّب عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاسَ عَلَى دَيْن الْآدَمِيّ ، تَنْبِيهًا عَلَى وَجْه الدَّلِيل . وَفِيهِ : أَنَّ مَنْ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ ثُمَّ وَرِثَهُ لَمْ يُكْرَه لَهُ أَخْذُهُ وَالتَّصَرُّف فِيهِ ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَرَادَ شِرَاءَهُ فَإِنَّهُ يُكْرَه لِحَدِيثِ فَرَسِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ .
فِيهِ دَلَالَة ظَاهِرَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور ، أَنَّ النِّيَابَةَ فِي الْحَجّ جَائِزَة عَنْ الْمَيِّت وَالْعَاجِز الْمَأْيُوس مِنْ بُرْئِهِ ، وَاعْتَذَرَ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ مُخَالَفَة مَذْهَبهمْ لِهَذِهِ الْأَحَادِيث فِي الصَّوْم عَنْ الْمَيِّت وَالْحَجّ عَنْهُ ، بِأَنَّهُ مُضْطَرِبٌ ، وَهَذَا عُذْر بَاطِل ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيث اِضْطِرَاب ، وَإِنَّمَا فِيهِ اِخْتِلَاف جَمَعْنَا بَيْنَهُ كَمَا سَبَقَ ، وَيَكْفِي فِي صِحَّته اِحْتِجَاجُ مُسْلِمٍ بِهِ فِي صَحِيحِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 6 / ص 212)
قَوْله : ( مَنْ مَاتَ )عَامٌّ فِي الْمُكَلَّفِينَ لِقَرِينَةِ " وَعَلَيْهِ صِيَام " وَقَوْله " صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ " خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْر تَقْدِيره فَلْيَصُمْ عَنْهُ وَلِيّه ، وَلَيْسَ هَذَا الْأَمْر لِلْوُجُوبِ عِنْد الْجُمْهُور ، وَبَالَغَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَمَنْ تَبِعَهُ فَادَّعَوْا الْإِجْمَاع عَلَى ذَلِكَ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ بَعْض أَهْل الظَّاهِر أَوْجَبَهُ فَلَعَلَّهُ لَمْ يَعْتَدَّ بِخِلَافِهِمْ عَلَى قَاعِدَته . وَقَدْ اِخْتَلَفَ السَّلَف فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة : فَأَجَازَ الصِّيَام عَنْ الْمَيِّت أَصْحَابُ الْحَدِيث ، وَعَلَّقَ الشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم الْقَوْل بِهِ عَلَى صِحَّة الْحَدِيث كَمَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الْمَعْرِفَة " وَهُوَ قَوْل أَبِي ثَوْر وَجَمَاعَة مِنْ مُحَدِّثِي الشَّافِعِيَّة ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الْخِلَافِيَّات " : هَذِهِ الْمَسْأَلَة ثَابِتَة لَا أَعْلَم خِلَافًا بَيْن أَهْل الْحَدِيث فِي صِحَّتهَا فَوَجَبَ الْعَمَل بِهَا ، ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ إِلَى الشَّافِعِيّ قَالَ : كُلّ مَا قُلْت وَصَحَّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافه فَخُذُوا بِالْحَدِيثِ وَلَا تُقَلِّدُونِي . وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي الْجَدِيد وَمَالِك وَأَبُو حَنِيفَة لَا يُصَام عَنْ الْمَيِّت . وَقَالَ اللَّيْث وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو عُبَيْد : لَا يُصَام عَنْهُ إِلَّا النَّذْرُ حَمْلًا لِلْعُمُومِ الَّذِي فِي حَدِيث عَائِشَة عَلَى الْمُقَيَّد فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا تَعَارُض حَتَّى يُجْمَعَ بَيْنهمَا ، فَحَدِيث اِبْن عَبَّاس صُورَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ سَأَلَ عَنْهَا مَنْ وَقَعَتْ لَهُ ، وَأَمَّا حَدِيث عَائِشَة فَهُوَ تَقْرِيرُ قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ ، وَقَدْ وَقَعَتْ الْإِشَارَة فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس إِلَى نَحْو هَذَا الْعُمُوم حَيْثُ قِيلَ فِي آخِرِهِ " فَدَيْن اللَّه أَحَقّ أَنْ يُقْضَى " . وَأَمَّا رَمَضَان فَيُطْعِم عَنْهُ ، فَأَمَّا الْمَالِكِيَّة فَأَجَابُوا عَنْ حَدِيث الْبَاب بِدَعْوَى عَمَلِ أَهْل الْمَدِينَة كَعَادَتِهِمْ ، وَادَّعَى الْقُرْطُبِيُّ تَبَعًا لِعِيَاضٍ أَنَّ الْحَدِيثَ مُضْطَرِبٌ ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس ثَانِي حَدِيثَيْ الْبَاب ، وَلَيْسَ الِاضْطِرَاب فِيهِ مُسَلَّمًا كَمَا سَيَأْتِي ، وَأَمَّا حَدِيث عَائِشَة فَلَا اِضْطِرَاب فِيهِ . وَاحْتَجَّ الْقُرْطُبِيُّ بِزِيَادَةِ اِبْن لَهِيعَةَ الْمَذْكُورَة لِأَنَّهَا تَدُلّ عَلَى عَدَم الْوُجُوب ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مُعْظَم الْمُجِيزِينَ لَمْ يُوجِبُوهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَإِنَّمَا قَالُوا يَتَخَيَّر الْوَلِيّ بَيْن الصِّيَام وَالْإِطْعَام ، وَأَجَابَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ الْجَدِيد بِأَنَّ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ " صَامَ عَنْهُ وَلِيّه أَيْ فَعَلَ عَنْهُ وَلِيُّهُ مَا يَقُوم مَقَام الصَّوْم وَهُوَ الْإِطْعَام ، قَالَ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله " التُّرَاب وَضُوءُ الْمُسْلِم إِذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاء " قَالَ فَسَمَّى الْبَدَلَ بِاسْمِ الْمُبْدَل فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ صَرْفٌ لِلَّفْظِ عَنْ ظَاهِره بِغَيْرِ دَلِيل . وَأَمَّا الْحَنَفِيَّة فَاعْتَلُّوا لِعَدَمِ الْقَوْل بِهَذَيْنِ الْحَدِيثِينَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا " سُئِلَتْ عَنْ اِمْرَأَةٍ مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْم ، قَالَتْ : يُطْعَمُ عَنْهَا " . وَعَنْ عَائِشَة قَالَتْ " لَا تَصُومُوا عَنْ مَوْتَاكُمْ وَأَطْعِمُوا عَنْهُمْ " أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس " قَالَ فِي رَجُل مَاتَ وَعَلَيْهِ رَمَضَان قَالَ يُطْعَمُ عَنْهُ ثَلَاثُونَ مِسْكِينًا " أَخْرَجَهُ عَبْد الرَّزَّاق ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ " لَا يَصُوم أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ " قَالُوا فَلَمَّا أَفْتَى اِبْن عَبَّاس وَعَائِشَة بِخِلَافِ مَا رَوَيَاهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَمَل عَلَى خِلَاف مَا رَوَيَاهُ ، وَهَذِهِ قَاعِدَة لَهُمْ مَعْرُوفَة ، إِلَّا أَنَّ الْآثَار الْمَذْكُورَة عَنْ عَائِشَة وَعَنْ اِبْن عَبَّاس فِيهَا مَقَال ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَمْنَع الصِّيَام إِلَّا الْأَثَر الَّذِي عَنْ عَائِشَة وَهُوَ ضَعِيف جِدًّا ، وَالرَّاجِح أَنَّ الْمُعْتَبَر مَا رَوَاهُ لَا مَا رَآهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُخَالِفَ ذَلِكَ لِاجْتِهَادٍ وَمُسْتَنَدُهُ فِيهِ لَمْ يَتَحَقَّق وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ ضَعْف الْحَدِيث عِنْده ، وَإِذَا تَحَقَّقَتْ صِحَّة الْحَدِيث لَمْ يُتْرَكْ الْمُحَقَّقُ لِلْمَظْنُونِ ، وَالْمَسْأَلَة مَشْهُورَة فِي الْأُصُول . وَاخْتَلَفَ الْمُجِيزُونَ فِي الْمُرَاد بِقَوْلِهِ " وَلِيُّهُ " فَقِيلَ كُلّ قَرِيب ، وَقِيلَ الْوَارِث خَاصَّة ، وَقِيلَ عَصَبَتُهُ ، وَالْأَوَّل أَرْجَح ، وَالثَّانِي قَرِيب ، وَيَرُدُّ الثَّالِثَ قِصَّة الْمَرْأَة الَّتِي سَأَلَتْ عَنْ نَذْرِ أُمِّهَا . وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ يَخْتَصّ ذَلِكَ بِالْوَلِيِّ ؟ لِأَنَّ الْأَصْل عَدَم النِّيَابَة فِي الْعِبَادَة الْبَدَنِيَّة ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَة لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَة فِي الْحَيَاة فَكَذَلِكَ فِي الْمَوْت إِلَّا مَا وَرَدَ فِيهِ الدَّلِيل فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ وَيَبْقَى الْبَاقِي عَلَى الْأَصْل وَهَذَا هُوَ الرَّاجِح ، وَقِيلَ يَخْتَصّ بِالْوَلِيِّ فَلَوْ أَمَرَ أَجْنَبِيًّا بِأَنْ يَصُوم عَنْهُ أَجْزَأَ كَمَا فِي الْحَجِّ ، وَقِيلَ يَصِحُّ اِسْتِقْلَال الْأَجْنَبِيّ بِذَلِكَ وَذَكَرَ الْوَلِيّ لِكَوْنِهِ الْغَالِبَ ، وَظَاهِر صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ اِخْتِيَارُ هَذَا الْأَخِير ، وَبِهِ جَزَمَ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَقَوَّاهُ بِتَشْبِيهِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِالدَّيْنِ وَالدَّيْنُ لَا يَخْتَصّ بِالْقَرِيبِ .

