مصاحف م الكتاب الاسلامي روابط

مصاحف م الكتاب الاسلامي روابط
/ / / / / / /

Translate

الأربعاء، 27 أبريل 2022

ج1و2 و3... تاب:النبوات شيخ الإسلام ابن تيمية

 

المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية

النبوات

لابن تيمية

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله

فصل في معجزات الأنبياء التي هي آياتهم وبراهينهم كما سماها الله آيات

وبراهين
وللنظار طرق في التمييز بينها وبين غيرها وفي وجه دلالتها
أما الأول فان منهم من رأى أن كل ما يخرج عن الأمر المعتاد فانه معجزة وهو الخارق للعادة إذا إقترن بدعوى النبوة وقد علموا أن الدليل مستلزم للمدلول فيلزم أن يكون كل من خرقت له العادة نبيا فقالت طائفة لا تخرق العادة إلا لنبي وكذبوا بما يذكر من خوارق السحرة والكهان وبكرامات الصالحين وهذه طريقة أكثر المعتزلة وغيرهم كأبي محمد بن حزم وغيره بل يحكى هذا القول عن أبي إسحاق الاسفراييني وأبي محمد بن أبي زيد ولكن كأن في الحكاية عنهما غلطا وإنما أرادوا الفرق بين الجنسين وهؤلاء يقولون إن ما جرى لمريم وعند مولد الرسول فهو إرهاص أي توطئة وإعلام بمجيء الرسول فما خرقت في الحقيقة إلا لنبي فيقال لهم وهكذا الأولياء إنما خرقت لهم لمتابعتهم الرسول فكما أن ما تقدمه هو من معجزاته فكذلك ما تأخر عنه وهؤلاء يستثنون ما يكون أمام الساعة لكن هؤلاء كذبوا بما تواتر من الخوارق لغير الأنبياء والمنازع لهم يقول هي موجودة مشهودة لمن شهدها متواترة عند كثير من الناس أعظم مما تواترت عندهم بعض معجزات الأنبياء وقد شهدها خلق كثير لم يشهدوا معجزات الأنبياء فكيف يكذبون بما شهدوه ويصدقون بما غاب عنهم ويكذبون بما تواتر عندهم أعظم مما تواتر غيره
وقالت طائفة بل كل هذا حق وخرق العادة جائز مطلقا وكل ما خرق لنبي من العادات يجوز أن يخرق لغيره من الصالحين بل ومن السحرة والكهان لكن الفرق أن هذه تقترن بها دعوة النبوة وهو التحدي وقد يقولون إنه لا يمكن

أحد أن يعارضها بخلاف تلك وهذا قول من إتبع جهما على أصله في أفعال الرب من الجهمية وغيرهم حيث جوزوا أن يفعل كل ممكن فلزمهم جواز خرق العادات مطلقا على يد كل أحد واحتاجوا مع ذلك الى الفرق بين النبي وغيره فلم يأتوا بفرق معقول بل قالوا هذا يقترن به التحدي فمن إدعى النبوة وهو كاذب لم يجز أن يخرق الله له العادة أو يخرقها له ويكون دليلا على صدقه لما يقترن بها مما يناقض ذلك فان هذين قولان لهم فقيل لهم لم أوجبتم هذا في هذا الموضع دون غيره وأنتم لا توجبون على الله شيئا فقالوا لأن المعجزة علم الصدق فيمتنع أن تكون لغير صادق فالمجموع هو الممتنع وهو خارق العادة ودعوى النبوة أو هذان مع السلامة عن المعارض فقيل لهم ولم قلتم إنه علم الصدق على قولكم فقالوا إما لأنه يفضي منع ذلك إلى عجزه وإما لأنه علم دلالته على الصدق بالضرورة فقيل لهم إنما يلزم العجز لو كان التصديق على قولكم ممكنا وكون دلالتها معلومة بالضرورة هو مسلم لكنه يناقض أصولكم ويوجب أن يكون أحد الشيئين معلوما بالضرورة دون نظيره وهذا ممتنع فإنكم تقولون يجوز أن يخلق على يد مدعي النبوة والساحر والصالح لكن إن إدعى النبوة دلت على صدقه وإن لم يدع النبوة لم تدل على شيء مع أنه لا فرق عند الله بين أن يخلقها على يد مدعي النبوة وغير مدعي النبوة بل كلاهما جائز فيه فاذا كان هذا مثل هذا فلم كان أحدهما دليلا دون الآخر ولم إقترن العلم بأحد المتماثلين دون الآخر ومن أين علمتم أن الرب لا يخرقها مع دعوى النبوة إلا على يد صادق وأنتم تجوزون على أصلكم كل فعل مقدور وخلقها على يد الكذاب مقدور
ثم هؤلاء جوزوا كرامات الصالحين ولم يذكروا بين جنسها وجنس كرامات الأنبياء فرقا بل صرح أئمتهم أن كل ما خرق لنبي يجوز أن يخرق للأولياء حتى معراج محمد وفرق البحر لموسى وناقة صالح وغير ذلك ولم يذكروا بين المعجزة والسحر فرقا معقولا بل قد يجوزون أن يأتي الساحر بمثل ذلك لكن بينهما فرق دعوى النبوة وبين الصالح والساحر البر والفجور وحذاق الفلاسفة الذين تكلموا في هذا الباب مثل إبن سينا وهو أفضل طائفتهم ولكنه أجهل من تكلم

في هذا الباب فإنهم جعلوا ذلك كله من قوى النفس لكن الفرق أن النبي والصالح نفسه طاهرة يقصد الخير والساحر نفسه خبيثة وأما الفرق بين النبي والصالح فمتعذر على قول هؤلاء
ومن الناس من فرق بين معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء بفروق ضعيفه مثل قولهم الكرامة يخفيها صاحبها أو الكرامة لا يتحدى بها ومن الكرامات ما أظهرها أصحابها كإظهار العلاء بن الحضرمي المشي على الماء وإظهار عمر مخاطبة سارية على المنبر وإظهار أبي مسلم لما ألقي في النار أنها صارت عليه بردا وسلاما وهذا بخلاف من يدخلها بالشياطين فإنه قد يطفئها إلا أنها لا تصير عليه بردا وسلاما وإطفاء النار مقدور للإنس والجن ومنها ما يتحدى بها صاحبها أن دين الاسلام حق كما فعل خالد بن الوليد لما شرب السم وكالغلام الذي أتى الراهب وترك الساحر وأمر بقتل نفسه بسهمه باسم ربه وكان قبل ذلك قد خرقت له العادة فلم يتمكنوا من قتله ومثل هذا كثير
فيقال المراتب ثلاثة آيات الأنبياء ثم كرامات الصالحين ثم خوارق الكفار والفجار كالسحرة والكهان وما يحصل لبعض المشركين وأهل الكتاب والضلال من المسلمين أما الصالحون الذين يدعون إلى طريق الأنبياء لا يخرجون عنها فتلك خوارقهم من معجزات الأنبياء فإنهم يقولون نحن إنما حصل لنا هذا باتباع الانبياء ولو لم نتبعهم لم يحصل لنا هذا فهؤلاء إذا قدر أنه جرى على يد أحدهم ما هو من جنس ما جرى للأنبياء كما صارت النار بردا وسلاما على أبي مسلم كما صارت على إبراهيم وكما يكثر الله الطعام والشراب لكثير من الصالحين كما جرى في بعض المواطن للنبي صلى الله عليه و سلم أو إحياء الله ميتا لبعض الصالحين كما أحياه للأنبياء وهي أيضا من معجزاتهم بمنزلة ما تقدمهم من الإرهاص ومع هذا فالأولياء دون الأنبياء والمرسلين فلا تبلغ كرامات أحد قط مثل معجزات المرسلين كما أنهم لا يبلغون

في الفضيلة والثواب إلى درجاتهم ولكنهم قد يشاركونهم في بعضها كما قد يشاركونهم في بعض أعمالهم وكرامات الصالحين تدل على صحة الدين الذي جاء به الرسول لا تدل على أن الولي معصوم ولا على أنه تجب طاعته في كل ما يقوله ومن هنا ضل كثير من الناس من النصارى وغيرهم فان الحواريين وغيرهم كانت لهم كرامات كما تكون الكرامات لصالحي هذه الأمة فظنوا أن ذلك يستلزم عصمتهم كما يستلزم عصمة الأنبياء فصاروا يوجبون موافقتهم في كل ما يقولون وهذا غلط فان النبي وجب قبول كل ما يقول لكونه نبيا إدعى النبوة ودلت المعجزة على صدقه والنبي معصوم وهنا المعجزة ما دلت على النبوة بل على متابعة النبي وصحة دين النبي فلا يلزم أن يكون هذا التابع معصوما ولكن الذي يحتاج إلى الفرقان الفرق بين الأنبياء وأتباعهم وبين من خالفهم من الكفار والفجار كالسحرة والكهان وغيرهم حتى يظهر الفرق بين الحق والباطل وبين ما يكون دليلا على صدق صاحبه كمدعي النبوة وبين مالا يكون دليلا على صدق صاحبه فإن الدليل لا يكون دليلا حتى يكون مستلزما للمدلول متى وجد وجد المدلول وإلا فاذا وجد تارة مع وجود المدلول وتارة مع عدمه فليس بدليل فآيات الأنبياء وبراهينهم لا توجد إلا مع النبوة ولا توجد مع ما يناقض النبوة ومدعي النبوة إما صادق وإما كاذب والكذب يناقض النبوة فلا يجوز أن يوجد مع المناقض لها مثل ما يوجد معها وليس هنا شيء مخالف لها ولا مناقض فإن الكفر والسحر والكهانة كل ذلك يناقض النبوة لا يجتمع هو والنبوة
والناس رجلان رجل موافق لهم ورجل مخالف لهم فالمخالف مناقض وإذا كان كذلك فيقال جنس آيات الأنبياء خارجة عن مقدور البشر بل وعن مقدور جنس الحيوان وأما خوارق مخالفيهم كالسحرة والكهان فإنها من جنس أفعال الحيوان من الإنس وغيره من الحيوان والجن مثل قتل الساحر وتمريضه لغيره فهذا أمر مقدور معروف للناس بالسحر وغير السحر وكذلك ركوب المكنسة أو الخابية وغير ذلك حتى تطير به وطيرانه في الهواء من بلد إلى بلد هذا

فعل مقدور للحيوان فان الطير يفعل ذلك والجن تفعل ذلك وقد أخبر الله أن العفريت قال لسليمان أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وهذا تصرف في أعراض الحي فان الموت والمرض والحركة أعراض والحيوان يقبل في العادة مثل هذه الأغراض ليس في هذا قلب جنس إلى جنس ولا في هذا ما يختص الرب بالقدرة عليه ولا ما تختص به الملائكة وكذلك إحضار ما يحضر من طعام أو نفقة أو ثياب أو غير ذلك من الغيب وهذا إنما هو نقل مال من مكان إلى مكان وهذا تفعله الإنس والجن لكن الجن تفعله والناس لا يبصرون ذلك وهذا بخلاف كون الماء القليل نفسه يفيض حتى يصير كثيرا بأن ينبع من بين الأصابع من غير زيادة يزادها فهذا لا يقدر عليه أنسي ولا جني وكذلك الإخبار ببعض الأمور الغائبة مع الكذب في بعض الأخبار فهذا تفعله الجن كثيرا مع الكهان وهو معتاد لهم مقدور بخلاف اخبارهم بما يأكلون وما يدخرون مع تسمية الله على ذلك فهذا لا تظهر عليه الشياطين وبنو إسرائيل كانوا مسلمين يسمون الله وأيضا فخبر المسيح وغيره من الأنبياء ليس فيه كذب قط والكهان لا بد لهم من الكذب والرب قد أخبر في القرآن أن الشياطين تنزل على بعض الناس فتخبره ببعض الأمور الغائبة لكن ذكر الفرق فقال هل انبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون كذلك مسرى الرسول صلى الله عليه و سلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليريه الرب من آياته فخاصة الرسول ليست مجرد قطع هذه المسافة بل قطعها ليريه الرب من الآيات الغائبة ما يخبر به فهذا لا يقدر عليه الجن وهو نفسه لم يحتج بالمسرى على نبوته بل جعله مما يؤمن به فأخبرهم به ليؤمنوا به والمقصود إيمانهم بما أخبرهم من الغيب الذي رآه تلك الليلة وإلا فهم كانوا يعرفون المسجد الأقصى ولهذا قال وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن قال ابن عباس هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة أسري به وهذا كما قال في الآية ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى

لقد رأى من آيات ربه الكبرى وكذلك ما يخبر به الرسول من أنباء الغيب قال تعالى عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا فهذا غيب الرب الذي اختص به مثل علمه بما سيكون من تفصيل الأمور الكبار على وجه الصدق فان هذا لا يقدر عليه إلا الله والجن غايتها أن تخبر ببعض الأمور المستقبلة كالذي يسترقه الجن من السماء مع ما في الجن من الكذب فلا بد لهم من الكذب والذي يخبرون به هو مما يعلم بالمنامات وغير المنامات فهو من جنس المعتاد للناس وأما ما يخبر به الرسول من الأمور البعيدة الكبيرة مفصلا مثل إخباره إنكم تقاتلون الترك صغار الأعين ذلف الأنوف ينتعلون الشعر كأن وجوههم المجان المطرقة وقوله لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى ونحو ذلك فهذا لا يقدر عليه جني ولا إنسي والمقصود أن ما يخبر به غير النبي من الغيب معتاد معروف نظيره من الجن والإنس فهو من جنس المقدور لهم وما يخبر به النبي خارج عن قدرة هؤلاء وهؤلاء فهو من غيب الله الذي قال فيه فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول
والآيات الخارقة جنسان جنس في نوع العلم وجنس في نوع القدرة فما اختص به النبي من العلم خارج عن قدرة الإنس والجن وما اختص به من المقدورات خارج عن قدرة الإنس والجن وقدرة الجن في هذا الباب كقدرة الإنس لأن الجن هم من جملة من دعاهم الأنبياء إلى الإيمان وأرسلت الرسل اليهم قال تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا ومعلوم أن النبي اذا دعا الجن إلى الإيمان به فلا بد أن يأتي بآية خارجة عن مقدور الجن فلا بد أن تكون آيات الأنبياء خارجة عن مقدور الإنس والجن وما يأتي به الكاهن من خبر الجن وغايته أنه سمعه الجني لما استرق السمع مثل الذي يستمع إلى حديث قوم وهم له كارهون وما أعطاه الله سليمان مجموعه يخرج عن قدرة الانس والجن كتسخير الرياح والطير وأما الملائكة فالأنبياء لا تدعو الملائكة إلى الإيمان بهم بل الملائكة تنزل بالوحي على الأنبياء وتعينهم وتؤيدهم والخوارق التي تكون بأفعال الملائكة تختص بالأنبياء

وأتباعهم لا تكون للكفار والسحرة والكهان ولهذا أخبر الله تعالى أن الذي جاء بالقرآن ملك لا شيطان فقال إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم وقال نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين وقال قل نزله روح القدس من ربك بالحق وقال من كان عدوا لجبريل فانه نزله على قلبك باذن الله وقال هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون فينبغي أن يتدبر هذا الموضع وتعرف الفروق الكثيرة بين آيات الأنبياءوبين ما يشتبه بها كما يعرف الفرق بين النبي وبين المتنبي وبين ما يجيء به النبي وما يجيء به المتنبي فالفرق الحاصل بين صفات هذا وصفات هذا وأفعال هذا وأفعال هذا وأمر هذا وأمر هذا وخبر هذا وخبر هذا وآيات هذا وآيات هذا إذ الناس محتاجون الى هذا الفرقان أعظم من حاجتهم الى غيره والله تعالى يبينه وييسره ولهذا أخبر أنه أرسل رسله بالآيات البينات وكيف يشبه خير الناس بشر الناس ولهذا لما مثلوا الرسول بالساحر وغيره قال تعالى انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا
وقد تنازع الناس في الخوارق هل تدل على صلاح صاحبها وعلى ولايته لله والتحقيق أن من كان مؤمنا بالأنبياء لم يستدل على الصلاح بمجرد الخوارق التي قد تكون للكفار والفساق وإنما يستدل بمتابعة الرجل للنبي فيميز بين أولياء الله وأعدائه بالفروق التي بينها الله ورسوله كقوله ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون وقد علق السعادة بالإيمان والتقوى في عدة مواضع كقوله لما ذكر السحرة ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون وقوله عن يوسف نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون وقوله في قصة صالح

ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون وهذه طريقة الصحابة والسلف
أما دلالتها على ولاية المعين فالناس متنازعون هل الولي والمؤمن من مات على ذلك بحيث إذا كان مؤمنا تقيا وقد علم أنه يموت كافرا يكون في تلك الحال عدوا لله أو ينتقل من إيمان وولاية إلى كفر وعداوة وهما قولان معروفان فمن قال بالأول فالولي عنده كالمؤمن عند من علم أنه يموت على تلك الحال والخوارق لا تدل على ذلك ولذلك قال هؤلاء كالقاضي أبي بكر وأبي يعلى وغيرهما إنها لا تدل وأما من قال الولاية تتبدل فالولاية هنا كالايمان وقد يعلم أن الرجل مؤمن في الباطن تقي بدلائل كثيرة وقد يطلع الله بعض الناس على خاتمة غيره فهذا لا يمتنع لكن هذا مثل الشهادة لمعين بالجنة وفيها ثلاثة أقوال قيل لا يشهد بذلك لغير النبي وهو قول أبي حنيفة والأوزاعي وعلى بن المديني وغيرهم وقيل يشهد به لمن جاء به نص إن كان خبرا صحيحا كمن شهد له النبي بالجنة فقط وهذا قول كثير من أصحابنا وغيرهم وقيل يشهد به لمن استفاض عند الأمة أنه رجل صالح كعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وغيرهما وكان أبو ثور يشهد لاحمد بن حنبل بالجنة وقد جاء في الحديث الذي في المسند يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار قالوا بماذا يا رسول الله قال بالثناء الحسن والثناء السيء وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه و سلم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال وجبت وجبت ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال وجبت وجبت فقيل يا رسول الله ما قولك وجبت وجبت قال هذه الجنازة أثنيتم عليها الخير فقلت وجبت لها الجنة وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت وجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض وفي حديث آخر إذا سمعت جيرانك يقولون قد أحسنت فقد أحسنت وإذا سمعتهم يقولون قد أسأت فقد أسأت وسئل عن الرجل يعمل العمل لنفسه فيحمده الناس عليه فقال تلك عاجل بشرى المؤمن والتحقيق أن هذا قد يعلم بأسباب وقد يغلب على الظن ولا يجوز للرجل أن يقول بما لا يعلم ولهذا لما قالت أم العلاء الأنصارية لما قدم المهاجرون المدينة اقترعت الأنصار على سكناهم فصار لنا عثمان ابن مظعون في السكنى فمرض فمرضناه ثم توفي فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فدخل

فقلت رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي أن قد أكرمك الله قال النبي صلى الله عليه و سلم وما يدريك أن الله قد أكرمه قالت لا والله لا أدري فقال النبي صلى الله عليه و سلم أما هو فقد أتاه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم قالت فوالله لا أزكي بعده أحدا أبدا قالت ثم رأيت لعثمان بعد في النوم عينا تجري فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ذاك عمله
وأما من لم يكن مقرا بالأنبياء فهذا لا يعرف الولي من غيره إذ الولي لا يكون وليا إلا إذا آمن بالرسل لكن قد تدل الخوارق على أن هؤلاء على الحق دون هؤلاء لكونهم من أتباع الأنبياء كما قد يتنازع المسلمون والكفار في الدين فيؤيد الله المؤمنين بخوارق تدل على صحة دينهم كما صارت النار على أبي مسلم بردا وسلاما وكما شرب خالد السم وأمثال ذلك فهذه الخوارق هي من جنس آيات الأنبياء وقد يجتمع كفار ومسلمون ومبتدعة وفجار فيؤيد هؤلاء بخوارق تعينهم عليها الجن والشياطين ولكن جنهم وشياطينهم أقرب الى الإسلام فيترجحون بها على أولئك الكفار عند من لا يعرف النبوات كما يجري لكثير من المبتدعة والفجار مع الكفار مثل ما يجري للأحمدية وغيرهم مع عباد المشركين البخشية قدام التتار كانت خوارق هؤلاء أقوى لكونهم كانوا أقرب الى الاسلام وعند من هو أحق بالاسلام منهم لا تظهر خوارقهم بل تظهر خوارق من هو أتم إيمانا منهم وهذا يشبه رد أهل البدع على الكفار بما فيه بدعة فإنهم وإن ضلوا من هذا الوجه فهم خير من أولئك الكفار لكن من أراد أن يسلك إلى الله على ما جاء به الرسول يضره هؤلاء ومن كان جائرا نفعه هؤلاء بل كلام أبي حامد ينفع المتفلسف ويصير أحسن فان المتفلسف مسلم به إسلام الفلاسفة والمؤمن يصير به إيمانه مثل إيمان الفلاسفة وهذا بخلاف ذاك
والخوارق ثلاثة أنواع إما أن تعين صاحبها على البر والتقوى فهذه أحوال نبينا ومن أتبعه خوارقهم لحجة في الدين أو حاجة للمسلمين والثاني أن تعينهم

على مباحات كمن تعينه الجن على قضاء حوائجه المباحة فهذا متوسط وخوارقه لا ترفعه ولا تخفضه وهذا يشبه تسخير الجن لسليمان والأول مثل إرسال نبينا إلى الجن يدعوهم إلى الإيمان فهذا أكمل من إستخدام الجن في بعض الامور المباحة كاستخدام سليمان لهم في محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات قال تعالى يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور وقال تعالى ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير ونبينا صلى الله عليه و سلم أرسل اليهم يدعوهم إلى الإيمان بالله وعبادته كما أرسل إلى الإنس فاذا اتبعوه صاروا سعداء فهذا أكمل له ولهم من ذاك كما أن العبد الرسول أكمل من النبي الملك ويوسف وداود وسليمان أنبياء ملوك أما محمد فهو عبد رسول كابراهيم وموسى والمسيح وهذا الصنف أفضل وأتباعهم أفضل والثالث أن تعينه على محرمات مثل الفواحش والظلم والشرك والقول الباطل فهذا من جنس خوارق السحرة والكهان والكفار والفجار مثل أهل البدع من الرفاعية وغيرهم فانهم يستعينون بها على الشرك وقتل النفوس بغير حق والفواحش وهذه الثلاثة هي التي حرمها الله في قوله والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ويقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ولهذا كانت طريقهم من جنس طريق الكهان والشعراء والمجانين وقد نزه الله نبيه عن أن يكون مجنونا وشاعرا وكاهنا فإن إخبارهم بالمغيبات عن شياطين تنزل عليهم كالكهان وأقوى أحوالهم لمؤلهيهم وهم من جنس المجانين وقد قال شيخهم إن أصحاب الأحوال منهم يموتون على غير الاسلام وأما سماعهم ووجدهم فهو شعر الشعراء ولهذا شبههم من رآهم بعباد المشركين من الهند الذين يعبدون الأنداد
فصل وحقيقة الأمر أن ما يدل على النبوة هو آية على النبوة وبرهان عليها فلا بد أن يكون مختصا بها لا يكون مشتركا بين الأنبياء وغيرهم فإن الدليل هو مستلزم لمدلوله لا يجب أن يكون أعم وجودا منه بل إما أن يكون مساويا له في العموم والخصوص أو يكون أخص منه وحينئذ فآية النبي لا تكون لغير الأنبياء

لكن إذا كانت معتادة لكل نبي أو لكثير من الانبياء لم يقدح هذا فيها فلا يضرها أن تكون معتادة للأنبياء وكون الآية خارقة للعادة أو غير خارقة هو وصف لم يصفه القرآن والحديث ولا السلف وقد بينا في غير هذا الموضع أن هذا وصف لا ينضبط وهو عديم التأثير فإن نفس النبوة معتادة للأنبياء خارقة للعادة بالنسبة إلى غيرهم إن كون الشخص يخبره الله بالغيب خبرا معصوما هذا مختص بهم وليس هذا موجودا لغيرهم فضلا عن كونه معتادا فآية النبي لا بد أن تكون خارقة للعادة بمعنى أنها ليست معتادة للآدميين وذلك لأنها حينئذ لا تكون مختصة بالنبي بل مشتركة وبهذا احتجوا على أنه لا بد أن تكون خارقة للعادة لكن ليس في هذا ما يدل على أن كل خارق آية فالكهانة والسحر هو معتاد للسحرة والكهان وهو خارق بالنسبة إلى غيرهم كما أن ما يعرفه أهل الطب والنجوم والفقه والنحو هو معتاد لنظرائهم وهو خارق بالنسبة إلى غيرهم ولهذا إذا أخبر الحاسب بوقت الكسوف والخسوف تعجب الناس إذا كانوا لا يعرفون طريقه فليس في هذا ما يختص بالنبي وكذلك قراءة القرآن بعد أن بعث محمد صلى الله عليه و سلم صارت مشتركة بين النبي وغيره وأما نفس الإبتداء به فهو مختص بالنبي وكذلك ما يرويه من أنباء الغيب عن الأنبياء لما صار مشتركا بين النبي وغيره لم يبق آية بخلاف الابتداء فالكهانة مثلا وهو الإخبار ببعض الغائبات عن الجن أمر معروف عند الناس وأرض العرب كانت مملوءة من الكهان وإنما ذهب ذلك بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم وهم يكثرون في كل موضع نقص فيه أمر النبوة فهم كثيرون في أرض عباد الأصنام ويوجدون كثيرا عند النصارى ويوجدون كثيرا في بلاد المسلمين حيث نقص العلم والإيمان بما جاء به الرسول لأن هؤلاء أعداء الأنبياء والله تعالى قد ذكر الفرق بينهم وبين الأنبياء فقال هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون فهؤلاء لا بد أن يكون في أحدهم كذب وفجور وذلك يناقض النبوة فمن ادعى النبوة وأخبر بغيوب من جنس أخبار الكهان كان ما أخبر به خرقا للعادة عند أولئك القوم لكن ليس خرقا لعادة جنسه من الكهان وهم إذا جعلوا ذلك آية لنبوته كان ذلك لجهلهم