.
وَثَبَتَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ صَوْمِ النَّذْرِ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى (1).
وَلَا يَجُوزُ أَنَّ يُعَارَضَ هَذَا بِقَوْلِهِ : {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}(2)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(1852 ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ إِنَّ أُمِّى نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ « نَعَمْ . حُجِّى عَنْهَا ، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً اقْضُوا اللَّهَ ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ » .
(2) - تفسير الرازي - (ج 14 / ص 446)
وقوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى } تتمة بيان أحوال المكلف فإنه لما بين له أن سيئته لا يتحملها عنه أحد بين له أن حسنة الغير لا تجدي نفعاً ومن لم يعمل صالحاً لا ينال خيراً فيكمل بها ويظهر أن المسيء لا يجد بسبب حسنة الغير ثواباً ولا يتحمل عنه أحد عقاباً ، وفيه أيضاً مسائل :
الأولى : { لَّيْسَ للإنسان } فيه وجهان أحدهما : أنه عام وهو الحق وقيل عليه بأن في الأخبار أن ما يأتي به القريب من الصدقة والصوم يصل إلى الميت والدعاء أيضاً نافع فللإنسان شيء لم يسمع فيه ، وأيضاً قال الله تعالى : { مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] وهي فوق ما سعى ، الجواب عنه أن الإنسان إن لم يسع في أن يكون له صدقة القريب بالإيمان لا يكون له صدقته فليس له إلا ما سعى ، وأما الزيادة فنقول : الله تعالى لما وعد المحسن بالأمثال والعشرة وبالأضعاف المضاعفة فإذا أتى بحسنة راجياً أن يؤتيه الله ما يتفضل به فقد سعى في الأمثال ، فإن قيل : أنتم إذن حملتم السعي على المبادرة إلى الشيء ، يقال : سعى في كذا إذا أسرع إليه ، والسعي في قوله تعالى : { إِلاَّ مَا سعى } معناه العمل يقال : سعى فلان أي عمل ، ولو كان كما ذكرتم لقال : إلا ما سعى فيه نقول على الوجهين جميعاً : لا بد من زيادة فإن قوله تعالى : { لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى } ليس المراد منه أن له عين ما سعى ، بل المراد على ما ذكرت ليس له إلا ثواب ما سعى ، أو إلا أجر ما سعى ، أو يقال : بأن المراد أن ما سعى محفوظ له مصون عن الإحباط فإذن له فعله يوم القيامة الوجه الثاني : أن المراد من الإنسان الكافر دون المؤمن وهو ضعيف ، وقيل بأن قوله : { لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى } كان في شرع من تقدم ، ثم إن الله تعالى نسخه في شرع محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للإنسان ما سعى وما لم يسع وهو باطل إذ لا حاجة إلى هذا التكلف بعدما بان الحق ، وعلى ما ذكر فقوله : { مَا سعى } مبقى على حقيقته معناه له عين ما سعى محفوظ عند الله تعالى ولا نقصان يدخله ثم يجزى به كما قال تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ] .
المسألة الثانية : أن { مَا } خبرية أو مصدرية؟ نقول : كونها مصدرية أظهر بدليل قوله تعالى : { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى } أي سوف يرى المسعي ، والمصدر للمفعول يجيء كثيراً يقال : هذا خلق الله أي مخلوقه .
المسألة الثالثة : المراد من الآية بيان ثواب الأعمال الصالحة أو بيان كل عمل ، نقول : المشهور أنهما لكل عمل فالخير مثاب عليه والشر معاقب به والظاهر أنه لبيان الخيرات يدل عليه اللام في قوله تعالى : { للإنسان } فإن اللام لعود المنافع وعلى لعود المضار تقول : هذا له ، وهذا عليه ، ويشهد له ويشهد عليه في المنافع والمضار ، وللقائل الأول أن يقول : بأن الأمرين إذا اجتمعا غلب الأفضل كجموع السلامة تذكر إذا اجتمعت الإناث مع الذكور ، وأيضاً يدل عليه قوله تعالى : { ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزاء الأوفى } [ النجم : 41 ] والأوفى لا يكون إلا في مقابلة الحسنة ، وأما في السيئة فالمثل أو دونه العفو بالكلية .
المسألة الرابعة : { إِلاَّ مَا سعى } بصيعة الماضي دون المستقبل لزياد الحث على السعي في العمل الصالح وتقريره هو أنه تعالى لو قال : ليس للإنسان إلا ما يسعى ، تقول النفس إني أصلي غداً كذا ركعة وأتصدق بكذا درهماً ، ثم يجعل مثبتاً في صحيفتي الآن لأنه أمر يسعى وله فيه ما يسعى فيه ، فقال : ليس له إلا ما قد سعى وحصل وفرغ منه ، وأما تسويلات الشيطان وعداته فلا اعتماد عليها .
الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 4012)
قال الآلوسى : وقوله : { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } أى : أنه لا تحمل نفس من شأنها الحمل ، حمل نفس أخرى . . . ولا يؤاخذ أحد بذنب غيره . ليتخلص الثانى من عقابه . ولا يقدح فى ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى . . . } معطوف على ما قبله ، لبيان عدم إثابة الإنسان بعمل غيره ، إثر بيان عدم مؤاخذته بذنب سواه .
أى : كما أنه لا تحمل نفس آثمة حمل نفس اخرى ، فكذلك لا يحصل الإنسان إلا على نتيجة عمله الصالح ، لا على نتيجة عمل غيره .
فالمراد بالسعى فى الآية . السعى الصالح ، والعمل الطيب ، لأنه قد جاء فى مقابلة الحديث عن الأوزار والذنوب .
وقوله - تعالى - : { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزآء الأوفى } بيان لثمرة هذا السعى الصالح يوم القيامة .
أى : ليس للإنسان إلا ثمرة عمله الصالح بدون زيادة أو نقص ، وهذا العمل الصالح سوف يراه مسجلا أمامه فى صحف مكرمة ، وفى ميزان حسناته ، ثم يجازيه الله - تعالى - عليه الجزاء التام الكامل . الذى لا نقص فيه ولا بخس .
وفى رؤية الإنسان لعمله الصالح يوم القيامة ، تشريف وتكريم له ، كما قال - تعالى - { يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم } هذا ، وقد توسع العلماء فى الجمع بين قوله - تعالى - : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } وبين النصوص التى تفيد أن الإنسان قد ينتفع بعمل غيره ، وهذه خلاصة لأقوالهم :
قال الإمام ابن كثير : ومن هذه الآية استنبط الشافعى ومن اتبعه ، أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتة .
لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ، ولهذا لم يندب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته ، ولا حثهم عليه ، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة ، ولو كان خيرا لسبقونا إليه ، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء .
فأما الدعاء والصدقة ، فذاك مجمع على وصولهما ، ومنصوص من الشارع عليهما .
وأما الحديث الذى رواه مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية من بعده ، أو علم ينتفع به " . فهذه الثلاثة فى الحقيقة . هى من سعيه وكده وعمله .
وقال الجمل فى حاشيته على الجلالين : واستشكل الحصر فى هذه الآية { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } بقوله - تعالى - فى آية أخرى : { والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ . . } وبالأحاديث الواردة فى ذلك كحديث : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث . . . " .
وأجيب : بأنها مخصوصمة بقوم إبراهيم وموسى ، لأنها حكاية لما فى صحفهم ، وأما هذه الأمة فلها ما سعت هى ، وما سعى لها غيرها ، لما صح من أن لكل نبى وصالح شفاعة . وهو انتفاع بعمل الغير ، ومن تأمل النصوص وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى ، فلا يجوز أن تؤول الآية على خلاف الكتاب والسنة واجتماع الأمة ، وحينئذ فالظاهر أن الآية عامة ، قد خصصت بأمور كثيرة . .
ثم قال الشيخ الجمل - رحمه الله - : وقال الشيخ تقى الدين أبو العباس أحمد بن تيمية : من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله . فقد خرق الإجماع . وذلك باطل من وجوه كثيرة :
أحدها : أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره . وهو انتفاع بعمل الغير .
ثانيها : أن النبى - صلى الله عليه وسلم - يشفع لأهل الموقف فى الحساب ثم لأهل الجنة فى دخولها .
ثالثها : أنه - صلى الله عليه وسلم - يشفع لأهل الكبائر فى الخروج من النار ، وهذا انتفاع بسعى الغير .
رابعها : أن الملائكة يستغفرون ويدعون لمن فى الأرض ، وذلك منفعة بعمل الغير .
خامسها : أن الله - تعالى - يخرج من النار من لم يعمل خيرا قط - أى من المؤمنين - بمحض رحمته ، وهذا انتفاع بغير عملهم .
سادسها : أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم ، وذلك انتفاع بمحض عمل الغير .
سابعها : قال الله - تعالى - فى قصة الغلامين اليتمين :{ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } فانتفعا بصلاح أبيهما ، وليس من سعيهما .
ثامنها : أن الميت ينتفع بالصدقة عنه ، وبالعتق ، بنص السنة والإجماع ، وهو من عمل الغير .
تاسعها : أن الحج المفروض يسقط عن الميت ، بحج وليه بنص السنة ، وهو انتفاع بعمل الغير .
حادى عشر : المدين قد امتنع - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة ، وقضى دين الآخر على بن أبى طالب ، وانتفع بصلاة النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو من عمل الغير .
ثانى عشر : أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال لمن صلى وحده : " ألا رجل يتصدق على هذا فيصلى معه " فقد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير .
ثالث عشر : أن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الغير ، إذا قضاها عنه قاض ، وذلك انتفاع بعمل الغير .
رابع عشر : أن من عليه تبعات ومظالم ، إذا حلل منها سقطت عنه ، وهذا انتفاع بعمل الغير .
خامس عشر : أن الجار الصالح ينفع فى المحيا وفى الممات - كما جاء فى الأثر - وهذا انتفاع بعمل الغير .
سادس عشر : أن الجار الصالح ينفع فى المحيا وفى الممات - كما جاء فى الأثر - وهذا انتفاع بعمل الغير .
سادس عشر : أن جليس أهل الذكر يرحم بهم ، وهو لم يكن معهم ، ولم يجلس لذلك بل لحاجة عرضت له ، والأعمال بالنيات ، فقد انتفع بعمل غيره .
سابع عشر : الصلاة على الميت ، والدعاء له فى الصلاة ، انتفاع للميت بصلاة الحى عليه وهو عمل غيره .
ثامن عشر : أن الجمعة تحصل باجتماع العدد ، وكذا الجماعة بكثرة العدد وهو انتفاع للبعض بالبعض .
تاسع عشر : أن الله - تعالى - قال لنبيه : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } وقال - تعالى - : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ . . } فقد رفع الله - تعالى - العذاب عن بعض الناس بسبب بعض ، وذلك انتفاع بعمل الغير .
تمام العشرين : أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره ممن يمونه الرجل ، فإنه ينتفع بذلك من يُخرِج عنه ، ولا سعى له فيها .
ثم قال - رحمه الله - : ومن تأمل العلم وجد انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى ، فكيف يجوز أن تتأول الآية الكريمة ، على خلاف صريح الكتاب والسنة ، وإجماع الأمة . .
والخلاصة أن الآية الكريمة فقد تكون من قبيل العام الذى قد خص بأمور كثيرة . كما سبق أن أشرنا ، وقد تكون مخصوصة بقوم إبراهيم وموسى - عليهما السلام - ، لأنها حكاية عما فى صحفهما ، أما الأمة الإسلامية فلها سعيها ، ولها ما سعى لها به غيرها ، وهذا من فضل الله ورحمته بهذه الأمة .
وقد قال بعض الصالحين فى معنى هذه الآية : ليس للإنسان إلا ما سعى عدلا ، ولله - تعالى - أن يجزيه بالحسنة ألفا فضلا .
فتاوى الأزهر - (ج 8 / ص 315)
صلة الأحياء بالأموات
المفتي
عطية صقر .
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نريد توضيحا لقوله تعالى{وأن ليس للإنسان إلا ما سعى }وصلته بانتفاع الأموات بأعمال الأحياء ؟
الجواب
ذهب المعتزلة إلى أن أية قربة يهديها الحى إلى الميت لا تنفعه ، بناء على قولهم بوجوب العدل ، واستدلوا على رأيهم هذا بقوله تعالى : {أم لم ينبأ بما فى صحف موسى " وإبراهيم الذى وفَّى . ألا تزر وازرة وزر أخرى . وأن ليس للإنسان إلا ما سعى . وأن سعيه سوف يرى . ثم يجزاه الجزاء الأوفى} النجم : 36 - 41 ، أما أهل السنة فقالوا : هناك قُرَبٌ يجوز للحى أن يفعلها ويستفيد منها الميت ، بل وسع بعضهم الدائرة حتى شملت كل القرب ، قال فى شرح الكنز: إن للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره ، صلاة كان أو صوما أو حجا أو صدقة أو قراءة قرآن أو غير ذلك من جميع أنواع البر، ويصل ذلك إلى الميت ، وينفعه عند أهل السنة "نيل الأوطار ج 4 ص 142 " ودليلهم على ذلك عدم ورود نص مانع ، وكذلك الرجاء فى رحمة الله وفضله أن يفيد الميت بعمل الحى فى النوافل ، كما أفاده فى الفرائض المقضية عنه ، فضلا عن الأدلة الواردة فى بعض القرب من حيث ندب عملها ليفيد منها الميت كما سيأتى بيانه . وردوا دليل المعتزلة بما يأتى :
1 - أن الآية المذكورة منسوخة بقوله تعالى{والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين } الطور: 21 ، كما قاله ابن عيسى ، فإن الكبار يلحقون بآبائهم فى الجنة وإن لم يكونوا فى منزلتهم إكراما - للآباء باجتماع الأولاد إليهم ، وضعف ابن القيم هذا القول فى كتابه "الروح " .
2 - أن هذه الآية خاصة بشريعة موسى وإبراهيم ، وأما فى شريعتنا فالحكم بخلاف ذلك .
3 -أن عدم انتفاع الإنسان بعمل غيره مخصوص بالكافر، أما المؤمن فيجوز أن ينتفع بسعى غيره من المؤمنين .
4 - أن اللام فى "للإنسان " بمعنى "على" مثل قوله تعالى {ولهم اللعنة} أى عليهم ، والمعنى أن الإنسان ليس عليه إلا عمله ، أى أن ذلك فى العقاب ، أما الثواب فليس هناك ما يمنع انتفاع الإنسان بعمل غيره وهذه الردود يمكن أن تناقش .
5 -إن الآية تبين أنه ليس للإنسان إلا عمله استحقاقا بطريق العدل ، أما تفضلا من غيره فلا مانع من أن ينتفع به ، فالدعاء والشفاعة عمل الغير ويستفيد منه الميت . وهذا الجواب هو أصح الأجوبة، وركز عليه ابن تيمية فى فتاويه "ج 24 ص 366" حيث قال ما ملخصه :
الاتفاق على وصول ثواب العبادات المالية ، كالصدقة والعتق ، كما يصل إليه الدعاء والاستغفار . أما الأعمال البدنية كالصلاة والصيام والقراءة فاختلفوا فيها . والصواب أن الجميع يصل إليه ... إلى أن قال :
وهذا مذهب أحمد وأبى حنيفة وطائفة من أصحاب مالك والشافعى .
وأما احتجاج بعضهم بأن ليس للإنسان إلا ما سعى فيقال ثبت بالسنة المتواترة وإجماع الأئمة أنه يصلى ويستغفر له ويدعى له ، وهذا من سعى غيره . والجواب الحق أن اللّه لم يقل إن الإنسان لا ينتفع إلا بسعى نفسه وأنه قال {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} فهو لا يملك إلا سعيه ، ولا يستحق غير ذلك . وأما سعى غيره فهو له ، كما أن الإنسان لا يملك إلا مال نفسه ونفع نفسه ، فمال غيره ونفع غيره هو كذلك للغير، لكن إذا تبرع له الغير بذلك جاز . اهـ . وقد ارتضى هذا القول ابن عطية فى تفسيره .
هذا، وقد جاء فى معجم الفقه الحنبلى "ص 941 طبعة أوقاف الكويت " أن أية قربة يفعلها الحى ويهب ثوابها للميت تنفعه إن شاء الله ، وقال ابن قدامة فى "المغنى" قال أحمد بن حنبل : الميت يصل إليه كل شيء من الخير، للنصوص الواردة فيه . لأن المسلمين يجتمعون فى كل مصر يقرؤون ويهدون لموتاهم من غير نكير فكان إجماعا . وإن كان هذا العمل لا يعتبر حجة والإجماع عليه ليس دليلا كما رأى بعض العلماء .
وقال ابن القيم : والعبادات قسمان : "مالية ، وبدنية" وقد نبه الشارع بوصول ثواب الصدقة على وصول سائر العبادات المالية ، ونبه بوصول ثواب الصيام على وصول سائر العبادات البدنية ، وأخبر بوصول ثواب الحج المركب من المالية والبدنية ، فالأنواع الثلاثة ثابتة بالنص والاعتبار .
هذا هو الحكم الإجمالى فى إهداء القرب ، وإليك شيئا من التفصيل .
أخرج أبو داود وابن عباس عن أبى أسيد مالك بن ربيعة قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بنى سلمة، فقال : يا رسول الله ، هل بقى من بر أبوى شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال "نعم الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهدهما من بعدهما ، صلة الرحم التى لا توصل إلا بهما ، وإكرام صديقهما من بعدهما" .
(ا) الصلاة عليهما .
قال بعض الشراح : إن المراد بالصلاة عليهما فى هذا الحديث صلاة الجنازة، كما فى قوله تعالى : {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا} التوبة : 184 وقيل المراد بها الدعاء ، كما فى قوله تعالى : {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } التوبة : 03 ا ، أى ادع الله لهم بالنماء والبركة .
ويرجح أن يراد بها هنا الدعاء لأن رواية البخارى فى "الأدب المفرد" لم يرد فيها ذكر الصلاة بل ورد (الدعاء لهما) .
والدعاء مجمع على جوازه وعلى نفع الميت به إن قبل ، ومعنى نفع الميت به حصول المدعو به إذا استجيب ، واستجابته محض فضل من الله ، ولا يسمى فى العرف ثوابا ، أما الدعاء نفسه وثوابه فهو للداعى، لأنه شفاعة أجرها للشافع ومقصودها للمشفوع له .
وأدلة مشروعية الدعاء للميت كثيرة، فصلاة الجنازة نفسها تشتمل على دعاء له ، ودعاء الولد الصالح لأبيه مما يفيده بنص الحديث الذى رواه مسلم ، وقد تقدم ، ومن آداب زيارة القبور الدعاء للأموات ، كما روى مسلم فى تعليم النبى صلى الله عليه وسلم لمن يزورون القبور أن يدعوا للأموات ، ومما جاء فيه "ونسأل الله لنا ولكم العافية" وكذلك "ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين " ... وروى أبو داود عن عثمان بن عفان رضى الله عنه أنه قال : كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال (استغفروا لأخيكم ، واسألوا له التثبيت ، فإنه الآن يسأل ) .
أما حكم الصلاة للوالدين فقد جاء فى رواية الدارقطنى "إن من البر بعد الموت أن تصلى لهما مع صلاتك ، وان تصوم لهما مع صيامك " وتعدية فِعْلَىْ الصلاة والصيام باللام تشعر بأن ذلك فى النوافل المهداة لا فى الفروض من حيث قضاؤها ، وقد مر ذلك ولو لم يرد هذا الحديث أو لم يصح فليس هناك نص يمنع أداء الصلاة للميت وقد تقدم كلام ابن تيمية وغيره فى ذلك .
(ب) الاستغفار لهما :
الاستغفار هو دعاء بطلب المغفرة من اللّه للميت ، وأدلة الدعاء عامة تشهد لمشروعيته ، وقد دعا الأنبياء وغيرهم بالمغفرة لغيرهم ، فقال نوح {رب اغفر لى ولوالدى ولمن دخل بيتى مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا} نوح : 28 ، وقال إبراهيم : { ربنا اغفر لى ولوالدى وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } إبراهيم : 41 ، وروى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم دعا لأهل بقيع الغرقد بالمغفرة وسبق طلبه من المسلمين الاستغفار لأخيهم بعد دفنه ، وروى أحمد وابن ماجه والبيهقى عن أبى هريرة بسند صحيح مرفوع أو موقوف عليه "أن الرجل لترفع درجته فى الجنة فيقول : أنَّى هذا؟ فيقال :
باستغفار ولدك لك " .
(ج) انفاذ عهد الأبوين وصلة الرحم وإكرام الصديق :
كل ذلك قرب بدنية أو مالية يقوم بها الولد فيؤجر عليها ، ويصل أثرها للوالدين برا وإكراما وإحسانا ، وقد تقدم قول شارح الكنز فى هذه القرب وغيرها، وما جاء فى معجم الفقه الحنبلى عن ذلك .
(د) الصيام لهما :
يدل حديث الدارقطنى السابق على جواز التنفل بالصيام وإهدائه إلى الميت ، وقد شرط العلماء لذلك ولغيره من القرب أن يكون بنية سابقة أو مقارنة للفعل ، لا أن تكون النية بعد الانتهاء منها .
(هـ) الصدقة عليهما :
روى أحمد والنسائى وغيرهما أن أم سعد بن عبادة لما ماتت قال: يا رسول الله، إن أمى ماتت، أفأتصدق عنها، قال "نعم" قلت : فأى الصدقة أفضل؟ قال : "سَقىُ الماء" .
قال الحسن : فتلك سقاية آل سعد بالمدينة ، والظاهر أن هذه الصدقة ليست واجبة ، وإلا لكانت متعينة ولم يسأل سعد عن أفضلها ، وهذا الحديث وإن كان لبعض المحدثين فيه مقال فإن كثيرا من النصوص تشهد بأن الصدقة تفيد الميت سواء أكانت واجبة أم مندوبة .
قال الشوكانى : أما صدقة الولد فلا كلام فيها لثبوتها بالنص ، ولأن الولد من كسبه فلم يصل إليه عمل غيره ، بل عمله هو، مثل الصدقة الجارية والعِلْم الذى ينتفع به ودعاء الولد الصالح ، فلا حاجة لوصول صدقته إلى وصية ، أما الصدقة من الأجنبى فالظاهر من العموميات القرآنية أنه لا يصل ثوابها إلى الميت ، فيوقف عليها حتى يأتى دليل يقتضى تخصيصها اهـ . لكن الرافعى والنووى من الشافعية قالا: يستوى فى الصدقة الوارث وغيره ، وحكى النووى الإجماع على أن الصدقة تقع عن الميت ويصل ثوابها من الولد وغيره "نيل الأوطار ج 4 ص 142 " .
هذا، ويجب أن يفهم أن ما جاء فى كلام الشوكانى وغيره من أن الذى وصل إلى الميت من ولده هو عمله وليس عمل الولد، ليس المراد به أن كل ما يعمله الولد لأبيه محسوب لأبيه وليس محسوبا للولد ، وإلا لضاع الولد وحرم ثواب عمله البدنى بالذات ، بل المراد وصول مثل ثوابه لأبيه ، كما سيأتى فى كلام العلماء عن القراءة للميت .
(و)الحج للوالدين :
مر جواز قضاء الحج عن الوالدين بعد الموت ، ولم يرد ما يمنع برهما بالحج أو، بغيره من القرب كما تقدم .
(ز) قراءة القرآن :
فى قراءة القرآن للميت خلاف للعلماء بين المنع من استفادته بها بناء على أنها عبادة بدنية لا تقبل النيابة، وبين الجواز بناء على رجاء رحمة الله وما ورد من بعض النصوص ، ومن تتبع أقوال الكثيرين يمكن استنتاج ما يلى :
1 - إذا قرئ القرآن بحضرة الميت فانتفاعه بالقراءة مرجو ، سواء أكان معها إهداء أم لم يكن ، وذلك بحكم المجاورة ، فإن القرآن إذا تلى ، وبخاصة إذا كان فى اجتماع ، حفت القارئين الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة، روى مسلم قول النبى صلى الله عليه وسلم "ما اجتمع قوم فى بيت من بيوت الله يقرؤون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة " ! والقرآن ذكر بل أفضل الذكر، وقد روى مسلم وغيره حديث : " لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده " .
بل لا يشترط لنزول الملائكة وغيرهم أن تكون القراءة أو الذكر فى جماعة ، فيحصل ذلك للشخص الواحد، روى البخارى ومسلم حديث أُسَيْد بن حُضَيْر الذى كان يقرأ القرآن فى مربده وبجواره ولده وفرسه ، وجاء فيه .
فإذا مثل الظلة فوق رأسى، فيها أمثال السُّرَج عرجت فى الجو حتى ما أراها ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "تلك الملائكة تستمع لك ، ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم " .
على أن النص قد جاء بقراءة {يس} عند الميت ، روى أحمد وأبو داود والنسائى واللفظ له ، وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححاه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : "قلب القرآن يس ، لا يقرؤها رجل يريد اللّه والدار الآخرة إلا غفر الله له ، اقرءوها على موتاكم " وقد أعل الدارقطنى وابن القطان هذا الحديث ، لكن صححه ابن حبان والحاكم ، وحمله المصححون له على القراءة على الميت حال الاحتضار، بناء على حديث فى مسند الفردوس "ما من ميت يموت فتقرأ عنده يس إلا هون اللّه عليه " لكن بعض العلماء قال : إن لفظ الميت عام لا يختص بالمحتضر، فلا مانع من استفادته بالقراءة عنده إذا انتهت حياته ، سواء دفن أم لم يدفن ، روى البيهقى بسند حسن أن ابن عمر استحب قراءة أول سورة البقرة وخاتمتها على القبر بعد الدفن . وابن حبان الذى قال في صحيحه معلقا على حديث "اقرءوا على موتاكم يس" أراد به من حضرته المنية لا أن الميت يقرأ عليه رد المحب الطبرى ، بأن ذلك غير مسلم له وإن سلم أن يكون التلقين حال الاحتضار .
قال الشوكانى : واللفظ نص فى الأموات ، وتناوله للحى المحتضر مجاز فلا يصار إليه إلا لقرينة "نيل الأوطار ج 4 ص 52 " والنووى ذكر فى رياض الصالحين تحت عنوان : الدعاء للميت بعد دفنه والقعود عند قبره ساعة للدعاء له والاستغفار والقراءة "الباب الحادى والستون بعد المائة" ذكر أن الشافعى قال : يستحب أن يقرأ عنده شيء من القرآن ، وإن ختموا القرآن كان حسنا ، وجاء فى المغنى لابن قدامة "ص 758" : تسن قراءة القرآن عند القبر وهبة ثوابها ، وروى أحمد أنه بدعة، ثم رجع عنه. وكره مالك وأبو حنيفة القراءة عند القبر حيث لم ترد بها السنة . لكن القرافى المالكى قال :
الذي يتجه أن يحصل للموتى بركة القراءة ، كما يحصل لهم بركة الرجل الصالح يدفن عندهم أو يدفنون عنده .
2 -إذا قرئ القرآن بعيدا عن الميت أو عن القبر وامتنع انتفاعه به بحكم المجاورة وحضور الملائكة، اختلف الفقهاء فى جواز انتفاع الميت به ، وهناك ثلاث حالات دار الخلاف حولها بين الجواز وعدمه :
الحالة الأولى :
إذا قرىء القارىء ثم دعا الله بما قرأ أن يرحم الميت أو يغفر له ، فقد توسل القارىء إلى اللّه بعمله الصالح وهو القراءة ، ودعا للميت بالرحمة ، والدعاء له متفق على جوازه وعلى رجاء انتفاعه له إن قبله اللّه ، كمن توسلوا إلى الله بصالح أعمالهم فانفرجت عنهم الصخرة التى سدت فم الغار، وفى هذه الحالة لا ينبغى أن يكون هناك خلاف يذكر فى عدم نفع الميت بالدعاء بعد القراءة .
الحالة الثانية :
إذا قرئ القارئ ثم دعا الله أن يهدى مثل ثواب قراءته إلى الميت ، قال ابن الصلاح : وينبغى الجزم بنفع : اللهم أوصل ثواب ما قرأناه ، أى مثله ، فهو المراد ، وأن يصرح به لفلان ، لأنه إذا نفعه الدعاء بما ليس للداعى فما له أولى ، ويجرى ذلك فى سائر الأعمال . ومعنى كلام ابن الصلاح أن الداعى يدعو اللّه أن يرحم الميت : والرحمة ليست ملكا له بل لله ، فإذا جاز الدعاء بالرحمة وهى ليست له فأولى أن يجوز الدعاء بما له هو وهو ثواب القراءة أو مثلها . وكذلك يجوز فى كل قربة يفعلها الحى من صلاة وصيام وصدقة ، ثم يدعو بعدها أن يوصل الله مثل ثوابها إلى الميت . وقد تقدم كلام ابن قدامة فى المغنى عن ذلك .
والدعاء بإهداء مثل ثواب القارئ إلى الميت هو المراد من قول المجيزين : اللهم أوصل ثواب ما قرأته لفلان .
الحالة الثالثة :
إذا نوى القارئ أن يكون الثواب ، أى مثله ، للميت ابتداء أى قبل قراءته أو فى أثنائها يصل ذلك إن شاء الله ، قال أبو عبد اللّه الأبى : إن قرأ ابتداء بنية الميت وصل إليه ثوابه ، وإن قرأ ثم وهبه لم يصل ، لأن ثواب القراءة للقارئ لا ينتقل عنه إلى غيره . وقال الإمام ابن رشد فى نوازله : إن قرأ ووهب ثواب قراءته لميت جاز وحصل للميت أجره ، ووصل إليه نفعه ، ولم يفصل بين كون الهبة قبل القراءة أو معها أو بعدها ، ولعله يريد ما قاله الأبى .
هذا، وانتفاع الميت بالقراءة مع الإهداء أو النية هو ما رآه المحققون من متأخرى مذهب الشافعى، وأولوا المنع على معنى وصول عين الثواب الذى للقارئ أو على قراءته لا بحضرة الميت ولا بنية ثواب قراءته له ، أو نيته ولم يدع له ، وقد رجح الانتفاع به أحمد وابن تيمية وابن القيم ، وقد مر كلامهم فى ذلك .
قال الشوكانى "نيل الأوطار ج 4 ص 142 "المشهور من مذهب الشافعى وجماعة من أصحابه أنه لا يصل إلى الميت ثواب قراءة القرآن . وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء وجماعة من أصحاب الشافعى إلى أنه يصل ، كذا ذكره النووى فى الأذكار، وفى شرح المنهاج : يصل إلى الميت عندنا ثواب القراءة على المشهور والمختار الوصول إذا سأل الله إيصال ثواب قراءته ، وينبغى الجزم به لأنه دعاء، فإذا جاز الدعاء للميت بما ليس للداعى فلأن يجوز بما هو له أولى، ويبقى الأمر فيه موقوفا على استجابة الدعاء. وهذا المعنى لا يختص بالقراءة، بل يجرى فى سائر الأعمال . والظاهر أن الدعاء متفق عليه أن ينفع الميت والحى ، والقريب والبعيد ، بوصية وغيرها وعلى ذلك أحاديث كثيرة ، بل كان أفضل الدعاء أن يدعو لأخيه بظهر الغيب . اهـ .
هذا، وقد قال الأبى : والقراءة للميت ، وإن حصل الخلاف فيها فلا ينبغى إهمالها فلعل الحق الوصول ، فإن هذه الأمور مغيبة عنا ، وليس الخلاف فى حكم شرعى إنما هو فى أمر هل يقع كذلك أم لا .
وأنا مع الأبى فى هذا الكلام ، فإن القراءة للميت إن لم تنفع الميت فهى للقارئ، فالمستفيد منها واحد منهما، ولا ضرر منها على أحد .
مع تغليب الرجاء فى رحمة اللّه وفضله أن يفيد بها الميت كالشفاعة والدعاء وغيرهما .
وهذا الخلاف محله إذا قرئ القرآن بغير أجر، أما إن قرئ بأجر فالجمهور على عدم انتفاع للميت به . لأن القارئ أخذ ثوابه الدنيوى عليها فلم يبق لديه ما يهديه أو يهدى مثل ثوابه إلى الميت ، ولم تكن قراءته لوجه اللّه حتى يدعوه بصالح عمله أن ينفع بها الميت ، بل كانت القراءة للدنيا ، ويتأكد ذلك إذا كانت هناك مساومة أو اتفاق سابق على الأجر أو معلوم متعارف عليه ، أما الهدية بعد القراءة إذا لم تكن نفس القارئ متعلقة بها فقد يرجى من القراءة النفع للميت . والأعمال بالنيات ، وأحذر قارئ القرآن من هذا الحديث الذى رواه أحمد والطبرانى والبيهقى عن عبد الرحمن بن شبل "اقرءوا للقرآن واعملوا به ، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه ، ولا تأكلوا به ، ولا تستكثروا به }قال الهيثمى : رجال أحمد ثقات ، وقال ابن حجر فى الفتح : سنده قوى .
وفسر الأكل به بأخذ الأجرة عليه ، كما فسر بالاستجداء به والتسول .
وقد قال الشيخ حسنين محمد مخلوف فى أخذ الأجرة على قراءة القرآن :
مذهب الحنفية لا يجوز أخذها على فعل القرب والطاعات كالصلاة والصوم وتعليم القرآن وقراءته ولكن المتأخرين من فقهاء الحنفية استثنوا من ذلك أمورا ، منها تعليم القرآن فقالوا : بجواز أخذ الأجرة عليه استحسانا ، خشية ضياعه ، ولكن بقى حكم أخذ الأجرة على قراءة القرآن على ما تقرر فى أصل المذهب من عدم الجواز، ومذهب الحنابلة لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن ولا على قراءته ، استنادا إلى حديث "اقرءوا القرآن . . . " الذى تقدم . مذهب المالكية لا يجوز أخذ الأجرة على ما لا يقبل النيابة من المطلوب شرعا كالصلاة والصيام ، ولكن يجوز أخذ الأجرة على ما يقبل النيابة ، ومنها تعليم القرآن وقراءته ، ومذهب الشافعية يجوز أخذ الأجرة على قراءة القرآن وتعليمه ، سواء أكانت القراءة عند القبر أو بعيدة عنه ، مع الدعاء بوصول الثواب إلى الميت اهـ
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 2335)
رقم الفتوى 5541 هبة ثواب أعمال الحي للميت
تاريخ الفتوى : 12 جمادي الثانية 1424
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم هل يصل ثواب هبة القرآن للميت ..ولكم جزيل الشكر
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد أجمع أهل العلم على أن الصدقة والدعاء يصل إلى الميت نفعهما، ولم يشذ عن ذلك إلا المبتدعة الذين قالوا: لا يصل إلى الميت شيء من الثواب إلا عمله أو المتسبب فيه. والأخبار في ذلك ثابتة مشهورة في الصحيحين وغيرهما وقد ذكر مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن المبارك أنه قال: ليس في الصدقة خلاف. واختلف أهل العلم فيما سوى ذلك من الأعمال التطوعية كالصيام عنه وصلاة التطوع وقراءة القرآن ونحو ذلك. وذهب أحمد وأبو حنيفة وغيرهما وبعض أصحاب الشافعي إلى أن الميت ينتفع بذلك، وذهب مالك في المشهور عنه والشافعي إلى أن ذلك لا يصل للميت. واستدل الفريق الثاني بقوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) [النجم:39] وبقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث…….." والآية والحديث أجاب عنهما أصحاب الفريق الأول بأجوبة أقربها إلى الصواب بالنسبة للآية أن ظاهرها لا يخالف ما ذهب إليه أصحاب الفريق الأول فإن الله تعالى قال: (ليس للإنسان إلا ما سعى) وهذا حق، فإنه إنما يستحق سعيه، فهو الذي يملكه، كما أنه لا يملك من المكاسب إلا ما اكتسبه هو، وأما سعي غيره فهو حق وملك لذلك الغير لا له، ولهذا الغير أن يهدي سعيه لمن شاء. فإنه ليس كل ما ينتفع به الحي أو الميت من سعيه، بل قد يكون من سعيه فيستحقه لأنه من كسبه، وقد يكون من سعي غيره فينتفع به بإذن صاحبه، كالذي يوفيه الإنسان عن غيره فتبرأ ذمته. وأما جوابهم عن الحديث فقالوا: ذكر الولد ودعائه له
خاصان، لأن الولد من كسبه كما قال تعالى: (ما أغنى عنه ما له وما كسب) [المسد: 2] فقد فسر الكسب هنا بالولد، ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه" رواه أصحاب السنن. فلما كان الأب هو الساعي في وجود الولد كان عمل الولد من كسب أبيه، بخلاف الأخ والعم والأب ونحوهم فإنه ينتفع بدعائهم بل بدعاء الأجانب، لكن ليس ذلك من عمله. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "انقطع عمله إلا من ثلاث.." ولم يقل أنه لا ينتفع بعمل غيره، فإذا دعا له ولده كان هذا من عمله الذي لم ينقطع وإن دعا له غيره لم يكن من عمل الوالد ولكنه ينتفع به. فالصحيح إن شاء الله وصول ثواب القراءة للميت. وسلك بعض الشافعية ممن يقولون بعدم وصول القراءة للأموات مسلكاً حسناً. قالوا: إذا قرأ وقال بعد قراءته اللهم إن كنت قبلت قراءتي هذه فاجعل ثوابها لفلان. وعدّوا ذلك من باب الدعاء.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5184)
«ما يثاب عليه وشروطه»
8 - من المقرّر شرعاً أنّ الإنسان يثاب - بفضل اللّه - على ما يؤدّي من طاعات ، واجبة كانت أو مندوبة ، وعلى ما يترك من محرّمات ومكروهات.
يقول اللّه تعالى : «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ خَيرَاً يَره وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَه» ، ويقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
« إنّ اللّه لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدّنيا ويجزى بها في الآخرة » لكنّ فعل الواجبات والمندوبات وترك المحرّمات والمكروهات ليس سببا في حدّ ذاته - للثّواب - مع أنّه قد يكون الفعل مجزئا ومبرئا للذّمّة والتّرك كافيا للخروج من العهدة ، لأنّه يشترط لحصول الثّواب في الفعل والتّرك نيّة امتثال أمر اللّه تعالى.
بل إنّ المباحات رغم أنّها لا تفتقر إلى نيّة ، لكن إن أريد بها الثّواب بجعلها وسيلة للعبادة المشروعة افتقرت إلى نيّة.
قال الشّاطبيّ : الأعمال بالنّيّات ، والمقاصد معتبرة في التّصرّفات من العبادات والعادات ، والأدلّة على هذا المعنى لا تنحصر ، منها قوله تعالى : «ومَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ له الدِّينَ» وقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّما الأعمال بالنّيّات ،وإنّما لكلّ امرئ ما نوى » .
ومن القواعد الفقهيّة : لا ثواب إلاّ بالنّيّة ، قال ابن نجيم : قرّر المشايخ في حديث.
« إنّما الأعمال بالنّيّات » ، أنّه من باب المقتضى ، إذ لا يصحّ بدون تقدير لكثرة وجود الأعمال بدونها فقدّروا مضافاً أي حكم الأعمال ، وهو نوعان : أخرويّ ، وهو الثّواب واستحقاق العقاب ، ودنيويّ وهو الصّحّة والفساد ، وقد أريد الأخرويّ بالإجماع للإجماع على أنّه لا ثواب ولا عقاب إلاّ بالنّيّة ، وساق ابن نجيم الأمثلة على ذلك في الأفعال والتّروك ، ثمّ قال : ولا تشترط للثّواب صحّة العبادة ، بل يثاب على نيّته وإن كانت فاسدة بغير تعمّده ، كما لو صلّى محدثا على ظنّ طهارته.
9- بل إنّ الإنسان قد يثاب على ما لم يعمل ، ويكون الثّواب على النّيّة لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة » وقوله : « من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلّي في اللّيل فغلبته عيناه حتّى أصبح كتب له ما نوى وكان نومه صدقة عليه من ربّه عزّ وجلّ » ويثاب كذلك على العمل وإن لم يقع الموقع المناسب ، ففي البخاريّ حديث المتصدّق الّذي وقعت صدقته في يد زانية وغنيّ وسارق.
وحديث « معن بن يزيد بن الأخنس الّذي أخذ صدقة أبيه من الرّجل الّذي وضعت عنده وقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم : لك ما نويت يا يزيد ولك ما أخذت يا معن » قال ابن حجر : هذا يدلّ على أنّ نيّة المتصدّق إذا كانت صالحة قبلت صدقته وإن لم تقع الموقع.
وهذا في الجملة فقد قيل : إنّ القربات الّتي لا لبس فيها لا تحتاج إلى نيّة كالإيمان باللّه تعالى.
وينظر تفصيل ذلك في « نيّة » .
«ما يثاب عليه الإنسان ممّا ليس من كسبه»
لا خلاف في أنّ الثّواب يتعلّق بما هو من كسب الإنسان واكتسابه ، أمّا ثواب ما ليس من كسبه فقد اختلف فيه.
ويأتي ذلك في مواضع :
«أوّلاً - فيما يهبه الإنسان لغيره من الثّواب»
10 - يجوز عند الحنفيّة والحنابلة أن يجعل الإنسان ثواب ما أتى به من عبادة لغيره ، سواء أكانت العبادة صلاة ، أم صوما ، أم حجّا ، أم صدقة ، أم قراءة وذكرا ، وغير ذلك لظاهر الأدلّة على ذلك ، ومنها قوله تعالى : «وَالَّذِينَ جَاءوا مِنْ بَعْدِهم يَقولونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لنا وَلإخوَاننا الَّذينَ سَبَقُونا بِالإيمانِ» وقوله تعالى : «وَاسْتَغْفِر لِذَنْبِكَ وللمؤمنينَ وَالمؤمناتِ» وقد « ضحّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أحدهما عنه والآخر عن أمّته » ، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ « رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن العاص لمّا سأله عن أبيه : لو كان مسلما فأعتقتم عنه ، أو تصدّقتم عنه ، أو حججتم عنه بلغه ذلك » .
وغير ذلك من الأدلّة ، وأمّا قوله تعالى : «وَأنْ ليسَ للإنسَانِ إلاّ مَا سَعَى» فمعناه لا يجب للإنسان إلاّ ما سعى.
وعند المالكيّة يجوز فيما عدا الصّلاة والصّيام ، وعند الشّافعيّة فيما عدا الصّلاة ، وفي الصّيام وقراءة القرآن خلاف ، واستدلّوا لذلك بالإجماع ولأنّ الصّلاة والصّيام لا تدخلها النّيابة في حال الحياة فكذلك بعد الموت.