بوجود هذا الجنس لغير الأنبياء كالذين صدقوا مسيلمة الكذاب والأسود العنسي والحارث الدمشقي وبابا الرومي وغير هؤلاء من المتنبئين الكذابين وكان هؤلاء يأتون بأمور عجيبة خارقة لعادة أولئك القوم لكن ليست خارقة لعادة جنسهم ممن ليس بنبي فمن صدقهم ظن أن هذا مختص بالأنبياء وكان ذلك من جهله بوجود هذا لغير الأنبياء كما أنهم كانوا يأتون بأمور تناقض النبوة ولهذا يجب في آيات الأنبياء أن لا يعارضها من ليس بنبي فكل من عارضها صادرا ممن ليس من جنس الأنبياء فليس من أياتهم ولهذا طلب فرعون أن يعارض ما جاء به موسى لما ادعى أنه ساحر فجمع السحرة ليفعلوا مثل ما يفعل موسى فلا تبقى حجته مختصة بالنبوة وأمرهم موسى أن يأتوا أولا بخوارقهم فلما أتت وابتلعتها العصا التي صارت حية علم السحرة أن هذا ليس من جنس مقدورهم فآمنوا إيمانا جازما ولما قال لهم فرعون لأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا وقالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون فكان من تمام علمهم بالسحر أن السحر معتاد لأمثالهم وأن هذا ليس من هذا الجنس بل هذا مختص بمثل هذا فدل على صدق دعواه وفرعون وقومه بين معاند وجاهل استخفه فرعون كما قال تعالى فاستخف قومه فأطاعوه فاذا قيل لهم المعجزة هي الفعل الخارق للعادة أو قيل هي الفعل الخارق للعادة المقرون بالتحدي أو قيل مع ذلك الخارق للعادة السليم عن المعارضة فكونه خارقا للعادة ليس أمرا مضبوطا فإنه إن أريد به أنه لم يوجد له نظير في العالم فهذا باطل فإن آيات الأنبياء بعضها نظير بعض بل النوع الواحد منه كاحياء الموتى وهو آية لغير واحد من الأنبياء وإن قيل إن بعض الأنبياء كانت آيته لا نظير لها كالقرآن والعصا والناقة لم يلزم ذلك في سائر الآيات ثم هب أنه لا نظير لها في نوعها لكن وجد خوارق العادات للأنبياء غير هذا فنفس خوارق العادات معتاد جميعه للأنبياء بل هو من لوازم نبوتهم مع كون الأنبياء كثيرين وقد روي أنهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي وما يأتي به كل واحد من هؤلاء لا يكون معدوم النظير في العالم

بل ربما كان نظيره وإن عني بكون المعجزة هي الخارقة للعادة أنها خارقة لعادة أولئك المخاطبين بالنبوة بحيث ليس فيهم من يقدر على ذلك فهذا ليس بحجة فإن أكثر الناس لا يقدرون على الكهانة والسحر ونحو ذلك وقد يكون المخاطبون بالنبوة ليس فيهم هؤلاء كما كان أتباع مسيلمة والعنسي وأمثالهما لا يقدرون على ما يقدر عليه هؤلاء والمبرز في فن من الفنون يقدر على ما لا يقدر عليه أحد في زمنه وليس هذا دليلا على النبوة فكتاب سيبويه مثلا مما لا يقدر على مثله عامة الخلق وليس بمعجز إذ كان ليس مختصا بالأنبياء بل هو موجود لغيرهم وكذلك طب أبقراط بل وعلم العالم الكبير من علماء المسلمين خارج عن عادة الناس وليس هو دليلا على نبوته
وأيضا فكون الشيء معتادا هو مأخوذ من العود وهذا يختلف بحسب الأمور فالحائض المعتادة من الفقهاء من يقوم تثبت عادتها بمرة ومنهم من يقول بمرتين ومنهم من يقول لا تثبت إلا بثلاث وأهل كل بلد لهم عادات في طعامهم ولباسهم وأبنيتهم لم يعتدها غيرهم فما خرج عن ذلك فهو خارق لعادتهم لا لعادة من اعتاده من غيرهم فلهذا لم يكن في كلام الله ورسوله وسلف الامة وأئمتها وصف آيات الأنبياء بمجرد كونها خارقة للعادة ولا يجوز أن يجعل مجرد خرق العادة هو الدليل فان هذا لا ضابط له وهو مشترك بين الأنبياء وغيرهم ولكن إذا قيل من شرطها أن تكون خارقة للعادة بمعنى أنها لا تكون معتادة للناس فهذا ظاهر يعرفه كل أحد ويعرفون أن الأمر المعتاد مثل الأكل والشرب والركوب والسفر وطلوع الشمس وغروبها ونزول المطر في وقته وظهور الثمرة في وقتها ليس دليلا ولا يدعي أحد أن مثل هذا دليل له فان فساد هذا ظاهر لكل أحد ولكن ليس مجرد كونه خارقا للعادة كافيا لوجهين أحدهما أن كون الشيء معتادا وغير معتاد أمر نسبي إضافي ليس بوصف مضبوط تتميز به الآية بل يعتاد هؤلاء مالم يعتد هؤلاء مثل كونه مألوفا ومجربا ومعروفا ونحو ذلك من الصفات الإضافية الثاني أن مجرد ذلك مشترك بين الأنبياء وغيرهم وإذا خص ذلك بعدم المعارضة فقد يأتي الرجل بما لا يقدر الحاضرون على معارضته ويكون معتادا لغيرهم كالكهانة والسحر وقد يأتي بما

يمكن معارضته وليس بآية لشيء لكونه لم يختص بالأنبياء وقد يقال في طب أبقراط ونحو سيبويه إنه لا نظير له بل لا بد أن يقال إنه مختص بالأنبياء بل معروف أن هذا تعلم بعضه من غيره واستخرج سائره بنظره واذا خص الله طبيبا أو نحويا أو فقيها بما ميزه به على نظرائه لم يكن ذلك دليلا على نبوته وإن كان خارقا للعادة فان ما يقوله الواحد من هؤلاء قد علمه بسماع أو تجربة أو قياس وهي طرق معروفة لغير الأنبياء والنبي قد علمه الله من الغيب الذي عصمه الله فيه عن الخطأ ما لم يعلمه إلا نبي مثله فان قيل فحينئذ لا يعرف أن الآية مختصة بالنبي حتى تعرف النبوة قيل أما بعد وجود الأنبياء في العالم فهكذا هو ولهذا يبين الله عز و جل نبوة محمد في غير موضع باعتبارها بنبوة من قبله وتارة يبين أنه لم يرسل ملائكة بل رجالا من أهل القرى ليبين أن هذا معتاد معروف ليس هو أمرا لم تجر به عادة الرب كقوله تعالى وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون كما ذكره في سورة النحل والأنبياء وقال في يوسف وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي اليهم من اهل القرى أفلم يسيروا في الأرص فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون فان الكفار كانوا يقولون إنما يرسل الله ملكا أو يرسل مع البشر ملكا كما قال فرعون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين وقال قوم نوح ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لانزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين وقال مشركو العرب لمحمد ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا نزل عليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال تعالى وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا وقال تعالى وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم

لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون بين أنهم لا يطيقون الأخذ عن الملائكة إن لم يأتوا في صورة البشر ولو جاءوا في صورة لبشر لحصل اللبس وقال تعالى أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وكانت العرب لا عهد لها بالنبوة من زمن إسماعيل فقال الله لهم فاسألوا أهل الذكر يعني أهل الكتاب إن كنتم لا تعلمون هل أرسل اليهم رجالا أو ملائكة ولهذا قال له قل ما كنت بدعا من الرسل وقال وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل بين أن هذا الجنس من الناس معروف قد تقدم له نظراء وأمثال وهو سبحانه أمر أن يسأل أهل الكتاب وأهل الذكر عما عندهم من العلم في أمور الأنبياء هل هو من جنس ما جاء به محمد أو هو مخالف له ليتبين بإخبار أهل الكتاب المتواترة جنس ما جاءت به الأنبياء وحينئذ فيعرف قطعا أن محمدا نبي بل هو أحق بالنبوة من غيره والثاني أن يسألوهم عن خصوص محمد وذكره عندهم وهذا يعرفه الخاصة منهم ليس هو معروفا كالأول يعرفه كل كتابي قال تعالى قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله وقوله شهد شاهد ليس المقصود شاهدا واحدا معينا بل ولا يحتم كونه واحدا وقول من قال إنه عبد الله بن سلام ليس بشيء فان هذه نزلت بمكة قبل أن يعرف إبن سلام ولكن المقصود جنس الشاهد كما تقول قام الدليل وهو الشاهد الذي يجب تصديقه سواء كان واحدا قد يقترن بخبره ما يدل على صدقه أو كان عددا يحصل بخبرهم العلم بما تقول فان خبرك بهذا صادق وقوله على مثله فان الشاهد من بني إسرائيل على مثل القرآن وهو أن الله بعث بشرا وأنزل عليه كتابا أمر فيه بعبادة الله وحده لا شريك له ونهى فيه عن عبادة ما سواه واخبر فيه أنه خلق هذا العالم وحده وأمثال ذلك وقد ذكر في أول هذه السورة التوحيد وبين أن المشركين ليس معهم على الشرك لا دليل عقلي ولا سمعي فقال تعالى ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون قل أرأيتم ما تدعون

من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثرة من علم إن كنتم صادقين ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون واذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين قل أرأيتم أن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله الى آخره ومثل ذلك قوله تعالى ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب فمن عنده علم الكتاب شهد بما في الكتاب الأول وهو يوجب تصديق الرسول لانه يشهد بالمثل ويشهد أيضا بالعين وكل من الشهادتين كافية فمتى ثبت الجنس علم قطعا أن العين منه وقال تعالى فان كنت في شك مما أنزلنا اليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين وهذا سواء كان خطابا للرسول والمراد به غيره أو خطابا له وهو لغيره بطريق الأولى والمقدر قد يكون معدوما أو ممتنعا وهو بحرف ان كقوله قل ان كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين و إن كنت قلته فقد علمته والمقصود بيان الحكم على هذا التقدير إن كنت قلته فانت عالم به وبما في نفسي وإن كان له ولد فأنا عابده وان كنت شاكا فاسأل ان قدر امكان ذلك فسؤال الذين يقرءون الكتاب قبله اذا أخبروا فما عندهم شاهد له ودليل وحجة ولهذا نهى بعد ذلك عن الإمتراء والتكذيب وأما تقدير الممتنع بحرف ان فكثير ومن ذلك قوله فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية فإن كان لكم كيد فكيدون أم من يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا

براهانكم إن كنتم صادقين وقالوا لن يدخل الجنة الا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين وقد قال تعالى أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني اسرائيل وقال تعالى والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق وقال تعالى ان الذين أوتوا العلم من قبله اذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا وقال تعالى الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون واذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا وهذا كله في السور المكية والمقصود الجنس فاذا شهد جنس هؤلاء مع العلم بصدقهم حصل المطلوب لا يقف العلم على شهادة كل واحد واحد فان هذا متعذر ومن أنكر أو قال لا أعلم لم يضر إنكاره وإن قال بل أعلم عدم ما شهدوا به علم افتراؤه في الجنس وعلم في الشخص اذ كان لم يحط علما بجميع نسخ الكتب المتقدمة وما في النبوات كلها فلا سبيل لأحد من أهل الكتاب أن يعلم انتفاء ذكر محمد في كل نسخة نسخة بكل كتاب من كتب الأنبياء إذ العلم بذلك متعذر ثم هذه النسخ الموجود فيها ذكره في مواضع كثيرة قد ذكر قطعة منها في غير هذا الموضع ومما ينبغي أن يعلم أن أعظم ما كان عليه المشركون قبل محمد وفي مبعثه هو دعوى الشريك لله والولد والقرآن مملوء من تنزيه الله عن هذين وتنزيهه عن المثل والولد يجمع كل التنزيه فهذا في سورة الإخلاص وفي سورة الأنعام في مثل قوله وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون وفي سورة سبحان وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وفي سورة الكهف في أولها وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا وفي آخرها افحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء ولا يشرك بعبادة ربه أحدا وفي مريم تنزيهه عن الولد في أول السورة وآخرها ظاهر وعن الشريك في مثل قصة

إبراهيم وفي تنزيل وغير ذلك وفي الأنبياء تنزيهه عن الشريك والولد وكذلك في المؤمنين ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله وأول الفرقان الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وأما طه والشعراء مما بسط فيه قصة موسى فالمقصود الأعظم بقصة موسى إثبات الصانع ورسالته إذ كان فرعون منكرا ولهذا عظم ذكرها في القرآن بخلاف قصة غيره فإن فيها الرد على المشركين المقرين بالصانع ومن جعل له ولدا من المشركين وأهل الكتاب ومذهب الفلاسفة الملحدة دائر بين التعطيل وبين الشرك والولادة كما يقولونه في الإيجاب الذاتي فانه أحد أنواع الولادة وهم ينكرون معاد الأبدان وقد قرن بين هذا وهذا في الكتاب والسنة في مثل قوله ويقول الإنسان أإذا مامت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا إلى قوله وقالوا إتخذ الرحمن ولدا وهذه في سورة مريم المتضمنة خطاب النصارى ومشركي العرب لأن الفلاسفة داخلون فيهم فإن اليونان اختلطوا بالروم فكان فيها خطاب هؤلاء وهؤلاء وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يقول الله تعالى شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك فاما شتمه إياي فقوله إني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته رواه البخاري عن إبن عباس
ولما كان الشرك أكثر في بني آدم من القول بأن له ولدا كان تنزيهه عنه أكثر وكلاهما يقتضي إثبات مثل وند من بعض الوجوه فان الولد من جنس الوالد ونظير له وكلاهما يستلزم الحاجة والفقر فيمتنع وجود قادر بنفسه فالذي جعل لله شريكا لو فرض مكافئا لزم إفتقار كل منهما وهو ممتنع وإن كان غير مكافئ فهو مقهور والولد يتخذ المتخذ لحاجته إلى معاونته له كما يتخذ المال فان الولد إذا اشتد أعان والده قال تعالى قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض وقال تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا الى قوله ان كل من في السموات والارض إلا آت الرحمن

عبدا وقال تعالى وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والارض كل له قانتون فان كون المخلوق مملوكا لخالقه وهو مفتقر اليه من كل وجه والخالق غني عنه يناقض اتخاذ الولد لانه انما يكون لحاجته اليه في حياته أو ليخلفه بعد موته والرب غني عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير اليه وهو الحي الذي لا يموت والوالد في نفسه مفتقر الى ولد مخلوق لا حيلة له فيه بخلاف من يشتري المملوك فانه بإختياره ملكه ويمكنه إزالة ملكه فتعلقه به من جنس تعلقه بالاجانب والولادة بغير اختيار الوالد والرب يمتنع ان يحدث شيء بغير اختياره
واتخاذ الولد هو عوض عن الولادة لمن لم يحصل له فهو أنقص في الولادة ولهذا من قال بالإيجاب الذاتي بغير مشيئته وقدرته فقوله من جنس قول القائلين بالولادة الحاصلة بغير الاختيار بل قولهم شر من قول النصارى ومشركي العرب من بعض الوجوه كما قد بسط الكلام على هذا في تفسير قل هو الله أحد وغيره
والمقصود أن الله قال لمحمد قل ما كنت بدعا من الرسل وقال وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل فبين أن هذا الجنس من الناس معروف قد تقدم له نظراء وأمثال فهو معتاد في الآدميين وان كان قليلا فيهم وأما من جاءهم رسول ما يعرفون قبله رسولا كقوم نوح فهذا بمنزلة ما يبتدئه الله من الأمور وحينئذ فهو يأتي بما يختص به مما يعرفون أن الله صدقه في إرساله فهذا يدل على النوع والشخص وان كانت آيات غيره تدل على الشخص إذ النوع قد عرف قبل هذا فالمقصود أن آيته وبرهانه لا بد أن يكون مختصا بهذا النوع لا يجب أن يختص بواحد من النوع ولا يجوز أن يوجد لغير النوع وقد قلنا إن ما يأتي به أتباع الانبياء من ذلك هو مختص بالنوع فأنا نقول هذا لا يكون إلا لمن اتبع الأنبياء فصار مختصا بهم وأما ما يوجد لغير الانبياء وأتباعهم فهذا هو الذي لا يدل على النبوة كخوارق السحرة والكهان
وقد عرف الناس أن السحرة لهم خوارق ولهذا كانوا إذا طعنوا في نبوة نبي واعتقدوا علمه قالوا هو ساحر كما قال الملأ من قوم فرعون لموسى ان هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا

تأمرون وقال للسحرة لما آمنوا إنه لكبيركم الذي علمكم السحر و ان هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها كل هذا من كذب فرعون وكانوا يقولون يا أيها الساحر ادع لنا ربك وكذلك المسيح قال تعالى وإذ قال عيسى بن مريم يا بني اسرائيل إني رسول الله اليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين وقال تعالى عن كفار العرب وان يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وان نسبوه إلى عدم العلم قالوا مجنون كما قالوا عن نوح مجنون وازدجر وقالوا عن موسى ان رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون وقال عن مشركي العرب وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون انه لمجنون وقد قال تعالى كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون فالسحر أمر معتاد في بني آدم كما أن النبوة معتادة في بني آدم والمجانين معتادون فيهم فاذا قالوا عن الشخص انه مجنون فانه يعلم هل هو من العقلاء أو من المجانين بنفس ما يقوله ويفعله وكذلك يعرف هل هو من جنس الانبياء أو من جنس السحرة وكذلك لما قالوا عن محمد انه شاعر فان الشعراء جنس معروفون في الناس وقالوا إنه كاهن وشبهة الشعر أن القرآن كلام موزون والشعر موزون وشبهة الكهانة أن الكاهن يخبر ببعض الامور الغائبة فذكر الله تعالى الفرق بين هذين وبين النبي فقال هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون ثم قال والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وقال وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين وقال تعالى وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ولهذا لما عرض الكفار على كبيرهم الوحيد أن يقولوا للناس هو شاعر

ومجنون وساحر وكاهن صار يبين لهم أن هذه أقوال فاسدة وأن الفرق معروف بينه وبين هذه الأجناس
فالمقصود أن هذه الأجناس كلها موجودة في الناس معتادة معروفة وكل واحد منها يعرف بخواصه المستلزمة له وتلك الخواص آيات له مستلزمة له فكذلك النبوة لها خواص مستلزمة لها تعرف بها وتلك الخواص خارقة لعادة غير الانبياء وان كانت معتادة للانبياء فهي لا توجد لغيرهم فهذا هذا والله أعلم
فاذا أتى مدعي النبوة بالأمر الخارق للعادة الذي لا يكون إلا لنبي لا يحصل مثله لساحر ولا كاهن ولا غيرهما كان دليلا على نبوته وكل من الساحر والكاهن يستعين بالشياطين فان الكهان تنزل عليهم الشياطين تخبرهم والسحرة تعلمهم الشياطين قال تعالى واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما انزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر والساحر لا يتجاوز سحره الامور المقدورة للشياطين كما تقدم بيانه والساحر كما قال تعالى ولا يفلح الساحر حيث أتى وقال تعالى ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق فهم يعلمون أن السحر لا ينفع في الآخرة ولا يقرب إلى الله وأن من اشتراه ماله في الآخرة من خلاق فإن مبناه على الشرك والكذب والظلم مقصود صاحبه الظلم والفواحش وهذا مما يعلم بصريح العقل أنه من السيئات فالنبي لا يأمر به ولا يعمله يستعين على ذلك صاحبه بالشرك والكذب وقد علم بصريح العقل مع ما تواتر عن الانبياء أنهم حرموا الشرك فمتى كان الرجل يأمر بالشرك وعبادة غير الله أو يستعين على مطالبه بهذا وبالكذب والفواحش والظلم علم قطعا أنه من جنس السحرة لا من جنس الانبياء وخوارق هذا يمكن معارضتها وإبطالها من بني جنسه وغير بني جنسه وخوارق الانبياء لا يمكن غيرهم أن يعارضها ولا يمكن أحدا إبطالها لا من جنسهم ولا من غير جنسهم فإن الأنبياء يصدق بعضهم بعضا فلا يتصور أن نبيا يبطل معجزة آخر وإن أتى بنظيرها فهو يصدقه ومعجزة كل منهما آية له وللآخر أيضا

كما أن معجزات أتباعهم آيات لهم بخلاف خوارق السحرة فإنها إنما تدل على أن صاحبها ساحر يؤثر آثارا غريبة مما هو فساد في العالم ويسر بما يفعله من الشرك والكذب والظلم ويستعين على ذلك بالشياطين فمقصوده الظلم والفساد والنبي مقصوده العدل والصلاح وهذا يستعين بالشياطين وهذا بالملائكة وهذا يأمر بالتوحيد لله وعبادته وحده لا شريك له وهذا إنما يستعين بالشرك وعبادة غير الله وهذا يعظم إبليس وجنوده وهذا يذم إبليس وجنوده والإقرار بالملائكة والجن عام في بني آدم لم ينكر ذلك إلا شواذ من بعض الامم ولهذا قالت الامم المكذبة ولو شاء الله لأنزل ملائكة حتى قوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون قال قوم نوح ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة وقال فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون وفرعون وإن كان مظهرا لجحد الصانع فإنه ما قال فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين إلا وقد سمع بذكر الملائكة إما معترفا بهم وإما منكرا لهم فذكر الملائكة والجن عام في الأمم وليس في الأمم أمة تنكر ذلك إنكارا عاما وإنما يوجد إنكار ذلك في بعضهم مثل من قد يتفلسف فينكرهم لعدم العلم لا للعلم بالعدم فلا بد في آيات الانبياء من أن تكون مع كونها خارقة للعادة أمرا غير معتاد لغير الانبياء بحيث لا يقدر عليه إلا الله الذي أرسل الانبياء ليس مما يقدر عليه غير الانبياء لا بحيلة ولا عزيمة ولا استعانة بشياطين ولا غير ذلك ومن خصائص معجزات الانبياء أنه لا يمكن معارضتها فإذا عجز النوع البشري غير الانبياء عن معارضتها كان ذلك أعظم دليل على اختصاصها بالانبياء بخلاف ما كان موجودا لغيرها فهذا لا يكون آية البتة فأصل هذا أن يعرف وجود الانبياء في العالم وخصائصهم كما يعلم وجود السحرة وخصائصهم ولهذا من لم يكن عارفا بالانبياء من فلاسفة اليونان والهند وغيرهم لم يكن له فيهم كلام يعرف كما لم يعرف لارسطو وأتباعه فيهم كلام يعرف بل غاية

من أراد أن يتكلم في ذلك كالفارابي وغيره أن يجعلوا ذلك من جنس المنامات المعتادة ولما أراد طائفة كأبي حامد وغيره أن يقرروا إمكان النبوة على أصلهم احتجوا بأن مبدأ الطب ومبدأ النجوم ونحو ذلك كان من الانبياء لكون المعارف المعتادة لا تنهض بذلك وهذا إنما يدل على اختصاص من أتى بذلك بنوع من العلم وهذا لا ينكره عاقل وعلى هذا بنى ابن سينا أمر النبوة أنها من قوى النفس وقوى النفوس متفاوتة وكل هذا كلام من لا يعرف النبوة بل هو أجنبي عنها وهو أنقص ممن أراد أن يقرر أن في الدنيا فقهاء وأطباء وهو لم يعرف غير الشعراء فاستدل بوجود الشعراء على وجود الفقهاء والاطباء بل هذا المثال أقرب فإن بعد النبوة عن غير الانبياء أعظم من بعد الفقيه والطبيب عن الشاعر ولكن هؤلاء من أجهل الناس بالنبوة ورأوا ذكر الانبياء قد شاع فأرادوا تخريج ذلك على أصول قوم لم يعرفوا الانبياء
فان قيل موسى وغيره كانوا موجودين قبل أرسطو فان أرسطو كان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة وأيضا فقد قال الله تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين وقال إنا أرسلناك بالحق شيرا ونذيرا وان من أمة إلا خلا فيها نذير فهذا يبين أن كل أمة قد جاءها رسول فكيف لم يعرف هؤلاء الرسل قلت عن هذا جوابان أحدهما أن كثيرا من هؤلاء لم يعرفوا الرسل كما قال ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين فلم تبق أخبار الرسول وأقواله معروفة عندهم الثاني أنه قال تعالى تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم فاذا كان الشيطان قد زين لهم أعمالهم كان في هؤلاء من درست أخبار الأنبياء عندهم فلم يعرفوها وأرسطو لم يأت إلى أرض الشام ويقال ان الذين كانوا قبله كانوا يعرفون الانبياء لكن المعرفة المجملة لا تنفع كمعرفة قريش كانوا قد سمعوا بموسى وعيسى وابراهيم سماعا من غير معرفة بأحوالهم

وأيضا فهم وأمثالهم المشاءون أدركوا الاسلام وهم من أكفر الناس بما جاءت به الرسل إما أنهم لا يطلبون معرفة أخبارهم وما سمعوه حرفوه أو حملوه على أصولهم وكثير من المتفلسفة هم من هؤلاء فإذا كان هذا حال هؤلاء في ديار الاسلام فما الظن بمن كان ببلاد لا تعرف فيها شريعة نبي
بل طريق معرفة الانبياء كطريق معرفة نوع من الآدميين خصهم الله بخصائص يعرف ذلك من أخبارهم واستقراء أحوالهم كما يعرف الأطباء والفقهاء ولهذا إنما يقرر الرب تعالى في القرآن أمر النبوة وإثبات جنسها بما وقع في العالم من قصة نوح وقومه وهود وقومه وصالح وقومه وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وغيرهم فيذكر وجود هؤلاء وأن قوما صدقوهم وقوما كذبوهم ويبين حال من صدقهم وحال من كذبهم فيعلم بالاضطرار حينئذ ثبوت هؤلاء ويتبين وجود آثارهم في الارض فمن لم يكن رأى في بلدة آثارهم فليسر في الارض ولينظر آثارهم وليسمع أخبارهم المتواترة يقول الله تعالى وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ولهذا قال مؤمن آل فرعون لما أراد إنذار قومه يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ولهذا لما سمع ورقة بن نوفل والنجاشي وغيرهما القرآن قال ورقة بن نوفل هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى وقال النجاشي إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة فكان عندهم علم بما جاء به موسى اعتبروا به ولولا ذلك لم يعلموا هذا وكذلك الجن لما سمعت القرآن ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا

لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ولما أراد سبحانه تقرير جنس ما جاء به محمد قال إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصا فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا وقال تعالى وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذرأم القرى ومن حولها فهو سبحانه يثبت وجود جنس الانبياء ابتداء كما في السور المكية حيث يثبت وجود هذا الجنس وسعادة من اتبعه وشقاء من خالفه ثم نبوة عين هذا النبي تكون ظاهرة لأن الذي جاء به أكمل مما جاء به جميع الانبياء فمن أقر بجنس الانبياء كان إقراره بنبوة محمد في غاية الظهور أبين مما أقر أن في الدنيا نحاة وأطباء وفقهاء فإذا رأى نحو سيبويه وطب أبقراط وفقه الأئمة الاربعة ونحوهم كان إقراره بذلك من أبين الامور ولهذا كان من نازع من اهل الكتاب في نبوة محمد إما أن يكون لجهله بما جاء به وهو الغالب على عامتهم أو لعناده وهو حال طلاب الرياسة بالدين منهم والعرب عرفوا ما جاء به محمد فلما أقروا بجنس الانبياء لم يبق عندهم في محمد شك وجميع ما يذكره الله تعالى في القرآن من قصص الانبياء يدل على نبوة محمد بطريق الاولى إذ كانوا من جنس واحد ونبوته أكمل فينبغي معرفة هذا فإنه أصل عظيم ولهذا جميع مشركي العرب آمنوا به فلم يحتج أحد منهم أن تؤخذ منه جزية فإنهم لما عرفوا نبوته وأنه لا بد من متابعته أو متابعة اليهود والنصارى عرفوا أن متابعته أولى ومن كان من أهل الكتاب بعضهم آمن به وبعضهم لم يؤمن جهلا وعنادا وهؤلاء كان عندهم كتاب ظنوا استغناءهم به فلم يستقرئوا أخبار محمد وما جاء به خالين من الهوى بخلاف من لم يكن له كتاب فإنه نظر في الأمرين نظر خال من الهوى فعرف فضل ما جاء به محمد على ما جاء به غيره ولهذا لا تكاد توجد أمة لا كتاب لها يعرض عليها دين المسلمين واليهود والنصارى إلا رجحت دين المسلمين كما يجري لأنواع الامم التي لا كتاب لها فأهل الكتاب مقرون بالجنس منازعون في العين والمتفلسفة من

اليونان والهند منازعون في وجود كمال الجنس وإن أقروا ببعض صفات الانبياء فإنما أقروا منها بما لا يختص بالانبياء بل هو مشترك بينهم وبين غيرهم فلم يؤمن هؤلاء بالانبياء البتة هذا هو الذي يجب القطع به ولهذا يذكرون معهم ذكر الجنس الخارج عن أتباعهم فيقال قالت الانبياء والفلاسفة واتفقت الانبياء والفلاسفة كما يقال المسلمون واليهود والنصارى وقال أيضا رضي الله عنه

فصل ومن آياته نصر الرسل على قومهم

وهذا على وجهين تارة يكون بإهلاك الامم وإنجاء الرسل وأتباعهم كقوم نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وموسى ولهذا يقرن الله بين هذه القصص في سور الاعراف وهود والشعراء ولا يذكر معها قصة ابراهيم وإنما ذكر قصة ابراهيم في سورة الانبياء ومريم والعنكبوت والصافات فإن هذه السور لم يقتصر فيها على ذكر من أهلك من الامم بل في سورة الانبياء كان المقصود ذكر الانبياء ولهذا سميت سورة الانبياء فذكر فيها إكرامه للأنبياء وإن لم يذكر قومهم كما ذكر قصة داود وسليمان وايوب وذكر آخر الكل إن هذه أمتكم أمة واحدة وبدأ فيها بقصة إبراهيم إذ كان المقصود ذكر إكرامه للانبياء قبل محمد وابراهيم أكرمهم على الله تعالى وهو خير البرية وهو أبو أكثرهم إذ ليس هو أب نوح ولوط لكن لوط من أتباعه وأيوب من ذريته بدليل قوله في سورة الانعام ومن ذريته داود وسليمان وأيوب وأما سورة مريم فذكر الله تعالى فيها انعامه على الانبياء المذكورين فيها فذكر فيها رحمته زكريا وهبته يحيى وأنه ورث نبوته وغيرها من علم آل يعقوب وأنه آتاه الحكم صبيا وذكر بدء خلق عيسى وما اعطاه الله تعالى من تعليم الكتاب وهو التوراة النبوة وأن الله تعالى جعله مباركا أينما كان وغير ذلك وذكر قصة ابراهيم وحسن خطابه لأبيه وأن الله تعالى وهبه اسحاق ويعقوب نبيين ووهبه من رحمته وجعل له لسان صدق عليا ثم ذكر موسى وأنه خصه الله تعالى بالتقريب والتكليم ووهبه أخاه وغير ذلك وذكر اسماعيل

وأنه كان صادق الوعد وكأنه والله أعلم من ذلك أو أعظمه صدقه فيما وعد به أباه من صبره عند الذبح فوفى بذلك وذكر إدريس وأن الله تعالى رفعه مكانا عليا ثم قال أولئك الذين أنعم الله عليهم وأما سورة العنكبوت فإنه ذكر فيها امتحانه للمؤمنين ونصره لهم وحاجتهم الى الصبر والجهاد وذكر فيها حسن العاقبة لمن صبر وعاقبة من كذب الرسل فذكر قصة ابراهيم لانها من النمط الاول ونصرة الله له على قومه وكذلك سورة الصافات قال فيها ولقد ضل قبلهم أكثر الاولين ولقد أرسلنا فيهم منذرين فانظر كيف كان عاقبة المنذرين وهذا يقتضي أنها عاقبة رديئة إما بكونهم غلبوا وذلوا وإما بكونهم أهلكوا ولهذا ذكر فيها قصة إلياس ولم يذكرها في غيرها ولم يذكر هلاك قومه بل قال فكذبوه فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين وإلياس قد روي ان الله تعالى رفعه وهذا يقتضي عذابهم في الآخره فان إلياس لم يقم فيهم وإلياس المعروف بعد موسى من بني إسرائيل وبعد موسى لم يهلك المكذبين بعذاب الاستئصال وبعد نوح لم يهلك جميع النوع وقد بعث في كل أمة نذيرا والله تعالى لم يذكر قط عن قوم إبراهيم أنهم أهلكوا كما ذكر عن غيرهم بل ذكر أنهم ألقوه في النار فجعلها الله عليه بردا وسلاما وأرادوا به كيدا فجعلهم الله الأسفلين الأخسرين وفي هذا ظهور برهانه وآيته وأنه أظهره عليهم بالحجة والعلم وأظهره أيضا بالقدرة حيث أذلهم ونصره وهذا من جنس المجاهد الذي هزم عدوه وتلك من جنس المجاهد الذي قتل عدوه وابراهيم بعد هذا لم يقم بينهم بل هاجر وتركهم وأولئك الرسل لم يزالوا مقيمين بين ظهراني قومهم حتى هلكوا فلم يوجد في حق قوم ابراهيم سبب الهلاك وهو إقامته فيهم وانتظار العذاب النازل وهكذا محمد مع قومه لم يقم فيهم بل خرج عنهم حتى أظهره الله تعالى عليهم بعد ذلك ومحمد وابراهيم أفضل الرسل فإنهم إذا علموا الدعوة حصل المقصود وقد يتوب منهم من يتوب بعد ذلك كما تاب من قريش من تاب وأما حال إبراهيم فكانت الى الرحمة أميل فلم يسعى في هلاك قومه لا بالدعاء ولا بالمقام ودوام إقامة الحجة عليهم وقد قال تعالى وقال الذين كفروا لرسلهم

لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى اليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكنكم الارض من بعدهم وكان كل قوم لا يطلبون هلاك نبيهم الا عوقبوا وقوم ابراهيم أوصوله الى العذاب لكن جعله الله عليه بردا وسلاما ولم يفعلوا بعد ذلك ما يستحقون به العذاب أذ الدنيا ليست دار الجزاء التام وانما فيها من الجزاء ما تحصل به الحكمة والمصلحة كما في العقوبات الشرعية فمن أراد أعداؤه من أتباع الانبياء أن يهلكوه فعصمه الله وجعل صورة الهلاك نعمة في حقه ولم يهلك أعداءه بل أخزاهم ونصره فهو أشبه بإبراهيم واذا عصمه من كيدهم وأظهره حتى صارت الحرب بينه وبينهم سجالا ثم كانت العاقبة له فهو أشبه بحال محمد صلى الله عليه و سلم فان محمدا سيد الجميع وهو خليل الله كما أن ابراهيم خليله والخليلان هما أفضل الجميع وفي طريقتهما من الرأفة والرحمة ما ليس في طريقة غيرهما ولم يذكر الله عن قوم ابراهيم دينا غير الشرك وكذلك عن قوم نوح وأما عاد فذكر عنهم التجبر وعمارة الدنيا وقوم صالح ذكر عنهم الاشتغال بالدنيا عن الدين لم يذكر عنهم من التجبر ما ذكر عن عاد وإنما أهلكهم لما عقروا الناقة وأما أهل مدين فذكر عنهم الظلم في الاموال مع الشرك قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد أباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء وقوم لوط ذكر عنهم استحلال الفاحشة ولم يذكروا بالتوحيد بخلاف سائر الامم وهذا يدل على أنهم لم يكونوا مشركين وانما ذنبهم استحلال الفاحشة وتوابع ذلك وكانت عقوبتهم أشد إذ ليس في ذلك تدين بل شر يعلمون أنه شر وهذه الامور تدل على حكمة الرب وعقوبته لكل قوم بما يناسبهم فان قوم نوح أغرقهم اذ لم يكن فيهم خير يرجى

فصل في آيات الانبياء وبراهينهم

وهي الادلة والعلامات المستلزمة لصدقهم والدليل لا يكون إلا مستلزما للمدلول عليه مختصا به لا يكون مشتركا بينه وبين غيره فإنه يلزم من تحققه تحقق للمدلول وإذا انتفى المدلول انتفى هو فما يوجد مع وجود الشيء ومع عدمه لا يكون دليلا عليه بل الدليل لا يكون الا مع وجوده فما وجد مع النبوة تارة ومع عدم النبوة تارة لم يكن دليلا على النبوة بل دليلها ما يلزم من وجوده وجودها وهنا اضطرب

الناس فقيل دليلها جنس يختص بها وهو الخارق للعادة فلا يجوز وجوده لغير نبي لا ساحر ولا كاهن ولا ولي كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة وغيرهم كابن حزم وغيره وقيل بل الدليل هو الخارق للعادة بشرط الاحتجاج به على النبوة والتحدي بمثله وهذا منتف في السحر والكرامة كما يقول ذلك من يقوله من متكلمي أهل الاثبات كالقاضيين أبي بكر وأبي يعلى وغيرهما وقد بسط القاضي أبو بكر الكلام في ذلك في كتابه المصنف في الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانات والسحر والنيرنجيات وهؤلاء جعلوا مجرد كونه خارقا للعادة هو الوصف المعتبر وفرق بين أن يقال لا بد أن يكون خارقا للعادة وبين أن يقال كونه خارقا للعادة هو المؤثر فإن الاول يجعله شرطا لا موجبا والثاني يجعله موجبا وفرق بين أن يقال العلم والبيان وقراءة القرآن لا يكون إلا من حي وبين أن يقال كونه حيا يوجب أن يكون عالما قارئا ومن هنا دخل الغلط على هؤلاء وليس في الكتاب والسنة تعليق الحكم بهذا الوصف بل ولا ذكر خرق العادة ولا لفظ المعجز وانما فيه آيات وبراهين وذلك يوجب اختصاصها بالانبياء
وأيضا فقالوا في شرطها أن لا يقدر عليها إلا الله لا تكون مقدورة للملائكة ولا للجن ولا للإنس بأن يكون جنسها مما لا يقدر عليه إلا الله كاحياء الموتى وقلب العصا حية واذا كانت من أفعال العباد لكنها خارقة للعادة مثل حمل الجبال والقفز من المشرق الى المغرب والكلام المخلوق الذي يقدر على مثله البشر ففيه لهم قولان أحدهما أن ذلك يصح أن يكون معجزة والثاني أن المعجزة انما هي إقدار المخلوق على ذلك بأن يخلق فيه قدرة خارجة عن قدرته المعتادة وهذا اختيار القاضي أبي بكر ومن اتبعه كالقاضي أبي يعلى وظنوا أن هذا يوجب طرد قولهم إنها لا تكون مقدورة لغير الله بخلاف القول الاول فانه تقع فيه شبهة اذ كان الجنس معتادا وانما الخارق هو الكثير الخارج عن العادة وهذا الفرق الذي ذكره ضعيف فإنه إذا كان قادرا على اليسير فخرق العادة في قدرته حتى جعله قادرا على الكثير فجنس القدرة معتاد مثل جنس المقدور وانما خرقت العادة بقدرة خارجة عن العادة كما خرقت بفعل خارج عن القدرة وعنده أن خلق القدرة خلق

لمقدورها والقدرة عنده مع الفعل فلا فرق وهذا القول وهو أن المعجزة لا تكون إلا مقدورة للرب لا للعباد قول كثير من أهل الكلام من القدرية والمثبتة للقدر وغيرهم ثم انهم لما طولبوا بالدليل على أنه لا يجوز أن تقدر العباد على مثل إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ونحو ذلك مما ذكروا أنه يمتنع أن يكون مقدورا لغير الله اعتمدوا في الدلالة على أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده فلو جاز أن يكون العبد قادرا على هذه الامور لوجب أن لا يخلو من ذلك ومن ضده وهو العجز أو القدرة على ضد ذلك الفعل كما يقولونه في فعل العبد انه اذا لم يقدر على الفعل فلا بد أن يكون عاجزا أو قادرا على ضده هذا احتجاج من يقول القدرة مع الفعل والقدرة عنده لا تصلح للضدين كالاشعرية فيقول لا يخلو من القدرة أو العجز فهذه مقدمة والمقدمة الثانية ونحن لا نحس من أنفسنا عجزا عن إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ونحو هذه الامور لكنا غير قادرين عليها ولا يجوز أن نقدر عليها وهؤلاء يقولون لا يكون الشيء عاجزا إلا عما يصح أن يكون قادرا عليه بخلاف مالا يصح أن يكون قادرا عليه فلا يصح أن يكون عاجزا عنه ولهذا قالوا لا ينبغي أن تسمى هذه معجزات لان ذلك يقتضي أن الله أعجز العباد عنها وإنما يعجز العباد عما يصح قدرتهم عليه هذا كلام القاضي أبي بكر ومن وافقه وكلا المتقدمين دعوى مجردة لم يقم على واحدة منها حجة فكيف يجوز أن يكون الفرق بين المعجزة وغيرها مبنيا على مثل هذا الكلام الذي ينازعه فيه أكثر العقلاء ولو كان صحيحا لم يفهم إلا بكلفة ولا يفهمه إلا قليل من الناس فكيف اذا كان باطلا والذين آمنوا بالرسل لما رأوه وسمعوه من الآيات لم يتكلموا بمثل هذا الفرق بل ولا خطر بقلوبهم ولهذا لما رأى المتأخرون ضعف هذا الفرق كأبي المعالي والرازي والآمدي وغيرهم حذفوا هذا القيد وهو كون المعجزة مما ينفرد الباري بالقدرة عليها وقالوا كل حادث فهو مقدور للرب وأفعال العباد هي أيضا مقدورة للرب وهو خالقها والعبد ليس خالقا لفعله فالاعتبار بكونها خارقة للعادة قد استدل بها على النبوة وتحدى بمثلها فلم يمكن أحدا معارضته هذه القيود الثلاثة وحذفوا ذلك القيد وزعم القاضي أبو بكر أن ما يستدل به على أن المعجزات يمتنع دخولها تحت قدرة العباد لا

يصح على أصول القدرية وبسط القول في ذلك بكلام يصح بعضه دون بعض كعادته في أمثال ذلك ثم جعل هذا الفرق هو الفرق بين المعجزات وبين السحر والحيل فقال وأما على قولنا إن المعجز لا يكون إلا من مقدورات القديم ومما يستحيل دخوله ودخول مثله تحت قدرة العباد فاذا كان كذلك استحال أن يفعل أحد من الخلق شيئا من معجزات الرسل أو ما هو من جنسها لان المحتال إنما يحتال ويفعل ما يصح دخوله تحت قدرته دون ما يستحيل كونه مقدورا له قال وأما القائلون بأنه يجوز أن يكون في معجزات الرسل ما يدخل جنسه تحت قدرة العباد وان لم يقدروا على كثيره وما يخرق العادة منه فانهم يقولون قد علمنا انه لا حيلة ولا شيء من السحر يمكن أن يتوصل به الساحر والمشعبذ الى فعل الصعود في السماء ولا قفز من المشرق الى المغرب وقفز الفراسخ الكثيرة والمشي على الماء وحمل الجبال الراسيات هذا أمر لا يتم بحيلة محتال ولا سحر ساحر وتكلم على إبطال قول من قال ان السحر لا يكون إلا تخييلا لا حقيقة له وذكر أقوال العلماء والآثار عن الصحابة بأن الساحر يقتل بسحره وقول إنه يقتل حدا عند أكثرهم وقصاصا عند بعضهم ثم قال باب القول في الفصل بين المعجزة والسحر وهو لم يفرق بين الجنسين بل يجوز أن يكون ما هو معجزة للرسول يظهر على يد الساحر لكن قال الفرق هو تحدي الرسول بالاتيان بمثله وتقريع مخالفه بتعذر مثله عليه فمتى وجد الذي ينفرد الله بالقدرة عليه من غير تحد منه واحتجاج لنبوته بظهوره لم يكن معجزا واذا كان كذلك خرج السحر عن أن يكون معجزا ومشبها لآيات الانبياء وكان ما يظهر عند فعل الساحر من جنس بعض معجزات الرسل وما يفعله الله عند تحديهم به غير أن الساحر إذا احتج بالسحر وادعى به النبوة أبطله الله بوجهين أحدهما أن ينسيه عمل السحر أولا يفعل عند سحره شيئا في المسحور من موت أو سقم أو بغض ولم يخلق فيه الصعود الى جهة العلو والقدرة على الدخول في بقرة فاذا منعه هذه الاسباب بطل السحر والثاني أن الساحر تمكن معارضته فان أبواب السحر معلومة عند السحرة فاذا تحدى ساحر بشيء يفعل عند سحره لم يلبث أن يجد خلقا من السحرة يفعلون مثل فعله ويعارضونه بأدق وأبلغ مما أورده والرسول اذا ظهر عليه مثل ذلك وادعاه آية

له قال لهم هذا آيتي وحجتي ودليل ذلك أنكم لا تقدرون على مثله ولا يفعله الله في وقتي هذا ومع تحدي ومطالبتي بمثله عند سحر ساحر وفعل كاهن وقد كان يظهر من سحرتكم وكهانكم وهي آية لا تظهر اليوم على أحد من الخلق وان دق سحره وعظم في الكهانة علمه فاذا ظهر ذلك عليه وامتنع ظهور مثله على يد ساحر أو كاهن مع أنه قد كان يظهر من قبل صار هذا خرق عادة البشر وعادة السحرة والكهنة خاصة قال ولم يبعد أن يقال هذه الآية أعظم من غيرها وان لها فضل مزية ذكر هذا بعد أن قال فان قال قائل فاذا أجزتم أن يكون من عمل السحر ما يفعل الله عنده سقم الصحيح وموته ويفعل عنده بغض المحب وحب المبغض وبغض الوطن والرد اليه من السفر وضيق الصدر والعجز عن الوطء بالربط والشد الذي يعلمه السحرة والصعود في جهة العلو على خيط أو بعض الآلات في الفصل بين هذا وبين معجزات الرسل وكيف تنفصل مع ذلك المعجزات من السحر ويمكن الفرق بين النبي والساحر أو ليس لو قال نبي مبعوث أني أصعد على هذا الخيط نحو السماء وأدخل جوف هذه البقرة وأخرج وأني أفعل فعلا أفرق به بين المرء وزوجه وأفعل فعلا أقتل به هذا الحي وأسقم هذا الصحيح فهل كان يكون ذلك لو ظهر على يده آيه ودليلا على صدقه وما الفصل اذا بين السحر والمعجز ثم قال في الجواب يقال له جواب هذا قريب وذلك أنا قد بينا في صدر هذا الكتاب أن من حق المعجز ألا يكون معجزا حتى يكون واقعا من فعل الله على وجه خرق عادة البشر مع تحدي الرسول بالايتان الى آخر ما كتب
قلت هذا عمدة القوم ولهذا طعن الناس في طريقهم وشنع عليهم ابن حزم وغيره وذلك أن هذا الكلام مستدرك من وجوه
أحدها أنه إذا جوز أن يكون ما ينفرد الرب بالقدرة عليه على قوله يأتي به النبي تارة والساحر تارة ولا فرق بينهما إلا دعوى النبوة والاستدلال به والتحدي بالمثل فلا حاجة الى كونه مما انفرد الباري بالقدرة عليه لا سيما وقد ظهر ضعف الفرق بين ما يمتنع قدرة العباد عليه وما لا يمتنع ولهذا أعرض المتأخرون عن هذا القيد