(39) سورة النجم ،لِوَجْهَيْنِ :
( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْتَفِعُ بِمَا لَيْسَ مِنْ سَعْيِهِ كَدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَاسْتِغْفَارِهِمْ لَهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى :{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (7) سورة غافر. وَدُعَاءُ النَّبِيِّينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِغْفَارُهُمْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى :{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (103) سورة التوبة }، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (99) سورة التوبة ،وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (19) سورة محمد، كَدُعَاءِ الْمُصَلِّينَ لِلْمَيِّتِ وَلِمَنْ زَارُوا قَبْرَهُ - مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (1)- .
( الثَّانِي ) : أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ فِي ظَاهِرِهَا إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا سَعْيُهُ ،وَهَذَا حَقٌّ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ وَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا سَعْيَ نَفْسِهِ، وَأَمَّا سَعْيُ غَيْرِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ وَلَا يَسْتَحِقُّهُ ؛ لَكِنْ هَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَنْفَعَهُ اللَّهُ وَيَرْحَمُهُ بِهِ ؛ كَمَا أَنَّهُ دَائِمًا يَرْحَمُ عِبَادَهُ بِأَسْبَابِ خَارِجَةٍ عَنْ مَقْدُورِهِمْ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ بِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ يَرْحَمُ الْعِبَادَ بِأَسْبَابِ يَفْعَلُهَا الْعِبَادُ لِيُثِيبَ أُولَئِكَ عَلَى تِلْكَ الْأَسْبَابِ فَيَرْحَمُ الْجَمِيعَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : « مَنْ دَعَا لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ »(2).
وَكَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : « مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ فَإِنْ شَهِدَ دَفْنَهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ الْقِيرَاطُ مِثْلُ أُحُدٍ »(3).
فَهُوَ قَدْ يَرْحَمُ الْمُصَلِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ بِدُعَائِهِ لَهُ وَيَرْحَمُ الْمَيِّتَ أَيْضًا بِدُعَاءِ هَذَا الْحَيِّ لَهُ (4)
__________
(1) - صحيح مسلم برقم(2299 ) عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- - كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- - يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ فَيَقُولُ « السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا مُؤَجَّلُونَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ ».
(2) - صحيح مسلم برقم(7104)
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 9 / ص 96)
وَفِي هَذَا فَضْل الدُّعَاء لِأَخِيهِ الْمُسْلِم بِظَهْرِ الْغَيْب ، وَلَوْ دَعَا لِجَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَصَلَتْ هَذِهِ الْفَضِيلَة ، وَلَوْ دَعَا لِجُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ فَالظَّاهِر حُصُولهَا أَيْضًا ، وَكَانَ بَعْض السَّلَف إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُو لِنَفْسِهِ يَدْعُو لِأَخِيهِ الْمُسْلِم بِتِلْكَ الدَّعْوَة ؛ لِأَنَّهَا تُسْتَجَاب ، وَيَحْصُل لَهُ مِثْلهَا .
(3) - صحيح مسلم برقم(2237 ) وبرقم( 2239)
(4) - وفي نيل الأوطار - (ج 6 / ص 288)
وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ مِنْ الْوَلَدِ تَلْحَقُ الْوَالِدَيْنِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا بِدُونِ وَصِيَّةٍ مِنْهُمَا وَيَصِلُ إلَيْهِمَا ثَوَابُهَا فَيُخَصَّصُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } وَلَكِنْ لَيْسَ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ إلَّا لُحُوقُ الصَّدَقَةِ مِنْ الْوَلَدِ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ وَلَدَ الْإِنْسَانِ مِنْ سَعْيِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى دَعْوَى التَّخْصِيصِ وَأَمَّا مِنْ غَيْرِ الْوَلَدِ فَالظَّاهِرُ مِنْ الْعُمُومَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَصِلُ ثَوَابُهُ إلَى الْمَيِّتِ فَيُوقَفُ عَلَيْهَا حَتَّى يَأْتِيَ دَلِيلٌ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهَا وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي غَيْرِ الصَّدَقَةِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ هَلْ يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ ؟ فَذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَيْهِ شَيْءٌ وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ الْآيَةِ وَقَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ : إنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ صَلَاةً كَانَ أَوْ صَوْمًا أَوْ حَجًّا أَوْ صَدَقَةً أَوْ قِرَاءَةَ قُرْآنٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْبِرِّ ، وَيَصِلُ ذَلِكَ إلَى الْمَيِّتِ وَيَنْفَعُهُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ انْتَهَى وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ ثَوَابُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ يَصِلُ ، كَذَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ وَفِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ لِابْنِ النَّحْوِيِّ : لَا يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ عِنْدَنَا ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ ، وَالْمُخْتَارُ الْوُصُولُ إذَا سَأَلَ اللَّهَ إيصَالَ ثَوَابِ قِرَاءَتِهِ ، وَيَنْبَغِي الْجَزْمُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ ، فَإِذَا جَازَ الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ بِمَا لَيْسَ لَلدَّاعِي ، فَلَأَنْ يَجُوزَ بِمَا هُوَ لَهُ أَوْلَى ، وَيَبْقَى الْأَمْرُ فِيهِ مَوْقُوفًا عَلَى اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَصُّ بِالْقِرَاءَةِ بَلْ يَجْرِي فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الدُّعَاءَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَنْفَعُ الْمَيِّتَ وَالْحَيَّ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ بِوَصِيَّةٍ وَغَيْرِهَا وَعَلَى ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ، بَلْ كَانَ أَفْضَلُ الدُّعَاءِ أَنْ يَدْعُوَ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ انْتَهَى وَقَدْ حَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُصُولِ الدُّعَاءِ إلَى الْمَيِّتِ ، وَكَذَا حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ عَنْ الْمَيِّتِ وَيَصِلُهُ ثَوَابُهَا وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِالْوَلَدِ .
وَحَكَى أَيْضًا الْإِجْمَاعَ عَلَى لُحُوقِ قَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ يُخَصَّصُ عُمُومُ الْآيَةِ بِالصَّدَقَةِ مِنْ الْوَلَدِ كَمَا فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ ، وَبِالْحَجِّ مِنْ الْوَلَدِ كَمَا فِي خَبَرِ الْخَثْعَمِيَّةِ ، وَمِنْ غَيْرِ الْوَلَدِ أَيْضًا كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُحْرِمِ عَنْ أَخِيهِ شُبْرُمَةَ ، وَلَمْ يَسْتَفْصِلْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ أَوْصَى شُبْرُمَةُ أَمْ لَا ؟ وَبِالْعِتْقِ مِنْ الْوَلَدِ كَمَا وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ ، وَبِالصَّلَاةِ مِنْ الْوَلَدِ أَيْضًا مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ كَانَ لِي أَبَوَانِ أُبِرُّهُمَا فِي حَالِ حَيَاتِهِمَا ، فَكَيْفَ لِي بِبِرِّهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ مِنْ الْبِرِّ بَعْدَ الْبِرِّ أَنْ تُصَلِّيَ لَهُمَا مَعَ صَلَاتِكَ ، وَأَنْ تَصُومَ لَهُمَا مَعَ صِيَامِك } وَبِالصِّيَامِ مِنْ الْوَلَدِ لِهَذَا الْحَدِيثِ ، وَلِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ ، وَلِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ { إنَّ امْرَأَةً قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّيَ مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ ، فَقَالَ : أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا ؟ قَالَتْ نَعَمْ ، قَالَ : فَصَوْمِي عَنْ أُمِّكِ } وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ { أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ : إنَّهُ كَانَ عَلَى أُمِّي صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا ؟ قَالَ : صُومِي عَنْهَا } وَمِنْ غَيْرِ الْوَلَدِ أَيْضًا لِحَدِيثِ { مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ ، وَبِقِرَاءَةِ ( يس ) مِنْ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ لِحَدِيثِ { اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس } وَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَبِالدُّعَاءِ مِنْ الْوَلَدِ لِحَدِيثِ { أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ } وَمِنْ غَيْرِهِ لِحَدِيثِ { اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ } وَقَدْ تَقَدَّمَ وَلِحَدِيثِ " فَضْلُ الدُّعَاءِ لِلْأَخِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ " وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } وَلِمَا ثَبَتَ مِنْ الدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ عِنْدَ الزِّيَارَةِ كَحَدِيثِ بُرَيْدَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُمْ إذَا خَرَجُوا إلَى الْمَقَابِرِ أَنْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ } وَبِجَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ الْوَلَدُ لَوَالِدَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ لِحَدِيثِ { وَلَدُ الْإِنْسَانِ مِنْ سَعْيِهِ } وَكَمَا تُخَصِّصُ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ كَذَلِكَ يُخَصِّصُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَهْلُ السُّنَنِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عَمَلٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ } فَإِنَّهُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ عَنْهُ مَا عَدَا هَذِهِ الثَّلَاثَةَ كَائِنًا مَا كَانَ وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ يُقَاسُ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي وَرَدَتْ بِهَا الْأَدِلَّةُ غَيْرُهَا فَيَلْحَقُ الْمَيِّتَ كُلُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ غَيْرُهُ
وَقَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ : إنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ } وَقِيلَ الْإِنْسَانُ أُرِيدَ بِهِ الْكَافِرُ ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَهُ مَا سَعَى إخْوَانُهُ ، وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ مِنْ طَرِيقِ الْعَدْلِ وَهُوَ لَهُ مِنْ طَرِيقِ الْفَضْلِ ، وَقِيلَ اللَّامُ بِمَعْنَى عَلَى كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ } أَيْ وَعَلَيْهِمْ انْتَهَى

.
( السَّبَبُ السَّادِسُ ) : شَفَاعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرُهُ فِي أَهْلِ الذُّنُوبِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:
كَمَا قَدْ تَوَاتَرَتْ عَنْهُ أَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : « شَفَاعَتِى لأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِى »(1)
__________
(1) - سنن أبى داود برقم(4741 )صحيح
عون المعبود - (ج 10 / ص 259)
( شَفَاعَتِي ) قَالَ اِبْن رَسْلَان : لَعَلَّ هَذِهِ الْإِضَافَة بِمَعْنَى " أَلْ " الَّتِي لِلْعَهْدِ ، وَالتَّقْدِير الشَّفَاعَة الَّتِي أَعْطَانِيهَا اللَّه تَعَالَى وَوَعَدَنِي بِهَا لِأُمَّتِي اِدَّخَرْتهَا
( لِأَهْلِ الْكَبَائِر مِنْ أُمَّتِي ) أَيْ الَّذِينَ اِسْتَوْجَبُوا النَّار بِذُنُوبِهِمْ الْكَبَائِر فَلَا يَدْخُلُونَ بِهَا النَّار ، وَأُخْرِج بِهَا مَنْ أَدْخَلْته كَبَائِر ذُنُوبه النَّار مِمَّنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه مُحَمَّد رَسُول اللَّه . كَذَا فِي السِّرَاج الْمُنِير .
وَقَالَ الطِّيبِيُّ : أَيْ شَفَاعَتِي الَّتِي تُنْجِي الْهَالِكِينَ مُخْتَصَّة بِأَهْلِ الْكَبَائِر .
قَالَ النَّوَوِيّ : قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه مَذْهَب أَهْل السُّنَّة جَوَاز الشَّفَاعَة عَقْلًا وَوُجُوبهَا سَمْعًا لِصَرِيحِ قَوْله تَعَالَى { يَوْمئِذٍ لَا تَنْفَع الشَّفَاعَة إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } وَقَدْ جَاءَتْ الْآثَار الَّتِي بَلَغَتْ بِمَجْمُوعِهَا التَّوَاتُر لِصِحَّةِ الشَّفَاعَة فِي الْآخِرَة ، وَأَجْمَعَ السَّلَف الصَّالِحُونَ وَمَنْ بَعْدهمْ مِنْ أَهْل السُّنَّة عَلَيْهَا ، وَمَنَعَتْ الْخَوَارِج وَبَعْض الْمُعْتَزِلَة مِنْهَا وَتَعَلَّقُوا بِمَذَاهِبِهِمْ فِي تَخْلِيد الْمُذْنِبِينَ فِي النَّار بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَا تَنْفَعهُمْ شَفَاعَة الشَّافِعِينَ } وَبِقَوْلِهِ سُبْحَانه { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيم وَلَا شَفِيع يُطَاع } وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْآيَتَيْنِ فِي الْكُفَّار ، وَالْمُرَاد بِالظُّلْمِ الشِّرْك . وَأَمَّا تَأْوِيلهمْ أَحَادِيث الشَّفَاعَة بِكَوْنِهَا فِي زِيَادَة الدَّرَجَات فَبَاطِل ، وَأَلْفَاظ الْأَحَادِيث صَرِيحَة فِي بُطْلَان مَذْهَبهمْ وَإِخْرَاج مَنْ اِسْتَوْجَبَ النَّار اِنْتَهَى .
وفي تحفة الأحوذي - (ج 6 / ص 227)
قَالَ الْمَنَاوِيُّ فِي التَّيْسِيرِ : الْإِضَافَةُ بِمَعْنَى " الْ " الْعَهْدِيَّةِ ، أَيْ الشَّفَاعَةُ الَّتِي وَعَدَنِي اللَّهُ بِهَا اِدَّخَرْتهَا
( لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي ) أَيْ لِوَضْعِ السَّيِّئَاتِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْكَبَائِرِ . وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ فَلِكُلٍّ مِنْ الْأَتْقِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَّةِ . وَقَالَ الطِّينِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَيْ شَفَاعَتِي الَّتِي تُنْجِي الْهَالِكِينَ مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الْكَبَائِرِ . قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : مَذْهَبُ أَهْلِ السَّنَةِ جَوَازُ الشَّفَاعَةِ عَقْلًا وَوُجُوبُهَا سَمْعًا بِصَرِيحِ قَوْلِهِ تَعَالَى : { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ اِرْتَضَى } وَأَمْثَالُهُمَا . وَبِخَبَرِ الصَّادِقِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ الَّتِي بَلَغَتْ بِمَجْمُوعِهَا التَّوَاتُرُ بِصِحَّةِ الشَّفَاعَةِ فِي الْآخِرَةِ لِمُذْنِبِي الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَجْمَعَ السَّلَفُ الصَّالِحُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَيْهَا ، وَمُنِعَتْ الْخَوَارِجُ وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْهَا وَتَعَلَّقُوا بِمَذَاهِبِهِمْ فِي تَخْلِيدِ الْمُذْنِبِينَ فِي النَّارِ ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ } . وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي الْكُفَّارِ وَأَمَّا تَأْوِيلُهُمْ أَحَادِيثَ الشَّفَاعَةِ بِكَوْنِهَا فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ فَبَاطِلٌ وَأَلْفَاظُ الْأَحَادِيثِ صَرِيحَةٌ فِي بُطْلَانِ مَذْهَبِهِمْ وَإِخْرَاجِ مَنْ اِسْتَوْجَبَ النَّارَ لَكِنْ الشَّفَاعَةُ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ :
[ أَوَّلُهَا ] : مُخْتَصَّةٌ بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَهِيَ الْإِرَاحَةُ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ وَتَعْجِيلِ الْحِسَابِ .
[ الثَّانِيَةُ ] : فِي إِدْخَالِ قَوْمٍ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَهَذِهِ أَيْضًا وَرَدَتْ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ .
[ الثَّالِثَةُ ] : الشَّفَاعَةُ لِقَوْمٍ اِسْتَوْجَبُوا النَّارَ فَيَشْفَعُ فِيهِمْ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ يَشَاءُ اللَّهُ تَعَالَى .
[ الرَّابِعَةُ ] : فِي مَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنْ الْمُذْنِبِينَ ، فَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ النَّارِ بِشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَلَائِكَةِ وَإِخْوَانِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ يُخْرِجُ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : لَا يَبْقَى فِيهَا إِلَّا الْكَافِرُونَ .
[ الْخَامِسَةُ ] : الشَّفَاعَةُ فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ لِأَهْلِهَا اِنْتَهَى .

.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :« خُيِّرْتُ بَيْنَ الشَّفَاعَةِ أَوْ يَدْخُلَ نِصْفُ أُمَّتِى الْجَنَّةَ فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ لأَنَّهَا أَعَمُّ وَأَكْفَى أَتَرَوْنَهَا لِلْمُنَقَّيْنَ لاَ وَلَكِنَّهَا لِلْمُتَلَوِّثِينَ الْخَطَّاءُونَ »(1)
__________
(1) - مسند أحمد برقم( 5581)عن ابن عمر وسنن ابن ماجه برقم( 4453 ) عن أبي موسى وهو صحيح لغيره
وفي مسند أحمد برقم(20145) َ عَنْ أَبِى مُوسَى أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَحْرُسُهُ أَصْحَابُهُ فَقُمْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَلَمْ أَرَهُ فِى مَنَامِهِ فَأَخَذَنِى مَا قَدُمَ وَمَا حَدَثَ فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإِذَا أَنَا بِمُعَاذٍ قَدْ لَقِىَ الَّذِى لَقِيتُ فَسَمِعْنَا صَوْتاً مِثْلَ هَزِيزِ الرَّحَا فَوَقَفْنَا عَلَى مَكَانِهِمَا فَجَاءَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ قِبَلِ الصَوْتِ فَقَالَ « هَلْ تَدْرُونَ أَيْنَ كُنْتُ وَفِيمَ كُنْتُ أَتَانِى آتٍ مِنْ رَبِّى عَزَّ وَجَلَّ فَخَيَّرَنِى بَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ نِصْفُ أُمَّتِى الْجَنَّةَ وَبَيْنَ الشَّفَاعَةِ فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ ». فَقَالاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَنَا فِى شَفَاعَتِكَ. فَقَالَ « أَنْتُمْ وَمَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً فِى شَفَاعَتِى » صحيح .
حاشية السندي على ابن ماجه - (ج 8 / ص 162)
( أَتَرَوْنَهَا ) أَيْ تِلْكَ الشَّفَاعَة الَّتِي خُيِّرْت بَيْنهَا وَبَيْن دُخُول نِصْف الْأُمَّة الْجَنَّة لَيْسَتْ هِيَ لِلْمُتَّقِينَ وَإِنَّمَا هِيَ لِلْمُذْنِبِينَ وَيُحْتَمَل أَنَّ الْمُرَاد أَتَرَوْنَ الشَّفَاعَة مَخْصُوصَة لِلْمُتَّقِينَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا هِيَ شَامِلَة لِلْمُذْنِبِينَ
وفي موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1676)
شفاعاته صلى الله عليه وسلم
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
أحبابنا في الله: أخرج مسلم: (202) في صحيحه بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال أن النبي تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [إبراهيم:26]. وقال عيسى عليه السلام: إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]. فرفع يديه، وقال: ((اللهم أمتي أمتي))، وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله، فأخبره رسول الله بما قال - وهو أعلم - فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوؤك.
الحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله أن جعلنا من أمة خير الأنام، نعم إن الله سيرضيه في أمته، ولا يسوؤه، وذلك فضل الله، تفضل به على هذا الحبيب وعلى أمته، وذلك يكون بشفاعته التي تنال أمته ، وهي أنواع عدة ذكرها أهل العلم في ذلك، فمنها شفاعته أن يؤذن لجميع المؤمنين في دخول الجنة، فإنه أول داخل لها.
أخرج مسلم: (196) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي : ((أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة)). وفي رواية لمسلم: (197) ((فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك)). اللهم أدخلنا الجنة في زمرته.
ومن شفاعته شفاعته في أهل الكبائر من أمته ممن دخل النار، فيخرجون منها، وقد تواترت الأحاديث على ذلك، روى المنذري: (5340) بإسناد حسن عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي قال: ((خيرت بين الشفاعة أو يدخل نصف أمتي الجنة، فاخترت الشفاعة))؛ لأنها أعم وأكفى، أما إنها ليست للمؤمنين المتقين، ولكنها للمذنبين الخطائين المتلوثين، وفي الحديث: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) [أخرجه أحمد].
وصفة ذلك أن رسول الله يشفع إلى مولانا الرحيم الكريم في أن يخرج من النار أمته الذين قد دخلوها، فيأذن الله له في ذلك، أخرج البخاري بسنده: (7440)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه في حديث طويل، منه قال : ((فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، فيقول: ارفع محمد، وقل تسمع، واشفع تشفع، وسل تعط، قال: فأرفع رأسي، فأثني على ربي بثناء وتحميد يُعلمنيه، قال: ثم أشفع، فيحد لي حداً، فأخرج فأدخلهم الجنة))، وقال قتادة: ((فأخرج، فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة، ثم أعود الثالثة، فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، فيقول: ارفع محمد، وقل تسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه، قال: فأرفع رأسي، فأثني على ربي بثناء وتحميد يُعلمنيه، قال: ثم أشفع، فيُحد لي حداً، فأخرج، فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة، حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن)) أي وجب عليه الخلود، الحديث. حتى أنه من كثرة شفاعته يقول له خازن النار: يا محمد ما تركت لغضب ربك في أمتك من نقمة. [الترغيب: 5337].
هكذا يشفع لأمته، إنه الرحمة المهداة، صلوات الله وسلامه عليه حتى أن الله يناديه: أرضيت يا محمد، روى المنذري: (5338) بإسناد حسن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((أشفع لأمتي حتى يناديني ربي تبارك وتعالى، فيقول: أقد رضيت يا محمد؟ فأقول: أي رب، رضيت)).
ومن شفاعته في ذلك اليوم شفاعته لعمه أبي طالب، أخرج مسلم في صحيحه: (212) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو منتعل بنعلين، يغلي منهما دماغه)).
وفي ذلك اليوم العظيم تتوالى الشفاعات رحمة من الله بعباده، يقول : ((يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء)) [رواه ابن ماجه: 4313].
وأخرج أحمد بإسناد حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين ربيعة ومضر))، فقال رجل: يا رسول الله، أو ما ربيعة من مضر، قال: ((إنما أقول ما أقول)).
وما زالت الشفاعة في ذلك اليوم حتى يتفضل الرحمن الرحيم، الحنان المنان، الرؤوف الرحيم - سبحانه - فيخرج من النار أناس قد استحقوا العذاب، فيدخلهم الجنة برحمته.
أخرج مسلم: (183) بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه - في حديث طويل - قال رسول الله : ((حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده، ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا، ويصلون، ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم فتُحرم صورهم على النار، فيُخرجون خلقاً كثيراً، قد أخذت النار إلى نصف ساقيه، وإلى ركبتيه، ثم يقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا، ثم فيقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيراً، فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيُخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط، قد عادوا حمماً، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل)) الحديث، إلى قوله : ((يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه)).
فاتقوا الله - عباد الله - واسلكوا نهج نبيكم حتى تكتب لكم السعادة والجنات، اللهم أدخلنا الجنة بسلام، وتفضل علينا بباب الريان، واشملنا برحمتك وعفوك وعتقك من النيران، اللهم أصلحنا قبل الموت، وارحمنا عند الموت، واغفر لنا بعد الموت. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً. . . أما بعد:
إخوة الإسلام:
أسعد الناس بشفاعة رسول الله من مات على الإسلام، أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال رسول الله : ((لقد ظننت - يا أبا هريرة - أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه)).
اللهم أحينا على لا إله إلا الله، وتوفنا عليها، واجعلها آخر كلامنا من الدنيا.