الوجه الثاني وبه تنكشف حقيقة طريقهم انه على هذا لم تتميز المعجزات بوصف نختص به وانما امتازت باقترانها بدعوى النبوة وهذا حقيقة قولهم وقد صرحوا به فالدليل والبرهان إن استدل به كان دليلا وان لم يستدل به لم يكن دليلا وان اقترنت به الدعوى كان دليلا وان لم تقترن به الدعوى لم يكن دليلا عندهم ولهذا لم يجعلوا دلالة المعجز دلالة عقلية بل دلالة وضعية كدلالة الالفاظ بالاصطلاح وهذا مستدرك من وجوه منها أن كون آيات الانبياء مساوية في الحد والحقيقة لسحر السحرة أمر معلوم الفساد بالاضطرار من دين الرسل الثاني أن هذا من أعظم القدح في الانبياء إذا كانت آياتهم من جنس سحر السحرة وكهانة الكهان
الثالث أنه على هذا التقدير لا تبقى دلالة فان الدليل ما يستلزم المدلول ويختص به فاذا كان مشتركا بينه وبين غيره لم يبق دليلا فهؤلاء قدحوا في آيات الانبياء ولم يذكروا دليلا على صدقهم
الرابع أنه على هذا التقدير يمكن الساحر دعوى النبوة وقوله إنه عند ذلك يسلبه الله القدرة على السحر أو يأتي بمن يعارضه دعوى مجردة فان المنازع يقول لا نسلم أنه أذا ادعى النبوة فلا بد أن يفعل الله ذلك لا سيما على أصله وهو أن الله يجوز أن يفعل كل مقدور وهذا مقدور للرب فيجوز أن يفعله وادعى أن ما يخرق العادة من الامور الطبيعية والطلمسات هي كالسحر فقال ولاجل ذلك لم تلتبس آيات الرسل بما يظهر من جذب حجر المغناطيس وما يوجد ويكون عند كتب الطلمسات قال وذلك أنه لو ابتدأ نبي باظهار حجر المغناطيس لوجب أن يكون ذلك آية له ولو أن أحدا أخذ هذا الحجر وخرج الى بعض البلاد وادعى أنه آية له عند من لم يره ولم يسمع به لوجب أن ينقضه الله عليه بوجهين أحدهما أن يؤثر دواعي خلق من البشر الى حمل جنس تلك الحجارة الى ذلك البلد وكذلك سبيل الزناد الذي يقدح النار وتعرفه العرب وكذلك سبيل الطلمسات التي يقال انها تنفي الذباب والبق والحيات والوجه الآخر أن لا يفعل الله عند ذلك ما كان يفعله من قبل فيقال هذه دعوى مجردة
ومما يوضح ذلك الوجه الخامس وهو أن جعل قدح الزناد وجذب حجر

المغناطيس والطلمسات من جنس معجزات الانبياء وأنه لو بعث نبي ابتداء وجعل ذلك آية له جاز ذلك غلط عظيم وعدم علم بقدر معجزات الانبياء وآياتهم وهذا إنما أتاهم حيث جعلوا جنس الخارق هو الآية كما فعلت المعتزلة وأولئك كذبوا بوجود ذلك لغير الانبياء وهؤلاء ما أمكنهم تكذيب ذلك لدلالة الشرع والاخبار المتواترة والعيان على وجود حوادث من هذا النوع فجعلوا الفرق افتراق الدعوى والاستدلال والتحدي دون الخارق ومعلوم أن ما ليس بدليل لا يصير دليلا بدعوى المستدل أنه دليل وقد بسط الكلام في ذلك وجوز أن تظهر المعجزات على يد كاذب إذا خلق الله مثلها على يد من يعارضه فعمدته سلامتها من المعارضة بالمثل مع أن المثل عنده موجود وآيات الانبياء لها أمثال كثيرة لغير الانبياء لكن يقول إن من ادعى الإتيان فإما أن لا يظهرها الله على يديه وإما أن يقيض من يعارضه بمثلها هذا عمدة القوم وليس فرقا حقيقيا بين النبي والساحر وانما هو مجرد دعوى
وهذا يظهر بالوجه السادس وهو أن من الناس من ادعى النبوة وكان كاذبا وظهرت على يده بعض هذه الخوارق فلم يمنع منها ولم يعارضه أحد بل عرف أن هذا الذي أتى به ليس من آيات الانبياء وعرف كذبه بطرق متعددة كما في قصة الاسود العنسي ومسيلمة الكذاب والحارث الدمشقي وبابا الرومي وغير هؤلاء ممن ادعى النبوة فقولهم إن الكذاب لا يأتي بمثل هذا الجنس ليس كما ادعوه
الوجه السابع أنه إنما أوجب أن لا يظهر الله الخوارق على يد الكذاب لأن ذلك يفضي الى عجز الرب وهذه عمدة الاشعري في أظهر قوليه وهي المشهورة عند قدمائهم وهي التي سلكها القاضي أبو يعلى ونحوه قال القاضي أبو بكر فان قال قائل من القدرية فلم لا يجوز أن تظهر المعجزات على يد مدعي النبوة ليلبس بذلك على العباد ويضل به عن الدين وانتم تجوزون خلقه الكفر في قلوب الكفار وإضلالهم فما الفصل بين إضلالهم بهذا وبين اضلالهم باظهار المعجزات على يد الكاذبين قال فيقال لمن سأل عن هذا من القدرية الفصل بين الامرين ظاهر معلوم وقد نص القرآن والأخبار بأنه يضل ويهدي ويختم على القلوب والأسماع والأبصار فاما مطالبتهم بالفرق بين إضلال العباد بهذه الضروب من الأفعال وبين إضلالهم

بإظهار المعجزات على أيدي الكذابين فجوابه أنا لم تحل إضلالهم بهذا الضرب لأنه إضلال عن الدين او لقبحه من الله لو وقع أو لاستحقاقه الذم عليه تعالى عن ذلك أو لكونه ظالما لهم بالتكليف مع هذا الفعل كل ذلك باطل محال من تمويههم وإنما احلناه لأنه يوجب عجز القديم عن تمييز الصادق من الكادب وتعريفنا الفرق بين النبي والمتنبي من جهة الدليل إذ لا دليل في قول كل أحد أثبت النبوة على نبوة الرسل وصدقهم إلا ظهور أعلام المعجزة على أيديهم أو خبر من ظهرت المعجزة على يده عن نبوة آخر مرسل فهذا إجماع لا خلاف فيه فلو أظهر الله على يد المتنبي الكاذب ذلك لبطلت دلائل النبوة وخرجت المعجزات عن كونها دلالة على صدق الرسول ولوجب لذلك عجز القديم عن الدلالة على صدقهم ولما لم يجز عجزه وارتفاع قدرته عن بعض المقدورات لم يجز لذلك ظهور المعجزات على أيدي الكذابين بخلاف خلق الكفر في قلوب الكافرين
قلت هذا عمدة القوم والمتأخرون عرفوا ضعف هذا فلم يسلكوه كأبي المعالي والرازي وغيرهما بل سلكوا الجواب الآخر وهو أن العلم بالصدق عند المعجز يحصل ضرورة فهو علم ضروري وبين ضعف هذا الجواب مع أنه يحتج به وقال فهذا هذا من وجوه أحدها أن يقال إن كان الامر كما زعمتم فانما يلزم العجز إذا كان خلق الدليل دال على صدقهم جنسه لا يدل بل جنسه يقع مع عدم النبوة ولم يبق عندكم جنس من الادلة يخص النبوة فلم قلتم إن تصديقهم والحال هذه ممكن ولا ينفعكم هذا الاستدلال بالاجماع ونحوه من الادلة السمعية لان كلامكم مع منكري النبوات فيجب أن تقيموا عليهم كون المعجزات دليلا على صدق النبي وأما من أقر بنبوتهم بطريق غير طريقكم فإنه لا يحتاج الى كلامكم فاذا قال لكم منكرو النبوة لا نسلم إمكان طريق يدل على صدقهم لم يكن معكم ما يدل على ذلك وقد أورد هذا السؤال وأجاب عنه بأنه يمكنه تصديقهم بالقول والمعجزات تقوم مقام التصديق بالقول بل التصديق بالفعل أوكد وضرب المثل بمدعي الوكالة اذا قال قم أو اقعد ففعل ذلك عند استشهاد وكيله فان العقلاء كلهم يعلمون أنه أقام تلك الأفعال مقام القول

قلت وهذا يعود الى الاحتجاج بالطريقة الثانية وهي العلم بالتصديق ضرورة فلا حاجة الى طريقة المعجزات الثاني انه يمكن أن يخلق علما ضروريا بصدقهم وقد سلم القاضي أبو بكر ذلك لكن قال إذا اضطررنا الى العلم بصدق مدعي النبوة وأنه أرسله الينا كان في ضمن هذا العلم اضطراره لنا الى العلم بذاته والى أنه قد أرسل مدعي النبوة وإذا علمنا ذلك اضطرارا لم يكن للتكليف بالعلم بصدقه وجه وخرجنا بذلك عن أن نكون مكلفين بالعلم بالدين وهذا كلام يؤدي الى خروجنا عن حد المحنة والتكليف فيقال له اذا حصل العلم الضروري بوجود الخالق وبصدق رسوله كان التكليف بالاقرار بالصانع وعبادته وحده لا شريك له وبتصديق رسله وطاعة أمره وهذا هو الذي أمرت به الرسل أمرت الخلق أن يعبدوا الله وحده وأن يطيعوا رسله ولم يأمروا جميع الخلق بأن يكتسبوا علما نظريا بوجود الخالق وصدق رسله لكن من جحد الحق امروه بالاقرار به وأقاموا الحجة عليه وبينوا معاندته وأنه جاحد للحق الذي يعرفه وكذلك الرسول كانوا يعلمون أنه صادق ويكذبونه فليتدبر هذا الموضع فانه موضع عظيم الوجه الثالث أن يقال نحن نسلن أن المعجزات تدل على الصدق وأنه لا يجوز إظهارها على يد الكاذب لكن هو لأن الله منزه عن ذلك وأن حكمته تمنع ذلك ولا يجوز عليه كل فعل ممكن وأنتم مع تجويزكم عليه كل ممكن يلزمكم تجويز خلق المعجزة على يد الكاذب فما علم بالعقل والاجماع من امتناع ظهورها على يد الكاذب يدل على فساد أصلكم الوجه الرابع أن يقال لم قلتم إنه لا دليل على صدقهم إلا المعجزات وما ذكرتم من الاجماع على ذلك لا يصح الاستدلال به لوجهين أحدهما أنه لا إجماع في ذلك بل كثير من الطوائف يقولون إن صدقهم بغير المعجزات الثاني أنه لا يصح الاحتجاج بالاجماع في ذلك فان الاجماع إنما يثبت بعد ثبوت النبوة والمقدمات التي تعلم بها النبوة لا يحتج عليها بالاجماع وقولكم لا دليل سوى المعجز مقدمة ممنوعة وذكر عن الأشعري أنه ذكر جوابا آخر فقال وأيضا فإن قول القائل ما أنكرتم من جواز إظهار المعجزات على أيدي الكذابين قول متناقض والله على كل شيء قدير ولكن ما طالب السائل باجازته محال لا تصح القدرة عليه ولا العجز عنه لأنه بمنزلة كونه

أظهر المعجزات على أيديهم فانه أوجب أنهم صادقون لان المعجز دليل على الصدق ومتضمن له وقوله مع ذلك إنهم كاذبون نقض لقوله إنهم صادقون قد ظهرت المعجزات على أيديهم فوجب إحالة هذه المطالبة وصار هذا بمثابة قول من قال ما أنكرتم من صحة ظهور الأفعال المحكمة الدالة على علم فاعلها والمتضمنة لذلك من جهة الدليل من الجاهل بها في أنه قول باطل متناقض فيجب اذا كان الامر كذلك استحالة ظهور المعجزات على يدي الكاذبين واستحالة ثبوت قدرة قادر عليه وكيف يصح على هذا الجواب أن يقال ما أنكرتم وزعمتم أنه من فعل المحال الذي لا يصح حدوثه وتناول القدرة له هو من قبيل الجائز قياسا على صحة خلق الكفر وضروب الضلال التي يصح حدوثها وتناول القدرة لها قلت هذا كلام صحيح اذا علم أنها دليل الصدق يستحيل وجوده بدون الصدق والممتنع غير مقدور فيمتنع أن يظهر على أيدي الكاذبين ما يدل على صدقهم لكن المطالب يقول كيف يستقيم على أصلكم أن يكون ذلك دليل الصدق وهو أمر حادث مقدور وكل مقدور يصح عندكم أن يفعله الله ولو كان فيه من الفساد ما كان فانه عندكم لا ينزه عن فعل ممكن ولا يقبح منه فعل فحينئذ اذا خلق على يد الكاذب مثل هذه الخوارق لم يكن ممتنعا على أصلكم وهي لا تدل على الصدق البتة على أصلكم ويلزمكم إذا لم يكن دليل إلهي ألا يكون في المقدور دليل على صدق مدعي النبوة فيلزم أن الرب سبحانه لا يصدق أحدا ادعى النبوة واذا قلتم هذا ممكن بل واقع ونحن نعلم صدق الصادق اذا ظهرت هذه الاعلام على يده ضرورة قيل فهذا يوجب أن الرب لا يجوز عليه إظهارها على يد كاذب وهذا فعل من الأفعال هو قادر عليه وهو سبحانه لا يفعله بل هو منزه عنه فأنتم بين أمرين ان قلتم لا يمكنه خلقها على يد الكاذب وكان ظهورها ممتنعا فقد قلتم إنه لا يقدر على إحداث حادث قد فعل مثله وهذا تصريح بعجزه وأنتم قلتم فليست بدليل فلا يلزم عجزه فصارت دلالتها مستلزمة لعجزه على أصلكم وان قلتم يقدر لكنه لا يفعل فهذا حق وهو ينقض أصلكم وحقيقة الامر أن نفس ما يدل على صدق الصادق بمجموعه امتنع أن يحصل للكاذب وحصوله له ممتنع غير مقدور وأما خلق مثل تلك الخارقة على يد الكاذب فهو ممكن والله سبحانه وتعالى قادر عليه

لكنه لا يفعله لحكمته كما أنه سبحانه يمتنع عليه أن يكذب أو يظلم والمعجز تصديق وتصديق الكاذب هو منزه عنه والدال على الصدق قصد الرب تصديق الصادق وهذا القصد يمتنع حصوله للكاذب فيمتنع جعل من ليس برسول رسولا وجعل الكاذب صادقا ويمتنع من الرب قصد المحال وهو غير مقدور وهو اذا صدق الصادق بفعله علم بالاضطرار والدليل أنه صدقه وهذا العلم يمتنع حصوله للكاذب واستشهادكم بالعلم هو من هذا الباب فانتم تقولون إن الرب لا يخلق شيئا لشيء وحينئذ فلا يكون قاصدا لما في المخلوقات من الإحكام فلا يكون الإحكام دالا على العلم على أصلكم فان الإحكام إنما هو جعل الشيء محصلا للمطلوب بحيث يجعل لأجل ذلك المطلوب وهذا عندهم لا يجوز فاثباته علمه وتصديق رسله مشروط بأن يفعل شيئا لشيء وهذا عندكم لا يجوز فلهذا يقال إنكم متناقضون والله سبحانه وتعالى أعلم
الوجه الثامن أن حقيقة الامر على قول هؤلاء الذين جعلوا المعجزة الخارق مع التحدي أن المعجز في الحقيقة ليس الا منع الناس من المعارضة بالمثل سواء كان المعجز في نفسه خارقا أو غير خارق وكثير مما يأتي به الساحر والكاهن أمر معتاد لهم وهم يجوزون أن يكون آية للنبي واذا كان آية منع الله الساحر والكاهن من مثل ما كان يفعل أو قيض له من يعارضه وقالوا هذا أبلغ فانه منع المعتاد وكذلك عندهم أحد نوعي المعجزات منعهم من الأفعال المعتادة وهو مأخذ من يقول بالصرفة واذا كان كذلك جاز أن يكون كل أمر كالأكل والشرب والقيام والقعود معجزة اذا منعهم أن يفعلوا كفعله وحينئذ فلا معنى لكونها خارقا ولا لاختصاص الرب بالقدرة عليها بل الاعتبار بمجرد عدم المعارضة وهم يقرون بخلاف ذلك والله أعلم
الوجه التاسع أنه اذا كانت المعجزة هي مجموع دعوى الرسالة مع التحدي فلا حاجة الى كونه خارقا كما تقدم ويجب اذا تحدى بالمثل أن يقول فليأت بمثل القرآن من يدعي النبوة فإن هذا هو المعجز عندهم وإلا كان القرآن مجردا ليس بمعجز فلا يطلب مثل القرآن إلا ممن يدعي النبوة كما في الساحر والكاهن اذا ادعى النبوة سلبه الله ذلك او قيض له من يعارضه وإذا لم يدع النبوة جاز أن يظهر على يده مثل ما يظهر على يد النبي فكذلك يلزمهم مثل هذا في القرآن وسائر المعجزات والله أعلم

فصل في أن الرسول لا بد أن يبين أصول الدين

وهي البراهين الدالة على أن ما يقوله حق من الخبر والأمر فلا بد أن يكون قد بين الدلائل على صدقه في كل ما أخبر ووجوب طاعته في كل ما أوجب وأمر ومن أعظم أصول الضلال الإعراض عن بيان الرسول للأدلة والآيات والبراهين والحجج فإن المعرضين عن هذا إما أن يصدقوه ويقبلوا قوله ويؤمنوا به بلا دليل أصلا ولا علم وإما أن يستدلوا على ذلك بغير أدلته فان لم يكونوا عالمين بصدقه فهم ممن يقال له في قبره ما قولك في هذا الرجل الذي بعث فيكم فأما المؤمن أو الموقن فيقول هو عبد الله ورسوله جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه وأما المنافق أو المرتاب فيقول هاء هاء لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين وان استدل على ذلك بغير الآيات والأدلة التي دعا بها الناس فهو مع كونه مبتدعا لا بد أن يخطئ ويضل فان ظن الظان أنه بأدلة وبراهين خارجة عما جاء به تدل على ما جاء به فهو من جنس ظنه أنه يأتي بعبادات غير ما شرعه توصل الى مقصوده وهذا الظن وقع فيه طوائف من النظار الغالطين أصحاب الاستدلال والاعتبار والنظر كما وقع في الظن الاول طوائف من العباد الغالطين أصحاب الارادة والمحبة والزهد وقوله صلى الله عليه و سلم في خطبته يوم الجمعة خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة يتناول هذا وهذا وقد أرى الله تعالى عباده الآيات في الآفاق وفي أنفسهم حتى تبين لهم أن ما قاله هو حق فأن أرباب العبادة والمحبة والارادة والزهد الذين سلكوا غير ما أمروا به ضلوا كما ضلت النصارى ومبتدعة هذه الأمة من العباد وأرباب النظر والاستدلال الذين سلكوا غير دليله وبيانه أيضا ضلوا قال تعالى فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى

قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وفي الكلام المأثور عن الإمام أحمد أصول الاسلام أربعة دال ودليل ومبين ومستدل فالدال هو الله والدليل هو القرآن والمبين هو الرسول قال الله تعالى لتبين للناس ما نزل اليهم والمستدل هم أولو العلم وأولو الألباب الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم وقد ذكره ابن المنى عن أحمد وهو مذكور في العدة للقاضي أبي يعلى وغيرها إما أن أحمد قال له أو قيل له فاستحسنه ولهذا صار كثير من النظار يوجبون العلم والنظر والاستدلال وينهون عن التقليد ويقول كثير منهم إن ايمان المقلد لا يصح أو أنه وان صح لكنه عاص بترك الاستدلال ثم النظر والاستدلال الذي يدعون إليه ويوجبونه ويجعلونه أول الواجبات وأصل العلم هو نظر واستدلال ابتدعوه ليس هو المشروع لا خبرا ولا أمرا وهو استدلال فاسد لا يوصل الى العلم فانهم جعلوا أصل العلم بالخالق هو الاستدلال على ذلك بحدوث الأجسام والاستدلال على حدوث الأجسام بأنها مستلزمة للأعراض لا تخلو عنا ولا تنفك منها ثم استدلوا على حدوث الاعراض قالوا فثبت أن الأجسام مستلزمة للحوادث لا تخلو عنها فلا تكون مثلها ثم كثير منهم قالوا وما لم يخل من الحوادث أو ما لم يسبق الحوادث فهو حادث وظن أن هذه مقدمة بديهية معلومة بالضرورة لا يطلب عليها دليل وكان ذلك بسبب أن لفظ الحوادث يشعر بان لها ابتداء كالحادث المعين والحوادث المحدودة ولو قدرت ألف ألف ألف حادث فإن الحوادث اذا جعلت مقدرة محدودة فلا بد أن يكون لها ابتداء فإن مالا ابتداء له ليس له حد معين ابتدأ منه اذ قد قيل لا ابتداء له بل هو قديم أزلي دائم ومعلوم أن هذه الحوادث مالم يسبقها فهو حادث فإنه يكون إما معها وإما بعدها وكثير منهم يفطن للفرق بين جنس الحوادث وبين الحوادث المحدودة فالجنس مثل أن يقال ما زالت الحوادث توجد شيئا بعد شيء أو ما زال جنسها موجودا أو ما زال الله متكلما اذا شاء او ما زال الله فاعلا لما يشاء أو ما زال قادرا على أن يفعل قدرة يمكن معها اقتران المقدور بالقدرة لا تكون قدرة يمتنع معها المقدور فان هذه في

الحقيقة ليست قدرة ومثل أن يقال في المستقبل لا بد أن الله يخلق شيئا بعد شيء ونعيم أهل الجنة دائم لا يزول ولا ينفد وقد يقال في النوعين كلمات الله لا تنفذ ولا نهاية لها لا في الماضي ولا في المستقبل ونحو ذلك فالكلام في دوام الجنس وبقائه وأنه لا ينفد ولا ينقضي ولا يزول ولا ابتداء له غير الكلام فيما يقدر محدودا له ابتداء أوله ابتداء وانتهاء فإن كثيرا من النظار من يقول جنس الحوادث إذا قدر له ابتداء وجب أن يكون له انتهاء لأنه يمكن فرض تقدمه على ذلك الحد فيكون أكثر مما وجد ومالا يتناهى لا يدخله التفاضل فإنه ليس وراء عدم النهاية شيء أكثر منها بخلاف مالا ابتداء له ولا انتهاء فإن هذا لا يكون شيء فوقه فلا يفضي الى التفاضل فيما لا يتناهى وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا أن هؤلاء جعلوا هذا أصل دينهم وإيمانهم وجعلوا النظر في هذا الدليل هو النظر الواجب على كل مكلف وأنه من لم ينظر في هذا الدليل فاما أنه لا يصح إيمانه فيكون كافرا على قول طائفة منهم وإما أن يكون عاصيا على قول آخرين وأما إن يكون مقلدا لا علم له بدينه لكنه ينفعه هذا التقليد ويصير به مؤمنا غير عاص والأقوال الثلاثة باطلة لأنها مفرعة على أصل باطل وهو أن النظر الذي هو أصل الدين والايمان هو هذا النظر في هذا الدليل فان علماء المسلمين يعلمون بالاضطرار أن الرسول لم يدع الخلق بهذا النظر ولا بهدا الدليل لا عامة الخلق ولا خاصتهم فامتنع أن يكون هذا شرطا في الايمان والعلم وقد شهد القرآن والرسول لمن شهد له من الصحابة وغيرهم بالعلم وأنهم عالمون بصدق الرسول وبما جاء به وعالمون بالله وبأنه لا إله إلا الله ولم يكن الموجب لعلمهم هذا الدليل المعين كما قال تعالى ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل اليك من ربك هو الحق ويهدي الى صراط العزيز الحميد وقال شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط وقال أفمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى
وقد وصف باليقين والهدى والبصيرة في غير موضع كقوله وبالآخرة هم يوقنون وقوله أولئك على هدى من ربهم وقوله قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني

وأمثال ذلك فتبين أن هذا النظر والاستدلال الذي أوجبه هؤلاء وجعلوه أصل الدين ليس مما أوجبه الله ورسوله ولو قدر أنه صحيح في نفسه وأن الرسول أخبر بصحته لم يلزم من ذلك وجوبه اذ قد يكون المطلوب أدلة كثيرة ولهذا طعن الرازي وأمثاله على أبي المعالي في قوله إنه لا يعلم حدوث العالم إلا بهذا الطريق وقالوا هب أنه يدل على حدوث العالم فمن أين يجب أن لا يكون ثم طريق آخر وسلكوا هم طرقا أخر فلو كانت هذه الطريق صحيحة عقلا وقد شهد لها الرسول والمؤمنون الذين لا يجتمعون على ضلالة بأنها طريق صحيحة لم تتعين مع إمكان سلوك طرق أخرى كما أنه في القرآن سور وآيات قد ثبت بالنص والاجماع أنها من آيات الله الدالة على الهدى ومع هذا فاذا اهتدى الرجل بغيرها وقام بالواجب ومات ولم يعلم بها ولم يتمكن من سماعها لم يضره كالآيات المكية التي اهتدى بها من آمن ومات في حياة النبي صلى الله عليه و سلم قبل أن ينزل سائر القرآن فالدليل يجب طرده ولا يجب عكسه ولهذا أنكر كثير من العلماء على هؤلاء ايجاب سلوك هذه الطريق مع تسليمهم أنها صحيحة كالخطابي والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وغيرهم والأشعري نفسه أنكر على من أوجب سلوكها أيضا في رسالته إلى أهل الثغر مع اعتقاده صحتها واختصر منها طريقة ذكرها في أول كتابه المشهور المسمى باللمع في الرد على أهل البدع وقد اعتنى به أصحابه حتى شرحوه شروحا كثيرة والقاضي أبو بكر شرحه ونقض كتاب عبد الجبار الذي صنفه في نقضه وسماه نقض نقض اللمع وأما أكابر أهل العلم من السلف والخلف فعلموا أنها طريقة باطلة في نفسها مخالفة لصريح المعقول وصحيح المنقول وانه لا يحصل بها العلم بالصانع ولا بغير ذلك بل يوجب سلوكها اعتقادات باطلة توجب مخالفة كثير مما جاء به الرسول مع مخالفة صريح المعقول كما أصاب من سلكها من الجهمية والمعتزلة والكلابية والكرامية ومن تبعهم من الطوائف وان لم يعرفوا غورها وحقيقتها فإن أئمة هؤلاء الطوائف صار كل منهم يلتزم ما يراه لازما ليطردها فيلتزم لوازم مخالفة للشرع والعقل فيجيء الآخر فيرد عليه ويبين فساد ما التزمه ويلتزم هو لوازم أخر لطردها فيقع أيضا في