.
( السَّبَبُ السَّابِعُ ) : الْمَصَائِبُ الَّتِي يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهَا الْخَطَايَا فِي الدُّنْيَا:
كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : « مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا ، إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ » (1).
( السَّبَبُ الثَّامِنُ ) : مَا يَحْصُلُ فِي الْقَبْرِ مِنْ الْفِتْنَةِ(2)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(5641 ) وصحيح مسلم برقم(6733 )
النَّصب : التعب =الوصب : الألم والسقم الدائم
تحفة الأحوذي - (ج 3 / ص 25)
ظَاهِرُهُ تَعْمِيمُ جَمِيعِ السَّيِّئَاتِ لَكِنَّ الْجُمْهُورَ خَصُّوا ذَلِكَ بِالصَّغَائِرِ لِحَدِيثِ : الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ . فَحَمَلُوا الْمُطْلَقَاتِ الْوَارِدَةَ فِي التَّفْكِيرِ عَلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ .
شرح ابن بطال - (ج 17 / ص 464)
قال كثير من أهل التأويل فى قوله تعالى: (من يعمل سوءًا يجز به) معناه أن المسلم يجزى بمصائب الدنيا فتكون له كفارة، روى هذا أبى بن كعب وعائشة ومجاهد، وروى عن الحسن وابن زيد أنه فى الكفار خاصة، وحديث عائشة وأبى سعيد وأبى هريرة يشهد بصحة القول الأول، وروى عن ابن مسعود أنه قال: الوجع لا يكتب به الأجر ولكن تكفر به الخطيئة.
فإن قيل: إن ظاهرة هذه الآثار يدل على أن المريض إنما يحط عنه بمرضه السيئات فقط دون زيادة. وقد ذكر البخارى فى كتاب الجهاد فى باب يكتب للمسافر ماكان يعمل فى الإقامة فى حديث أبى موسى عن النبى عليه السلام أنه قال: « إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا » وظاهرة مخالف لآثار هذا الباب لأن فى حديث أبى موسى أنه يزاد على التكفير. قيل له: ليس ذلك بخلاف وإنما هو زيادة بيان على آثار هذا الباب التى جاءت بتكفير الخطايا بالوجع لكل مؤمن لقوله عليه السلام: « مايصيب المؤمن من وصب ولا نصب فعم جميع المؤمنين » .
وفى حديث أبى موسى معنى آخر وهو أنه من كانت له عادة من عمل صالح ومنعه الله منه بالمرض أو السفر وكانت نبيته لو كان صحيحًا أو مقيمًا أن يدوم عليه ولايقطعه، فإن الله تعالى يتفضل عليه بأن يكتب له ثوابه، فأما من لم له تنفل ولاعمل صالح فلا يدخل فى معنى الحديث لأنه لم يكن يعمل فى صحته أو لإقامته مايكتب له فى مرضه وسفره، فحديث أبى موسى المراد به الخصوص، وأحاديث هذا الباب المراد بها العموم.
شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 1 / ص 121)
في حديث أبي سعيد وأبي هريرة وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين فيه دليل على أن الإنسان يكفر عنه بما يصيبه من الهم والنصب والغم وغير ذلك وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى يبتلي سبحانه وتعالى عبده بالمصائب وتكون تكفيراً لسيئاته وحطا لذنوبه والإنسان في هذه الدنيا لا يمكن أن يبقى مسروراً دائما بل هو يوم يسر ويوم يحزن ويوم يأتيه شيء ويوم لا يأتيه فهو مصاب بمصائب في نفسه ومصائب في بدنه ومصائب في مجتمعه ومصائب في أهله ولا تحصى المصائب التي تصيب الإنسان ولكن المؤمن أمره كله خير إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له فإذا أصبت بالمصيبة فلا تظن أن هذا الهم الذي يأتيك أو هذا الألم الذي يأتيك ولو كان شوكة لا تظن أنه يذهب سدى بل ستعوض عنه خيراً منه ستحط عنك الذنوب كما تحط الشجرة ورقها وهذا من نعمة الله .
وإذا زاد الإنسان على ذلك الصبر الاحتساب أي احتساب الأجر كان له مع هذا أجر فالمصائب تكون على وجهين: 1 - تارة إذا أصيب الإنسان تذكر الأجر واحتسب هذه المصيبة على الله فيكون فيها فائدتان تكفير الذنوب وزيادة الحسنات .
2 - وتارة يغفل عن هذا فيضيق صدره ويغفل عن نية الاحتساب والأجر على الله فيكون في ذلك تكفير لسيئاته إذا هو رابح على كل حال في هذه المصائب التي تأتيه فإما أن يربح تكفير السيئات وحط الذنوب بدون أن يحصل له أجر لأنه لم ينو شيئاً ولم يصبر ولم يحتسب الأجر وإما أن يربح شيئين كما تقدم .
ولهذا ينبغي للإنسان إذا أصيب ولو بشوكة فليتذكر الاحتساب من الله على هذه المصيبة وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى وجوده وكرمه حيث يبتلي المؤمن ثم يثيبه على هذه البلوى أو يكفر عنه سيئاته فالحمد لله رب العالمين .
(2) - صحيح البخارى برقم(1373) عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِى بَكْرٍ - رضى الله عنهما - تَقُولُ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطِيبًا فَذَكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ الَّتِى يَفْتَتِنُ فِيهَا الْمَرْءُ ، فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ ضَجَّ الْمُسْلِمُونَ ضَجَّةً .
وفي صحيح البخارى برقم(6376 )عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ خَالَتِهِ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَعَوَّذُ « اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْغِنَى ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ »

وَالضَّغْطَةِ (1)وَالرَّوْعَةِ (2)
__________
(1) - وفي مشكل الآثار برقم( 234 ) عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : " إنَّ لِلْقَبْرِ لَضَغْطَةً لَوْ كَانَ أَحَدٌ نَاجِيًا مِنْهَا نَجَا مِنْهَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ " وهو صحيح
(2) - مسند أحمد برقم(19121)عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى جِنَازَةٍ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْقَبْرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ وَهُوَ يُلْحَدُ لَهُ فَقَالَ « أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ». ثَلاَثَ مِرَارٍ ثُمَّ قَالَ « إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِى إِقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا تَنَزَّلَتْ إِلَيْهِ الْمَلاَئِكَةُ كَأَنَّ عَلَى وُجُوهِهِمُ الشَّمْسَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَفَنٌ وَحَنُوطٌ فَجَلَسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ حَتَّى إِذَا خَرَجَ رُوحُهُ صَلَّى عَلَيْهِ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَكُلُّ مَلَكٍ فِى السَّمَاءِ وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَابٍ إِلاَّ وَهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ يُعْرَجَ بِرُوحِهِ مِنْ قِبَلِهِمْ فَإِذَا عُرِجَ بِرُوحِهِ قَالُوا رَبِّ عَبْدُكَ فُلاَنٌ فَيَقُولُ أَرْجِعُوهُ فَإِنِّى عَهِدْتُ إِلَيْهِمْ أَنِّى مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى. قَالَ فَإِنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِ أَصْحَابِهِ إِذَا وَلَّوْا عَنْهُ فَيَأْتِيهِ آتٍ فَيَقُولُ مَنْ رَبُّكَ مَا دِينُكَ مَنْ نَبِيُّكَ فَيَقُولُ رَبِّىَ اللَّهُ وَدِينِىَ الإِسْلاَمُ وَنَبِيِّى مُحَمَّدٌ فَيَنْتَهِرُهُ فَيَقُولُ مَنْ رَبُّكَ مَا دِينُكَ مَنْ نَبِيُّكَ وَهِىَ آخِرُ فِتْنَةٍ تُعْرَضُ عَلَى الْمُؤْمِنِ فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ) فَيَقُولُ رَبِّىَ اللَّهُ وَدِينِىَ الإِسْلاَمُ وَنَبِيِّى مُحَمَّدٌ فَيَقُولُ لَهُ صَدَقْتَ ثُمَّ يَأْتِيهِ آتٍ حَسَنُ الْوَجْهِ طَيِّبُ الرِّيحِ حَسَنُ الثِّيَابِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِكَرَامَةٍ مِنَ اللَّهِ وَنَعِيمٍ مُقِيمٍ. فَيَقُولُ وَأَنْتَ فَبَشَّرَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ مَنْ أَنْتَ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ كُنْتَ وَاللَّهِ سَرِيعاً فِى طَاعَةِ اللَّهِ بَطِيئاً عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْراً . ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنَ الْجَنَّةِ وَبَابٌ مِنَ النَّارِ فَيُقَالُ هَذَا كَانَ مَنْزِلُكَ لَوْ عَصَيْتَ اللَّهَ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ هَذَا فَإِذَا رَأَى مَا فِى الْجَنَّةِ قَالَ رَبِّ عَجِّلْ قِيَامَ السَّاعَةِ كَيْمَا أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِى وَمَالِى. فَيُقَالُ لَهُ اسْكُنْ وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِى انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ نَزَلَتْ عَلَيْهِ مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ فَانْتَزَعُوا رُوحَهُ كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ الْكَثِيرُ الشِّعْبِ مِنَ الصُّوفِ الْمُبْتَلِّ وَتُنْزَعُ نَفْسُهُ مَعَ الْعُرُوقِ فَيَلْعَنُهُ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَكُلُّ مَلَكٍ فِى السَّمَاءِ وَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَابٍ إِلاَّ وَهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ لاَ تَعْرُجَ رُوحُهُ مِنْ قِبَلِهِمْ فَإِذَا عُرِجَ بِرُوحِهِ قَالُوا رَبِّ فُلاَنٌ عَبْدُكَ. قَالَ أَرْجِعُوهُ فَإِنِّى عَهِدْتُ إِلَيْهِمْ أَنِّى مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى. قَالَ فَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِ أَصْحَابِهِ إِذَا وَلَّوْا عَنْهُ - قَالَ - فَيَأْتِيهِ آتٍ فَيَقُولُ مَنْ رَبُّكَ مَا دِينُكَ مَنْ نَبِيُّكُ فَيَقُولُ لاَ أَدْرِى. فَيَقُولُ لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تلَوْتَ. وَيَأْتِيهِ آتٍ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِهَوَانٍ مِنَ اللَّهِ وَعَذَابٍ مُقِيمٍ. فَيَقُولُ وَأَنْتَ فَبَشَّرَكَ اللَّهُ بِالشَّرِّ مَنْ أَنْتَ فَيَقُولُ َنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ كُنْتَ بَطِيئاً عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ سَرِيعاً فِى مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَجَزَاكَ اللَّهُ شَرًّا ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَصَمُّ أَبْكَمُ فِى يَدِهِ مِرْزَبَّةٌ لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ كَانَ تُرَاباً فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً حَتَّى يَصِيرَ تُرَاباً ثُمَّ يُعِيدُهُ اللَّهُ كَمَا كَانَ فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أُخْرَى فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهُ كُلُّ شَىْءٍ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ ». قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنَ النَّارِ وَيُمَهَّدُ مِنْ فُرُشِ النَّارِ. وهو صحيح
تلوت : قرأت =الحنوط : ما يخلط من الطيب بأكفان الموتى =السفود : حديدة ذات شعب معقفة

:
فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُكَفَّرُ بِهِ الْخَطَايَا .
( السَّبَبُ التَّاسِعُ ) : أَهْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَرْبُهَا وَشَدَائِدُهَا (1)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(7510 ) عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِى بَعْضٍ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ . فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ . فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ . فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ . فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَيَأْتُونِى فَأَقُولُ أَنَا لَهَا . فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى فَيُؤْذَنُ لِى وَيُلْهِمُنِى مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لاَ تَحْضُرُنِى الآنَ ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ ، وَسَلْ تُعْطَ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ . فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِى أُمَّتِى . فَيُقَالُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ . فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ ، وَسَلْ تُعْطَ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِى أُمَّتِى . فَيُقَالُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ . فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ ، وَسَلْ تُعْطَ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ . فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِى أُمَّتِى . فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ ، فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ . فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ » . فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ أَنَسٍ قُلْتُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا لَوْ مَرَرْنَا بِالْحَسَنِ وَهْوَ مُتَوَارٍ فِى مَنْزِلِ أَبِى خَلِيفَةَ فَحَدَّثَنَا بِمَا حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، فَأَتَيْنَاهُ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَنَا فَقُلْنَا لَهُ يَا أَبَا سَعِيدٍ جِئْنَاكَ مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَلَمْ نَرَ مِثْلَ مَا حَدَّثَنَا فِى الشَّفَاعَةِ ، فَقَالَ هِيهِ ، فَحَدَّثْنَاهُ بِالْحَدِيثِ فَانْتَهَى إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَالَ هِيهِ ، فَقُلْنَا لَمْ يَزِدْ لَنَا عَلَى هَذَا . فَقَالَ لَقَدْ حَدَّثَنِى وَهْوَ جَمِيعٌ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً فَلاَ أَدْرِى أَنَسِىَ أَمْ كَرِهَ أَنْ تَتَّكِلُوا . قُلْنَا يَا أَبَا سَعِيدٍ فَحَدِّثْنَا ، فَضَحِكَ وَقَالَ خُلِقَ الإِنْسَانُ عَجُولاً مَا ذَكَرْتُهُ إِلاَّ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدَّثَنِى كَمَا حَدَّثَكُمْ بِهِ قَالَ « ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ ، وَسَلْ تُعْطَهْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ . فَأَقُولُ يَا رَبِّ ائْذَنْ لِى فِيمَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . فَيَقُولُ وَعِزَّتِى وَجَلاَلِى وَكِبْرِيَائِى وَعَظَمَتِى لأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ »
وفي مسند أحمد برقم(2595)ٍ عَنْ أَبِى نَضْرَةَ قَالَ خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مِنْبَرِ الْبَصْرَةِ فَقَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِىٌّ إِلاَّ لَهُ دَعْوَةٌ قَدْ تَنَجَّزَهَا فِى الدُّنْيَا وَإِنِّى قَدِ اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِى شَفَاعَةً لأُمَّتِى وَأَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ وَلاَ فَخْرَ وَبِيَدِى لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلاَ فَخْرَ آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِى وَلاَ فَخْرَ وَيَطُولُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عَلَى النَّاسِ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى آدَمَ أَبِى الْبَشَرِ فَلْيَشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا فَيَأْتُونَ آدَمَ -صلى الله عليه وسلم- فَيَقُولُونَ يَا آدَمُ أَنْتَ الَّذِى خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلاَئِكَتَهُ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا. فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا. فَيَقُولُ إِنِّى لَسْتُ هُنَاكُمْ إِنِّى قَدْ أُخْرِجْتُ مِنَ الْجَنَّةِ بِخَطِيئَتِى وَإِنَّهُ لاَ يُهِمُّنِى الْيَوْمَ إِلاَّ نَفْسِى وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحاً رَأْسَ النَّبِيِّينَ. فَيَأْتُونَ نُوحاٌ فَيَقُولُونَ يَا نُوحُ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا. فَيَقُولُ إِنِّى لَسْتُ هُنَاكُمْ إِنِّى دَعَوْتُ بِدَعْوَةٍ أَغْرَقَتْ أَهْلَ الأَرْضِ وَإِنَّهُ لاَ يُهِمُّنِى الْيَوْمَ إِلاَّ نَفْسِى وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ اللَّهِ. فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ يَا إِبْرَاهِيمُ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا . فَيَقُولُ إِنِّى لَسْتُ هُنَاكُمْ إِنِّى كَذَبْتُ فِى الإِسْلاَمِ ثَلاَثَ كِذْبَاتٍ - وَاللَّهِ إِنْ جَادَلَ بِهِنَّ إِلاَّ عَنْ دِينِ اللَّهِ قَوْلُهُ (إِنِّى سَقِيمٌ) وَقَوْلُهُ ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانَُوا يَنْطِقُونَ) وَقَوْلُهُ لاِمْرَأَتِهِ حِينَ أَتَى عَلَى الْمَلِكِ أُخْتِى - وَإِنَّهُ لاَ يُهِمُّنِى الْيَوْمَ إِلاَّ نَفْسِى وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى الَّذِى اصْطَفَاهُ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَكَلاَمِهِ. فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ يَا مُوسَى أَنْتَ الَّذِى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَكَلَّمَكَ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا. فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ إِنِّى قَتَلْتُ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ وَإِنَّهُ لاَ يُهِمُّنِى الْيَوْمَ إِلاَّ نَفْسِى وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ. فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا. فَيَقُولُ إِنِّى لَسْتُ هُنَاكُمْ إِنِّى اتُّخِذْتُ إِلَهاً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَإِنَّهُ لاَ يُهِمُّنِى الْيَوْمَ إِلاَّ نَفْسِى وَلَكِنْ أَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانَ مَتَاعٌ فِى وِعَاءٍ مَخْتُومٍ عَلَيْهِ أَكَانَ يُقْدَرُ عَلَى مَا فِى جَوْفِهِ حَتَّى يُفَضَّ الْخَاتَمُ قَالَ فَيَقُولُونَ لاَ. قَالَ فَيَقُولُ إِنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَقَدْ حَضَرَ الْيَوْمَ وَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ». قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « فَيَأْتُونِى فَيَقُولُونَ يَا مُحَمَّدُ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا. فَأَقُولُ أَنَا لَهَا حَتَّى يَأْذَنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَصْدَعَ بَيْنَ خَلْقِهِ نَادَى مُنَادٍ أَيْنَ أَحْمَدُ وَأُمَّتُهُ فَنَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ نَحْنُ آخِرُ الأُمَمِ وَأَوَّلُ مَنْ يُحَاسَبُ فَتُفْرِجُ لَنَا الأُمَمُ عَنْ طَرِيقِنَا فَنَمْضِى غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الطُّهُورِ فَتَقُولُ الأُمَمُ كَادَتْ هَذِهِ الأُمَّةُ أَنْ تَكُونَ أَنْبِيَاءَ كُلُّهَا. فَآتِى بَابَ الْجَنَّةِ فَآخُذُ بِحَلْقَةِ الْبَابِ فَأَقْرَعُ الْبَابَ فَيُقَالُ مَنْ أَنْتَ فَأَقُولُ أَنَا مُحَمَّدٌ. فَيُفْتَحُ لِى فَآتِى رَبِّى عَزَّ وَجَلَّ عَلَى كُرْسِيِّهِ - أَوْ سَرِيرِهِ شَكَّ حَمَّادٌ - فَأَخِرُّ لَهُ سَاجِداً فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَدٌ كَانَ قَبْلِى وَلَيْسَ يَحْمَدُهُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِى فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَسَلْ تُعْطَهْ وَقُلْ تُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَرْفَعُ رَأْسِى فَأَقُولُ أَىْ رَبِّ أُمَّتِى أُمَّتِى. فَيَقُولُ أَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ كَذَا وَكَذَا - لَمْ يَحْفَظْ حَمَّادٌ - ثُمَّ أَعُودُ فَأَسْجُدُ فَأَقُولُ مَا قُلْتُ فَيُقَالُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ تُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ أَىْ رَبِّ أُمَّتِى أُمَّتِى. فَيَقُولُ أَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ كَذَا وَكَذَا دُونَ الأَوَّلِ ثُمَّ أَعُودُ فَأَسْجُدُ فَأَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ فَيُقَالُ لِى ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ تَسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَقُولُ أَىْ رَبِّ أُمَّتِى أُمَّتِى فَيُقَالُ أَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ كَذَا وَكَذَا دُونَ ذَلِكَ »حديث حسن .
المحجل : أبيض مواضع الوضوء من اليدين -الغر : جمع الأغر وهو أبيض الوجه

.
( السَّبَبُ الْعَاشِرُ ) : رَحْمَةُ اللَّهِ وَعَفْوُهُ وَمَغْفِرَتُهُ بِلَا سَبَبٍ مِنْ الْعِبَادِ (1).
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ قَدْ يُدْفَعُ عَنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الْعَشَرَةِ كَانَ دَعْوَاهُمْ أَنَّ عُقُوبَاتِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ .
فَصْلٌ : قولان متناقضان في أهل الكبائر
فَهَذَانِ الْقَوْلَانِ : قَوْلُ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِمُطْلَقِ الذُّنُوبِ وَيُخَلِّدُونَ فِي النَّارِ (2)
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1186) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 2446) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 983) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 686)
(2) - وفي مجموع الفتاوى - (ج 13 / ص 208)
أَوَّلُ التَّفَرُّقِ وَالِابْتِدَاعِ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَقْتَلِ " عُثْمَانَ " وَافْتِرَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَلَمَّا اتَّفَقَ عَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ عَلَى التَّحْكِيمِ أَنْكَرَتْ الْخَوَارِجُ وَقَالُوا لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ وَفَارَقُوا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ ابْنَ عَبَّاسٍ فَنَاظَرَهُمْ فَرَجَعَ نِصْفُهُمْ وَالْآخَرُونَ أَغَارُوا عَلَى مَاشِيَةِ النَّاسِ وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَهُمْ فَقَتَلُوا ابْنَ خباب وَقَالُوا كُلُّنَا قَتَلَهُ فَقَاتَلَهُمْ عَلِيٌّ وَأَصْلُ مَذْهَبِهِمْ تَعْظِيمُ الْقُرْآنِ وَطَلَبُ اتِّبَاعِهِ لَكِنْ خَرَجُوا عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَهُمْ لَا يَرَوْنَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ الَّتِي يَظُنُّونَ أَنَّهَا تُخَالِفُ الْقُرْآنَ كَالرَّجْمِ وَنِصَابِ السَّرِقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَضَلُّوا ؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ أَعْلَمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ قَدْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَجَوَّزُوا عَلَى النَّبِيِّ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا فَلَمْ يُنَفِّذُوا لِحُكْمِ النَّبِيِّ وَلَا لِحُكْمِ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ بَلْ قَالُوا : إنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَمَنْ وَالَاهُمَا قَدْ حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } فَكَفَّرُوا الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا وَبِغَيْرِهِ وَتَكْفِيرُهُمْ وَتَكْفِيرُ سَائِرِ أَهْلِ الْبِدَعِ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَتَيْنِ :
إحْدَاهُمَا : أَنَّ هَذَا يُخَالِفُ الْقُرْآنَ .
وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ مَنْ خَالَفَ الْقُرْآنَ يَكْفُرُ وَلَوْ كَانَ مُخْطِئًا أَوْ مُذْنِبًا مُعْتَقِدًا لِلْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ .
وفي فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 3 / ص 101)
هل الخوارج كفار؟
المجيب د. عبد الله بن عمر الدميجي
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
العقائد والمذاهب الفكرية/الأديان والمذاهب الفكرية المعاصرة
التاريخ 18/12/1424هـ
السؤال
سؤالي حول الخوارج واعتقاد أهل السنة والجماعة بهم، هل هم كفار على العموم أم غلاتهم أم أنهم من أهل المذاهب؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد: فالخوارج الذين خرجوا على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه- اختلف الناس في حكمهم هل هم كفار أم لا؟ والصحابة - رضوان الله تعالى عليهم- وهم القدوة لا يكفرونهم. بل إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - والذي ناله من أذاهم ما ناله، من الخروج عليه وقتاله وتكفيرهم إياه، وفي آخر الأمر قتلهم له - رضي الله تعالى عنه - لا يرى تكفيرهم، وهذا قمة الورع والإنصاف منه - رضي الله عنه- لا كما يقوله بعض أصحاب الأهواء " نكفر من كفَّرنا" فلما سئل -رضي الله عنه- عنهم: أكفار هم؟ قال : من الكفر فروا . قيل له : فمنافقون ؟ قال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً - يعني على عكس الخوارج وما عرف من كثرة عبادتهم وذكرهم لله - تعالى - . قال : فماذا يكونون؟ قال : قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا أو كما قال - رضي الله عنه - وهذا القول طبقه عملياً علي - رضي الله تعالى عنه - ومعه الصحابة -رضي الله عنهم- فلم يعاملهم معاملة المرتدين كما كان في زمن أبي بكر - رضي الله تعالى عنهم- فلم يبدأهم بقتال ولم يجهز على جريحهم ولم يسب نساءهم ... إلخ. وهذا هو الصحيح في الحكم على الخوارج، والأحاديث التي وردت فيهم من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بأنهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية" رواه البخاري(4351)،ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه- وقوله -صلى الله عليه وسلم- :" كلاب أهل النار" رواه ابن ماجة(176) من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه-، وأمره- صلى الله عليه وسلم - بقتالهم والثناء على من قتلهم أو قتلوه فيما رواه البخاري(3611)، ومسلم(1066) من حديث علي -رضي الله عنه- فهذه النصوص لا تدل على كفرهم بأعيانهم، ولا يلزم من الأمر بالقتال أن يكونوا كفاراً، وإنما هي من نصوص الوعيد الدالة على شنيع جرمهم والتحذير منه .
ومع ترجيحنا لعدم تكفيرهم فلا يعني ذلك استصغار جريمتهم وانحرافهم، ويكفي في ذلك من الدلالة على مروقهم وضلالهم وبدعتهم وانحرافهم ما أشرنا إليه آنفاً من الأحاديث الواردة في ذمهم وتوعدهم بالنار، نسأل الله العافية والسلامة .
وهذا دليل على إنصاف أهل السنة والجماعة وبعدهم عن التكفير إلا من كفرته النصوص لا كما هو ديدن بعض الطوائف في تكفير كل من خالفهم في انحرافهم . والله أعلم وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

؛ وَقَوْلُ مَنْ يُخَلِّدُهُمْ فِي النَّارِ وَيَجْزِمُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ إلَّا بِالتَّوْبَةِ ،وَيَقُولُ: لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِمَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ ، بَلْ هُمَا مِنْ الْأَقْوَالِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ أَهْلِ الْبِدَعِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ وَقَفَ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ (1)
__________
(1) - وفي شروح الطحاوية - (ج 2 / ص 219)
، حكم أهل الكبائر والفساق والعصاة وأهل البدع من أهل القبلة ومذاهب الناس فيهم، قلنا: إن للناس في هذا مذاهب سبق استعراض المذاهب .
وإن المذهب الأول مذهب المرجئة، تنفي التكفير نفيا عاما، فتعمم النفي والسلب، فتقول: لا نكفر من أهل القبلة أحدا، وهذا قول غلاة المرجئة، ولهم شبة ومن شبههم وأدلتهم عموما نصوص الوعد . نصوص الوعد، مثل: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنا وإن سرق) ومثل حديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله) .
ومثل حديث البطاقة، وفيها: (يؤتى برجل فيخرج له تسعة وتسعين سجلا كل سجل مد البصر سيئا، ثم يخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة) ومنها أحاديث الشفاعة كحديث: (أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) وحديث أبي هريرة: (أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه) .
ويناقش المرجئة في قولهم: لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يناقش أصل مذهبهم أولا، نقول: قولكم: لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب، يرد عليه بأمرين:
الأمر الأول : أن في أهل القبلة المنافق، أن في أهل القبلة المنافقين الذين يتظاهرون بالشهادتين، ويتجهون إلى القبلة في الصلاة والذبح، ويتظاهرون ببعض ما يمكنهم إظهاره من شعائر الإسلام، وفيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} فقولكم: لا نكفر من أهل القبلة أحدا بذنب، يلزمكم أن لا تكفروا المنافقين، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، هم من أهل القبلة .
ثانيا: أنه لا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة والمحرمة، أو المحرمات الظاهرة المتواترة ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرا؛ لأنه أنكر أمرا معلوما من الدين بالضرورة، أنكر وجوب الصلاة أو وجوب الزكاة أو وجوب الحج، أو أنكر تحريم الزنا أو تحريم الربا، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرا، ويرد أيضا عليهم بنصوص الوعيد، فإن نصوص الوعد تدل على بقاء الإيمان معهم، ونصوص الوعيد تدل على أن الإيمان يضعف وينقص، فقولكم: لا يتأثر إيمانه، هو كامل الإيمان، باطل ترده نصوص الوعيد .
المذهب الثاني: مذهب الخوارج والمعتزلة، يطلقون التكفير، فيكفرون بالذنب، ويعتقدون ذنبا ما ليس بذنب، فإنهم يقولون: يكفر المسلم بكل ذنب، أو بكل ذنب كبير، ويرون اتباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب، وإن كانت متواترة، ويكفرون من خالفهم، ويستحلون منه الارتداد عندهم مالا يستحلونه من الكافر الأصلي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان) ولهذا كفروا عثمان وعليا وشيعتهم، وكفروا أهل صفين الطائفتين، في نحو ذلك من المقالات الخبيثة لهم، ومستندهم شبهتهم نصوص الوعيد، مثل حديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) .
فإن قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} ويرد عليهم أولا بنصوص الوعد التي استدل بها المرجئة، فيرد على الخوارج بنصوص الوعد التي استدل بها المرجئة، فإنها تدل على بقاء الإيمان تدل على بقاء الإيمان، وأنهم لا يكفر، كما أنه يرد على المرجئة القائلين بأنه مؤمن كامل الإيمان بنصوص الوعد التي استدل بها الخوارج، تدل على أن الإيمان يضعف وينقص، ويرد أيضا على الخوارج في تكفيرهم أهل الكبائر، نقول: إن الله أمر بقطع يد السارق دون قتله، ولو كان كافرا مرتدا لوجب قتله، ولا يقام عليه الحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه) وقال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إسلام وزنا بعد إحصان وقتل نفس يقتل بها) وأمر الله بجلد الزانيين وجلد القاذف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلد شارب الخمر، ولم يقتله، فلو كان من ارتكب الكبيرة كافرا؛ لوجب قتله، ولا تقام عليه الحدود، ويرد عليهم أيضا بالإجماع الإجماع على توريث الزاني والسارق وشارب الخمر إذا صلوا إلى القبلة وانتحلوا دعوة الإسلام من قراباتهم المؤمنين الذين ليسوا بتلك الأحوال، فلو كان الزاني والسارق وشارب الخمر كافرا لما ورث، لما ورث من أقاربهم المستقيمين، فكونهم يرثون يدل على أنهم ليسوا كفارا، كما يقول هؤلاء الخوارج، ويرد عليهم أيضا أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لعن رجل يشرب الخمر، وكان اسمه حمارا، وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم وكان كلما أتي به إليه جلده، فأتي إليه مرة فلقيه فلعنه رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تلعنه فإنه يحب
الله ورسوله) فنهى عن لعنه في عينه، وشهد له بحب الله ورسوله مع أنه قد لعن شارب الخمر عموما (لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وعاصرها) لكن بالخصوص بعينه لا يلعن، ويرد عليهم -أيضا- بأن الله -تعالى- قال: {وَإِنْ طائفتان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} وقد وصفهم الله بالإيمان والإخوة، وأمر بالإصلاح بينهم مع أنهم يقتتلون، وهذا من الكبائر، والقتال من الكبائر، فدل على أن على أن الكبيرة لا تخرجه من الإسلام .
الطائفة الثالثة: الذين يفرقون بين البدعة بين الأقوال المبتدعه بين البدعة وبين الأقوال وبين الأعمال، فيقولون: إذا ارتكب إذا ارتكب بدعة، أو قال قولا مبتدعا، فإنه يكفر أما إذا أما إذا فعل كبيرة من كبائر الذنوب، فإنه لا يكفر .
فيفرقون بين الأعمال وبين الاعتقادات البدعية، وهذا ينسب إلى طوائف من أهل الكلام والفقه والحديث، يفرقون بين الأعمال وبين الاعتقادات البدعية، فلا يكفرون الذين يعملون الكبائر ويكفرون أصحاب الاعتقادات البدعية، وإن كان صاحبها متأولا، فيقولون يكفر من قال هذا القول، يكفر من قال هذا القول لا يفرقون بين مجتهد بين مجتهد مخطئ وغيره، أو يقولون يكفر كل مبتدع، شبهتهم قالوا: إن البدعة مظنتها البدعة مظنتها النفاق والردة، فهي أصل البدع، مظنتها النفاق والردة، فهي أصل وسببه، فحملوا النصوص على هذا، وقالوا إنه إذا ارتكب بدعة أو قال قولا مبتدعا يكفر، أما إذا فعل كبيرة عملية فلا يكفر .
ويرد عليهم .
أولا أن البدع الاعتقادية من جنس الأعمال، لا فرق بينها، فإن الرجل يكون مؤمنا باطنا وظاهرا، لكن تأول تأويلا أخطأ فيه، إما مجتهدا وإما مفرطا مذنبا، فلا يقال: إن إيمانه يحبط بمجرد ذلك الاعتقاد أو العمل بغير دليل شرعي، بل هذا يوافق قول الخوارج والمعتزلة، ولا يقال: لا يكفر، بل يفرق بين المقالة والقائل .
ثانيا: أن نصوص كثيرة قد دلت على أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وهذا يشمل الاعتقادات والأعمال، ولهذا فإن مذهب أهل السنة: ألا يقال لا نكفر أحدا بذنب، ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول: بأنا لا نكفر أحدا بذنب، بل يقال: لا نكفر أحدا من أهل القبلة بكل ذنب، مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب الذين يعممون السلب ، فيقولون يكفر بكل ذنب أو بكل ذنب كبير .
ثالثا: سلك أهل السنة مسلكا عدلا، هو الوسط ، وهو الفرق بين الأقوال والقائل المعين، فالأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفى ما أثبته الله ما أثبته الرسول، أو إثبات ما نفاه، أو الأمر بما نهى عنه، أو النهي عما أمر به، يقال فيها الحق ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص، ويبين أنها كفر، ويقال من قالها فهو كافر، وهذا عام لا يعين شخصا بعينه كالقول بخلق القرآن والوعيد في الظلم في النفس والأموال، فيقال من قال بخلق القرآن، فهو كافر، وأما الشخص المعين، فلا نشهد عليه أنه من أهل الوعيد، وأنه كافر إلا بأمر تجوز معه الشهادة، كأن يعلم بأنه منافق، أو ينكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ويستتاب فلا يتوب؛ لأن الحكم عليه بالكفر بدون دليل من أعظم البغي، من أعظم البغي أن نشهد على معين أن الله لا يغفر له، ولا يرحمه، بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت، كما بوب أبو داود في سننه باب النهي عن البغي، وذكر فيه قصة الرجلين المتواخيين من بني إسرائيل أحدهما مذنب والآخر مجتهد في العبادة فالشهادة …إلى آخر الحديث، وأن المجتهد كان يأتي المذنب، ويقول: (اتق الله فرآه يوما على ذنب، فقال له: اتق الله فغضب المذنب، فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبا، فقال المجتهد: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الجنة، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال: من ذا الذي تألى علي ألا أغفر لفلان إني قد غفرت له، وأحبطت عملك، قال أبو هريرة: تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته) .
فالشهادة على المعين بالكفر من البغي. وثانيا: لأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهدا مخطئا مغفورا له. وثالثا: يمكن أن يكون لم يبلغه ما وراء ذلك القول من النص من النصوص، فيكون معذورا لجهله بالنصوص.
ورابعا: يمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله ، كما غفر الله للذي قال: (إذا مت فاسحقوني، ثم أذروني) ثم غفر الله له من خشيته، وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته أو شك في ذلك .
وهذا في الصحيحين قصة الرجل الذي من بني إسرائيل الذي أمر أهله أن يحرقوه ويذروه في البحر لما حضرته الوفاة جمع أهله وأخذ عليهم العهد والميثاق أن يحرقوه ويذروه، وقال: (إن قدر الله علي ليعذبني عذابا شديدا) وفي بعض ألفاظ الحديث أنهم سحقوه وأحرقوه، وأنه قال: (ذروا بعضي في البحر وبعضي في البر، ففعلوا ذلك فأمر الله البحر فجمع ما فيه، والبر فجمع ما فيه، فقال: قم فإذا هو قائم قال الله: ما حملك على ذلك، قال: خشيتك) قال: في الحديث (فما تلافاه بل رحمه) قال العلماء: إن هذا الرجل إنما فعل ذلك عن جهل ليس معاندا ولا مكذبا ولا متعنتا، ولكن فعله عن جهل، وحمله على ذلك الخوف العظيم، أما لو أنكر البعث أو أنكر ثم أيضا، هو لم ينكر البعث، بل هو معترف مقر بالبعث، ولم ينكر قدرة الله، لكن ظن أنه إذا وصل إلى هذه الحالة وأحرق وسحق وذري في البحر والبر، إنه يفوت على الله، وإلا فهو معترف ومصدق بأنه لو ترك على حاله لبعثه الله.
وإن الله يقدر عليه، لكن هذه مسألة دقيقة خفيت عليه، ولهذا قال العلماء: وأن من أنكر أمرا دقيقا مثله يجهله؛ يكون معذور فلا يكفر في هذه الحالة، أما لو كان متعمدا أنكر البعث متعمدا عن عناد وعن تكذيب، فهذا لا شك في كفره، لكن هذا الرجل ما فعل ذلك عامدا ولا متعنتا، ولكن فعل ذلك عن جهل، وحمله عليه الخوف العظيم، فلهذا ما يحكم على الشخص المعين بالكفر إلا بعد التثبت ومعرفة حاله .
وخامسا: قد يكون حديث الإسلام، وحديث عهد بالإسلام، قد يكون نشأ في بادية بعيدة عن الإسلام، ولكن التوقف في أمر الآخرة في أهل البدع لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا، لمنع بدعته وأن نستتيبه فإن تاب وإلا قتلناه، إذا كان مستحقا للقتل، ثم إذا كان القول في نفسه كفرا، قيل: إنه كفر، والقائل له يكفر إذا وجدت الشروط، وانتفت الموانع، أما معتقد أهل السنة والجماعة، فكما سبق أنهم لا يكفرون بالكبائر كما يفعل الخوارج والمعتزلة أو الخوارج، ولا يخرجونهم من الإيمان كما تفعل الخوارج، ولا يقولون: إنه كامل الإيمان كما تقول المرجئة، بل يقولون: إنه مؤمن، يثبتون له أصل الإيمان، وينفون عنه مطلق الإيمان، يثبتون أصل الإيمان، وهو مطلق الإيمان، وينفون عنه الإيمان المطلق، فيقولوا مطلق الإيمان ثابت له، والإيمان المطلق منفي عنه، فلا بد من التقييد، فيقولون هو مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن عاص، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وكذلك في النفي لا ينفون عنه الإيمان، ويسكتون، بل لا بد من التفصيل ليس بصادق الإيمان، ليس بمؤمن حقا، كما هو الأدلة على هذا كثيرة من الكتاب والسنة والله أعلم.

،وَقَالَ :لَا أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ يَدْخُلُ النَّارَ هُوَ أَيْضًا مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُبْتَدَعَةِ ؛ بَلْ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ النُّصُوصُ مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهَا (1).
وَأَمَّا مَنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فَهَذَا لَا نَعْرِفُهُ قَوْلًا لِأَحَدِ .
وَبَعْدَهُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : مَا ثَمَّ عَذَابٌ أَصْلًا وَإِنَّمَا هُوَ تَخْوِيفٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ ،وَهَذَا مِنْ أَقْوَالِ الْمَلَاحِدَةِ وَالْكُفَّارِ . وَرُبَّمَا احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ : {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} (16) سورة الزمر ،فَيُقَالُ لِهَذَا : التَّخْوِيفُ إنَّمَا يَكُونُ تَخْوِيفًا إذَا كَانَ هُنَاكَ مَخُوفٌ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ بِالْمَخُوفِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ امْتَنَعَ التَّخْوِيفُ لَكِنْ يَكُونُ حَاصِلُهُ إيهَامُ الْخَائِفِينَ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَمَا تَوَهَّمَ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَحْصُلُ بِهِ تَخْوِيفٌ لِلْعُقَلَاءِ الْمُمَيِّزِينَ . لِأَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ مَخُوفٌ زَالَ الْخَوْفُ وَهَذَا شَبِيهٌ بِمَا تَقُولُ " الْمَلَاحِدَةُ " الْمُتَفَلْسِفَةُ وَالْقَرَامِطَةُ (2)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(6559 ) عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بَعْدَ مَا مَسَّهُمْ مِنْهَا سَفْعٌ ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، فَيُسَمِّيهِمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَهَنَّمِيِّينَ » . السفع : حرارة النار
وفي مسند أحمد برقم(11985)عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ وَأَبِى هُرَيْرَةَ قَالاَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « آخِرُ مَنْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ رَجُلاَنِ يَقُولُ اللَّهُ لأَحَدِهِمَا يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَعْدَدْتَ لِهَذَا الْيَوْمِ هَلْ عَمِلْتَ خَيْراً أَوْ رَجَوْتَنِى فَيَقُولُ لاَ يَا رَبِّ. فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ وَهُوَ أَشَدُّ أَهْلِ النَّارِ حَسْرَةً وَيَقُولُ لِلآخَرِ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَعْدَدْتَ لِهَذَا الْيَوْمِ هَلْ عَمِلْتَ خَيْراً أَوْ رَجَوْتَنِى فَيَقُولُ نَعَمْ يَا رَبِّ قَدْ كُنْتُ أَرْجُو إِذْ أَخْرَجْتَنِى أَنْ لاَ تُعِيدَنِى فِيهَا أَبَداً. فَتُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ أَقِرَّنِى تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَآكُلَ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا . فَيُعَاهِدُهُ أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا فَيُدْنِيهِ مِنْهَا ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ هِىَ أَحْسَنُ مِنَ الأُولَى وَأَغْدَقُ مَاءً فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ هَذِهِ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا أَقِرَّنِى تَحْتَهَا فَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَآكُلَ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا. فَيَقُولُ يَا ابْنَ آدَمَ أَلَمْ تُعَاهِدْنِى أَنْ لاَ تَسْأَلَنِى غَيْرَهَا فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ هَذِهِ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا.
فَيُقِرُّهُ تَحْتَهَا وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ هِىَ أَحْسَنُ مِنَ الأُوَلَيَيْنِ وَأَغْدَقُ مَاءً فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا فَأَقِرَّنِى تَحْتَهَا فَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَآكُلَ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا. فَيَقُولُ ابْنَ آدَمَ أَلَمْ تُعَاهِدْنِى أَنْ لاَ تَسْأَلَنِى غَيْرَهَا فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ هَذِهِ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا. فَيُقِرُّهُ تَحْتَهَا وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا فَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلاَ يَتَمَالَكُ فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ أَدْخِلْنِى الْجَنَّةَ.
فَيَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَلْ وَتَمَنَّ. وَيُلَقِّنُهُ اللَّهُ مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ فَيَسْأَلَ وَيَتَمَنَّى مِقْدَارَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ ابْنَ آدَمَ لَكَ مَا سَأَلْتَ ». قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ « وَمِثْلُهُ مَعَهُ ». قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ « وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ ». ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ حَدِّثْ بِمَا سَمِعْتَ وَأُحَدِّثُ بِمَا سَمِعْتُ. وهو حسن
(2) - وفي فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 3745)
رقم الفتوى 16666 القرامطة...تعريفهم..ومعتقداتهم
تاريخ الفتوى : 07 ربيع الأول 1423
السؤال
من هم القرامطة؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإليك ملخصاً عن القرامطة نقلاً عن كتاب (الموسوعة الميسرة).
بتصرف: هي حركة باطنية هدامة تنسب إلى حمدان بن الأشعث ويلقب " بقرمط " لقصر قامته وساقيه، ومن أهم معتقداتهم ما يلي :
- إلغاء أحكام الإسلام الأساسية كالصوم ، والصلاة ، وسائر الفرائض الأخرى.
- ويعتقدون بإبطال القول بالمعاد والعقاب، وأن الجنة هي النعيم في الدنيا، والعذاب هو: اشتغال أصحاب الشرائع بالصلاة والصيام والحج والجهاد.
- يجعلون الناس شركاء في النساء بحجة استئصال أسباب المباغضة.
- ومن تأويلاتهم أن الصيام هو الإمساك عن كشف السر، والبعث هو الاهتداء إلى مذهبهم، والنبي : هو عبارة عن شخص فاضت عليه من الإله الأول قوة قدسية صافية، والقرآن: هو تعبير محمد عن المعارف التي فاضت عليه.
- يقولون بوجود إلهين قديمين، أحدهما عله في وجود الثاني، وأن السابق خلق العالم بواسطة التالي لا بنفسه.
ويتسللون بأفكارهم الكفرية تحت شعار حب آل البيت وأنهم ظلموا، ويغررون بالدهماء الذين ينطلي عليهم الأمر.
ولمعرفة مزيد من أخبارهم يكمن مراجعة الكتب التالية :
- الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة.
- كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة.
- الملل والنحل للشهرستاني.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه

وَنَحْوُهُمْ : مِنْ أَنَّ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ : خَاطَبُوا النَّاسَ بِإِظْهَارِ أُمُورٍ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْبَاطِنِ وَإِنَّمَا هِيَ أَمْثَالٌ مَضْرُوبَةٌ لِتُفْهَمَ حَالُ النَّفْسِ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ ،وَمَا أَظْهَرُوهُ لَهُمْ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَإِنْ كَانَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَإِنَّمَا يُعَلَّقُ لِمَصْلَحَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا إذْ كَانَ لَا يُمْكِنُ تَقْوِيمُهُمْ إلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ .
وَ " هَذَا الْقَوْلُ " مَعَ أَنَّهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ ؛ فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ خَوَاصُّ الرُّسُلِ الْأَذْكِيَاءِ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَإِذَا عَلِمُوهُ زَالَتْ مُحَافَظَتُهُمْ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، كَمَا يُصِيبُ خَوَاصَّ مَلَاحِدَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ : مِنْ الإسْماعيليَّةِ (1)
__________
(1) - وفي فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 4 / ص 13)
الباطنية
فتوى رقم (5508):
س: ما قول علماء الإسلام والفقهاء الكرام في حق فرقة الإسماعيلية - الأغاخانية - التي يسكن أفرادها في البلاد المختلفة خصوصًا في البلاد الشمالية من باكستان ، نذكر بعض معتقداتهم وأقوالهم التي تدل على عقائدهم هنا.
(1) الكلمة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله وأشهد أن أمير المؤمنين علي الله، هذه كلمتهم مقام كلمة الإسلام كلمة التوحيد والشهادة ويسمونها بـ: الكلمة الإسلامية الحقيقة.
(2) الإمام: وهم يعتقدون أن أغاخان شاه كريم هو إمامهم، وهو مالك كل شيء من الأرض والسماء وما فيهما وما بينهما بالخير والشر، ويعتقدون أنه هو الحاكم في العالم بقضه وقضيضه.
(3) الشريعة: هم لا يرون اتباع الشريعة الإسلامية بل يعتقدون أن أغاخان هو القرآن الناطق والقرآن الحقيقي الأصلي، وهو الكعبة وهو البيت المعمور وهو المتبوع المتبع ولا يكون شيء سواه يجب اتباعه، وفي كتبهم أن ما ذكر في القرآن الظاهري من لفظ الله مصداقه الإمام أغاخان.
(4) الصلاة: هم لا يعتقدون وجوب الصلوات الخمس ويقولون بوجوب الدعوات الثلاثة مكانها.
(5) المسجد: هم يتخذون معبدًا آخر مكان المسجد ويسمونه بـ: جماعت خانة.
(6) الزكاة: هم يجحدون الزكاة الشرعية ويؤدون مكانها من جميع أصناف المال عشرها للأغاخان ويسمونه بـ: مال الواجبات - دوشوند -
(7) الصوم: ينكرون فرضية صوم رمضان.
(8) لا يقولون بفرضية حج البيت يعتقدون أن الأصل أغاخان هو الحج.
(9) السلام: لهم تحية مخصوصة مكان السلام عليكم يقولون عند اللقاء: (علي مدد) أي أعانك علي، ويقولون في جوابه: (مولى علي مدد) مكان وعليكم السلام. هذه نبذة من أقوالهم وعقائدهم، فالآن نسأل عن عدة أمور:
(1) هل هذه الفرقة من فرق الإسلامية أم من فرق الكفرية.
(2) هل يجوز أن يصلى على موتاهم صلاة الجنازة؟
(3) هل يجوز أن يدفنوا في مقابر المسلمين؟
(4) هل تجوز منكاحتهم؟
(5) هل تحل ذبيحتهم؟
(6) هل يعامل معهم معاملة المسلمين؟
نسأل منكم باسم الله العظيم أن تصدروا جواب الاستفتاء وتزيحوا الشبهات عن قلوب المسلمين؛ لأن هؤلاء الناس يبطنون عقائدهم إلى الآن ولذا سماهم المتقدمون من المشائخ بـ: الباطنية ، والآن هم أظهروا عقائدهم ويدعون الناس إليها جهرًا؛ ابتغاء إزاغة المسلمين في عقائدهم ولوجوه أخر لا نعلمها.
وفي فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 15 / ص 503)
"الإسماعيلية"
المجيب د. علي بن حسن الألمعي
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد
التصنيف الفهرسة/الجديد
التاريخ 24/2/1425هـ
السؤال
أرجو توضيح وموقف الشرع من طائفة تسمى "الشيعة الإمامية النزارية الإسماعيلية" وما هي معتقداتهم وأفضل طريقة لدعوتهم؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله آله وصحبه ومن اهتدى بهداه وبعد:
فإن فرقة النزارية من فرق الإسماعيلية، وتنسب إلى نزار بن المستنصر الإسماعيلي (ت:487هـ) وقد خلفه ابناه نزار الأكبر، والمستعلي فصاروا نزارية، ومستعلية، وكانت الدولة والغلبة للمستعلية الذين حكموا مصر، واليمن وغيرها ، وينتسب إلى النزارية الحشاشون الذين انتشروا بالشام وبلاد فارس وغيرها، ومن أبرز رجالهم الحسن ابن الصباح فارسي الأصل، وينتسب إلى النزارية إسماعليلية الشام ولهم دور خطير وإن لم تكن لهم دولة، ولا يزالون إلى اليوم في الشام.
عقيدتهم : عقيدة الإسماعيلية ومن أبرزها اعتقادهم بوجود إمام معصوم منصوص عليه من نسل محمد بن إسماعيل، يضيفون عليه صفات ترفعه إلى مقام الألوهية، ويخصونه بعلم الباطن، ويدفعون له خمس دخلهم، ولا يقيمون الصلاة في مساجد عامة المسلمين وصلاتهم للإمام المستور، والكعبة عندهم رمز للإمام، ويستحلون المحرمات، ويرون أن الله خلق العالم عن طريق العقل الكلي الذي هو محل لجميع الصفات الإلهية ويسمونه الحجات، وقد حل العقل في الإمام المستور.
أما الموقف من هذه الطائفة وأخواتها من طوائف الإسماعيلية. فمن الواضح كما بين العلماء أن هذه العقائد تخالف العقيدة الإسلامية جماعة وتفصيلا، وأنها عقائد كفرية، وحقيقتها هدم الإسلام، وإن كانت في الظاهر تتستر بالتشيع لآل البيت، ولذا فليست من الإسلام في شيء.
وأتباعها : يدعون إلى الإسلام ، وتبين لهم أصوله التي من خرج عنها يعد كافرا بالله وغير متبع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقام عليهم الحجة بتوضيح المحجة، وبيان معالم الطريق المستقيم الذي تركنا عليه نبينا -صلى الله عليه وسلم- ، وأرى أن من الضروري استغلال وسائل العصر المتاحة، ومن أهمها (الإنترنت)، والدخول معهم عبر هذه الشبكة على أن يكون المناقش له من أهل العلم والخبرة والتجربة، ومن الذين يعرفون حقيقة ما هم عليه من خلال كتبهم وأنصح بقراءة الكتب الآتية:
1. الإسماعيلية : للشيخ/ إحسان إلهي ظهير.
2. فضائح الباطنية : لأبي حامد الغزالي.
3. المؤامرة على الإسلام : أنور الجندي.
4. الحركات الباطنية في العالم الإسلامي: د. محمد الخطيب.
والله الموفق وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