مخالفة الشرع والعقل فالجهمية التزموا لأجلها نفي أسماء الله وصفاته اذ كانت الصفات أعراضا تقوم بالموصوف ولا يعقل موصوف بصفة إلا الجسم فإذا اعتقدوا حدوثه اعتقدوا حدوث كل موصوف بصفة والرب تعالى قديم فالتزموا نفي صفاته وأسماؤه مستلزمة لصفاته فنفوا أسماءه الحسنى وصفاته العلى والمعتزلة استعظموا نفي الاسماء لما فيه من تكذيب القرآن تكذيبا ظاهر الخروج عن العقل والتناقض فإنه لا بد من التمييز بين الرب وغيره بالقلب واللسان فما لا يميز من غيره لا حقيقة له ولا إثبات وهو حقيقة قول الجهمية فانهم لم يثبتوا في نفس الامر شيئا قديما البتة كما أن المتفلسفة الذين سلكوا مسلك الامكان والوجوب وجعلوا ذلك بدل الحادث والقديم لم يثبتوا واجبا بنفسه البتة وظهر بهذا فساد عقلهم وعظيم جهلهم مع الكفر وذلك أنه يشهد وجود السماوات وغيرها فهذه الأفلاك إن كانت قديمة واجبة فقد ثبت وجود الموجود القديم الواجب وان كانت ممكنة أو محدثة فلا بد لها من واجب قديم فإن وجود الممكن بدون الواجب والمحدث بدون القديم ممتنع في بدائه العقول فثبت وجود موجود قديم واجب بنفسه على كل تقدير فاذا كان ما ذكروه من نفي الصفات عن القديم والواجب يستلزم نفي القديم مطلقا ونفي الواجب علم أنه باطل وقد بسط هذا في مواضع وبين أن كل من نفى صفة مما أخبر به الرسول لزمه نفي جميع الصفات فلا يمكن القول بموجب أدلة العقول إلا مع القول بصدق الرسول فأدلة العقول مستلزمة لصدق الرسول فلا يمكن مع عدم تصديقه القول بموجب العقول بل من كذبه فليس معه لا عقل ولا سمع كما أخبر الله تعالى عن أهل النار قال تعالى كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بل قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن المعتزلة لما رأوا الجهمية قد نفوا أسماء الله الحسنى استعظموا ذلك وأقروا بالأسماء ولما رأوا هذه الطريق توجب نفي الصفات نفوا الصفات

فصاروا متناقضين فان اثبات حي عليم قدير سميع بصير بلا حياة ولا علم ولا قدرة ولا حكمة ولا سمع ولا بصر مكابرة للعقل كإثبات مصل بلا صلاة وصائم بلا صيام وقائم بلا قيام ونحو ذلك من الاسماء المشتقة كاسماء الفاعلين والصفات المعدولة عنها ولهذا ذكروا في أصول الفقه أن صدق الاسم المشتق كالحي والعليم لا ينفك عن صدق المشتق منه كالحياة والعلم وذكروا النزاع مع من ذكروه من المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم فجاء ابن كلاب ومن اتبعه كالأشعري والقلانسي فقرروا أنه لا بد من إثبات الصفات متابعة للدليل السمعي والعقلي مع إثبات الاسماء وقالوا ليست أعراضا لان العرض لا يبقى زمانين وصفات الرب باقية سلكوا في هذا الفرق وهو أن العرض لا يبقى زمانين مسلكا أنكره عليهم جمهور العقلاء وقالوا إنهم خالفوا الحس وضرورة العقل وهم موافقون لأولئك على صحة هذه الطريقة طريقة الإعراض قالوا وهذه تنفي عن الله أن يقوم به حادث وكل حادث فانما يكون بمشيئته وقدرته قالوا فلا يتصف بشيء من هذه الامور لا يتكلم بمشيئته وقدرته ولا يقوم به فعل اختياري يحصل بمشيئته وقدرته كخلق العالم وغيره بل منهم من قال لا يقوم به فعل بل الخلق هو المخلوق كالأشعري ومن وافقه ومنهم من قال بل فعل الرب قديم أزلي وهو من صفاته الأزلية وهو قول قدماء الكلابية وهو الذي ذكره أصحاب ابن خزيمة لما وقع بينه وبينهم بسبب هذا الأصل فكتبوا عقيدة اصطلحوا عليها وفيها إثبات الفعل القديم الأزلي وكان سبب ذلك أنهم كانوا كلابية يقولون إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل كلامه المعين لازم لذاته أزلا وأبدا وكان ابن خزيمة وغيره على القول المعروف للمسلمين وأهل السنة أن الله يتكلم بمشيئته وقدرته وكان قد بلغه عن الإمام أحمد أنه كان يذم الكلابية وأنه أمر بهجر الحارث المحاسبي لما بلغه أنه على قول ابن كلاب وكان يقول حذروا عن حارث الفقير فإنه جهمي واشتهر هذا عن أحمد وكان بنيسابور طائفة من الجهمية والمعتزلة ممن يقولون إن القرآن وغيره من كلام الله مخلوق ويطلقون القول بأنه متكلم بمشيئته وقدرته لكن مرادهم بذلك أنه يخلق كلاما بائنا عنه قائما بغيره كسائر

المخلوقات وكان من هؤلاء من عرف أصل ابن كلاب فاراد التفريق بين ابن خزيمة وبين طائفة من أصحابه فأطلعه على حقيقة قولهم فنفر منه وهم كانوا قد بنوا ذلك على أصل ابن كلاب واعتقدوا أنه لا تقوم به الحوادث بناء على هذه الطريقة طريقة الإعراض وابن خزيمة شيخهم وهو الملقب بإمام الأئمة وأكثر الناس معه ولكن لا يفهمون حقيقة النزاع فاحتاجوا لذلك الى ذكر عقيدة لا يقع فيها نزاع بين الكلابية وبين أهل الحديث والسنة فذكروا فيها أن كلام الله غير مخلوق وأنه لم يزل متكلما وأن فعله أيضا غير مخلوق فالمفعول مخلوق ونفس فعل الرب له قديم غير مخلوق وهذا قول الحنفية وكثير من الحنبلية والشافعية والمالكية وهو اختيار القاضي أبي يعلى وغيره في آخر عمره وبسط هذا له موضع آخر والمقصود التنبيه على افتراق الامة بسبب هذه الطريقة ولما عرف كثير من الناس باطن قول ابن كلاب وأنه يقول أن الله لم يتكلم بالقرآن العربي وأن كلامه شيء واحد هو معنى آية الكرسي وآية الدين عرفوا ما فيه من مخالفة الشرع والعقل فنفروا عنه وعرفوا أن هؤلاء يقولون أنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته فأنكروه وكان ممن أنكر ذلك الكرامية وغير الكرامية كاصحاب أبي معاذ التومني وزهير البابي وداود بن علي وطوائف فصار كثير من هؤلاء يقولون أنه يتكلم بمشيئته وقدرته فانكروه لكن يراعى تلك الطريقة لاعتقاده صحتها فيقول إنه لن يكن في الأزل متكلما لأنه إذا كان لم يزل متكلما بمشيئته لزم وجود حوادث لا تتناهى وأصل الطريقة أن هذا ممتنع فصار حقيقة قول هؤلاء إنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما فخالفوا قول السلف والأئمة انه لم يزل متكلما اذا شاء وبسط هذه الأمور له موضع آخر
والمقصود هنا أن كثيرا من أهل النظر صار ما يوجبونه من النظر والاستدلال ويجعلونه أصل الدين والايمان هو هذه الطريقة المبتدعة في الشرع المخالفة للعقل التي انفق سلف الأمة وأئمتها على ذمها وذم أهلها فذمهم للجهمية الذين ابتدعوا هذه الطريقة أولا متواتر مشهور قد صنف فيه مصنفات وذمهم للكلام والمتكلمين مما عني به أهل هذه الطريقة كذم الشافعي لحفص الفرد الذي كان على قول ضرار بن عمرو

وذم أحمد بن حنبل لأبي عيسى محمد بن عيسى برغوث الذي كان على قول حسين النجار وذمهما وذم أبي يوسف ومالك وغيرهم لأمثال هؤلاء الذين سلكوا هذه الطريقة وقد صنف في ذم الكلام وأهله مصنفات أيضا وهو متناول لاهل هذه الطريقة قطعا فكان ايجاب النظر بهذا التفسير باطلا قطعا بل هذا نظر فاسد يناقض الحق والايمان ولهذا صار من يسلك هذه الطريقة من حذاق الطوائف يتبين لهم فسادها كما ذكر مثل ذلك أبو حامد الغزالي وأبو عبد الله الرازي وأمثالهما ثم الذي يتبين له فسادها إذا لم يجد عند من يعرفه من المتكلمين في أصول الدين غيرها بقي حائرا مضطربا والقائلون بقدم العالم من الفلاسفة والملاحدة وغيرهم تبين لهم فسادها فصار ذلك من أعظم حججهم على قولهم الباطل فيبطلون قول هؤلاء إنه صار فاعلا أو فاعلا ومتكلما بمشيئته بعد أن لم يكن ويثبتون وجوب دوام نوع الحوادث ويظنون أنهم إذا أبطلوا كلام أولئك المتكلمين بهذا حصل مقصودهم وهم أضل وأجهل من أولئك فإن أدلتهم لا توجب قدم شيء بعينه من العالم بل كل ما سوى الله فهو محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن ودلائل كثيرة غير تلك الطريقة وأن كان الفاعل لم يزل فاعلا لما يشاء ومتكلما بما يشاء وصار كثير من أولئك إذا ظهر له فساد أصل أولئك المتكلمين المبتدعين وليس عنده إلا قولهم وقول هؤلاء يميل الى قول هؤلاء الملاحدة ثم قد يبطن ذلك وقد يظهره لمن يأمنه وابتلى بهذا كثير من أهل النظر والعبادة والتصوف وصاروا يظهرون هذا في قالب المكاشفة ويزعمون أنهم أهل التحقيق والتوحيد والعرفان فأخذوا من نفي الصفات أن صانع العالم لا داخل العالم ولا خارجه ومن قول هؤلاء أن العالم قديم ولم يروا موجودا سوى العالم فقالوا إنه هو الله وقالوا هو الوجود المطلق والوجود واحد وتكلموا في وحدة الوجود وأنه الله بكلام ليس هذا موضع بسطه ثم لما ظهر أن كلامهم يخالف الشرع والعقل صاروا يقولون يثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل ويقولون القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنا ومن أراد أن يحصل له هذا العلم اللدني الأعلى فليترك العقل والنقل وصار حقيقة قولهم الكفر بالله وبكتبه ورسله وباليوم الآخر من جنس قول الملاحدة الذين يظهرون التشيع

لكن أولئك لما كان ظاهر قولهم هو ذم الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان صارت وصمة الرفض تنفر عنهم خلقا كثيرا لم يعرفوا باطن أمرهم وهؤلاء صاروا ينتسبون الى المعرفة والتوحيد وأتباع شيوخ الطريق كالفضيل وابراهيم بن أدهم والتستري والجنيد وسهل بن عبد الله وأمثال هؤلاء ممن له في الامة لسان صدق فاغتر بهؤلاء من لم يعرف باطن أمرهم وهم في الحقيقة من أعظم خلق الله خلاقا لهؤلاء المشايخ السادة ولمن هو أفضل منهم من السابقين الاولين والانبياء المرسلين وكان من أسباب ذلك أن العبادة والتأله والمحبة ونحو ذلك مما يتكلم فيه شيوخ المعرفة والتصوف أمر معظم في القلوب والرسل إنما بعثوا بدعاء الخلق الى أن يعرفوا الله ويكون أحب إليهم من كل ما سواه فيعبدوه ويألهوه ولا يكون لهم معبود مألوه غيره وقد أنكر جمهور أولئك المتكلمين أن يكون الله محبوبا أو أنه يحب شيئا أو يحبه أحد وهذا في الحقيقة إنكار لكونه إلها معبودا فان الآله هو المألوه الذي يستحق أن يؤله ويعبد والتأله والتعبد يتضمن غاية الحب بغاية الذل ولكن غلط كثير من أولئك فظنوا أن الآلهية هي القدرة على الخلق وإن الآله بمعنى الآله وإن العباد يألههم الله لا أنهم هم يألهون الله كما ذكر ذلك طائفة منهم الأشعري وغيره وطائفة ثالثة لما رأت ما دل على أن الله يحب أن يكون محبوبا من أدلة الكتاب والسنة وكلام السلف وشيوخ أهل المعرفة صاروا يقرون بأنه محبوب لكنه هو نفسه لا يحب شيئا إلا بمعنى المشيئة وجميع الاشياء مرادة له فهي محبوبة له وهذه طريقة كثير من أهل النظر والعبادة والحديث كأبي إسماعيل الأنصاري وأبي حامد الغزالي وأبي بكر بن العربي وحقيقة هذا القول أن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضاه وهذا هو المشهور من قول الأشعري وأصحابه وقد ذكر أبو

المعالي أنه أول من قال ذلك وكذلك ذكر ابن عقيل أن أول من قال إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان هو الأشعري وأصحابه وهم قد يقولون لا يحبه دينا ولا يرضاه دينا كما يقولون لا يريد أن يكون فاعله مأجورا وأما هو نفسه فهو محبوب له كسائر المخلوقات فإنها عندهم محبوبة له إذ كان ليس عندهم إلا إرادة واحدة شاملة لكل مخلوق فهو عندهم محبوب مرضي
وجماهير المسلمين يعرفون أن هذا القول معلوم الفساد بالضرورة من دين أهل الملل وان المسلمين واليهود والنصارى متفقون على أن الله لا يحب الشرك ولا تكذيب الرسل ولا يرضى ذلك بل هو يبغض ذلك ويمقته ويكرهه كما ذكر الله في سورة بني إسرائيل ما ذكره من المحرمات ثم قال كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها وبسط هذه الأمور له مواضع أخر والمقصود هنا أن الذين اعرضوا عن طريق الرسول في العلم والعمل وقعوا في الضلال والزلل وأن أولئك لما أوجبوا النظر الذي ابتدعوه صارت فروعه فاسدة اذ قالوا ان من لم يسلكها كفر أو عصى فقد عرف بالاضطرار من دين الاسلام أن الصحابة والتابعين لهم باحسان لم يسلكوا طريقهم وهم خير الامة وإن قالوا ان من قاله ليس عنده علم ولا بصيرة بالايمان بل قاله تقليدا محضا من غير معرفة يكون مؤمنا فالكتاب والسنة يخالف ذلك ولو أنهم سلكوا طريقة الرسول لحفظهم الله من هذا التناقض فان ما جاء به الرسول جاء من عند الله وما ابتدعوه جاءوا به من عند غير الله وقد قال تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثير وهؤلاء بنوا دينهم على النظر والصوفية بنوا دينهم على الارادة وكلاهما لفظ مجمل يدخل فيه الحق والباطل فالحق هو النظر الشرعي والارادة الشرعية فالنظر الشرعي هو النظر فيما بعث به الرسول من الآيات والهدى كما قال شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان والارادة الشرعية إرادة ما أمر الله به ورسوله والسماع الشرعي سماع ما أحب الله سماعه كالقرآن والدليل الذي يستدل به هو الدليل الشرعي وهو لذي دل الله به عباده وهداهم به الى صراط مستقيم فانه لما ظهرت البدع والتبس

الحق بالباطل صار اسم النظر والدليل والسماع والارادة يطلق على ثلاثة أمور منهم من يريد به البدعي دون الشرعي فيريدون بالدليل ما ابتدعوه من الأدلة الفاسدة والنظر فيها ومن السماع والارادة ما ابتدعوه من اتباع ذوقهم ووجدهم وما تهواه أنفسهم وسماع الشعر والغناء الذي يحرك هذا الوجد التابع لهذه الارادة النفسانية التي مضمونها اتباع ما تهوى الأنفس بغير هدى من الله ومنهم من يريد مطلق الدليل والنظر ومطلق السماع والارادة من غير تقييدها لا بشرعي ولا ببدعي فهؤلاء يفسرون قوله الذين يستمعون القول بمطلق القول الذي يدخل فيه القرآن والغناء ويستمعون الى هذا وهذا وأولئك يفسرون الارادة بمطلق المحبة للآله من غير تقييدها بشرعي ولا بدعي ويجعلون الجميع من أهل الارادة سواء عبد الله بما أمر الله به ورسوله من التوحيد وطاعة الرسول أو كان عابدا للشيطان مشركا عابدا بالبدع وهؤلاء أوسطهم وهم أحسن حالا من الذين قيدوا ذلك بالبدعي وأما القسم الثالث فهم صفوة الامة وخيارها المتبعون للرسول علما وعملا يدعون إلى النظر والاستدلال والاعتبار بالآيات والأدلة والبراهين التي بعث الله بها رسوله وتدبر القرآن وما فيه من البيان ويدعون إلى المحبة والارادة الشرعية وهي محبة الله وحده وارادة عبادته وحده لا شريك له بما أمر به على لسان رسوله فهم لا يعبدون إلا الله ويعبدونه بما شرع وأمر ويستمعون ما أحب استماعه وهو قوله الذي قال فيه أفلم يدبروا القول وهو الذي قال فيه فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه كما قال واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم وقال وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها
سبحانه بين القدرة على الابتداء كقوله إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم الآية ومثل قوله ويقول الانسان أإذا مامت لسوف

أخرج حيا أولا يذكر الانسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا الآية ومثل قوله وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم وغير ذلك
فالاستدلال على الخالق بخلق الانسان في غاية الحسن والاستقامة وهي طريقة عقلية صحيحة وهي شرعية دل القرآن عليها وهدى الناس اليها وبينها وأرشد اليها وهي عقلية فان نفس كون الانسان حادثا بعد أن لم يكن ومولودا ومخلوقا من نطفة ثم من علقة هذا لم يعلم بمجرد خبر الرسول بل هذا يعلمه الناس كلهم بعقولهم سواء أخبر به الرسول أو لم يخبر لكن الرسول أمر أن يستدل به ودل به وبينه واحتج به فهو دليل شرعي لان الشارع استدل به وأمر أن يستدل به وهو عقلي لأنه بالعقل تعلم صحته وكثير من المتنازعين في المعرفة هل تحصل بالشرع أو بالعقل لا يسلكونه وهو عقلي شرعي وكذلك غيره من الادلة التي في القرآن مثل الاستدلال بالسحاب والمطر هو مذكور في القرآن في غير موضع وهو عقلي شرعي كما قال تعالى أولم يروا أنا نسوق الماء الى الارض الجزر فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسم أفلا يبصرون فهذا مرئي بالعيون وقال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ثم قال أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد فالآيات التي يريها الناس حتى يعلموا أن القرآن حق هي آيات عقلية يستدل بها العقل على أن القرآن حق وهي شرعية دل الشرع عليها وأمر بها والقرآن مملوء من ذكر الآيات العقلية التي يستدل بها العقل وهي شرعية لان الشرع دل عليها وأرشد اليها ولكن كثيرا من الناس لا يسمي دليلا شرعيا إلا ما دل بمجرد خبر الرسول وهو اصطلاح قاصر ولهذا يجعلون أصول الفقه هو لبيان الأدلة الشرعية الكتاب والسنة والاجماع والكتاب يريدون به أن يعلم مراد الرسول فقط والمقصود من أصول الفقه هو معرفة الأحكام الشرعية العملية فيجعلون الادلة الشرعية ما دلت على الاحكام العملية فقط ويخرجون ما دل باخبار الرسول عن أن يكون شرعيا فضلا عما دل بارشاده وتعليمه ولكن قد يسمون هذا دليلا سمعيا ولا يسمونه شرعيا وهو اصطلاح قاصر والأحكام

العملية أكثر الناس يقولون إنها تعلم بالعقل أيضا وأن العقل قد يعرف الحسن والقبح فتكون الادلة العقلية دالة على الأحكام العملية أيضا ويجوز أن تسمى شرعية لأن الشرع قررها أو وافقها أو دل عليها وأرشد اليها كما قيل مثل ذلك في المطالب الخبرية كاثبات الرب ووحدانيته وصدق رسله وقدرته على المعاد ان الشرع دل عليها وأرشد اليها وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا أن الاشعري بنى أصول الدين في اللمع ورسالة الثغر على كون الانسان مخلوقا محدثا فلا بد له من محدث لكون هذا الدليل مذكورا في القرآن فيكون شرعيا عقليا لكنه في نفس الامر سلك في ذلك طريقة الجهمية بعينها وهو الاستدلال على حدوث الانسان بأنه مركب من الجواهر الفردة فلم يخل من الحوادث وما لم يخل من الحوادث فهو حادث فجعل العلم بكون الانسان محدثا وبكون غيره من الأجسام المشهودة محدثا انما يعلم بهذه الطريقة وهو أنه مؤلف من الجواهر الفردة وهي لا تخلو من اجتماع وافتراق وتلك أعراض حادثة وما لم ينفك من الحوادث فهو محدث وهذه الطريقة أصل ضلال هؤلاء فانهم أنكروا المعلوم بالحس والمشاهدة والضرورة العقلية من حدوث المحدثات المشهود حدوثها وادعوا أنه إنما يشهد حدوث أعراض لا حدوث أعيان مع تنازعهم في الأعراض ثم قالوا والأجسام لا تخلوا من الأعراض وهذا صحيح ثم قالوا والأعراض حادثة فاضطربوا هنا ثم قالوا وما لم يخل من الحوادث فهو حادث وهذا أصل دينهم وهو أصل فاسد مخالف للسمع والعقل كما قد بسط في غير هذا الموضع
والمتفلسفة أشد مخالفة للعقل والسمع منهم لكنهم عرفوا فساد طريقتهم هذه العقلية فاستطالوا عليهم بذلك وسلكوا ما هو أفسد منها كطريقة الإمكان والوجوب كما قد بسط في موضع آخر فلبسوا هذا الباطل بالحق الذي جاء به الرسول وهو الاستدلال بحدوث الانسان وغيره من المحدثات التي يشهد حدوثها فصار في كلامهم حق وباطل من جنس ما أحدثه أهل الكتاب حيث لبسوا الحق بالباطل واحتاجوا

في ذلك الى كتمان الحق الذي جاء به الرسول الذي يخالف ما أحدثوه فصاروا يكرهون ظهور ما جاء به الرسول بل يمنعون عن قراءة الاحاديث وسماعها وقراءة كلام السلف وسماعه ومنهم من يكره قراءة القرآن وحفظه والذين لا يقدرون على المنع من ذلك صاروا يقرءون حروفه ولا يعلمون حدود ما انزل الله على رسوله بل إن اشتغلوا بعلومه اشتغلوا بتفسير من يشركهم في بدعتهم ممن يحرفون الكلم كلم الله عن مواضعه والاصل العقلي الحسي الذي به فارقوا العقل والسمع هو حدوث ما يشهد حدوثه مثل حدوث الزرع والثمار وحدوث الانسان وغيره من الحيوان وحدوث السحاب والمطر ونحو ذلك من الأعيان القائمة بنفسها غير حدوث الاعراض كالحركة والحرارة والبرودة والضوء والظلمة وغير ذلك بل تلك الأعيان التي يسمونها أجساما وجواهر هي حادثة فانه معلوم أن الانسان مخلوق من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة وأن الثمار تخلق من الاشجار وأن الزرع يخلق من الحب والشجر يخلق من النوى قال تعالى ان الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون فالق الاصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر و البحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكما ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا الى ثمره اذا أثمر وينعه ان في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون فهذا الانسان والشجر والزرع المخلوق من مادة قد خلق منها عين قائمة بنفسها وهم يقولون إنما هي من الجسم القائم بنفسه وهو الجوهر العام في اصطلاحهم الذي يقولون إنه مركب من الجواهر الفردة وهل الذي خلق من المادة هو أعيان أم لم يخلق إلا أعراض قائمة بغيرها وأما الأعيان فهي الجواهر الفردة وتلك منها شيء في هذه الحوادث ولكن أحدث فيها جمع وتفريق فكان خلق الانسان وغيره هو تركيب تلك الجواهر وأحداث هذا