وَالْنُصَيْرِيَّة (1)
__________
(1) - وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 428)
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ رَعِيَّةِ الْبِلَادِ كَانُوا يَرَوْنَ مَذْهَبَ النصيرية ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فِيهِ . فَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ إلَهٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَمِنْهُمْ مَنْ ادَّعَى أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ - يَعْنُونَ الْمَهْدِيَّ - وَأَمَرُوا مَنْ وَجَدَهُ بِالسُّجُودِ لَهُ وَأَعْلَنُوا بِالْكُفْرِ بِذَلِكَ وَسَبِّ الصَّحَابَةِ وَأَظْهَرُوا الْخُرُوجَ عَنْ الطَّاعَةِ وَعَزَمُوا عَلَى الْمُحَارَبَةِ . فَهَلْ يَجِبُ قِتَالُهُمْ وَقَتْلُ مُقَاتَلَتِهِمْ ؟ وَهَلْ تُبَاحُ ذَرَارِيُّهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ أَمْ لَا ؟
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَؤُلَاءِ يَجِبُ قِتَالُهُمْ مَا دَامُوا مُمْتَنِعِينَ حَتَّى يَلْتَزِمُوا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ النصيرية مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كُفْرًا بِدُونِ اتِّبَاعِهِمْ لِمِثْلِ هَذَا الدَّجَّالِ فَكَيْفَ إذَا اتَّبَعُوا مِثْلَ هَذَا الدَّجَّالِ . وَهُمْ مُرْتَدُّونَ مِنْ أَسْوَأِ النَّاسِ رِدَّةً : تُقْتَلُ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتَغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ . وَسَبْيُ الذَّرِّيَّةِ فِيهِ نِزَاعٌ ؛ لَكِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ تُسْبَى الصِّغَارُ مِنْ أَوْلَادِ الْمُرْتَدِّينَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ سِيرَةُ الصِّدِّيقِ فِي قِتَالِ الْمُرْتَدِّينَ . وَكَذَلِكَ قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِرْقَاقِ الْمُرْتَدِّ : فَطَائِفَةٌ تَقُولُ : إنَّهَا تُسْتَرَقُّ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَطَائِفَةٍ تَقُولُ لَا تُسْتَرَقُّ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَالْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ هُوَ الْأَوَّلُ وَأَنَّهُ تُسْتَرَقُّ مِنْهُ الْمُرْتَدَّاتُ نِسَاءُ الْمُرْتَدِّينَ ؛ فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ الَّتِي تَسَرَّى بِهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُمَّ ابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ سَبْيِ بَنِي حَنِيفَةَ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالصَّحَابَةُ لَمَّا بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي قِتَالِهِمْ . وَ " النصيرية " لَا يَكْتُمُونَ أَمْرَهُمْ ؛ بَلْ هُمْ مَعْرُوفُونَ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَلَا يَصُومُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ ؛ وَلَا يَحُجُّونَ الْبَيْتَ وَلَا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ وَلَا يُقِرُّونَ بِوُجُوبِ ذَلِكَ وَيَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ وَغَيْرَهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِلَهَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَيَقُولُونَ : نَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا حيدرة الْأَنْزَعُ الْبَطِينُ وَلَا حِجَابَ عَلَيْهِ إلَّا مُحَمَّدٌ الصَّادِقُ الْأَمِينُ وَلَا طَرِيقَ إلَيْهِ إلَّا سَلْمَانُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ وَأَمَّا إذَا لَمْ يُظْهِرُوا الرَّفْضَ وَأَنَّ هَذَا الْكَذَّابَ هُوَ الْمَهْدِيُّ الْمُنْتَظَرُ وَامْتَنَعُوا ؛ فَإِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ أَيْضًا ؛ لَكِنْ يُقَاتَلُونَ كَمَا يُقَاتَلُ الْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَمَا يُقَاتَلُ الْمُرْتَدُّونَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . فَهَؤُلَاءِ يُقَاتَلُونَ مَا دَامُوا مُمْتَنِعِينَ وَلَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ وَلَا تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ الَّتِي لَمْ يَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى الْقِتَالِ . وَأَمَّا مَا اسْتَعَانُوا بِهِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ خَيْلٍ وَسِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَفِي أَخْذِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ نَهَبَ عَسْكَرُهُ مَا فِي عَسْكَرِ الْخَوَارِجِ . فَإِنْ رَأَى وَلِيُّ الْأَمْرِ أَنْ يَسْتَبِيحَ مَا فِي عَسْكَرِهِمْ مِنْ الْمَالِ كَانَ هَذَا سَائِغًا . هَذَا مَا دَامُوا مُمْتَنِعِينَ . فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِمْ ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُفَرِّقَ شَمْلَهُمْ وَتُحْسَمَ مَادَّةُ شَرِّهِمْ وَإِلْزَامُهُمْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ وَقَتْلُ مَنْ أَصَرَّ عَلَى الرِّدَّةِ مِنْهُمْ . وَأَمَّا قَتْلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَبْطَنَ كُفْرًا مِنْهُ وَهُوَ الْمُنَافِقُ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ " الزِّنْدِيقُ " : فَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ وَإِنْ تَابَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَظْهَرْ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . وَمَنْ كَانَ دَاعِيًا مِنْهُمْ إلَى الضَّلَالِ لَا يَنْكَفُّ شَرُّهُ إلَّا بِقَتْلِهِ قُتِلَ أَيْضًا ؛ وَإِنْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ كَأَئِمَّةِ الرَّفْضِ الَّذِينَ يُضِلُّونَ النَّاسَ كَمَا قَتَلَ الْمُسْلِمُونَ غَيْلَانَ الْقَدَرِيَّ وَالْجَعْدَ بْنَ دِرْهَمٍ وَأَمْثَالَهُمَا مِنْ الدُّعَاةِ . فَهَذَا الدَّجَّالُ يُقْتَلُ مُطْلَقًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 9 / ص 217)
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءَ أَئِمَّةُ الدِّينِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَأَعَانَهُمْ عَلَى إظْهَارِ الْحَقِّ الْمُبِينِ وَإِخْمَادِ شُعَبِ الْمُبْطِلِينَ : فِي " النصيرية " الْقَائِلِينَ بِاسْتِحْلَالِ الْخَمْرِ وَتَنَاسُخِ الْأَرْوَاحِ وَقِدَمِ الْعَالِمِ وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي غَيْرِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَبِأَنَّ " الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ " عِبَارَةٌ عَنْ خَمْسَةِ أَسْمَاءٍ وَهِيَ : عَلِيٌّ وَحَسَنٌ وَحُسَيْنٌ وَمُحْسِنٌ وَفَاطِمَةُ . فَذِكْرُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْخَمْسَةِ عَلَى رَأْيِهِمْ يُجْزِئُهُمْ عَنْ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ وَالْوُضُوءِ وَبَقِيَّةِ شُرُوطِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَةِ وَوَاجِبَاتِهَا . وَبِأَنَّ " الصِّيَامَ " عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ اسْمِ ثَلَاثِينَ رَجُلًا وَاسْمِ ثَلَاثِينَ امْرَأَةً يَعُدُّونَهُمْ فِي كُتُبِهِمْ وَيَضِيقُ هَذَا الْمَوْضِعُ عَنْ إبْرَازِهِمْ ؛ وَبِأَنَّ إلَهَهُمْ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ عِنْدُهُمْ الْإِلَهُ فِي السَّمَاءِ وَالْإِمَامُ فِي الْأَرْضِ فَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي ظُهُور اللَّاهُوتِ بِهَذَا النَّاسُوتِ عَلَى رَأْيِهِمْ أَنْ يُؤْنِسَ خَلْقَهُ وَعَبِيدَهُ ؛ لِيُعَلِّمَهُمْ كَيْفَ يَعْرِفُونَهُ وَيَعْبُدُونَهُ . وَبِأَنَّ النَّصِيرِيَّ عِنْدَهُمْ لَا يَصِيرُ نصيريا مُؤْمِنًا يُجَالِسُونَهُ وَيَشْرَبُونَ مَعَهُ الْخَمْرَ وَيُطْلِعُونَهُ عَلَى أَسْرَارِهِمْ وَيُزَوِّجُونَهُ مِنْ نِسَائِهِمْ : حَتَّى يُخَاطِبَهُ مُعَلِّمُهُ . وَحَقِيقَةُ الْخِطَابِ عِنْدَهُمْ أَنْ يُحَلِّفُوهُ عَلَى كِتْمَانِ دِينِهِ وَمَعْرِفَةِ مَشَايِخِهِ وَأَكَابِرِ أَهْلِ مَذْهَبِهِ ؛ وَعَلَى أَلَّا يَنْصَحَ مُسْلِمًا وَلَا غَيْرَهُ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ وَعَلَى أَنْ يَعْرِفَ رَبَّهُ وَإِمَامَهُ بِظُهُورِهِ فِي أَنْوَارِهِ وَأَدْوَارِهِ فَيَعْرِفُ انْتِقَالَ الِاسْمِ وَالْمَعْنَى فِي كُلِّ حِينٍ وَزَمَانٍ . فَالِاسْمُ عِنْدَهُمْ فِي أَوَّلِ النَّاسِ آدَمَ وَالْمَعْنَى هُوَ شيث وَالِاسْمُ يَعْقُوبُ وَالْمَعْنَى هُوَ يُوسُفُ . وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ كَمَا يَزْعُمُونَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ حِكَايَةً عَنْ يَعْقُوبَ وَيُوسُفَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَيَقُولُونَ : أَمَّا يَعْقُوبُ فَإِنَّهُ كَانَ الِاسْمَ فَمَا قَدَرَ أَنْ يَتَعَدَّى مَنْزِلَتَهُ فَقَالَ : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي } وَأَمَّا يُوسُفُ فَكَانَ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبَ فَقَالَ : { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } فَلَمْ يُعَلِّقْ الْأَمْرَ بِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ الْإِلَهُ الْمُتَصَرِّفُ وَيَجْعَلُونَ مُوسَى هُوَ الِاسْمَ وَيُوشَعَ هُوَ الْمَعْنَى وَيَقُولُونَ : يُوشَعُ رُدَّتْ لَهُ الشَّمْسُ لَمَّا أَمَرَهَا فَأَطَاعَتْ أَمْرَهُ ؛ وَهَلْ تُرَدُّ الشَّمْسُ إلَّا لِرَبِّهَا وَيَجْعَلُونَ سُلَيْمَانَ هُوَ الِاسْمَ وآصف هُوَ الْمَعْنَى الْقَادِرُ الْمُقْتَدِرُ . وَيَقُولُونَ : سُلَيْمَانُ عَجَزَ عَنْ إحْضَارِ عَرْشِ بلقيس وَقَدَرَ عَلَيْهِ آصف لِأَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ الصُّورَةَ وآصف كَانَ الْمَعْنَى الْقَادِرَ الْمُقْتَدِرَ وَقَدْ قَالَ قَائِلُهُمْ : هَابِيلُ شيث يُوسُفُ يُوشَعُ آصف شمعون الصَّفَا حَيْدَرُ وَيَعُدُّونَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ وَاحِدًا وَاحِدًا عَلَى هَذَا النَّمَطِ إلَى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ : مُحَمَّدٌ هُوَ الِاسْمُ وَعَلِيٌّ هُوَ الْمَعْنَى وَيُوصِلُونَ الْعَدَدَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فِي كُلِّ زَمَانٍ إلَى وَقْتِنَا هَذَا . فَمِنْ حَقِيقَةِ الْخِطَابِ فِي الدِّينِ عِنْدَهُمْ أَنَّ عَلِيًّا هُوَ الرَّبُّ وَأَنْ مُحَمَّدًا هُوَ الْحِجَابُ وَأَنَّ سَلْمَانَ هُوَ الْبَابُ وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَكَابِرِ رُؤَسَائِهِمْ وَفُضَلَائِهِمْ لِنَفْسِهِ فِي شُهُورِ سَنَةِ سَبْعِمِائَةٍ فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا حيدرة الْأَنْزَعُ الْبَطِينُ وَلَا حِجَابَ عَلَيْهِ إلَّا مُحَمَّدٌ الصَّادِقُ الْأَمِينُ وَلَا طَرِيقَ إلَيْهِ إلَّا سَلْمَانُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ وَيَقُولُونَ إنَّ ذَلِكَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَكَذَلِكَ الْخَمْسَةُ الْأَيْتَامُ وَالِاثْنَا عَشَرَ نَقِيبًا وَأَسْمَاؤُهُمْ مَشْهُورَةٌ عِنْدَهُمْ وَمَعْلُومَةٌ مِنْ كُتُبِهِمْ الْخَبِيثَةِ وَأَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ يُظْهِرُونَ مَعَ الرَّبِّ وَالْحِجَابِ وَالْبَابِ فِي كُلٍّ كَوْرٍ وَدَوْرٍ أَبَدًا سَرْمَدًا عَلَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ وَيَقُولُونَ : إنَّ إبْلِيسَ الْأَبَالِسَةِ هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيَلِيهِ فِي رُتْبَةِ الإبليسية أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَشَرَّفَهُمْ وَأَعْلَى رُتَبَهُمْ عَنْ أَقْوَالِ الْمُلْحِدِينَ وَانْتِحَالِ أَنْوَاعِ الضَّالِّينَ وَالْمُفْسِدِينَ - فَلَا يَزَالُونَ مَوْجُودِينَ فِي كُلِّ وَقْتٍ دَائِمًا حَسْبَمَا ذُكِرَ مِنْ التَّرْتِيبِ . وَلِمَذَاهِبِهِمْ الْفَاسِدَةِ شُعَبٌ وَتَفَاصِيلُ تَرْجِعُ إلَى هَذِهِ الْأُصُولِ الْمَذْكُورَةِ . وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الْمَلْعُونَةُ اسْتَوْلَتْ عَلَى جَانِبٍ كَبِيرٍ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ ( وَهُمْ مَعْرُوفُونَ مَشْهُورُونَ مُتَظَاهِرُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ وَقَدْ حَقَّقَ أَحْوَالَهُمْ كُلُّ مَنْ خَالَطَهُمْ وَعَرَفَهُمْ مِنْ عُقَلَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ وَمِنْ عَامَّةِ النَّاسِ أَيْضًا فِي هَذَا الزَّمَانِ ؛ لِأَنَّ أَحْوَالَهُمْ كَانَتْ مَسْتُورَةً عَنْ أَكْثَرِ النَّاسِ وَقْتَ اسْتِيلَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْمَخْذُولِينَ عَلَى الْبِلَادِ السَّاحِلِيَّةِ ؛ فَلَمَّا جَاءَتْ أَيَّامُ الْإِسْلَامِ انْكَشَفَ حَالُهُمْ وَظَهَرَ ضَلَالُهُمْ . وَالِابْتِلَاءُ بِهِمْ كَثِيرٌ جِدًّا . فَهَلْ يَجُوزُ لِمُسْلِمِ أَنْ يُزَوِّجَهُمْ أَوْ يَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ ؟ وَهَلْ يَحِلُّ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَمْ لَا ؟ وَمَا حُكْمُ الْجُبْنِ الْمَعْمُولِ مِنْ إنْفَحَةِ ذَبِيحَتِهِمْ ؟ وَمَا حُكْمُ أَوَانِيهِمْ وَمَلَابِسِهِمْ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ دَفْنُهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجُوزُ اسْتِخْدَامُهُمْ فِي ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ وَتَسْلِيمُهَا إلَيْهِمْ ؟ أَمْ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ قَطْعُهُمْ وَاسْتِخْدَامُ غَيْرِهِمْ مِنْ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ الكفاة وَهَلْ يَأْثَمُ إذَا أَخَّرَ طَرْدَهُمْ ؟ أَمْ يَجُوزُ لَهُ التَّمَهُّلُ مَعَ أَنَّ فِي عَزْمِهِ ذَلِكَ ؟ وَإِذَا اسْتَخْدَمَهُمْ وَأَقْطَعَهُمْ أَوْ لَمْ يُقْطِعْهُمْ هَلْ يَجُوزُ لَهُ صَرْفُ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَيْهِمْ وَإِذَا صَرَفَهَا وَتَأَخَّرَ لِبَعْضِهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ مَعْلُومِهِ الْمُسَمَّى ؛ فَأَخَّرَهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَنْهُ وَصَرَفَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ الْمُسْتَحِقِّينَ أَوْ أَرْصَدَهُ لِذَلِكَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ فِعْلُ هَذِهِ الصُّوَرِ ؟ أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ وَهَلْ دِمَاءُ النصيرية الْمَذْكُورِينَ مُبَاحَةٌ وَأَمْوَالُهُمْ حَلَالٌ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا جَاهَدَهُمْ وَلِيُّ الْأَمْرِ أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِخْمَادِ بَاطِلِهِمْ وَقَطَعَهُمْ مِنْ حُصُونِ الْمُسْلِمِينَ وَحَذَّرَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ مُنَاكَحَتِهِمْ وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَأَلْزَمَهُمْ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَمَنَعَهُمْ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِمْ الْبَاطِلِ وَهُمْ الَّذِينَ يَلُونَهُ مِنْ الْكُفَّارِ : هَلْ ذَلِكَ أَفْضَلُ وَأَكْثَرُ أَجْرًا مِنْ التَّصَدِّي وَالتَّرَصُّدِ لِقِتَالِ التَّتَارِ فِي بِلَادِهِمْ وَهَدْمِ بِلَادِ سَيِسَ وَدِيَارِ الْإِفْرِنْجِ عَلَى أَهْلِهَا ؟ أَمْ هَذَا أَفْضَلُ مِنْ كَوْنِهِ يُجَاهِدُ النصيرية الْمَذْكُورِينَ مُرَابِطًا ؟ وَيَكُونُ أَجْرُ مَنْ رَابَطَ فِي الثُّغُورِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ خَشْيَةَ قَصْدِ الفرنج أَكْبَرُ أَمْ هَذَا أَكْبَرُ أَجْرًا ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى مَنْ عَرَفَ الْمَذْكُورِينَ وَمَذَاهِبَهُمْ أَنْ يُشْهِرَ أَمْرَهُمْ وَيُسَاعِدَ عَلَى إبْطَالِ بَاطِلِهِمْ وَإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ بَيْنَهُمْ فَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَهْدِيَ بَعْضَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ مُسْلِمِينَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ الْعَظِيمِ أَمْ يَجُوزُ التَّغَافُلُ عَنْهُمْ وَالْإِهْمَالُ ؟ وَمَا قَدَرَ الْمُجْتَهِدُ عَلَى ذَلِكَ وَالْمُجَاهِدُ فِيهِ وَالْمُرَابِطُ لَهُ وَالْمُلَازِمُ عَلَيْهِ ؟ وَلْتَبْسُطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ مُثَابِينَ مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ؛ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تيمية : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الْمُسَمَّوْنَ بالنصيرية هُمْ وَسَائِرُ أَصْنَافِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ؛ بَلْ وَأَكْفَرُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَضَرَرُهُمْ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ مِثْلَ كُفَّارِ التَّتَارِ والفرنج وَغَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَتَظَاهَرُونَ عِنْدَ جُهَّالِ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّشَيُّعِ وَمُوَالَاةِ أَهْلِ الْبَيْتِ وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِرَسُولِهِ وَلَا بِكِتَابِهِ وَلَا بِأَمْرِ وَلَا نَهْيٍ وَلَا ثَوَابٍ وَلَا عِقَابٍ وَلَا جَنَّةٍ وَلَا نَارٍ وَلَا بِأَحَدِ مِنْ الْمُرْسَلِينَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بِمِلَّةِ مِنْ الْمِلَلِ السَّالِفَةِ بَلْ يَأْخُذُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى أُمُورٍ يَفْتَرُونَهَا ؛ يَدَّعُونَ أَنَّهَا عِلْمُ الْبَاطِنِ ؛ مِنْ جِنْسِ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ وَمِنْ غَيْرِ هَذَا الْجِنْسِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ حَدٌّ مَحْدُودٌ فِيمَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ وَتَحْرِيفِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ ؛ إذْ مَقْصُودُهُمْ إنْكَارُ الْإِيمَانِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِكُلِّ طَرِيقٍ مَعَ التَّظَاهُرِ بِأَنَّ لِهَذِهِ الْأُمُورِ حَقَائِقُ يَعْرِفُونَهَا مِنْ جِنْسِ مَا ذَكَرَ السَّائِلُ وَمِنْ جِنْسِ قَوْلِهِمْ : إنَّ " الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ " مَعْرِفَةُ أَسْرَارِهِمْ و " الصِّيَامَ الْمَفْرُوضَ " كِتْمَانُ أَسْرَارِهِمْ " وَحَجَّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ " زِيَارَةُ شُيُوخِهِمْ وَأَنَّ ( يَدَا أَبِي لَهَبٍ هُمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَنَّ ( النَّبَأَ الْعَظِيمَ وَالْإِمَامَ الْمُبِينَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ؛ وَلَهُمْ فِي مُعَادَاةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَقَائِعُ مَشْهُورَةٌ وَكُتُبٌ مُصَنَّفَةٌ فَإِذَا كَانَتْ لَهُمْ مُكْنَةٌ سَفَكُوا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ ؛ كَمَا قَتَلُوا مَرَّةً الْحُجَّاجَ وَأَلْقَوْهُمْ فِي بِئْرِ زَمْزَمَ وَأَخَذُوا مَرَّةً الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَبَقِيَ عِنْدَهُمْ مُدَّةً وَقَتَلُوا مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَشَايِخِهِمْ مَا لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَصَنَّفُوا كُتُبًا كَثِيرَةً مِمَّا ذَكَرَهُ السَّائِلُ وَغَيْرُهُ وَصَنَّفَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ كُتُبًا فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ ؛ وَبَيَّنُوا فِيهَا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ الَّذِي هُمْ بِهِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمِنْ براهمة الْهِنْدِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ . وَمَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ فِي وَصْفِهِمْ قَلِيلٌ مِنْ الْكَثِيرِ الَّذِي يَعْرِفُهُ الْعُلَمَاءُ فِي وَصْفِهِمْ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ عِنْدَنَا أَنَّ السَّوَاحِلَ الشَّامِيَّةَ إنَّمَا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا النَّصَارَى مِنْ جِهَتِهِمْ وَهُمْ دَائِمًا مَعَ كُلِّ عَدُوٍّ لِلْمُسْلِمِينَ ؛ فَهُمْ مَعَ النَّصَارَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ عِنْدَهُمْ فَتْحُ الْمُسْلِمِينَ لِلسَّوَاحِلِ وَانْقِهَارُ النَّصَارَى ؛ بَلْ وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ عِنْدَهُمْ انْتِصَارُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّتَارِ . وَمِنْ أَعْظَمِ أَعْيَادِهِمْ إذَا اسْتَوْلَى - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى - النَّصَارَى عَلَى ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ ثُغُورَ الْمُسْلِمِينَ مَا زَالَتْ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ حَتَّى جَزِيرَةِ قُبْرُصَ يَسَّرَ اللَّهُ فَتْحَهَا عَنْ قَرِيبٍ وَفَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ فِي خِلَافَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ " عُثْمَانَ بْنِ عفان " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَحَهَا " مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ " إلَى أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ . فَهَؤُلَاءِ الْمُحَادُّونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ كَثُرُوا حِينَئِذٍ بِالسَّوَاحِلِ وَغَيْرِهَا فَاسْتَوْلَى النَّصَارَى عَلَى السَّاحِلِ ؛ ثُمَّ بِسَبَبِهِمْ اسْتَوْلَوْا عَلَى الْقُدْسِ الشَّرِيفِ وَغَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ أَحْوَالَهُمْ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي ذَلِكَ ؛ ثُمَّ لَمَّا أَقَامَ اللَّهُ مُلُوكَ الْمُسْلِمِينَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى " كَنُورِ الدِّينِ الشَّهِيدِ وَصَلَاحِ الدِّينِ " وَأَتْبَاعِهِمَا وَفَتَحُوا السَّوَاحِلَ مِنْ النَّصَارَى وَمِمَّنْ كَانَ بِهَا مِنْهُمْ وَفَتَحُوا أَيْضًا أَرْضَ مِصْرَ ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَوْلِينَ عَلَيْهَا نَحْوَ مِائَتَيْ سَنَةٍ وَاتَّفَقُوا هُمْ وَالنَّصَارَى فَجَاهَدَهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى فَتَحُوا الْبِلَادَ وَمِنْ ذَلِكَ التَّارِيخِ انْتَشَرَتْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ . ثُمَّ إنَّ التَّتَارَ مَا دَخَلُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ وَقَتَلُوا خَلِيفَةَ بَغْدَادَ وَغَيْرَهُ مِنْ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِمُعَاوَنَتِهِمْ وَمُؤَازَرَتِهِمْ ؛ فَإِنَّ مُنَجِّمَ هُولَاكُو الَّذِي كَانَ وَزِيرَهُمْ وَهُوَ " النَّصِيرُ الطوسي " كَانَ وَزِيرًا لَهُمْ بالألموت وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ بِقَتْلِ الْخَلِيفَةِ وَبِوِلَايَةِ هَؤُلَاءِ . وَلَهُمْ " أَلْقَابٌ " مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ تَارَةً يُسَمَّوْنَ " الْمَلَاحِدَةَ " وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ " الْقَرَامِطَةَ " وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ " الْبَاطِنِيَّةَ " وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ " الإسماعيلية " و تَارَةً يُسَمَّوْنَ " النصيرية " وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ " الخرمية " وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ " الْمُحَمِّرَةَ " وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ مِنْهَا مَا يَعُمُّهُمْ وَمِنْهَا مَا يَخُصُّ بَعْضَ أَصْنَافِهِمْ كَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ يَعُمُّ الْمُسْلِمِينَ وَلِبَعْضِهِمْ اسْمٌ يَخُصُّهُ : إمَّا لِنَسَبِ وَإِمَّا لِمَذْهَبِ وَإِمَّا لِبَلَدٍ وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ . وَشَرْحُ مَقَاصِدِهِمْ يَطُولُ وَهُمْ كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ فِيهِمْ : ظَاهِرُ مَذْهَبِهِمْ الرَّفْضُ وَبَاطِنُهُ الْكُفْرُ الْمَحْضُ . وَحَقِيقَةُ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِنَبِيِّ مِنْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ ؛ لَا بِنُوحِ وَلَا إبْرَاهِيمَ وَلَا مُوسَى وَلَا عِيسَى وَلَا مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَلَا بِشَيْءِ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ ؛ لَا التَّوْرَاةِ وَلَا الْإِنْجِيلِ وَلَا الْقُرْآنِ . وَلَا يُقِرُّونَ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ خَالِقًا خَلَقَهُ ؛ وَلَا بِأَنَّ لَهُ دِينًا أَمَرَ بِهِ وَلَا أَنَّ لَهُ دَارًا يَجْزِي النَّاسَ فِيهَا عَلَى أَعْمَالِهِمْ غَيْرَ هَذِهِ الدَّارِ . وَهُمْ تَارَةً يَبْنُونَ قَوْلَهُمْ عَلَى مَذَاهِبِ الْفَلَاسِفَةِ الطَّبِيعِيِّينَ أَوْ الإلهيين وَتَارَةً يَبْنُونَهُ عَلَى قَوْلِ الْمَجُوسِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ النُّورَ وَيَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ الرَّفْضَ . وَيَحْتَجُّونَ لِذَلِكَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّاتِ : إمَّا بِقَوْلِ مَكْذُوبٍ يَنْقُلُونَهُ كَمَا يَنْقُلُونَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلُ } وَالْحَدِيثُ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ ؛ وَلَفْظُهُ " { إنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الْعَقْلَ فَقَالَ لَهُ : أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ . فَقَالَ لَهُ : أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ } فَيُحَرِّفُونَ لَفْظَهُ فَيَقُولُونَ " { أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلُ } لِيُوَافِقُوا قَوْلَ الْمُتَفَلْسِفَةِ أَتْبَاعِ أَرِسْطُو فِي أَنَّ أَوَّلَ الصَّادِرَاتِ عَنْ وَاجِبِ الْوُجُودِ هُوَ الْعَقْلُ . وَإِمَّا بِلَفْظِ ثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُحَرِّفُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ كَمَا يَصْنَعُ أَصْحَابُ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَنَحْوُهُمْ فَإِنَّهُمْ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ . وَقَدْ دَخَلَ كَثِيرٌ مِنْ بَاطِلِهِمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرَاجَ عَلَيْهِمْ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ طَوَائِفَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ ؛ وَإِنْ كَانُوا لَا يُوَافِقُونَهُمْ عَلَى أَصْلِ كُفْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ فِي إظْهَارِ دَعْوَتِهِمْ الْمَلْعُونَةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا " الدَّعْوَةَ الْهَادِيَةَ " دَرَجَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَيُسَمُّونَ النِّهَايَةَ " الْبَلَاغَ الْأَكْبَرَ وَالنَّامُوسَ الْأَعْظَمَ " وَمَضْمُونُ الْبَلَاغِ الْأَكْبَرِ جَحْدُ الْخَالِقِ تَعَالَى ؛ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِ وَبِمَنْ يُقِرُّ بِهِ حَتَّى قَدْ يَكْتُبُ أَحَدُهُمْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَسْفَلِ رِجْلِهِ وَفِيهِ أَيْضًا جَحْدُ شَرَائِعِهِ وَدِينِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَدَعْوَى أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ جِنْسِهِمْ طَالِبِينَ لِلرِّئَاسَةِ فَمِنْهُمْ مِنْ أَحْسَنَ فِي طَلَبِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ أَسَاءَ فِي طَلَبِهَا حَتَّى قُتِلَ وَيَجْعَلُونَ مُحَمَّدًا وَمُوسَى مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَيَجْعَلُونَ الْمَسِيحَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي . وَفِيهِ مِنْ الِاسْتِهْزَاءِ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَمِنْ تَحْلِيلِ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَسَائِرِ الْفَوَاحِشِ : مَا يَطُولُ وَصْفُهُ . وَلَهُمْ إشَارَاتٌ وَمُخَاطَبَاتٌ يَعْرِفُ بِهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا . وَهُمْ إذَا كَانُوا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ فَقَدْ يَخْفَوْنَ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُمْ وَأَمَّا إذَا كَثُرُوا فَإِنَّهُ يَعْرِفُهُمْ عَامَّةُ النَّاسِ فَضْلًا عَنْ خَاصَّتِهِمْ .
وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا تَجُوزُ مُنَاكَحَتُهُمْ ؛ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ مَوْلَاتِهِ مِنْهُمْ وَلَا يَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ امْرَأَةً وَلَا تُبَاحُ ذَبَائِحُهُمْ . وَأَمَّا " الْجُبْنُ الْمَعْمُولُ بِإِنْفَحَتِهِمْ " فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ كَسَائِرِ إنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ وَكَإِنْفَحَةِ ذَبِيحَةِ الْمَجُوسِ ؛ وَذَبِيحَةِ الفرنج الَّذِينَ يُقَالُ عَنْهُمْ إنَّهُمْ لَا يُذَكُّونَ الذَّبَائِحَ . فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ يَحِلُّ هَذَا الْجُبْنُ ؛ لِأَنَّ إنْفَحَةَ الْمَيْتَةِ طَاهِرَةٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْفَحَةَ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ الْبَهِيمَةِ وَمُلَاقَاةُ الْوِعَاءِ النَّجِسِ فِي الْبَاطِنِ لَا يُنَجِّسُ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ هَذَا الْجُبْنَ نَجِسٌ لِأَنَّ الْإِنْفَحَةَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ نَجِسَةٌ ؛ لِأَنَّ لَبَنَ الْمَيْتَةِ وَإِنْفَحَتَهَا عِنْدَهُمْ نَجِسٌ . وَمَنْ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ فَذَبِيحَتُهُ كَالْمَيْتَةِ . وَكُلٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْقَوْلَيْنِ يَحْتَجُّ بِآثَارِ يَنْقُلُهَا عَنْ الصَّحَابَةِ فَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ نَقَلُوا أَنَّهُمْ أَكَلُوا جُبْنَ الْمَجُوسِ . وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الثَّانِي نَقَلُوا أَنَّهُمْ أَكَلُوا مَا كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ مِنْ جُبْنِ النَّصَارَى . فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ اجْتِهَادٍ ؛ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ يُفْتِي بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ .
وَأَمَّا " أَوَانِيهمْ وَمَلَابِسُهُمْ " فَكَأَوَانِي الْمَجُوسِ وَمَلَابِسِ الْمَجُوسِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ . وَالصَّحِيحُ فِي ذَلِكَ أَنَّ أَوَانِيَهُمْ لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا بَعْدَ غَسْلِهَا ؛ فَإِنَّ ذَبَائِحَهُمْ مَيْتَةٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَ أَوَانِيَهُمْ الْمُسْتَعْمَلَةَ مَا يَطْبُخُونَهُ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ فَتَنْجُسُ بِذَلِكَ فَأَمَّا الْآنِيَةُ الَّتِي لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ وُصُولُ النَّجَاسَةِ إلَيْهَا فَتُسْتَعْمَلُ مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ كَآنِيَةِ اللَّبَنِ الَّتِي لَا يَضَعُونَ فِيهَا طَبِيخَهُمْ أَوْ يَغْسِلُونَهَا قَبْلَ وَضْعِ اللَّبَنِ فِيهَا وَقَدْ تَوَضَّأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ . فَمَا شُكَّ فِي نَجَاسَتِهِ لَمْ يُحْكَمْ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ . وَلَا يَجُوزُ دَفْنُهُمْ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَهَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ : كَعَبْدِ اللَّهِ ابْن أبي وَنَحْوِهِ ؛ وَكَانُوا يَتَظَاهَرُونَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْجِهَادِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلَا يُظْهِرُونَ مَقَالَةً تُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ ؛ لَكِنْ يُسِرُّونَ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } فَكَيْفَ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مَعَ الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ يُظْهِرُونَ الْكُفْرَ وَالْإِلْحَادَ .
وَأَمَّا اسْتِخْدَامُ مِثْلِ هَؤُلَاءِ فِي ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ حُصُونِهِمْ أَوْ جُنْدِهِمْ فَإِنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَسْتَخْدِمُ الذِّئَابَ لِرَعْيِ الْغَنَمِ ؛ فَإِنَّهُمْ مِنْ أَغَشِّ النَّاسِ لِلْمُسْلِمِينَ وَلِوُلَاةِ أُمُورِهِمْ وَهُمْ أَحْرَصُ النَّاسِ عَلَى فَسَادِ الْمَمْلَكَةِ وَالدَّوْلَةِ وَهُمْ شَرٌّ مِنْ الْمُخَامِرِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْعَسْكَرِ ؛ فَإِنَّ الْمُخَامِرَ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ : إمَّا مَعَ أَمِيرِ الْعَسْكَرِ وَإِمَّا مَعَ الْعَدُوِّ . وَهَؤُلَاءِ مَعَ الْمِلَّةِ وَنَبِيِّهَا وَدِينِهَا وَمُلُوكِهَا ؛ وَعُلَمَائِهَا وَعَامَّتِهَا وَخَاصَّتِهَا وَهُمْ أَحْرَصُ النَّاسِ عَلَى تَسْلِيمِ الْحُصُونِ إلَى عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى إفْسَادِ الْجُنْدِ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَإِخْرَاجِهِمْ عَنْ طَاعَتِهِ . وَالْوَاجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ قَطْعُهُمْ مِنْ دَوَاوِينِ الْمُقَاتِلَةِ فَلَا يُتْرَكُونَ فِي ثَغْرٍ وَلَا فِي غَيْرِ ثَغْرٍ ؛ فَإِنَّ ضَرَرَهُمْ فِي الثَّغْرِ أَشَدُّ وَأَنْ يَسْتَخْدِمَ بَدَلَهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِخْدَامِهِ مِنْ الرِّجَالِ الْمَأْمُونِينَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَعَلَى النُّصْحِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ؛ بَلْ إذَا كَانَ وَلِيُّ الْأَمْرِ لَا يَسْتَخْدِمُ مَنْ يَغُشُّهُ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَكَيْفَ بِمَنْ يَغُشُّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُ هَذَا الْوَاجِبِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَلْ أَيُّ وَقْتٍ قَدَرَ عَلَى الِاسْتِبْدَالِ بِهِمْ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ . وَأَمَّا إذَا اُسْتُخْدِمُوا وَعَمِلُوا الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ عَلَيْهِمْ فَلَهُمْ إمَّا الْمُسَمَّى وَإِمَّا أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِأَنَّهُمْ عوقدوا عَلَى ذَلِكَ . فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا وَجَبَ الْمُسَمَّى وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا وَجَبَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اسْتِخْدَامُهُمْ مِنْ جِنْسِ الْإِجَارَةِ اللَّازِمَةِ فَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْجَعَالَةِ الْجَائِزَةِ ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَجُوزُ اسْتِخْدَامُهُمْ فَالْعَقْدُ عَقْدٌ فَاسِدٌ فَلَا يَسْتَحِقُّونَ إلَّا قِيمَةَ عَمَلِهِمْ . فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عَمِلُوا عَمَلًا لَهُ قِيمَةٌ فَلَا شَيْءَ لَهُمْ ؛ لَكِنْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ مُبَاحَةٌ .
وَإِذَا أَظْهَرُوا التَّوْبَةَ فَفِي قَبُولِهَا مِنْهُمْ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ؛ فَمَنْ قَبِلَ تَوْبَتَهُمْ إذَا الْتَزَمُوا شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ أَقَرَّ أَمْوَالَهُمْ عَلَيْهِمْ . وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْهَا لَمْ تُنْقَلْ إلَى وَرَثَتِهِمْ مِنْ جِنْسِهِمْ ؛ فَإِنَّ مَالَهُمْ يَكُونُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ إذَا أُخِذُوا فَإِنَّهُمْ يُظْهِرُونَ التَّوْبَةَ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ مَذْهَبِهِمْ التَّقِيَّةُ وَكِتْمَانُ أَمْرِهِمْ وَفِيهِمْ مَنْ يُعْرَفُ وَفِيهِمْ مَنْ قَدْ لَا يُعْرَفُ . فَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُحْتَاطَ فِي أَمْرِهِمْ فَلَا يُتْرَكُونَ مُجْتَمِعِينَ وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ حَمْلِ السِّلَاحِ وَلَا أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُقَاتِلَةِ وَيَلْزَمُونَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ : مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ . وَيُتْرَكُ بَيْنَهُمْ مِنْ يُعَلِّمُهُمْ دِينَ الْإِسْلَامِ وَيُحَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُعَلِّمِهِمْ . فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَسَائِرَ الصَّحَابَةِ لَمَّا ظَهَرُوا عَلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ وَجَاءُوا إلَيْهِ قَالَ لَهُمْ الصِّدِّيقُ : اخْتَارُوا إمَّا الْحَرْبَ الْمُجْلِيَةَ وَإِمَّا السِّلْمَ الْمُخْزِيَةَ . قَالُوا : يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ هَذِهِ الْحَرْبُ الْمُجْلِيَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا السِّلْمُ الْمُخْزِيَةُ ؟ قَالَ : تَدَّوُنَّ قَتْلَانَا وَلَا نِدِّي قَتْلَاكُمْ وَتَشْهَدُونَ أَنَّ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ وَنُقَسِّمُ مَا أَصَبْنَا مِنْ أَمْوَالِكُمْ وَتَرُدُّونَ مَا أَصَبْتُمْ مِنْ أَمْوَالِنَا وَتُنْزَعُ مِنْكُمْ الْحَلَقَةُ وَالسِّلَاحُ وَتُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ وَتُتْرَكُونَ تَتَّبِعُونَ أَذْنَابَ الْإِبِلِ حَتَّى يَرَى اللَّهُ خَلِيفَةَ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنَيْنِ أَمْرًا بَعْدَ رِدَّتِكُمْ . فَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ ؛ إلَّا فِي تَضْمِينِ قَتْلَى الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَهُ : هَؤُلَاءِ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ . يَعْنِي هُمْ شُهَدَاءُ فَلَا دِيَةَ لَهُمْ فَاتَّفَقُوا عَلَى قَوْلِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ . وَهَذَا الَّذِي اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ هُوَ مَذْهَبُ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ وَاَلَّذِي تَنَازَعُوا فِيهِ تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ . فَمَذْهَبُ أَكْثَرِهِمْ أَنَّ مَنْ قَتَلَهُ الْمُرْتَدُّونَ الْمُجْتَمِعُونَ الْمُحَارِبُونَ لَا يُضْمَنُ ؛ كَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ آخِرًا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ . فَهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ بِأُولَئِكَ الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ عَوْدِهِمْ إلَى الْإِسْلَامِ يُفْعَلُ بِمَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَالتُّهْمَةُ ظَاهِرَةٌ فِيهِ فَيُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ وَالدِّرْعِ الَّتِي تَلْبَسُهَا الْمُقَاتِلَةُ وَلَا يُتْرَكُ فِي الْجُنْدِ مَنْ يَكُونُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا . وَيُلْزَمُونَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَظْهَرَ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ ضُلَّالِهِمْ وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ أُخْرِجَ عَنْهُمْ وَسُيِّرَ إلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا ظُهُورٌ . فَإِمَّا أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِمَّا أَنْ يَمُوتَ عَلَى نِفَاقِهِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ لِلْمُسْلِمِينَ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ جِهَادَ هَؤُلَاءِ وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْظَمِ الطَّاعَاتِ وَأَكْبَرِ الْوَاجِبَاتِ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ جِهَادِ مَنْ لَا يُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ ؛ فَإِنَّ جِهَادَ هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ جِهَادِ الْمُرْتَدِّينَ وَالصِّدِّيقُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ بَدَءُوا بِجِهَادِ الْمُرْتَدِّينَ قَبْلَ جِهَادِ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ ؛ فَإِنَّ جِهَادَ هَؤُلَاءِ حِفْظٌ لِمَا فُتِحَ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يَدْخُلَ فِيهِ مَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ عَنْهُ . وَجِهَادَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ زِيَادَةِ إظْهَارِ الدِّينِ . وَحِفْظُ رَأْسِ الْمَالِ مُقَدَّمٌ عَلَى الرِّبْحِ . وَأَيْضًا فَضَرَرُ هَؤُلَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ أُولَئِكَ ؛ بَلْ ضَرَرُ هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ ضَرَرِ مَنْ يُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَضَرَرُهُمْ فِي الدِّينِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْمُحَارِبِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ . وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَقُومَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْوَاجِبِ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِ أَنْ يَكْتُمَ مَا يَعْرِفُهُ مِنْ أَخْبَارِهِمْ ؛ بَلْ يُفْشِيهَا وَيُظْهِرُهَا لِيَعْرِفَ الْمُسْلِمُونَ حَقِيقَةَ حَالِهِمْ وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِ أَنْ يُعَاوِنَهُمْ عَلَى بَقَائِهِمْ فِي الْجُنْدِ والمستخدمين وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِ السُّكُوتُ عَنْ الْقِيَامِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ . وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِ أَنَّ يَنْهَى عَنْ الْقِيَامِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } وَهَؤُلَاءِ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ . وَالْمُعَاوِنُ عَلَى كَفِّ شَرِّهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ هُوَ هِدَايَتُهُمْ ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ كُنْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ بِهِمْ فِي الْقُيُودِ وَالسَّلَاسِلِ حَتَّى تُدْخِلُوهُمْ الْإِسْلَامَ . فَالْمَقْصُودُ بِالْجِهَادِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ : هِدَايَةُ الْعِبَادِ لِمَصَالِحِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ سَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ لَمْ يَهْتَدِ كَفَّ اللَّهُ ضَرَرَهُ عَنْ غَيْرِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجِهَادَ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ . وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ : هُوَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى } " وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمِائَةُ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ إلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَعَدَّهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ } " وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ } " وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا مَاتَ مُجَاهِدًا وَجَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَمِنَ الْفِتْنَةَ . وَالْجِهَادُ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .
وفي فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 3 / ص 238)
النصيرية
المجيب د.حمود بن غزاي الحربي
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
العقائد والمذاهب الفكرية/الأديان والمذاهب الفكرية المعاصرة
التاريخ 27/08/1425هـ
السؤال
السلام عليكم.
ما هي طرق الشيعة الاثني عشرية والنصيرية والإسماعيلية في الذبح؟ وهل تباح ذبائحهم؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
تنسب طائفة النصيرية إلى: (محمد بن نصير البصري) من موالي بني نمير، وهو فارسي الأصل من خوزستان، وتعتبره هذه الفرقة، - التي ظهرت في القرن الثالث الهجري- إحدى الفرق الباطنية التي ترى أن فرائض الإسلام لها ظاهر وباطن يخالف ذلك الظاهر، ويفضّل النصيريون تسميتهم بـ (العلويين) نسبة إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- وهو مسمّى أطلقه عليهم المستعمر الفرنسي إبّان احتلال سوريا سنة 1920م تمويهاً على المسلمين في حقيقة هذه الطائفة التي حكم عليها علماء الإسلام بعد ظهورها بالكفر، والحكم على هذه الطائفة بالإسلام أو الكفر يقوم على أصلين اثنين:
الأول: معرفة معتقدات هذه الطائفة ومقالاتها من خلال تراثها الفكري.
الثاني: عرض هذه المعتقدات على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- إذ هما الحكم الفصل لكل مسلم ومسلمة في كل كبيرة وصغيرة، "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين".
أما الأول: فمع أن النصيريين يعدّون ديانتهم ومذهبهم سراً من الأسرار العميقة كما ورد في كتابهم: (الهفت الشريف): (يا مفضل: لقد أعطيت فضلاً كثيراً، وتعلمت علماً باطناً فعليك بكتمان سر الله ولا تطلع عليه إلا ولياً مخلصاً)، وقصة سليمان الأذني وهو من أبناء مشايخ النصيريين لما ألَّف كتابه "الباكورة السليمانية"، وكشف فيه الكثير من أسرار العقائد النصيرية فأحرقوه حياً، وقصته مشهورة، أقول ومع ذلك الحرص تسربت بعض العقائد النصيرية إلى الضوء، فاطلع عليها الدارسون والباحثون وقالوا كلمتهم في الطائفة ومعتقداتها.. فمن معتقدات النصيرية (الحلول والاتحاد)، فيرون أن الألوهية حلت في علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-! بل الإله في المذهب النصيري حل في البشرية منذ بدء الخليقة، ففي كتاب: (تعاليم الديانة النصرانية)، وهو مخطوط في المكتبة الأهلية بباريس تحت رقم(6182) جاء فيه أن هناك سبعة أدوار للظهورات الإلهية اتخذت في كل دور وظهور رسولاً ناطقاً، فالظهور الأول كان في (شيث) وكان (آدم) هو الرسول الناطق، ثم انتقلت الألوهية إلى (سام)، والنبوة إلى (نوح) وبعدها انتقلت إلى (إسماعيل)، والنبوة إلى (إبراهيم)، ثم انتقلت الألوهية إلى (هارون) والنبوة إلى (موسى)، ثم انتقلت الألوهية إلى (شمعون الصفا) المعروف عند النصارى بـ (بطرس)، والنبوة إلى (عيسى)، وظهرت للمرة الأخيرة في (علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-) والنبوة في (محمد - صلى الله عليه وسلم-)، وقد ذكر هذه العقيدة الإسماعيلي مصطفى غالب في مقدمته لكتاب (الهفت) للجعفي.
وبناءً على ذلك يكون علي إلهًا في الباطن وإماماً في الظاهر، وهذا ما ورد في كتاب (المجموع) صراحة السورة(8-9-10)، (يا علي بن أبي طالب أنت إلهنا باطناً وإماماً ظاهراً)، و (أشهد بأن الصورة المرئية التي ظهرت في البشرية هي الغاية الكلية، وهي الظاهرة بالنورانية، وليس إله سواها، وهي علي بن أبي طالب).
ومن معتقدات النصيرية القول بالتناسخ كما في كتابهم (الهفت ص21-22 وص 121 وص 146 وص 162 وص 190)، وبناء على قراءة هذه النصوص من كتابهم الشهير أو كتاب (الباكورة السليمانية) لسليمان أفندي الأذني الذي كان من شيوخهم ثم تنصر، أقول بناء على ذلك يظهر أن القول بالتناسخ من الدعائم الرئيسية والأركان الهامة في المذهب النصيري، وهو عندهم بديل البعث والقيامة والحساب والجزاء، والثواب والعقاب ليس في الجنة أو النار في الآخرة، وإنما هو في هذه الدنيا حسب التراكيب والتقمصات الناسوتية والمسخوية التي تصيب الروح.
وإذا تجاوزنا العقائد إلى العبادات، فالعبادات عندهم لها معنى آخر غير المعنى الظاهر الذي أراده الله -تعالى- منها: جاء في كتابهم (الهفت ص 64): (قلت: يا مولاي: أما كان أهله من أهل الصلاة؟ قال: ويحك أتدري ما معنى قوله تعالى: "وكان يأمر أهله بالصلاة؟" قلت: يعني أهله المؤمنين من شيعته الذين يخفون إيمانهم وهي الدرجة العالية والمعرفة، والإقرار والتوحيد، وأنه العلي الأعلى... أي الإمام علي، فأما معنى قوله تعالى: "وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة": فالصلاة أمير المؤمنين، والزكاة معرفته، أما إقامة الصلاة: فهي معرفتنا وإقامتنا..) ا.هـ.
هذه بعض معتقدات النصيرية ومقالاتهم، وعندما نعرضها على الوحيين الشريفين، كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- نجدها تخالف ما جاء في الوحيين جملة وتفصيلاً يعرف ذلك من له إلمام بشريعة الإسلام؛ ولذا كفّر علماء الملة هذه الطائفة لكفرها بالله، وإشراكها بعبوديته وإبطالها لشريعته، واستحلالها لما حرمه الله تحريماً جلياً واضحاً، وتأويلها لأركان الإسلام العظام!. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (هؤلاء القوم الموصوفون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين، وضررهم على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم- أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والإفرنج وغيرهم، فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع وموالاة أهل البيت، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسوله، ولا بكتابه، ولا بأمر ولا نهي، ولا ثواب، ولا عقاب، ولا جنة ولا نار، ولا بأحد من المرسلين قبل محمد -صلى الله عليه وسلم- ولا بملة من الملل السابقة، بل يأخذون كلام الله ورسوله المعروف عند علماء المسلمين يتأولونه بينهم على أمور يقرونها بينهم ويدعون بأنها علم الباطنية ... إلخ..) رحمه الله في الفتاوى[(35/149)].
وممن حكم بكفرهم ابن القيم في (إغاثة اللهفان، 2/247-249)، وابن حزم في(المحلى، 13/139)، والديلمي في (بيان مذهب الباطنية وبطلانه، ص71)، والغزالي في كتابه(فضائح الباطنية، ص37).
وإني لأنصح الأخ السائل بالاطلاع على الكتب التي تكلمت عن هذه الطائفة بالتفصيل مثل كتاب (الإسماعيلية) لإحسان إلهي ظهير، و(أصول الإسماعيلية) للدكتور سليمان السلومي، و(طائفة النصيرية) للدكتور سليمان الحلبي وغيرهم. والله أعلم وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّ الْبَارِعَ مِنْهُمْ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ يَزُولُ عَنْهُ عِنْدَهُمْ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ kوَتُبَاحُ لَهُ الْمَحْظُورَاتُ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْوَاجِبَاتُ فَتَظْهَرُ أَضْغَانُهُمْ وَتَنْكَشِفُ أَسْرَارُهُمْ وَيَعْرِفُ عُمُومُ النَّاسِ حَقِيقَةَ دِينِهِمْ الْبَاطِنِ حَتَّى سَمَّوْهُمْ بَاطِنِيَّةً ؛ لِإِبْطَانِهِمْ خِلَافَ مَا يُظْهِرُونَ .
فَلَوْ كَانَ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - دِينُ الرُّسُلِ كَذَلِكَ لَكَانَ خَوَاصُّهُ قَدْ عَرَفُوهُ وَأَظْهَرُوا بَاطِنَهُ . وَكَانَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ مِنْ جِنْسِ دِينِ الْبَاطِنِيَّةِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ كَانُوا أَعْلَمَ النَّاسِ بِبَاطِنِ الرَّسُولِ وَظَاهِرِهِ وَأَخْبَرَ النَّاسِ بِمَقَاصِدِهِ وَمُرَادَاتِهِ كَانُوا أَعْظَمَ الْأُمَّةِ لُزُومًا لِطَاعَةِ أَمْرِهِ - سِرًّا وَعَلَانِيَةً - وَمُحَافَظَةً عَلَى ذَلِكَ إلَى الْمَوْتِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ إلَيْهِ وَبِهِ أَخَصُّ وَبِبَاطِنِهِ أَعْلَمُ - كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - كَانُوا أَعْظَمَهُمْ لُزُومًا لِلطَّاعَةِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَمُحَافَظَةً عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا .
وَقَدْ أَشْبَهَ هَؤُلَاءِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ مَلَاحِدَةُ الْمُتَصَوِّفَةِ : الَّذِينَ يَجْعَلُونَ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ وَاجِبًا عَلَى السَّالِكِ حَتَّى يَصِيرَ عَارِفًا مُحَقِّقًا فِي زَعْمِهِمْ ؛ وَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ وَيَتَأَوَّلُونَ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى :{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (1)(99) سورة الحجر، زَاعِمِينَ أَنَّ الْيَقِينَ هُوَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينُ هُنَا الْمَوْتُ وَمَا بَعْدَهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ النَّارِ : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) [المدثر/42-47] } (2)
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 9 / ص 339)
وقوله : { واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين } قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد الموت وسمي الموت باليقين لأنه أمر متيقن .
فإن قيل : فأي فائدة لهذا التوقيت مع أن كل أحد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات؟
قلنا : المراد منه : { واعبد رَبَّكَ } في زمان حياتك ولا تخل لحظة من لحظات الحياة عن هذه العبادة ، والله أعلم .
وفي الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 2495)
والمراد بالأمر بالعبادة فى قوله تعالى { واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين } المداومة عليها وعدم التقصير فيها .
والمراد باليقين : الموت ، سمى بذلك لأنه أمر متيقن لحوقه بكل مخلوق .
أى : ودم - أيها الرسول الكريم - على عبادة ربك وطاعته ما دمت حيا ، حتى يأتيك الموت الذى لا مفر من مجيئه فى الوقت الذى يريده الله - تعالى -
ومما يدل على أن المراد باليقين هنا الموت قوله - تعالى - حكاية عن المجرمين : { قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين حتى أَتَانَا اليقين } أى : الموت .
ويدل على ذلك أيضًا ما رواه البخارى عن أم العلاء " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على عثمان بن مظعون وقد مات ، قالت : قلت : رحمة الله عليك أبا السائب ، فشهادتى عليك لقد أكرمك الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وما يدريك أن الله قد أكرمه . . . أما هو فقد جاءه اليقين - أى الموت - وإنى لأرجو له الخير " " .
قال الإِمام ابن كثير : ويستدل بهذه الآية الكريمة ، على أن العبادة كالصلاة ونحوها ، واجبة على الإِنسان ما دام عقله ثابتًا ، فيصلى بحسب حاله ، كما ثبت فى صحيح البخارى عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " صل قائمًا ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب " .
ويستدل بها أيضًا على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة ، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة ، سقط عنه التكليف عندهم . وهذا كفر وضلال وجهل . . . .
(2) - درء التعارض - (ج 2 / ص 89)
فمن تأول قوله تعالى { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } الحجر : 99 على سقوط العبادة بحصول المعرفة فإنه يستتاب ن فإن تاب وإلا قتل والمراد بالآية : اعبد ربك حتى تموت كما قال الحسن البصري : لم يجعل الله لعبادة المؤمن أجلا دون الموت وقرأ الآية واليقين هو ما يعانيه الميت فيوقن به كما قال الله تعالى عن أهل النار { وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين } المدثر : 46 47 وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم لما مات عثمان بن مظعون قال أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه
والمقصود هنا أن هؤلاء الملاحدة ومن شركهم في نوع من إلحادهم لما ظنوا أن كمال النفس في مجرد العلم وظنوا أن ذلك إذا حصل فلا حاجة إلى العمل ن وظنوا أن ذلك حصل لهم ظنوا سقوط الواجبات العامة عنهم وحل المحرمات العامة لهم بطلان هذا القول من وجوه والرد عليهم في ذلك
وضلالهم من وجوه
منها : ظنهم أن الكمال في مجرد العلم
والثاني : ظنهم أن ما حصل لهم علم
والثالث : ظنهم أن ذلك العلم هو الذي يكمل النفس
الوجه الأول
وكل من هذه المقدمات كاذبة فليس كمال النفس في مجرد العلم ولا في أن تصير عالما معقولا موازيا للعالم الموجود بل لا بد لها من العمل وهو حب الله وعبادته فإن النفس لها قوتان : علمية وعملية فلا تصلح إلا بصلاح الأمرين ن وهو أن تعرف الله وتعبده
والجهمية هم خير من هؤلاء بكثير ومع هذا فلما قال جهم ومن واقفه : إن الإيمان مجرد المعرفة أنكر ذلك أئمة الإسلام ن حتى كفر من قال بهذا القول وكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وغيرهما
وهذا القول : وإن كان قد تابعه عليه الصالحي والأشعري في كثير من واكثر أصحابه فهو من أفسد الاقوال وابعدها عن الصحة كما قد بيناه في غير هذا الموضع لما بينا الكلام في مسمى الأيمان وقبوله للزيادة والنقصان وما للناس في ذلك من النزاع الوجه الثاني
وأما المقدمة الثانية : فلو كان كمال النفس في مجرد العلم فليس هو أي علم كان بأي معلوم كان بل هو الذي لا بد منه : العلم بالله وهؤلاء ظنوا أنه العلم بالوجود بما هوموجود وظنوا أن العالم أبدي ازلي فإذا حصل له العلم بالوجود الازلي الأبدي كملت نفسه
وعلى هذا بنى أبو يعقوب السجستاني وغيره من شيوخ الفلسفة والباطنية أقوالهم وكذلك أمثالهم من الفلاسفة كالفارابي وغيره وابن سينا وإن كان أقرب إلى الإسلام منهم ففيه من الإلحاد بحسبه وأبو حامد وإن سلك أحيانا مسلكهم لكنه لا يجعل العلم بمجرد الوجود موجبا للسعادة بل يجعل ذلك في العلم بالله وقد يقول في بعض كتبه : إنه العلم بالأمور الباقية وهذا كلامهم
فمن قال : إن العالم أزلي أبدي قال بقولهم ومن قال : إن كل ما سوى الله كان معدوما ثم وجد لم يلزمه ذلك وابن عربي وابن سبعين ونحوهما جمعوا بين المسلكين فصاروا يجعلون كمال النفس هو العلم بالوجود المطلق إن الله هو الوجود المطلق فأخذوا من طريقة الصوفية : أنه العلم بالله واخذوا من كلام هؤلاء : أنه العلم بالوجود المطلق وجمعوا بينهما فقالوا : إن الله هو الوجود المطلق الوجه الثالث
وأما المقدمة الثالثة : فزعمهم أنهم حصل لهم العلم بالوجود وهذا باطل فغن كلامهم في الإلهيات مع قلته فالضلال أغلب عليه من الهدى ن والجهل أكثر فيه من العلم وهي العلوم التي تبقى معلوماتها وتكمل النفوس بها عندهم
وهذه الأمور مبسوطة في غيرهذا الموضع ولكن نبهنا عليه هنا لأن مثل هذا الآمدي وأمثاله الذين عضموا طريقهم وصدروا كتبهم التي صنفوها في أصول دين الإسلام بزعمهم بما هو أصل هؤلاء الجهال : من أن كمال النفس الإنسانية بحصول ما لها من الكمالات وهي الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات وسلكوا طرقهم وقعوا في الجهل والحيرة والشك بما لا تحصل النجاة إلا به ولا تنال السعادة إلا بمعرفته فضلا عن نيل الكمال الذي هو فوق ذلك فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كمل من الرجال كثير ] فالكاملون من الرجال كثير ولكن الذين سلكوا طريق هؤلاء من أبعد الناس عن الكمال تقرير الآمدي لطريقة المتأخرين في إثبات واجب الوجود

. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَجَلًا دُونَ الْمَوْتِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ (1).
وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ : أَمَّا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَقَدْ أَتَاهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ }(2) .
وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَشْهَدُونَ الْقَدَرَ أَوَّلًا وَهِيَ الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ وَيَظُنُّونَ أَنَّ غَايَةَ الْعَارِفِ أَنْ يَشْهَدَ الْقَدَرَ وَيَفْنَى عَنْ هَذَا الشُّهُودِ ،وَذَلِكَ الْمَشْهَدُ لَا تَمْيِيزَ فِيهِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ وَمَحْبُوبَاتِ اللَّهِ وَمَكْرُوهَاتِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ .
وَقَدْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ : الْعَارِفُ شَهِدَ أَوَّلًا الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ ثُمَّ شَهِدَ طَاعَةً بِلَا مَعْصِيَةٍ - يُرِيدُ بِذَلِكَ طَاعَةَ الْقَدَرِ - كَقَوْلِ بَعْضِ شُيُوخِهِمْ : أَنَا كَافِرٌ بِرَبِّ يُعْصَى وَقِيلَ لَهُ عَنْ بَعْضِ الظَّالِمِينَ : هَذَا مَالُهُ حَرَامٌ فَقَالَ : إنْ كَانَ عَصَى الْأَمْرَ فَقَدْ أَطَاعَ الْإِرَادَةَ . ثُمَّ يَنْتَقِلُونَ " إلَى الْمَشْهَدِ الثَّالِثِ " لَا طَاعَةَ وَلَا مَعْصِيَةَ وَهُوَ مَشْهَدُ أَهْلِ الْوَحْدَةِ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ(3)
__________
(1) - مُعْجَمُ ابْنِ الْمُقْرِئِ برقم(720 ) والزهد لابن المبارك برقم(20 )
عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ : سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ : " يَا قَوْمُ الْمُدَاوَمَةَ ، الْمُدَاوَمَةَ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِ أَجَلًا دُونَ الْمَوْتِ وهو صحيح
(2) - وفي جامع معمر برقم(1035 ) عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ ، قَالَ : كَانَتْ أُمُّ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيَّةُ تَقُولُ : لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ ، اقْتَرَعَتِ الْأَنْصَارُ عَلَى سُكْنَتِهِمْ ، قَالَتْ : فَصَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي السُّكْنَى ، فَمَرِضَ ، فَمَرَّضْنَاهُ ثُمَّ تُوُفِّيَ ، فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقُلْتُ : رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ ، فَشَهَادَتِي أَنْ قَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ ؟ " ، فَقَالَتْ : لَا أَدْرِي وَاللَّهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَمَّا هُوَ فَقَدْ أَتَاهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ ، وَإِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي ، وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ ، مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ " ، قَالَتْ : فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي بَعْدَهُ أَحَدًا أَبَدًا ، قَالَتْ : ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْدُ لِعُثْمَانَ فِي النَّوْمِ عَيْنًا تَجْرِي ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " ذَلِكَ عَمَلُهُ " * وهو صحيح
(3) - جامع الرسائل - (ج 1 / ص 231)
حقيقة مذهب الاتحاديين أو وحدة الوجود وبيان بطلانه بالبراهين النقلية والعقلية
اعلم - هداك الله وأرشدك - أن تصور مذهب هؤلاء كاف في بيان فساده ولا يحتاج مع حسن التصور إلى دليل آخر، وإنما تقع الشبهة لأن أكثر الناس لا يفهمون حقيقة قولهم وقصدهم، لما فيه من الألفاظ المجملة والمشتركة، بل وهم أيضاً لا يفهمون حقيقة ما يقصدونه ويقولونه، ولهذا يتناقضون كثيراً في قولهم، وإنما يتخيلون شيئاً ويقولونه أو يتبعونه، ولهذا قد افترقوا بينهم على فرق، ولا يهتدون إلى التمييز بين فرقهم، مع استشعارهم أنهم مفترقون، ولهذا لما بينت لطوائف من أتباعهم ورؤسائهم حقيقة قولهم، وسر مذهبهم، صاروا يعظمون ذلك، ولولا ما أقرنه بذلك من الذم والرد لجعلوني من أئمتهم، وبذلوا لي من طاعة نفوسهم وأموالهم ما يجل عن الوصف، كما تبذله النصارى لرؤسائهم، والإسماعيلية لكبرائهم، وكما بذل آل فرعون لفرعون.
وكل من يقبل قول هؤلاء فهو أحد رجلين إما جاهل بحقيقة أمرهم، وإما ظالم يريد علواً في الأرض وفساداً، أو جامع بين الوصفين. وهذه حال أتباع فرعون الذين قال الله فيهم " فاستخف قومه فأطاعوه " وحال القرامطة مع رؤسائهم، وحال الكفار والمنافقين في أئمتهم الذين يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون " إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا " إلى آخر الآية وقوله " وألعنهم لعناً كبيرا " وقال تعالى " ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً - إلى قوله - وما هم بخارجين من النار " .
فصل
اعلم أن حقيقة قول هؤلاء أن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى ليس وجودها غيره ولا شيء سواه البتة، ولهذا من سماهم حلولية أو قال هم قائلون بالحلول رأوه محجوباً عن معرفة قولهم خارجاً عن الدخول إلى باطن أمرهم، لأن من قال أن الله يحل في المخلوقات فقد قال بأن المحل غير الحال، وهذا تثنية عندهم وإثبات لموجودين (أحدهما) وجود الحق الحال (والثاني) وجود المخلوق المحل وهم لا يقرون بإثبات وجودين البتة. ولا ريب أن هذا القول أقل كفراً من قولهم، وهو قول كثير من الجهمية الذين كان السلف يردون قولهم، وهم الذين يزعمون أن الله بذاته في كل مكان. وقد ذكره جماعات من الأئمة والسلف عن الجهمية وكفروهم به، بل جعلهم خلق من الأئمة - كابن المبارك ويوسف ابن اسباط وطائفة من أهل العلم والحديث من أصحاب أحمد وغيره - خارجين بذلك عن الثنتين والسبعين فرقة. وهو قول بعض متكلمة الجهمية وكثير من متعبديهم. ولا ريب إن إلحاد هؤلاء المتأخرين وتجهمهم وزندقتهم تفريع وتكميل لإلحاد هذه الجهمية الأولى وتجهمها وزندقتها.
وأما وجه تسميتهم اتحادية ففيه طريقان (أحدهما) لا يرضونه لأن الاتحاد على وزن الاقتران والاقتران يقتضي شيئين اتحد أحدهما بالآخر وهم لا يقرون بوجودين أبداً (والطريق الثاني) صحة ذلك بناء على أن الكثرة صارت وحدة كما سأبينه من اضطرابهم.
وهذه الطريقة إما على مذهب ابن عربي فإنه يجعل الوجود غير الثبوت ويقول أن وجود الحق قاض على ثبوت الممكنات، فيصح الاتحاد بين الوجود والثبوت وأما على قول من لا يفرق فيقول أن الكثرة الخيالية صارت وحدة بعد الكشف أو الكثرة العينية صارت وحدة إطلاقية.
فصل
ولما كان أصلهم الذي بنوا عليه أن وجود المخلوقات والمصنوعات حتى وجود الجن والشياطين والكافرين والفاسقين والكلاب والخنازير والنجاسات والكفر والفسوق والعصيان عين وجود الرب، لا أنه متميز عنه منفصل عن ذاته، وإن كان مخلوقاً له مربوباً مصنوعاً له قائماً به، وهم يشهدون أن في الكائنات تفرقاً وكثرة ظاهرة بالحس والعقل، فاحتاجوا إلى جمع يزيل الكثرة، ووحدة ترفع التفرق مع ثبوتها، فاضطربوا على ثلاث مقالات، أنا أبينها لك وإن كانوا هم لا يبين بعضهم مقالة نفسه ومقالة غيره لعدم كمال شهود الحق وتصوره.
المقالة الأولى -مقالة ابن عربي صاحب فصوص الحكم وهي مع كونها كفراً فهو أقربهم إلى الإسلام لما يوجد في كلامه من الكلام الجيد الكثير، ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره، بل هو كثير الاضطراب فيه، وإنما هو قائم مع خياله الواسع الذي يتخيل فيه الحق تارة والباطل أخرى. والله أعلم بما مات عليه. فإن مقالته مبنية على أصلين.
الأصل الأول لمذهب ابن عربي -أحدهما أن المعدوم شيء ثابت في العدم، موافقة لمن قال ذلك من المعتزلة والرافضة. وأول من ابتدع هذه المقالة في الإسلام أبو عثمان الشحام شيخ أبي علي الجبائي وتبعه عليها طوائف من القدرية المبتدعة من المعتزلة والرافضة، وهؤلاء يقولون أن كل معدوم يمكن وجوده فإن حقيقته وماهيته وعينه ثابتة في العدم، لأنه لولا ثبوتها لما تميز المعلوم المخبر عنه من غير المعلوم المخبر عنه، ولما صح قصد ما يراد إيجاده، لأن القصد يستدعي التمييز، والتمييز لا يكون إلا في شيء ثابت، لكن هؤلاء وإن ابتدعوا هذه المقالة التي هي باطلة في نفسها وقد كفرهم بها طوائف مت متكلمة السنة - فهم يعترفون بأن الله خلق وجودها، ولا يقولون أن عين وجودها عين وجود الحق. وأما صاحب الفصوص وأتباعه فيقولون: عين وجودها عين وجود الحق، فهي متميزة بذواتها الثابتة في العدم متحدة بوجود الحق العالم بها. وعامة كلامه ينبني على هذا لمن تدبره وفهمه.
وهؤلاء القائلون بأن المعدوم شيء ثابت في العدم سواء قالوا بأن وجودها خلق الله أو هو الله، يقولون إن الماهيات والأعيان غير مجعولة ولا مخلوقة وأن وجود كل شيء قدر زائد على ماهيته، وقد يقولون الوجود صفة للموجود.
وهذا القول وإن كان فيه شيه بقول القائلين بقدم العالم أو القائلين بقدم مادة العالم وهيولاه المتميزة عن صورته فلس هو إياه، وإن كان بينهما قدر مشترك، فإن هذه الصورة المحدثة من الحيوان والنبات والمعادن ليست قديمة باتفاق جميع العقلاء، بل هي كائنة بعد أن لم تكن، وكذلك الصفات والأعراض القائمة بأجسام السموات والاستحالات القائمة بالعناصر من حركات الكواكب والشمس والقمر والسحاب والمطر والرعد والبرق وغير ذلك، كل هذا حادث غير قديم، عند كل ذي حس سليم، فإنه يرى ذلك بعينه. والذين يقولون بأن عين المعدوم ثابتة في القدم أو بأن مادته قديمة يقولون بأن أعيان جميع هذه الأشياء ثابتة في القدم، ويقولون أن مواد جميع العالم قديمة دون صوره.
واعلم أن المذهب إذا كان باطلاً في نفسه لم يكن الناقد له أن ينقله على وجه يتصور تصوراً حقيقياً فإن هذا لا يكون إلا للحق. فأما القول الباطل فإذا بين فبيانه يظهر فساده، حتى يقال كيف اشتبه هذا على أحد ويتعجب من اعتقادهم إياه، ولا ينبغي للإنسان أن يعجب. فما من شيء يتخيل من أنواع الباطل إلا وقد ذهب إليه فريق من الناس. ولهذا وصف الله أهل الباطل بأنهم أموات وأنهم (صم بكم عمي) وأنهم (لا يفقهون، ولا يعقلون) وأنهم (في قول مختلف يؤفك عنه من أفك) وأنهم (في ريبهم يترددون) وأنهم (يعمهون).
وإنما نشأ - والله أعلم - الاشتباه على هؤلاء من حيث رأوا أن الله سبحانه يعلم ما لم يكن قبل كونه - أو (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) فرأوا أن المعدوم الذي يخلقه يتميز في علمه وإرادته وقدرته، فظنوا ذلك لتميز ذات له ثابتة وليس الأمر كذلك. وإنما هو متميز في علم الله وكتابه، والواحد منا يعلم الموجود والمعدوم الممكن والمعدوم المستحيل، ويعلم ما كان كآدم والأنبياء، ويعلم ما يكون كالقيامة والحساب، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كما يعلم ما أخبر الله عن أهل النار (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) وأنهم (لو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم) وأنه (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) وأنه (لو كان فيهما آلهة كما يقولون إذاً إلا ابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) وأنهم (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) وأنه (لولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً) ونحو ذلك من الجمل الشرطية التي يعلم فيها انتفاء الشرط أو ثبوته.
فهذه الأمور التي نعلمها نحن ونتصورها، إما نافين لها أو مثبتين لها في الخارج أو مترددين - ليس بمجرد تصورنا يكون لأعيانها ثبوت في الخارج عن علمنا وأذهاننا، كما نتصور جبل ياقوت وبحر زئبق وإنسانا من ذهب وفرساً من حجر. فثبوت الشيء في العلم والتقدير ليس هو ثبوت عينه في الخارج، بل العالم يعلم الشيء ويتكلم به ويكتبه وليس لذاته في الخارج ثبوت ولا وجود أصلاً. وهذا هو تقدير الله السابق لخلقه كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخميس ألف سنة " .
وفي سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب قال: رب وما أكتب؟ قال، اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة " وقال ابن عباس " إن الله خلق الخلق وعلم ما هو عاملون، ثم قال لعلمه " كن كتاباً " فكان كتاباً؟ ثم أنزل تصديق ذلك في كتابه فقال (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض، إن ذلك في كتاب) " .
وهذا هو معنى الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن ميسرة الفجر قال: قلت يا رسول الله متى كنت نبياً، وفي رواية متى كتبت نبياً؟ - قال " وآدم بين الروح والجسد " هكذا لفظ الحديث الصحيح. وما ما يرويه هؤلاء الجهال كابن عربي في الفصوص وغيره من جهال العامة " كنت نبياً وآدم بين الماء والطين " " كنت نبياً وآدم لا ماء ولا طين " فهذا لا أصل له ولم يروه أحد من أهل العلم الصادقين، ولا هو في شيء من كتب العلم المعتمدة بهذا اللفظ بل هو باطل، فإن آدم لم يكن بين الماء والطين قط فإن الله خلقه من تراب، وخلط التراب بالماء حتى صار طيناً ويبس الطين حتى صار صلصالاً كالفخار، فلم يكن له حال بين الماء والطين مركب من الماء والتراب، ولو قيل بين الماء والترب لكان أبعد عن المحال، مع أن هذه الحال لا اختصاص لها، وإنما قال " بين الروح والجسد " وقال " وإن آدم لمنجدل في طينته " لأن آدم بقي أربعين سنة قبل نفخ الروح فيه كما قال تعالى " هل أتى على الإنسان حين من الدهر " الآية وقال تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال) الآيتين. وقال تعالى (الذين أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) الآيتين وقال تعالى (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين) الآية. والأحاديث في خلق آدم ونفه الروح فيه مشهورة في كتب الحديث والتفسير وغيرهما.
فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه كان نبياً أي كتب نبياً وآدم بين الروح والجسد. وهذا والله أعلم لأن هذه الحالة فيها يقدر التقدير الذي يكون بأيدي ملائكة الخلق فيقدر لهم ويظهر لهم ويكتب ما يكون من المخلوق قبل نفخ الروح فيه، كما أخرج الشيخان في الصحيحين وفي سائر الكتب الأمهات حديث الصادق المصدوق وهو من الأحاديث المستفيضة التي تلقاها أهل العلم بالقبول وأجمعوا على تصديقها وهو حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقال: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح - وقال - فوالذي نفسي بيده أن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، وأن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة " فلما أخبر الصادق المصدوق أن الملك يكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد بعد خلق الجسد وقبل نفخ الروح، وآدم هو أبو البشر كان أيضاً من المناسب لهذا أن يكتب بعد خلق جسده وقبل نفخ الروح فيه ما يكون منه، ومحمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم فهو أعظم الذرية قدراً وأرفعهم ذكراً، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه كتب نبياً حينئذ، وكتابة نبوته هو معنى كون نبوته فإنه كون في التقدير الكتابي، ليس كوناً في الوجود العيني، إذ نبوته لم يكن وجودها حتى نبأه الله تعالى على رأس أربعين من عمره صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) الآية. وقال (ألم يجدك يتيماً فآوى) الآية. وقال (نحن نقص عليك أحسن القصص) الآية. ولذلك جاء هذا المعنى مفسراً في حديث العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إني عبد الله مكتوب خاتم النبيين وأن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول أمري: دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور أضاءت لها منه قصور الشام " هذا لفظ الحديث من رواية ابن وهب.
حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض رواه البغوي في شرح السنة هكذا، ورواه الليث بن سعد عنه نحوه، ورواه الإمام أحمد في المسند عن ابن مهدي: حدثنا معاوية بن صالح بالإسناد عن العرباض قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن عبد الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم " الحديث. وفيه " كذلك أمهات النبيين يرين " وقوله " لمنجدل في طينته " أي ملتف ومطروح على وجه الأرض صورة من طين لم تجر فيه الروح بعد.