التركيب لا أحداث تلك الجواهر وأما حدوث تلك الجواهر فانما يعلم بالاستدلال فيستدل عليه بأن الجواهر التي تركبت منها هذه الأجسام لا تخلو من اجتماع وافتراق والاجتماع والافتراق حادث وما لم يخل من الحوادث فهو حادث فهذه طريق هؤلاء الجهمية أهل الكلام المحدث وأما جمهور العقلاء فيقولون بل نحن نعلم حدوث هذه الأعيان القائمة بنفسها لا نقول إنه لم يحدث إلا عرض فان هذا القول يقتضي أن تلك الجواهر التي ركب منها آدم باقية لم يزل في كل آدمي منها شيء وهذا مكابرة فان بدن آدم لا يحتمل هذا كله لا يحتمل أن يكون فيه جواهر بعدد ذريته لا سيما وكل آدمي إنما خلق من مني أبويه وهم يقولون تلك الجواهر التي في مني الابوين باقية بأعيانها في الولد وهم يقولون إن الجواهر لا تفنى بل تنتقل من حال الى حال وكثير منهم يقول إنها مستغنية عن الرب بعد أن خلقها وتحيروا فيما إذا أراد أن يفنيها وكيف يفنيها كما قد ذكر في غير هذا الموضع اذ المقصود هنا التنبيه على أن أصل الاصول معرفة حدوث الشيء من الشيء كحدوث الانسان من المني فهؤلاء ظنوا أنه لا يحدث إلا الأعراض ولهذا لما ذكر أبو عبد الله بن الخطيب الرازي في كتبه الكبار والصغار الطرق الدالة على إثبات الصانع لم يذكر طريقا صحيحا وليس في كتبه وكتب أمثاله طريق صحيح لإثبات الصانع بل عدلوا عن الطرق العقلية التي يعلمها العقلاء بفطرتهم وهي التي دلتهم عليها الرسل الى طرق سلكوها مخالفة للشرع والعقل لا سيما من سلك طريقة الوجوب والامكان متابعة لابن سينا كالرازي فان هؤلاء من أفسد الناس استدلالا كما قد ذكرنا طرق عامة النظار في غير هذا الموضع مثل كتاب منع تعارض العقل والنقل وغير ذلك والمقصود هنا أن الرازي ذكر أن ما يستدل به على إثبات الصانع إما حدوث الأجسام وإما حدوث صفاتها وإما إمكانها وإما إمكان صفاتها وذكر في بعض المواضع وإما الأحكام والإتقان لكن الإحكام والإتقان يدل على العلم ابتداء والاستدلال بحدوث الاجسام وإمكانها وإمكان صفاتها طرق فاسدة فان دلالة حدوثها مبنية على امتناع حوادث لا أول لها ودلالة إمكانها مبنية على ما قامت به الصفات يمتنع أن يكون واجبا بنفسه لأنه مركب ودلالة صفاتها مبنية على تماثلها فلا بد لتخصيص

بعضها بالصفات من مخصص وهذه كلها طرق باطلة قال وأما الاستدلال بحدوث الصفات فهو الاستدلال بحدوث الأعراض وهذه الطريق أجود ما سلكوه من الطرق مع أنها قاصرة فان مدارها على أنهم لم يعرفوا حدوث شيء من الأعيان وإنما علموا حدوث بعض الصفات وهذا يدل على أنه لا بد لها من محدث قال وهذا لا ينفي كون المحدث جسما بخلاف تلك الطرق وهذه الطريق تدل على أن الأعراض كتركيب الانسان لا بد له من مركب ولا ينفي بها شيء من قدم الأجسام والجواهر بل يجوز أن يكون جميع جواهر الانسان وغيره قديمة أزلية لكن حدثت فيها الأعراض ويجوز أن يكون المحدث للأعراض بعض أجسام العالم فهذه الطريق لا تنفي أن يكون الرب بعض أجسام العالم وتلك باطلة مع أن مضمونها أن الرب لا يتصف بشيء من الصفات فهي لا تدل على صانع وإن دلت على صانع فليس بموجود بل معدوم أو متصف بالوجود والعدم كما قد بسط في غير موضع ولهذا يقول الرازي في آخر مصنفاته لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي غليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات اليه يصعد الكلم الطيب الرحمن على العرش استوى وأقرأ في النفي ليس كمثله شيء ولا يحيطون به علما قال ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي ولما ذكر الرازي الاستدلال بحدوث الصفات كالحيوان والنبات والمطر ذكر أن هذه طريقة القرآن ولا ريب أن القرآن يذكر فيه الاستدلال بآيات الله كقوله إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون وهذا مذكور بعد قوله وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم وقبل قوله ومن الناس من يتخذ من دونه أندادا يحبونهم كحب الله لكن القرآن لم يذكر أن هذه صفات حادثة وأنه ليس فيها أحداث عين قائمة بنفسها بل القرآن يبين أن في خلق

الأعيان القائمة بنفسها آيات ويذكر الآيات في خلق الأعيان والأعراض كقوله إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وهي أعيان ثم قال وما أنزل الله من السماء من ماء والماء عين قائمة بنفسها وقوله فأحيا به الأرض بعد موتها هو بما يخلقه فيها من النبات وهو أعيان وكذلك قوله وبث فيها من كل دابة وقوله وتصريف الرياح فالرياح أعيان وتصريفها أعراض وقوله والسحاب المسخر بين السماء والارض والسحاب أعيان لآيات لقوم يعقلون
وقد تقدم أن أصل الاشتباه في هذا أن خلق الشيء من مادة هل هو خلق عين أم إحداث اجتماع وافتراق وأعراض فقط والناس مختلفون في هذا على ثلاثة أقوال
فالقائلون بالجواهر الفردة من أهل الكلام القائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر الصغار التي قد بلغت من الصغر الى حد لا يتميز منها جانب عن جانب يقولون تلك الجواهر باقية تنقلت في الحوادث ولكن تعتقب عليها الأعراض الحادثة والاستدلال بالأعراض على حدوث ما يلزمه من الجواهر ثم الاستدلال بذلك على المحدث غير الاستدلال بحدوث هذه الأعراض على المحدث لها فتلك هي طريقة الجهمية المشهورة وهي التي سلكها الأشعري في كتبه كلها متابعة للمعتزلة ولهذا قيل الأشعرية مخانيت المعتزلة
وأما الاستدلال بالحوادث على المحدث فهي الطريقة المعروفة لكل أحد لكن تسمية هذه أعراضا هو تسمية القائلين بالجوهر الفرد مع أن الرازي توقف في آخر أمره فيه كما ذكر ذلك في نهاية العقول وذكر أيضا عن أبي الحسين البصري وأبي المعالي أنهما توقفا فيه والمقصود أن القائلين بالجوهر الفرد يقولون إنما أحدث أعراضا كجمع الجواهر وتفريقها فالمادة التي هي الجواهر المنفردة باقية

عندهم بأعيانها ولكن أحدث صورا هي أعراض قائمة بهذه الجواهر وأما المتفلسفة فيقولون أحدث صورا في مواد باقية كما يقول هؤلاء لكن يقولون أحدث صورا هي جواهر في مادة هي جوهر وعندهم ثم مادة باقية بعينها والصور الجوهرية كصورة الماء والهواء والتراب والمولدات تعتقب عليها وهذه المادة عندهم جوهر عقلي وكذلك الصورة المجردة جوهر عقلي ولكن الجسم مركب من المادة والصورة ولهذا قسموا الموجودات فقالوا إما أن يكون الموجود حالا بغيره أو محلا أو مركبا من الحال والمحل أو لا هذا ولا هذا فالحال في غيره هو الصورة والمحل هو المادة والمركب منهما هو الجسم وما ليس كذلك إن كان متعلقا بالجسم فهو النفس والا فهو العقل وهذا التقسيم فيه خطأ كثير من وجوه ليس هذا موضعها إذ المقصود أنهم يقولون أيضا انه لم يحدث جسما قائما بنفسه بل إنما أحدث صورة في مادة باقية ولا ريب ان الأجسام بينها قدر مشترك في الطول والعرض والعمق وهو المقدار المجرد الذي لا يختص بجسم بعينه ولكن هذا المقدار المجرد هو في الذهن لا في الخارج كالعدد المجرد والسطح المجرد والنقطة المجردة وكالجسم التعليمي وهو الطويل العريض العميق الذي لا يختص بمادة بعينها فهذه المادة المشتركة التي أثبتوها هي في الذهن وليس بين الجسمين في الخارج شيء اشتركا فيه بعينه فهؤلاء جعلوا الأجسام مشتركة في جوهر عقلي وأولئك جعلوها مشتركة في الجواهر الحسية وهؤلاء قالوا اذا خلق كل شيء من شيء فانما أحدثت صورة مع أن المادة باقية بعينها لكن أفسدت صورة وكونت صورة ولهذا يقولون عما تحت الفلك عالم الكون والفساد ولهذا قال ابن رشد إن الأجسام المركبة من المادة والصورة هي في عالم الكون والفساد بخلاف الفلك فانه ليس مركبا من مادة وصورة عند الفلاسفة قال وإنما ذكر أنه مركب من هذا وهذا ابن سينا وهؤلاء وهؤلاء تحيروا في خلق الشيء من مادة كخلق الانسان من النطفة والحب من الحب والشجرة من النواة وظنوا أن هذا لا يكون إلا مع بقاء اصل تلك المادة إما الجواهر عند قوم وإما المادة المشتركة عند قوم وهم في الحقيقة ينكرون أن يخلق الله شيئا من شيء فانه عندهم لا يحدث إلا الصورة التي هي عرض عند قوم أو جوهر

عقلي عند قوم وكلاهما لم يخلق من مادة والمادة عندهم باقية بعينها لم يخلق ولن يخلق منها شيء وقد ذكروا في قوله أم خلقوا من غير شيء ثلاثة أمور قال ابن عباس والاكثرون أم خلقوا من غير خالق وهو الذي ذكره الخطابي وقال الزجاج وابن كيسان أم خلقوا عبثا وسدى فلا يبعثون ولا يحاسبون ولا يؤمرون ولا ينهون كما يقول فعلت هذا من غير شيء أي لغير علة وقيل أم خلقوا من غير مادة أي من غير أب وأم ثم من هؤلاء من قال فهم كالجماد ومنهم من قال كالسماوات ظنا منه أنها خلقت من غير مادة ذكر الأربعة أبو الفرج وذكر البغوي الوجهين الاولين والذي ذكرناه من قول أولئك المتكلمين والفلاسفة معنى آخر وهو أن من قال المادة الباقية بعينها وانما حدث عرض أو صورة وذلك لم يخلق من غيره ولكن أحدث في المادة الباقية فلا يكون الله خلق شيئا من شيء لان المادة عندهم لم تخلق أما المتفلسفة فعندهم المادة قديما أزلية باقية بعينها وأما المتكلمون فالجواهر عندهم موجودة وما زالت موجودة لكن من قال إنها حادثة من أهل الملل وغيرهم قالوا يستدل على حدوثها بالدليل لا أن خلقها معلوم للناس فهو عندهم مما يستدل عليه بالأدلة الدقيقة الخفية مع أن ما يذكرونه منتهاه إلى أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وهو دليل باطل فلا دليل عندهم على حدوثها وإذا كانت لم تخلق اذ خلق الانسان بل هي باقية في الانسان والاعراض الحادثة لم تخلق من مادة فاذا خلق الانسان لم يخلق من شيء لا جواهره ولا أعراضه وعلى قولهم ما جعل الله من الماء كل شيء حي ولا خلق كل دابة من ماء ولا خلق آدم من تراب ولا ذريته من نطفة بل نفس الجواهر الترابية باقية بعينها لم تخلق حينئذ ولكن أحدث فيها أعراض أو صورة حادثة وتلك الأعراض ليست من التراب فلما خلق آدم لم يخلق شيء من تراب وكذلك النطفة جواهرها باقية إما الجواهر المنفردة وإما المادة والحادث هو عرض أو صورة في مادة ولا هذا ولا هذا خلق من نطفة وليس قولهم إنه لم يخلق من مادة معناه أن الخالق أبدعه لا من شيء وأنهم قصدوا بها تعظيم الخالق بل الانسان لا ريب أنه جوهر قائم بنفسه وعندهم ذلك القائم بنفسه ما زال موجودا لم يخلق

اذ خلق الانسان والجوهر الحامل لصورته ما زال موجودا أيضا فلم يخلق عند هؤلاء إلا الأعراض وعند هؤلاء إلا صورة مجردة وكلاهما ليس هو الانسان بل صفة له أو صورة له هذا هو المخلوق عندهم بخلق الانسان فقط وقد قال تعالى أو لا يذكر الانسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا وقال تعالى وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا فقد أمر الانسان أن يتذكر أن الله خلقه ولم يك شيئا والانسان اذا تذكر إنما يذكر أنه خلق من نطفة وعندهم ما زال جوهر الانسان شيئا وذلك الشيء باق وانما حدث أعراض لتلك الاشياء ومعلوم أن تلك الأعراض وحدها ليست هي الإنسان فإن الإنسان مأمور منهي حي عليم قدير متكلم سميع بصير موصوف بالحركة والسكون وهذه صفات الجواهر والعرض لا يبقى زمانين فالمخلوق على قولهم لا يبقى زمانين بل يفنى عقب ما يخلق ولهذا اضطربوا في المعاد فان معرفة المعاد مبنيه على معرفة المبدأ والبعث مبني على الخلق فقال بعضهم هو تفريق تلك الاجزاء ثم جمعها وهي باقية بأعيانها وقال بعضهم بل يعدمها ويعدم الأعراض القائمة بها ثم يعيدهما وإذا أعادها فإنه يعيد تلك الجواهر التي كانت باقية إلى أن حصلت في هذا الانسان فلهذا اضطربوا لما قيل لهم فالانسان اذا أكله حيوان آخر فان أعيدت تلك الجواهر من الاول نقصت من الثاني وبالعكس أما على قول من يقول إنها تفرق ثم تجمع فقيل له تلك الجواهر ان جمعت للآكل نقصت من المأكول وإن أعيدت للمأكول نقصت من الآكل وأما الذي يقول تعدم ثم تعاد بأعيانها فقيل له أتعدم لما أكلها الآكل أم قبل أن يأكلها فإن كان بعد أن أن أكلها فإنها تعاد في الآكل فينقص المأكول وان كان قبل الاكل فالآكل لم يأكل إلا أعراضا لم يأكل جواهر فهذا مكابرة ثم إن المشهور أن الإنسان يبلى ويصير ترابا كما خلق من تراب وبذلك أخبر الله فإن قيل إنه إذا صار ترابا عدمت تلك الجواهر فهو لما خلق من تراب عدمت أيضا تلك الجواهر فكونهم يجعلون الجواهر باقية في جميع الاستحالات إلا إذا صار ترابا تناقض بين ويلزمهم عليه الحيوان المأكول وغير ذلك وكأن هذا الضلال أصل ضلالهم في تصور الخلق الاول والنشأة الأولى التي أمرهم الرب أن يتذكروها

ويستدلوا بها على قدرته على الثانية قال تعالى أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الاولى فلو لا تذكرون والفلاسفة أجود تصورا في هذا الموضع حيث قالوا تفسد الصورة الأولى وهي جوهر وتحدث صورة أخرى فإن هذا أجود من أن يقال يزول عرض ويحدث عرض ولكن الفلاسفة غلطوا في توهمهم أن هناك مادة باقية بعينها وإنما تفسد صورتها والحق أن المادة التي منها يخلق الثاني تفسد وتستحيل وتفنى وتتلاشى وينشئ الله الثاني ويبتدئه ويخلق من غير أن يبقى من الاول شيء لا مادة ولا صورة ولا جوهر ولا عرض فاذا خلق الله الانسان من المني فالمني استحال وصار علقة والعلقة استحالت وصارت مضغة والمضغة استحالت الى عظام وغير عظام والانسان بعد أن خلق خلق كله جواهره وأعراضه وابتدأه الله ابتداء كما قال تعالى الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين وقال تعالى أو لا يذكر الانسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا فالانسان مخلوق خلق الله جواهره وأعراضه كلها من المني من مادة استحالت ليست باقية بعد خلقه كما تقول المتفلسفة ان هناك مادة باقية ولفظ المادة مشترك فالجمهور يريدون به ما منه خلق وهو أصله وعنصره وهؤلاء يريدون بالمادة جوهرا باقيا وهو محل للصورة الجوهرية فلم يخلق عندهم الانسان من مادة بل المادة باقية وأحدث صورته فيها كما أن الصور الصناعية كصورة الخاتم والسرير والثياب والبيوت وغير ذلك إنما أحدث الصانع صورته العرضية في مادة لم تزل موجودة ولم تفسد لكن حولت من صفة الى صفة فهكذا تقول الجهمية المتكلمة المبتدعة أن الله أحدث صورة عرضية في مادة باقية لم تفسد فيجعلون خلق الإنسان بمنزلة عمل الخاتم والسرير والثوب والمتفلسفة تقول أيضا أن مادته باقية لم تفسد كمادة الصورة الصناعية لكن يقولون أنه أحدث صورة جوهرية وهم قد يخلطون ولا يفرقون بين الصور العرضية والجوهرية فإنهم يسمون صورة الانسان صورة في مادة وصورة الخاتم صورة في مادة فيكون خلق الانسان

عند هؤلاء وهؤلاء من جنس ما يحدثه الناس في الصور من المواد ويكون خلقه بمنزلة تركيب الحائط من اللبن ولهذا قال من قال منهم إنه يستغني عن الخالق بعد الخلق كما يستغني الحائط عن البناء والأشعرية عندهم أن البناء والخياط وسائر أهل الصنائع لم يحدثوا في تلك المواد شيئا فإن القدرة المحدثة عندهم لا تتعلق إلا بما هو في محلها لا خارجا عن محلها ويقولون ان تلك المصنوعات كلها مخلوقة لله ليس للانسان فيها صنع وخلق الله لها على أصلهم هو إحداث أعراض فيها كما تقدم فينكرون ما يصنعه الانسان وهو في الحقيقة مثل ما يجعلونه مخلوقا للرحمن وهم لا يشهدون للرحمن إحداثا ولا إفناء بل إنما يحدث عندهم الأعراض وهي تفنى بأنفسها لا بافنائه وهي تفنى عقب إحداثها وهذا لا يعقل وهم حائرون إذا أراد أن يعدم الأجسام كيف يعدمها والمشهور عندهم أنها تعدم بأنفسها اذا لم يخلق لها أعراضا فالعرض يفنى عندهم بنفسه والجوهر يفنى بنفسه إذا لم يخلق له عرض هذا في الإفناء وأما في الأحداث فانهم إستدلوا على حدوثها بدليل باطل لو كان صحيحا للزم حدوث كل شيء من غير محدث فحقيقة أصل أهل الكلام المتبعين للجهمية أنه لا يحدث شيئا ولا يفنى شيئا بل يحدث كل شيء بنفسه ويفنى بنفسه ويلزمهم جواز أن يكون للرب محدثا أيضا بلا محدث وهذه الاصول هي أصول دينهم العقلية التي بها يعارضون الكتاب والسنة والمعقولات الصريحة وهي في الحقيقة لا عقل ولا سمع كما حكى الله عمن قال لو كنا نسمع أو نعفل ما كنا في أصحاب السعير والخلق يشهدون إحداث الله لما يحدثه وإفناءه لما يفنيه كالمني الذي استحال وفنى وتلاشى وأحدث منه هذا الانسان وكالحبة التي فنيت واستحالت وأحدث منها الزرع وكالهواء الذي استحال وفنى وحدث منه النار أو الماء وكالنار التي استحالت وحدث منها الدخان فهو سبحانه دائما يحدث ما يحدثه ويكونه ويفني ما يفنيه ويعدمه والانسان إذا مات وصار ترابا فني وعدم وكذلك سائر ما على الارض كما قال كل من عليها فان ثم يعيده من التراب كما خلقه ابتداء من التراب ويخلقه خلقا جديدا ولكن للنشأة الثانية أحكام وصفات ليست للأولى فمعرفة الانسان بالخلق الاول وما يخلقه من بني آدم وغيرهم من الحيوان وما يخلقه من

الشجر والنبات والثمار وما يخلقه من السحاب والمطر وغير ذلك هو أصل لمعرفته بالخلق والبعث والمبدأ والمعاد وان لم يعرف أن الله يخلقه كله من المني جواهره وأعراضه وإلا فما عرف أن الله خلقه ومن ظن أن جواهره لم يخلقها اذ خلقه بل جواهر المني وجواهر ما يأكله ويشربه باقية بعينها فيه لم يخلقها أو أن مادته التي تقوم بها صورته لم يخلقها إذ خلقه بل هي باقية أزلية أبدية لم يكن قد عرف أنه مخلوق محدث والعلماء ينكرون على من يقول أن روح الانسان قديمة أزلية من المنتسبين إلى الإسلام وهؤلاء الذين يقولون إن مادة جسمه باقية بعينها وهي أزلية أبدية أبعد عن العقل والنقل منهم وأولئك أنكروا عليهم حيث قالوا الانسان مركب من قديم ومحدث من لاهوت قديم وناسوت محدث أو هؤلاء جعلوه مركبا من مادة قديمة أزلية وصورة محدثة وجعلوا القديم الأزلي فيه أخس ما فيه وهو المادة فإنها عندهم أخس الموجودات وهي قديمة أزلية وأولئك جعلوا القديم الأزلي أشرف ما فيه وهي النفس الناطقة وكلا الطائفتين وإن كان ضالا فالشريف العالي أولى بالقدم من الخسيس السافل وهذا أولى بالحدوث
وأما المتكلمة الجهمية فهم لا يتصورون ما يشهدونه من حدوث هذه الجواهر في جواهر أخر من مادة ثم يدعون أن الجواهر جميعها أبدعت ابتداء لا من شيء وهم لم يعرفوا قط جوهرا أحدث لا من شيء كما لم يعرفوا عرضا أحدث لا في محل وحقيقة قولهم أن الله لا يحدث شيئا من شيء لا جوهرا ولا عرضا فان الجواهر كلها أحدثت لا من شيء والأعراض كذلك والمشهود المعلوم للناس أنما هو إحداثه لما يحدثه من غير مادة ولهذا قال تعالى وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ولم يقل خلقتك لا من شيء وقال تعالى والله خلق كل دابة من ماء ولم يقل خلق كل دابة لا من شيء وقال تعالى وجعلنا من الماء كل شيء حي وهذا هو القدرة التي تبهر العقول وهو أن يقلب حقائق الموجودات فيحيل الاول ويفنيه ويلاشيه ويحدث شيئا آخر كما قال فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ويخرج الشجرة الحية والسنبلة الحية من النواة والحبة الميتة ويخرج النواة الميتة والحبة الميتة من

الشجرة والسنبلة الحية كما يخرج الانسان الحي من النطفة الميتة والنطفة الميتة من الانسان الحي وعندهم لا يخرج حيا من ميت ولا ميتا من حي فان الحي والميت إنما هو الجوهر القائم بنفسه فان الحياة عرض لا يقوم إلا بجوهر والعرض نفسه لا يقوم بعرض آخر وان كان العرض يوصف بأنه حي كما يقال قد أحييت العلم والايمان وأحييت الدين وأحييت السنة والعدل كما يقال أمات البدعة فهؤلاء عندهم لا يخرج جوهرا من جوهر ولا عرضا من عرض فلا يخرج حيا من ميت ولا ميتا من حي بل الجواهر التي كانت في الميت هي بعينها باقية كما كانت ولكن أحدث فيها حياة لم تكن وتلك الحياة لم تخرج من ميت فما أخرج عندهم حي من ميت ولا ميت من حي ولهذا ينكرون أن يقلب الله جنسا الى جنس آخر ويقولون الجواهر كلها جنس واحد فإذا خلق النطفة انسانا لم يقلب عندهم جنسا الى جنس بل نفس الجواهر هي باقية كما كانت وخاصية الخلق انما هي بقلب جنس الى جنس وهذا لا يقدر عليه إلا الله كما قال تعالى يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره ان الله لقوي عزيز ولا ريب أن النخلة ما هي من جنس النواة ولا السنبلة من جنس الحبة ولا الانسان من جنس المني ولا المني من جني الانسان وهو يخرج هذا من هذا وهذا من هذا فيخرج كل جنس من جنس آخر بعيد عن مماثلته وهذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه وهو سبحانه إذا جعل الابيض أسود أعدم ذلك البياض وجعل موضعه السواد لا أن الأجسام تعدم تلك المادة فتحيلها وتلاشيها وتجعل منها هذا المخلوق الجديد ويخلق الضد من ضده كما جعل من الشجر الاخضر نارا فاذا حك الاخضر بالأخضر سخن ما يسخنه بالحركة حتى ينقلب نفس الاخضر فيصير نارا وعلى قولهم ما جعل فيه نارا بل تلك الجواهر باقية بعينها وأحدث فيها عرض لم يكن وخلق الشيء من غير جنسه أبلغ في قدرة القادر الخالق سبحانه وتعالى كما وصف نفسه بذلك في قوله قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير

إنك على كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب ولهذا قال للملائكة إني خالق بشرا من طين فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين وقال ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين الى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون ولهذا امتنع اللعين كما قال تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا وقال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون وأيضا فكون الشيء مخلوقا من مادة وعنصر أبلغ في العبودية من كونه خلق لا من شيء وأبعد عن مشابهة الربوبية فإن الرب هو أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فليس له أصل وجد منه ولا فرع يحصل عنه فاذا كان المخلوق له أصل وجد منه كان بمنزلة الولد له وإذا خلق له شيء آخر كان بمنزلة الوالد وإذا كان والدا ومولودا كان أبعد عن مشابهة الربوبية والصمدية فانه خرج من غيره ويخرج منه غيره لا سيما إذا كانت المادة التي خلق منها مهينة كما قال تعالى ألم نخلقكم من ماء مهين وقال تعالى فلينظر الانسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر وفي المسند عن بشر ابن جحاش قال بصق رسول الله صلى الله عليه و سلم في كفه فوضع عليها إصبعه ثم قال يقول الله تعالى ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللارض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق واني أوان الصدقة وكذلك إذا خلق في محل مظلم وضيق كما خلق الانسان في ظلمات ثلاث كان أبلغ في قدرة القادر وأدل على عبودية الانسان وذله لربه وحاجته اليه وقد يقول المعير للرجل مالك أصل ولا فصل ولكن الانسان أصله التراب وفصله الماء المهين ولهذا لما خلق المسيح من غير أب وقعت به الشبهة لطائفة وقالوا انه ابن الله مع أنه لم يخلق إلا من مادة أمه ومن الروح التي نفخ فيها كما قال تعالى ومريم

ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وقال تعالى أيضا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا فما خلق من غير مادة تكون كالأب له قد يظن فيه أنه ابن الله وأن الله خلقه من ذاته فلهذا كانت الانبياء مخلوقة من مادة لها أصول ومنها فروع لها والد ومولود والأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وحدوث الشيء لا من مادة قد يشبه حدوثه من غير رب خالق وقد يظن أنه حدث من ذات الرب كما قيل مثل ذلك في المسيح والملائكة انها بنات الله لما لم يكن لها أب مع أنها مخلوقة من مادة كما ثبت في الصحيح صحيح مسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم ولما ظن طائفة أنها لم تخلق من مادة ظنوا أنها قديمة أزلية وأيضا فالدليل الذي احتج به كثير من الناس على أن كل حادث لا يحدث إلا من شيء أو في شيء فان كان عرضا لا يحدث إلا في محل وان كان عينا قائمة بنفسها لم تحدث إلا من مادة فان الحادث إنما يحدث إذا كان حدوثه ممكنا وكان يقبل الوجود والعدم فهو مسبوق بامكان الحدوث وجوازه فلا بد له من محل يقوم به هذا الامكان والجواز وقد تنازعوا في هذا هل الامكان صفة خارجية لا بد لها من محل أو هي حكم عقلي لا يفتقر إلى غير الذهن والتحقيق أنه نوعان فالامكان الذهني وهو تجويز الشيء أو عدم العلم بامتناعه محله الذهن والامكان الخارجي المتعلق بالفاعل أو المحل مثل أن تقول يمكن القادر أن يفعل والمحل مثل أن تقول هذه الأرض يمكن أن تزرع وهذه المرأة يمكن أن تحبل وهذا لا بد له من محل خارجي فاذا قيل عن الرب يمكن أن يخلق فمعناه أنه يقدر على ذلك ويتمكن منه وهذه صفة قائمة به وإذا قيل يمكن أن يحدث حادث فان قيل يمكن حدوثه بدون سبب حادث فهو ممتنع وإذا كان الحدوث لا بد له من سبب حادث فذاك السبب ان كان قائما بذات الرب فذاته قديمة أزلية واختصاص ذلك الوقت بقيام مشيئة أو تمام تمكن ونحو ذلك لا يكون إلا لسبب قد أحدثه قبل هذا في غيره فلا يحدث حادث مباين إلا مسبوقا بحادث مباين له فالحدوث مسبوق بامكانه ولا بد لامكانه من محل ولهذا لم يذكر الله قط

أنه أحدث شيئا إلا من شيء والذي يقول إن جنس الحوادث حدثت لا من شيء هو كقولهم إنها حدثت بلا سبب حادث مع قولهم إنها كانت ممتنعة ثم صارت ممكنة من غير تجدد سبب بل حقيقة قولهم إن الرب صار قادرا بعد أن لم يكن من غير تجدد شيء يوجب ذلك وهذه الامور كلها من أقوال الجهمية أهل الكلام المحدث المبتدع المذموم وهو بناء على قولهم انه تمتنع حوادث لا أول لها وهؤلاء وأمثالهم غلطوا فيما جاء به الشرع وأخبرت به الرسل كما غلطوا في المعقولات فكل واحد مما يسمى شرعا وعقلا وسمعا قد وقع فيه اشتباه فالشرع يطلق تارة على ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة هذا هو الشرع المنزل وهو الحق الذي ليس لأحد خلافه ويطلق على ما يضيفه بعض الناس الى الشرع إما بالكذب والافتراء وإما بالتأويل والغلط وهذا شرع مبدل لا منزل ولا يجب بل ولا يجوز اتباعه وكذلك لفظ السنة فان السنة التي يجب اتباعها هي سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم والسنة تذكر في الاصول والاعتقادات وتذكر في الأعمال والعبادات وكلاهما يدخل فيما أخبر به وأمر به فما أخبر به وجب تصديقه فيه وما أوجبه وأمر به وجبت طاعته فيه ثم كثير من الناس يضيف إلى السنة ما أدخله بعض الناس فيها إما بالكذب وإما بالتأويل مثل أحاديث كثيرة ضعيفة بل موضوعة واستدلالات بأقواله على ما لا تدل عليه ومثل أقوال أحدثها قوم انتسبوا إلى السنة في بعض الأمور مثل إثبات الصفات والقدر فإن المنتسبين لذلك يضافون إلى السنة لأن نفاة الصفات والقدر مبتدعة وكذلك حب الخلفاء الراشدين وموالاتهم يضاف أهله إلى السنة لان الطاعنين فيهم أهل بدعة ومثل الاستدلال بالنصوص على موارد النزاع فإن أهل ذلك يضافون إلى السنة لكونهم يقصدون اتباع القرآن والحديث والمخالفون لذلك يردون الأخبار الصحيحة أو لا يحتجون بالقرآن مبتدعون ثم قد يقول المضافون إلى السنة أشياء ليست من السنة مثل أحاديث كثيرة يروونها في فضائل بعض الصحابة وهي كذب ومثل نفي الحكمة والأسباب في مسائل القدر ومثل كلامهم في الأجسام والأعراض وتناهي الحوادث ونحو ذلك مما لم يأخذوه عن الرسول فهذا ليس من السنة وان كان أهلها وافقوا السنة في مواضع خالفهم

فيها من ينازعهم في هذه المسائل فلا يجب اذا كانوا أصابوا حيث وافقوا السنة أن يصيبوا حيث لم يوافقوها وكذلك مسمى العقل فان مسمى العقل قد مدحه الله في القرآن في غير آية لكن لما أحدث قوم من الكلام المبتدع المخالف للكتاب والسنة بل وهو في نفس الامر مخالف للمعقول وصاروا يسمون ذلك عقليات وأصول دين وكلاما في أصول الدين صار من عرف أنهم مبتدعة ضلال في ذلك ينفر عن جنس المعقول والرأي والقياس والكلام والجدل فاذا رأى من يتكلم بهذا الجنس اعتقده مبتدعا مبطلا كما أن هؤلاء لما رأوا ان جنس المنتسبين إلى السنة والشرع والحديث قد أخطأوا في مواضع وخالفوا فيها صريح المعقول وهم يقولون أن السنة جاءت بذلك صار هؤلاء ينفرون عن جنس ما يستدل في الاصول بالشرع والسنة ويسمونهم حشوية وعامة وكل من هؤلاء أدخلوا في مسمى الشرع والعقل والسمع ما هو محمود ومذموم ثم هؤلاء قبلوا من مسمى الشرع والسنة عندهم محموده ومذمومه وخالفوا مسمى العقل محموده ومذمومه وأولئك قبلوا مسمى العقل عندهم محموده ومذمومه وخالفوا مسمى الشرع محموده ومذمومه فيجب البيان والتفصيل والاستفسار وبيان الفرقان بين الحق والباطل فان ذلك يوجب التصديق بما جاء به الشرع المنزل والسنة الغراء وهو المعقول الحق وهو الكلام الصدق وهو الجدل بالتي هي أحسن ويوجب رد ما أدخل في الشرع والسنة وليس منها ورد ما سمي معقولا وهو باطل وسمي كلاما صدقا وهو كذب وسمي جدلا بالتي هي أحسن وهو جدل بالباطل بغير علم ولهذا حصل من الذين لبسوا الحق بالباطل تبديل لما بدلوه من الدين وتحريف الكلم عن مواضعه ومضاهاة لأهل الكتاب مما ذمهم الله عليه والبخاري في أول كتاب خلق أفعال العباد ذكر الرد على المعطلة الذين يبدلون كلام الله من الجهمية وذكر من كلام السلف والأئمة فيهم ما عرف به مقصودهم
والتبديل نوعان أحدهما ان يناقضوا خبره والثاني أن يناقضوا أمره فان الله بعثه بالهدى ودين الحق وهو صادق فيما أخبر به عن الله آمر بما أمر الله به كما قال من يطع الرسول فقد أطاع الله وأهل التبديل الذين يضيفون الى دينه وشرعه ما ليس منه وهم أهل الشرع المبدل تارة يناقضونه في خبره فينفون

ما أثبته أو يثبتون ما نفاه كالجهمية الذين ينفون ما أثبته من صفات الله وأسمائه والقدرية الذين ينفون ما أثبته من قدر الله ومشيئته وخلقه وقدرته والقدرية المجبرة الذين ينفون ما أثبته من عدل الله وحكمته ورحمته ويثبتون ما نفاه من الظلم والعبث والبخل ونحو ذلك عنه وأمثال ذلك ومسسائل أصول الدين عامتها من هذا الباب ثم إنهم ايضا يوجبون مالم يوجبه بل حرمه ويحرمون ما لم يحرمه بل أوجبه فيوجبون اعتقاد هذه الاقوال والمذاهب المناقضة لخبره وموالاة أملها ومعاداة من خالفها ويوجبون النظر المعين في طريقهم الذي أحدثوه كما أوجبوا النظر في دليل الاعراض الذي استدلوا به على حدوث الأجسام وقالوا يجب على كل مكلف أن ينظر فيه ليحصل له العلم بإثبات الصانع قالوا لان معرفة الله واجبة ولا طريق اليها الا هذا النظر وهذا الدليل ولما علم كثير من موافقيهم أن الاستدلال بهذا الدليل لم يوجه الرسول خالفوهم في إيجابهم مع موافقتهم لهم على صحته والتحقيق ما عليه السلف أنه ليس بواجب أمرا ولا هو صحيح خبرا بل هو باطل منهي عنه شرعا فان الله تعالى لا يأمر بقول الكذب والباطل بل ينهى عن ذلك لكن غلطوا حيث اعتقدوا أنه حق وان الدين لا يقوم الا على هذا الاصل الذي أصلوه كما أن طوائف من أهل العبادة والزهد والارادة والمحبة والتصوف سلكوا طرقا ظنوا أنه لا يوصل الى الله إلا بها ثم منهم من يوجبها ويذم من لم يسلكها ومنهم من لم ير أن سالكيها أفضل من غيرهم ويوسع الرحمة لانه قد علم أن الرسول والصحابة لم يأمروا بها الناس مع اعتقادهم أنها طرق صحيحة موصلة الى رضوان الله وهي عند التحقيق طرق مضلة إنما توصل الى رضى الشيطان وسخط الرحمن كالعبادات التي ابتدعها ضلال أهل الكتاب والمشركين وخالفوا بها دين المرسلين فهؤلاء في الاحوال البدعية وأولئك في الاقوال البدعية والقول الحق هو القرآن والحال الحق هو الايمان كما قال جندب وابن عمر تعلمنا الايمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب

وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها
فالناس أربعة أصناف صاحب قول قرآني وحال ايماني فهم أفضل الخلق وصاحب قول قرآني وحال ليس بايماني وصاحب حال ايماني وليس له قول ومن ليس له لا قول قرآني ولا حال ايماني وكثير من المنتسبين الى القول والكلام والعلم والنظر والفقه والاستدلال ابتدعوا أقوالا تخالف القرآن وكثير من المنتسبين الى العمل والعبادة والارادة والمحبة وحسن الخلق والمجاهدة ابتدعوا أحوالا وأعمالا تخالف الايمان وصار مع كل طائفة نوع من الحق الذي جاء به الرسول لكن ملبوس بغيره وصار كثير من الطائفتين ينكر ما عليه الأخرى مطلقا كما قالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وفي كل من الطائفتين شبه من أحدى الامتين ففي المنتسبين الى العلم اذا لم يوافقوا العلم النبوي ويعملوا به شبه من اليهود وفي أهل العمل اذا لم يوافقوا العمل الشرعي ويعملوا بعلم شبه من النصارى وصار كثير من أهل الكلام والرأي ينكرون جنس محبة الله وارادته كما صار كثير من أهل الزهد والتصوف ينكر جنس العلم والكلام والنظر وأولئك الذين أنكروا محبة الله وإرادته بنوا ذلك على أصل لهم للقدرية المجبرة والنافية وهو أن المحبة والارادة والرضا والمشيئة شيء واحد ولا يتعلق ذلك إلا بمعدوم وهو ارادة الفاعل أن يفعل مالم يكن فعله فاعتقدوا أن المحبة والارادة لا تتعلق إلا بمعدوم فالموجود لا يحب ولا يراد والقديم الأزلي لا يحب ولا يراد والباقي لا يحب ولا يراد فانكروا أن يكون الله محبوبا أو مرادا وهم لانكار كونه يحب أبلغ وأبلغ فلا يثبتون إلا مشيئته أن يخلق فقط وهي لا تتعلق إلا بمعدوم فأما أن يحب موجودا من خلقه فهذا باطل عند الطائفتين لكن المجبرة يقولون محبته هي مشيئته وقد شاء خلق كل شيء فهو يحب كل شيء والنفاة يقولون محبته هي إرادته إثابة المطيعين وهي مشيئة خاصة والذي جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الامة وعليه مشايخ المعرفة وعموم المسلمين أن الله يحب ويحب كما نطق بذلك الكتاب والسنة في مثل قوله يحبهم ويحبونه ومثل قوله والذين آمنوا أشد حبا لله

وقوله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله بل لا شيء يستحق أن يحب لذاته محبة مطلقة إلا الله وحده وهذا من معنى كونه معبودا فحيث جاء القرآن بالامر بالعبادة والثناء على أهلها أو على المنيبين الى الله والتوابين اليه أو الأوابين أو المطمئنين بذكره أو المحبين له ونحو ذلك فهذا كله يتضمن محبته وما لا يحب ممتنع كونه معبودا ومألوها ومطمأنا بذكره ومن أطيع لعوض يؤخذ منه أو لدفع ضرره فهذا ليس بمعبود ولا إله بل قد يكون الشخص كافرا وظالما يبغض ويلعن ومع هذا يعمل معه عامل بعوض فمن جعل العمل لله لا يكون إلا لذلك فلم يثبت الرب إلها معبودا ولا ربا محمودا وهو حقيقة قول النفاة من الجهمية والقدرية النافية والمثبتة والله سبحانه وتعالى رغب في عبادته والعمل له بما ذكره من الوعد ورهب من الكفر به والشرك بما ذكره من الوعيد وهو حق لكنه لم يقل ان العابد لله والعامل له لا يحصل له إلا ما ذكر بل وقد قال تعالى فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أدن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخرا بله ما أطلعتهم عليه اقرءوا ان شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون وقد ثبت في الحديث الصحيح عن صهيب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يقول الله يا أهل الجنة ان لكم عندي موعدا أريد أن أنجزكموه فيقولون ما هو ألم تنضر وجوهنا وتثقل موازيننا وتدخلنا الجنة وتجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون اليه فما أعطاهم شيئا أحب اليهم من النظر اليه وهي الزيادة وفي الحديث الذي رواه النسائي لما صلى عمار فأوجز وقال دعوت في الصلاة بدعاء سمعته من النبي صلى الله عليه و سلم اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني اذا كانت الوفاة خيرا لي اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وقرة عين لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر الى وجهك والشوق

الى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الايمان واجعلنا هداة مهتدين وروى نحوا هذا من وجه آخر فقد أخبر الصادق المصدوق أنه لم يعط أهل الجنة أحب إليهم من النظر اليه وسن أن يدعى بلذة النظر الى وجهه الكريم وأهل الجنة قد تنعموا من أنواع النعيم بالمخلوقات بما هو غاية النعيم فلما كان نظرهم إليه أحب اليهم من كل أنواع النعيم علم أن لذة النظر إليه أعظم عند أهل الجنة من جميع أنواع اللذات والجنة فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين فما لذت أعينهم باعظم من لذتها بالنظر اليه واللذة تحصل بادراك المحبوب فلو لم يكن أحب اليهم من كل شيء ما كان النظر اليه أحب اليهم من كل شيء وكانت لذته أعظم من كل لذة والله تعالى وعد عباده المؤمنين بالجنة وهي اسم لدار فيها جميع أنواع اللذات المتعلقة بالمخلوق وبالخالق كما أن النار اسم لدار فيها أنواع الآلام لكن غلط من ظن أن التنعيم بالنظر اليه ليس من نعيم أهل الجنة وصار هؤلاء حزبين حزبا أنكروا التنعيم بالنظر اليه وهم المنكرون المحبة قال أبو المعالي ونحوه ممن ينكر محبته إنهم اذا رأوه لم يلتذوا بنفس النظر بل يخلق لهم لذة ببعض المخلوقات مع النظر وكذلك قال من شاركهم في التجهم من أهل الوحدة كابن عربي قال ما التذ عارف بمشاهدة قط وادعى أبو المعالي أن إنكار محبته من أسرار التوحيد وهو من أسرار توحيد الجهمية المعطلة المبدلة وحكى عن ابن عقيل أنه سمع رجلا يقول أسألك لذة النظر الى وجهك الكريم فقال له هب أن له وجها أله وجه يلتذ بالنظر اليه وهذا بناء على هذا الاصل فانه وشيخه أبا يعلى ونحوهما وافقوا الجهمية في إنكار أن يكون الله محبوبا واتبعوا في ذلك قول أبي بكر بن الباقلاني ونحوه ممن ينكر محبة الله وجعل القول باثباتها قول الحلولية والجواب الثاني أن طائفة من الصوفية والعباد شاركوا هؤلاء في أن مسمى الجنة لا يدخل فيه النظر الى الله وهؤلاء لهم نصيب من محبة الله تعالى والتلذذ بعبادته وعندهم نصيب من الخوف والشوق والغرام فلما ظنوا أن الجنة لا يدخل فيها النظر اليه صاروا يستخفون بمسمى الجنة ويقول أحدهم ما عبدتك شوقا الى جنتك ولا خوفا من نارك وهم غلطوا من وجهين أحدهما أن ما يطلبونه من النظر اليه والتمتع بذكره ومشاهدته كل ذلك في الجنة

الثاني أن الواحد من هؤلاء لو جاع في الدنيا أياما أو القي في بعض عذابها طار عقله وخرج من قلبه كل محبة ولهذا قال سمنون ... وليس لي في سواك حظ ... فكيفما شئت فامتحني ...
ابتلى بعسر البول فصار يطوف على المكاتب ويقول ادعوا لعمكم الكذاب وأبو سليمان لما قال قد أعطيت من الرضا نصيبا لو ألقاني في النار لكنت راضيا ذكر أنه ابتلى بمرض فقال ان لم تعافني وإلا كفرت أو نحو هذا والفضيل بن عياض إبتلي بعسر البول فقال بحبي لك إلا فرجت عني فبذل حبه في عسر البول فلا طاقة لمخلوق بعذاب الخالق ولا غنى به عن رحمته وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم لرجل ما تدعو في صلاتك قال أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار أما أني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال حولها ندندن ودخل على أعرابي قد صار مثل الفرخ فقال هل كنت تدعو الله بشيء قال كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخره فعجله لي في الدنيا فقال سبحان الله انك لا تستطيعه ولا تطيقه هلا قلت اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار والعدوان في الارادة والعبادة والعمل حصل من إعراضهم عن العلم الشرعي واتباع الرسول وقد قال تعال قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله قال بعضهم ليس الشأن في أن تحبه الشأن في أن يكون هو يحبك وهو إنما يحب من اتبع الرسول وإلا فالمشركون وأهل الكتاب يدعون أنهم يحبونه وأولئك غلطوا بنفي محبته وهؤلاء أثبتوا محبة شركية لم يثبتوا محبة توحيدية خالصة وقد قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله
فالأقسام ثلاثة أولئك معطلة للمحبة وحقيقة قولهم تعطيل العبادة مطلقا وهؤلاء مشركون في المحبة فهم مشركون في العبادة أولئك مستكبرون عن عبادته والكبر لليهود وهؤلاء مشركون في عبادته والشرك للنصارى وكل واحد من المستكبرين والمشركين ليسوا مسلمين بل الاسلام هو الاستسلام لله وحده ولفظ

الاسلام يتضمن الاسلام ويتضمن إخلاصه لله وقد ذكر ذلك غير واحد حتى أهل العربية كأبي بكر بن الأنباري وغيره ومن المفسرين من يجعلهما قولين كما يذكر طائفة منهم البغوي أن المسلم هو المستسلم لله وقيل هو المخلص والتحقيق أن المسلم يجمع هذا وهذا فمن لم يستسلم له لم يكن مسلما ومن استسلم لغيره كما يستسلم له لم يكن مسلما ومن استسلم له وحده فهو المسلم كما في القرآن بلى من اسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقال ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم خليلا والاستسلام له يتضمن الاستسلام لقضائه وأمره ونهيه فيتناول فعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور انه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع أجر المحسنين قال ابن أبي حاتم حدثنا عصام بن وراد حدثنا آدم عن أبي جعفر عن الربيع عن أبي العالية في قوله بلى من أسلم وجهه لله يقول من أخلص لله قال ابن أبي حاتم وروى عن الربيع نحو ذلك وقال ذكر عن يحيى بن آدم حدثنا ابن المبارك عن حيوة بن شريح عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير من أسلم وجهه لله من أسلم أخلص وجهه قال دينه وقال أبو الفرج أسلم بمعنى أخلص وفي الوجه قولان أحدهما أنه الدين والثاني العمل وقال البغوي من أسلم وجهه لله أخلص دينه لله وقيل أخلص عبادته لله وقيل خضع وتواضع لله وأصل الاسلام الاستسلام والخضوع وخص الوجه لأنه إذا جاد بوجهه في السجود لم يبخل بسائر جوارحه وهو محسن في عمله قيل مؤمن وقيل مخلص قلت قول من قال خضع وتواضع لربه هو داخل في قول من قال أخلص دينه أو عمله أو عبادته لله فان هذا إنما يكون اذا خضع له وتواضع له دون غيره فان العبادة والدين والعمل له لا يكون الا مع الخضوع له والتواضع وهو مستلزم لذلك ولكن أولئك ذكروا مع هذا أن يكون هذا الاسلام لله وحده فذكروا المعنيين الاستلزام وأن يكون لله وقول من قال خضع وتواضع لله يتضمن أيضا أنه أخلص عبادته