وَهَذَا غَايَةُ إلْحَادِ الْمُبْتَدَعَةِ جهمية الصُّوفِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْقَرْمَطَةَ آخِرُ إلْحَادِ الشِّيعَةِ وَكِلَا الْإِلْحَادَيْنِ يَتَقَارَبَانِ . وَفِيهِمَا مِنْ الْكُفْرِ مَا لَيْسَ فِي دِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
- - - - - - - - - -
المصادر والمراجع العامة
أضواء البيان
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
الوسيط لسيد طنطاوي
تفسير ابن كثير
تفسير الرازي
تفسير السعدي
في ظلال القرآن
آيات الأسماء والصفات
التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة
الدرر السنية كاملة
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة
درء التعارض
شرروح الطحاوية
مختصر منهاج السنة النبوية
منهاج السنة النبوية
موسوعة اليهود واليهودية الصهيونية
أخبار مكة للأزرقي
السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي
المستدرك على الصحيحين للحاكم
سنن أبى داود
سنن ابن ماجه
سنن البيهقى
سنن الترمذى
سنن النسائى
صحيح البخارى
صحيح مسلم
مسند أحمد
مسند الحميدى
آداب الصحبة لأبي عبد الرحمن السلمي
الزهد لأحمد بن حنبل
الزهد والرقائق لابن المبارك
المنتقى - شرح الموطأ
بيان مشكل الآثار ـ الطحاوى
تأويل مختلف الحديث
جامع العلوم والحكم
حاشية السندي على ابن ماجه
شرح ابن بطال
شرح الأربعين النووية
شرح النووي على مسلم
شرح رياض الصالحين لابن عثيمين
شرح سنن ابن ماجه
فتح الباري لابن حجر
فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2
الدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة
فتاوى الأزهر
فتاوى الإسلام سؤال وجواب
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
فتاوى من موقع الإسلام اليوم
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم
فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ
فتاوى يسألونك
مجموع فتاوى ابن باز
مجموع فتاوى ابن تيمية
مجموع فتاوى و مقالات ابن باز
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين
الفقه الإسلامي وأصوله
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة
سبل السلام
نيل الأوطار
آداب الأكل
إحياء علوم الدين
الأذكار للنووي
بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية
غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب
ففروا إلى الله
موسوعة خطب المنبر
الفهرس العام
أسباب رفع العقوبة لشيخ الإسلام ابن تيمية
" أَحَدُهَا " التَّوْبَةُ
" السَّبَبُ الثَّانِي " الِاسْتِغْفَارُ :
" السَّبَبُ الثَّالِثُ " : الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ :
(( هل الحسنات تكفر الصغائر والكبائر ؟))
( السَّبَبُ الرَّابِعُ الدَّافِعُ لِلْعِقَابِ ) : دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُؤْمِنِ :
( السَّبَبُ الْخَامِسُ ) : مَا يُعْمَلُ لِلْمَيِّتِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ :
( السَّبَبُ السَّادِسُ ) : شَفَاعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرُهُ فِي أَهْلِ الذُّنُوبِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:
( السَّبَبُ السَّابِعُ ) : الْمَصَائِبُ الَّتِي يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهَا الْخَطَايَا فِي الدُّنْيَا:
( السَّبَبُ الثَّامِنُ ) : مَا يَحْصُلُ فِي الْقَبْرِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالضَّغْطَةِ وَالرَّوْعَةِ :
( السَّبَبُ التَّاسِعُ ) : أَهْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَرْبُهَا وَشَدَائِدُهَا .
( السَّبَبُ الْعَاشِرُ ) : رَحْمَةُ اللَّهِ وَعَفْوُهُ وَمَغْفِرَتُهُ بِلَا سَبَبٍ مِنْ الْعِبَادِ .
فَصْلٌ :قولان متناقضان في أهل الكبائر
المصادر والمراجع العامة

==========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج35.الدر المنثور في التفسير بالماثور عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي{ار الكتاب والحمد لله رب العالمين}

ج35.الدر المنثور في التفسير بالماثور عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ج35. كتاب الدر المنثور في التفسير بالماثور عبد الرحمن بن أبي بكر ال...