ودينه لله فان ذلك يتضمن الخضوع والتواضع لله دون غيره وأما ذكر التوجه فقد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع وتبين أن الله ذكر إسلام الوجه له في قوله فأقم وجهك للدين وذكر توجيه الوجه له في قوله إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والارض لان الوجه إنما يتوجه الى حيث توجه القلب والقلب هو الملك فاذا توجه الوجه نحو جهة كان القلب متوجها اليها ولا يمكن الوجه أن يتوجه بدون القلب فكان إسلام الوجه وإقامته وتوجيهه مستلزما لاسلام القلب وإقامته وتوجيهه وذلك يستلزم اسلام كله لله وتوجيه كله لله وإقامة كله لله وبسط الكلام على ما يناسب ذلك
وهذا حقيقة دين الاسلام لكن الذين أنكروا ذلك لهم شبهتان إحداهما أن المحبة تقتضي المناسبة قالوا وهي منتفية فلا مناسبة بين المحدث والقديم فيقال لهم هذا كلام مجمل تعنون بالمناسبة الولادة أو المماثلة ونحو ذلك مما يجب تنزيه الرب عنه فان الشيء ينسب إلى أصله بأنه ابن فلان والى فرعه بأنه ابو فلان وإلى نظيره بأنه مثل فلان ولما سأل المشركون النبي صلى الله عليه و سلم عن نسب ربه أنزل الله تعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فلم يخرج من شيء ولا يخرج منه شيء ولا له مثل فان عنيتم هذا لم نسلم أن المحبة لا بد فيها من هذا وإن أردتم بالمناسبة أن يكون المحبوب متصفا بمعنى يحبه المحب فهذا لازم للمحبة والرب متصف بكل صفة تحب وكل ما يحب فانما هو منه فهو أحق بالمحبة من كل محبوب وإذا كان الانسان يحب الملائكة وهم من غير جنسه لما اتصفوا به من الصفات الحميدة فالسبوح القدوس رب الملائكة والروح الذي كل ما اتصفت به الملائكة وغيرهم فهو من جوده وإحسانه وهو العزيز الرحيم اذ كان المخلوق كثيرا ما يتصف بالعزة دون الرحمة أو تكون فيه رحمة بلا عزة وهو سبحانه العزيز الرحيم الغفور الودود المجيد الودود فعول من الود وقال شعيب إن ربي رحيم ودود وقال تعالى وهو الغفور الودود فقرنه بالرحيم في موضع

وبالغفور في موضع قال أبو بكر ابن الانباري الودود معناه المحب لعباده من قولهم وددت الرجل أوده ودا وودا وودا ويقال وددت الرجل ودادا وودادا وودادة وقال الخطابي هو اسم مأخوذ من الود وفيه وجهان أحدهما أن يكون فعولا في محل مفعول كما قيل رجل هيوب بمعنى مهيب وفرس ركوب بمعنى مركوب والله سبحانه وتعالى مودود في قلوب أوليائه لما يعرفونه من إحسانه اليهم والوجه الآخر أن يكون بمعنى الود أي أنه يود عباده الصالحين بمعنى أنه يرضى عنهم ويتقبل أعمالهم ويكون معناه أن يوددهم إلى خلقه كقوله سيجعل لهم الرحمن ودا قلت قوله سيجعل لهم الرحمن ودا فسروها بأنه يحبهم ويحببهم الى عباده كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إذا أحب الله العبد نادى يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء إن الله يحب فلانا فأحبه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض وقال في البغض مثل ذلك وقال عبد ابن حميد أنبأنا عبيد الله بن موسى عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس سيجعل لهم الرحمن ودا قال يحبهم ويحببهم ورواه ابن أبي حاتم أيضا وقال عبد أخبرني شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد سيجعل لهم الرحمن ودا قال يحبهم ويحببهم الى المؤمنين أخبرنا عبد الرزاق عن الثوري عن مجاهد عن ابن عباس سيجعل لهم الرحمن ودا قال محبة وهذا فيه إثبات حبه لهم بعد أعمالهم بقوله سيجعل لهم الرحمن ودا وهو نظير قوله قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله فهو يحبهم إذا اتبعوا الرسول ونظير قوله في الحديث الصحيح ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وكذلك قوله وأحسنوا ان الله يحب المحسنين ان الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ان الله يحب المتقين إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص وهذه الآيات وأشباهها تقتضي أن الله يحب أصحاب هذه الأعمال فهو يحب التوابين وإنما يكونون توابين بعد الذنب ففي هذه الحال

يحبهم وهذا مبني على الصفات الاختيارية فمن نفاها رد هذا كله ولهم قولان أحدهما أن المحبة قديمة فهو يحبهم في الأزل إذا علم أنهم يموتون على حال مرضية ويقولون أن الله يحب الكفار في حال كفرهم اذا علم أنهم يموتون على الايمان ويبغض المؤمن إذا علم أنه يرتد هذا قول ابن كلاب ومن تبعه ثم منهم من يفسر المحبة بالارادة ومنهم من يقول هي صفة زائدة على الارادة والقول الثاني يجعلون هذا من باب الفعل فالمحبة عندهم إحسانه اليهم والاحسان عندهم ليس قائما به بل بائن عنه والكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة والأدلة العقلية إنما تدل على القول الأول كما قد بسط في غير هذا الموضع اذ المقصود هنا ذكر اسمه الودود والاكثرون على ما ذكره ابن الأنباري وأنه فعول بمعنى فاعل أي هو الواد كما قرنه بالغفور وهو الذي يغفر وبالرحيم وهو الذي يرحم قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عيسى بن جعفر قاضي الري حدثنا سفيان في قوله إن ربي رحيم ودود قال محب وقال قرئ على يونس حدثنا ابن وهب قال وقال ابن زيد قوله الودود قال الرحيم وقد ذكر فيه قولين القول الاول رواه من تفسير الوالبي عن ابن عباس قوله الودود قال الحبيب والثاني قول ابن زيد الرحيم وما ذكره الوالبي أنه الحبيب قد يراد به المعنيان أنه يحب ويحب فان الله يحب من يحبه وأولياؤه يحبهم ويحبونه والبغوي ذكر الأمرين فقال وللودود معنيان أن يحب المؤمنين وقيل هو بمعنى المودود أي محبوب المؤمنين وقال أيضا في قوله وهو الغفور الودود أي المحب لهم وقيل معناه المودود كالحلوب والركوب بمعنى المحلوب والمركوب وقيل يغفر ويود أن يغفر وقيل المتودد إلى أوليائه بالمغفرة قلت هذا للفظ معروف في اللغة أنه بمعنى الفاعل كقول النبي صلى الله عليه و سلم تزوجوا الودود الولود وفعول بمعنى فاعل كثير كالصبور والشكور وأما بمعنى مفعول فقليل وأيضا فان سياق القرآن يدل على أنه أراد أنه هو الذي يود عباده كما أنه هو الذي يرحمهم ويغفر لهم فان شعيبا قال واستغفروا ربكم ثم توبوا اليه إن ربي رحيم ودود فذكر رحمته ووده كما قال تعالى وجعل بينكم مودة ورحمة وهو أراد

وصفا يبين لهم أنه سبحانه يغفر الذنب ويقبل على التائب وهو كونه ودودا كما قال إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وقد ثبت في الصحاح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الله يفرح بتوبة التائب أشد من فرح من فقد راحلته بأرض دوية مهلكة ثم وجدها بعد اليأس فهذا الفرح منه بتوبة التائب يناسب محبته له ومودته له وكذلك قوله في الآية الأخرى وهو الغفور الودود فانه مثل قوله وهو الغفور الرحيم وأيضا فان كونه مودودا أي محبوبا يذكر على الوجه الكامل الذي يتبين اختصاصه به مثل اسم الآله فإن الآله المعبود هو مودود بذلك ومثل اسمه الصمد ومثل ذي الجلال والاكرام ونحو ذلك وكونه مودودا ليس بعجيب وإنما العجب جوده واحسانه فانه يتودد إلى عباده كما في الاثر يا عبدي كم أتودد اليك بالنعم وأنت تتمقت إلي بالمعاصي ولا يزال ملك كريم يصعد إلي منك بعمل سيء وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يقول الله تعالى من تقرب إلي شبرا تقربت اليه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت اليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة وجاء في تفسير اسمه الحنان المنان أن الحنان الذي يقبل على من أعرض عنه والمنان الذ يجود بالنوال قبل السؤال وأيضا فمبدأ الحب والود منه لكن اسمه الودود يجمع المعنيين كما قال الوالبي عن ابن عباس انه الحبيب وذلك أنه إذا كان يود عباده فهو مستحق لان يوده العباد بالضرورة ولهذا من قال انه يحب المؤمنين قال انهم يحبونه فان كثيرا من الناس يقول انه محبوب وهو لا يحب شيئا مخصوصا لكن محبته بمعنى مشيئته العامة ومن الناس من قال إنه لا يحب مع أنه يثبت محبته للمؤمنين فالقسمة في المحبة رباعية فالسلف وأهل المعرفة أثبتوا النوعين قالوا إنه يحب ويحب والجهمية والمعتزلة تنكر الأمرين ومن الناس من قال إنه يحبه المؤمنون وأما هو فلا يحب شيئا دون شيء ومنهم من عكس فقال بل هو يحب المؤمنين مع أن ذاته لا يحب كما يقولون إنه يرحم ولا يرحم فاذا قيل إن الودود بمعنى الواد لزم أن يكون مودودا بخلاف العكس فالصواب القطع بأن الودود وان كان ذلك متضمنا لأنه يستحق أن يود ليس هو بمعنى المودود فقط ولفظ الوداد بالكسر هو مثل الموادة والتواد وذاك

يكون من الطرفين كالتحاب وهو سبحانه لما جعل بين الزوجين مودة ورحمة كان كل منهما يود الآخر ويرحمه وهو سبحانه كما ثبت في الحديث الصحيح أرحم بعباده من الوالدة بولدها وقد بين الحديث الصحيح أن فرحه بتوبة التائب أعظم من فرح الفاقد ماله ومركوبه في مهلكة إذا وجدهما بعد اليأس وهذا الفرح يقتضي أنه أعظم مودة لعبده المؤمن من المؤمنين بعضهم لبعض كيف وكل ود في الوجود فهو من فعله فالذي جعل الود في القلوب هو أولى بالود كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما في قوله سيجعل لهم الرحمن ودا قال يحبهم وقد دل الحديث الذي في الصحيحين على أن ما يجعله من المحبة في قلوب الناس هو بعد أن يكون هو قد أحبه وأمر جبريل أن ينادي بأن الله يحبه فنادى جبريل في السماء أن الله يحب فلانا فأحبوه وبسط هذا له موضع آخر وفي مناجاة بعض الداعين ليس العجب من حبي لك مع حاجتي إليك العجب من حبك لي مع غناك عني وفي أثر آخر يا عبدي وحقي اني لك محب فبحقي عليك كن لي محبا وروي يا داود حببني إلى عبادي وحبب عبادي إلي مرهم بطاعتي فأحبهم وذكرهم آلائي فيحبوني فانهم لا يعرفون مني إلا الحسن الجميل وهو سبحانه كما قال كل ما خلقه فانه من نعمه على عباده ولهذا يقول فبأي آلاء ربكما تكذبان والخير بيديه لا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يذهب بالسيئات إلا هو ولا حول ولا قوة إلا به ولا ملجأ ولا منجا منه إلا اليه ووده سبحانه هو لمن تاب اليه وأناب اليه كما قال إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا وقال إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين فلا يستوحش أهل الذنوب وينفرون منه كأنهم حمر مستنفرة فانه ودود رحيم بالمؤمنين يحب التوابين ويحب المتطهرين ولهذا قال شعيب واستغفروا ربكم ثم توبوا اليه إن ربي رحيم ودود وقال هنا وهو الغفور الودود فذكر الودود في الموضعين لبيان مودته للمذنب إذا تاب اليه بخلاف القاسي الجافي الغليظ الذي لا ود فيه
والحجة الثانية لهم قالوا إن الارادة والمحبة لا تتعلق إلا بمعدوم يراد فعله فانه

لو جاز أن يراد الموجود وأن يراد القديم لجاز أن يكون العالم قديما مع كونه مراد مقدورا كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة فان القائلين إنه موجب بذاته والعالم قديم منهم من يصفه بالارادة كأبي البركات وغيره قالوا ومن المعلوم بالاضطرار للعقلاء إذ قالوا هذا الامر حصل بالارادة أن يكون محدثا كائنا بعد أن لم يكن ولهذا لا يجوز أن يقال إن قدرته ومشيئته تعلقت بوجوده ولا ببقائه ولا بكونه حيا ومن قال إن صفاته قديمة الأعيان لا يقول إن كلامه وإرادته حصلت بارادته وقدرته فيقال هذا الذي قالوه صحيح لكن هنا نوعان أحدهما إرادة أن يفعل الشيء ويكون فهذه لا تكون إلا مع حدوثه والثانية محبة نفس ذاته من غير أن يفعل في الذات شيء فهذه التي تتعلق بالموجود والباقي والقديم وارادة الفعل تابعة لهذه فانه لولا أن تكون الارادة متعلقة بنفس الشيء الموجود امتنع أن راد ايجاده فان من أراد أن يبني بيتا ليسكنه إنما مراده نفس البيت لسكناه والانتفاع وانما البناء وسيلة إلى ذلك ولولا إرادة الغاية المقصودة بالذات لم ترد الوسيلة وإذا بناه فهو مريد له بعد البناء ولهذا يكره خرابه وزواله وكذلك من أراد أن يلبس ثوبا فلبسه فهو في حال اللبس مريد له فمن أراد إحداث أمر وفعله كانت إرادة فعله لغاية مقصودة بعد الفعل هي العلة الغائبة والفعل المطلوب لغاية لفاعله ارادتان ارادة الفعل وارادة الغاية وهذه هي الأصل وتلك تبع لهذه والارادة ارادة لا تتعلق بالمعدوم من جهة كونه معدوما بل تتعلق بوجود الفعل لكن يمتنع أن يراد فعله إلا اذا كان معدوما فالعدم شرط في ارادة فعله ولهذا جعل من جملة علل الفعل ولهذا كان جماهير العقلاء مطبقين على أن كل مفعول فهو حادث وكل ما أريد أن يفعل فانه يكون حادثا وكل ما تعلقت المشيئة والقدرة بفعله فهو حادث ثم من الناس من يقول هذا مختص بكونه مفعولا بالاختبار وإلا اذا كان معلولا لعلة موجبة لم يلزم حدوثه وهو غلط بل كل ما فعل فلا يكون الا محدثا سواء كان ذلك ممكنا أو ممتنعا بل نفس كونه مفعولا مستلزم حدوثه ونفس تصور العلم بكونه مفعولا يوجب العلم بحدوثه وان لم يخطر بالباب كونه مفعولا بالقدرة والاختيار ثم قد يقال ما من مفعول إلا وهو مفعول بالاختيار والقديم اذا قدر فاعلا بلا مشيئة كان ذلك

ممتنعا والموجب بالذات اذا قيل هو موجب بذاته المتصفة بمشيئته وقدرته لما يشاؤه فهذا حق وهو مستلزم لكونه فاعلا بمشيئته وقدرته وأما موجب بلا مشيئة أو موجب يقارنه موجبه فهذان باطلان وبهما ضل من ضل من المتفلسفة القائلين بقدم الفلك ونفي الصفات ولكن من أراد احداث شيء وأحدثه لم يجب أن تنقطع ارادته بل قد يكون مريدا له ما دام موجودا ولولا انه مريد لوجوده لما فعله فكل ما شاء الرب وجوده فهو مريد لاحداثه وبقائه ما دام باقيا وأما الارادة والمحبة المتعلقة بالقديم فليست ارادة فعل فيه بل هي محبة ذاته وكل ارادة ومحبة فلا بد أن تنتهي الى محبوب لذاته وكل فاعل بالارادة فارادته تستلزم محبة عامة لاجلها فعل فالحب أصل وجود كل موجود والرب تعالى يحب نفسه ومن لوازم حبه نفسه أنها محبة مريدة لما يريد أن يفعله وما أراد فعله فهو يريده لغاية يحبها فالحب هو العلة الغائبة التي لأجلها كان كل شيء والمتفلسفة يصفونه بالابتهاج والفرح كما جاءت به النصوص النبوية لكنهم يقصرون في معرفة هذا وأمثاله من الأمور الالهية فانهم يقولون اللذة إدراك الملائم من حيث هو ملائم وهو مدرك لذاته بأفضل إدراك فهو أفضل مدرك لأفضل مدرك بأفضل إدارك وقد قصروا في ذلك من ثلاثة أوجه أحدها أن اللذة والفرح والسرور والبهجة ليس هو مجرد الادراك بل هو حاصل عقب الادراك فالادراك موجب له ولا بد في وجوده من محبة فهنا ثلاثة أمور محبة وادراك محبوب ولذة تحصل بالادراك وهذا في اللذة الدنيوية الحسية وغيرها فان الانسان يشتهي الحلو ويحبه فاذا ذاقه التذ بذوقه والذوق هو الادراك وكذلك في لذات قلبه يحب الله فانه اذا ذكره وصلى له وجد حلاوة ذلك كما قال صلى الله عليه و سلم جعلت قرة عيني في الصلاة وأهل الجنة اذا تجلى لهم فنظروا اليه فما أعطاهم شيئا أحب اليهم من النظر اليه والله أعلم

فصل في تمام القول في محبة الله

وانقسام المراد الى ما يراد لذاته والى ما يراد لغيره

ثم ذلك الغير لا بد أن يكون مرادا لذاته فالمراد لذاته لازم لجنس الارادة

والارادة لازمة لجنس الحركة فان الحركة القسرية مستلزمة للحركة الارادية والحركة الارادية مستلزمة للمراد لذاته فكان جنس الحركات الموجودة في العالم مستلزم للمراد لذاته وهو المعبود الذي يستحق العبادة لذاته وهو الله لا إله إلا هو فلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل وكل عامل لا يكون عمله لله بل لغيره فهو المشرك فانه كما قال الله تعالى فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق فان قوام الشيء بطبيعته الخاصة به فالحي قوامه بطبيعته المستلزمة لحركته الارادية وقوامها بالمراد لذاته فاذا لم تكن حركتها لارادة المعبود لذاته لم يكن لنفسه قوام بل بقيت ساقطة خارة كما ذكر الله تعالى ولهذا يهوي في الهاوية وهو ذنب لا يغفر لأنه فسد الأصل كالمريض الذي فسد قلبه لا ينفع مع ذلك إصلاح أعضائه ولفظ دعاء الله في القرآن يراد به دعاء العبادة ودعاء المسألة فدعاء العبادة يكون الله هو المراد به فيكون الله هو المراد ودعاء المسألة يكون الله هو المراد منه كما في قول المصلي إياك نعبد وإياك نستعين فالعبادة إرادته والاستعانة وسيلة الى العبادة فالعبادة إرادة المقصود وارادة الاستعانة ارادة الوسيلة الى المقصود ولهذا قدم قوله إياك نعبد وان كانت لا تحصل إلا بالاستعانة فان العلة الغائبة مقدمة في التصور والقصد وان كانت مؤخرة في الوجود والحصول وهذا إنما يكون لكونه هو المحبوب لذاته لكن المراد به محبة مختصة به على سبيل الخضوع له والتعظيم وعلى سبيل تخصيصها به فيعبر عنها بلفظ الإنابة والعبادة ونحو ذلك اذ أن لفظ المحبة جنس عام يدخل فيه أنواع كثيرة فلا يرضى لله بالقدر المشترك بل اذا ذكر من يحب غير الله ذكر الله قال تعالى والذين آمنوا أشد حبا لله واذا ذكر محبتهم لربهم ذكرت محبته لهم وجهادهم كما في قوله فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم وفي مثل قوله أحب اليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله ولهذا كانت القلوب تطمئن بذكره كما قال تعالى ألا بذكر الله تطمئن القلوب فتقديم المفعول يدل على أنها لا تطمئن إلا بذكره وهو تعالى

اذا ذكر وجلت فحصل لها اضطراب ووجل لما تخافه من دونه وتخشاه من فوات نصيبها منه فالوجل اذا ذكر حاصل بسبب من الانسان وإلا فنفس ذكر الله يوجب الطمأنينة لانه هو المعبود لذاته والخير كله منه قال تعالى نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم وقال تعالى اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم وقال علي رضي الله عنه لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن عبد إلا ذنبه فالخوف الذي يحصل عند ذكره هو بسبب من العبد وإلا فذكر الرب نفسه يحصل الطمأنينة والامن فما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك كما قال ذلك المريض الذي سئل كيف تجدك فقال أرجو الله وأخاف ذنوبي فقال النبي صلى الله عليه و سلم ما اجتمعا في قلب عبد مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف ولم يقل بذكر الله توجل القلوب كما قال ألا بذكر الله تطمئن القلوب بل قال اذا ذكر الله وجلت قلوبهم ثم قال واذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا وعلى ربهم يتوكلون وإنما يتوكلون عليه لطمأنينتهم الى كفايته وأنه سبحانه حسب من توكل عليه يهديه وينصره ويرزقه بفضله ورحمته وجوده فالتوكل عليه يتضمن الطمأنينة اليه والاكتفاء به عما سواه وكذلك قال في الآية الأخرى فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين الذين اذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون فهم مخبتون والمخبت المطمئن الخاضع لله والارض الخبت المطمئنة روى ابن أبي حاتم من حديث ابن مهدي عن الثوري عن ابن أبي نجيح وبشر المخبتين قال المطمئنين وعن الضحاك المتواضعين فوصفهم بالطمأنينة مع الوجل كما وصفهم هناك بالتوكل عليه مع الوجل وكما قال في وصف القرآن تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله فذكر أنه بعد الاقشعرار تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله فذكره بالذات يوجب الطمأنينة وإنما الاقشعرار والوجل عارض بسبب ما في نفس الانسان من التقصير في حقه والتعدي لحده فهو كالزبد مع ما ينفع الناس الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في

الارض فالخوف مطلوب لغيره ليدعو النفس الى فعل الواجب وترك المحرم وأما الطمأنينة بذكره وفرح القلب به ومحبته فمطلوب لذاته ولهذا يبقى معهم هذا في الجنة فيلهمون التسبيح كما يلهمون النفس والمتفلسفة رأوا اللذات في الدنيا ثلاثة حسية ووهمية وعقلية والحسية في الدنيا غايتها دفع الالم والوهمية خيالات واضحات واللذات الحقيقية هي العلم فجعلوا جنس العلم غاية وغلطوا من وجوه أحدها أن العلم بحسب المعلوم فاذا كان المعلوم محبوبا تكمل النفس بحبه كان العلم به كذلك وان كان مكروها كان العلم به لحذره ودفع ضرره كالعلم بما يضر الانسان من شياطين الانس والجن فلم يكن المقصود نفس العلم بل المعلوم ولهذا قد يقولون سعادتها في العلم بالامور الباقية وأنها تبقى ببقاء معلومها ثم يظنون أن الفلك والعقول والنفوس أمور باقية وأن بمعرفة هذه تحصل سعادة النفس وأبو حامد في مثل معراج السالكين ونحوه يشير الى هذا فان كلامه برزخ بين المسلمين وبين الفلاسفة ففيفه فلسفة مشوبة باسلام وإسلام مشوب بفلسفة ولهذا كان في كتبه كالأحياء وغيره يجعل المعلوم بالأعمال والأعمال كلها إنما غايتها هو العلم فقط وهذا حقيقة قول هؤلاء الفلاسفة وكان يعظم الزهد جدا ويعتني به أعظم من اعتنائه بالتوحيد الذي جاءت به الرسل وهو عبادة الله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه فان هذا التوحيد يتضمن محبة الله وحده وترك محبة المخلوق مطلقا إلا اذا أحبه الله فيكون داخلا في محبة الله بخلاف من يحبه مع الله فان هذا شرك وهؤلاء المتفلسفة إنما يعظمون تجريد النفس عن الهيولي وهي المادة وهي البدن وهو الزهد في أغراض البدن وهو الزهد في الدنيا وهذا ليس فيه إلا تجريد النفس عن الاشتغال بهذا فتبقى النفس فارغة فيلقي اليها الشيطان ما يلقيه ويوهمه أن ذلك من علوم المكاشفات والحقائق وغايته وجود مطلق هو في الاذهان لا في الاعيان ولهذا جعل أبو حامد السلوك إلى إلا ثلاثة منازل بمنزلة السلوك الى مكة فان السالك اليها له ثلاثة أصناف من الشغل الاول تهيئة الاسباب كشراء الزاد والراحلة وخرز الراوية والآخر السلوك ومفارقة الوطن بالتوجه الى الكعبة منزلا بعد منزل والثالث الاشتغال بأركان الحج ركنا بعد ركن ثم بعد النزوع عن لبسة الاحرام

وطواف الوداع استحق التعرض للملك والسلطنة قال فالعلوم ثلاثة قسم يجري مجرى سلوك البوادي وقطع العقبات وهو تطهير الباطن عن كدورات الصفات وطلوع تلك العقبة الشامخة التي عجز عنها الاولون والآخرون إلا الموفقون قال فهذا سلوك للطريق وتحصيل علمه كتحصيل علم جهات الطريق ومنازله وكما لا يغني علم المنازل وطرق البوادي دون سلكوها فكذا لا يغني علم تهذيب الاخلاق دون مباشرة التهذيب لكن المباشرة دون العلم غير ممكن قال وقسم ثالث يجري مجرى نفس الحج وأركانه وهو العلم بالله وصفاته وملائكته وأفعاله وجميع ما ذكرناه في تراجم علم المكاشفة قال وههنا نجاة وفوز بالسعادة والنجاة حاصلة لكل سالك للطريق اذا كان غرضه المقصد وهو السلامة وأما الفوز بالسعادة فلا ينالها إلا العارفون فهم المقربون المنعمون في جوار الله بالروح والريحان وجنة نعيم وأما الممنوعون دون ذروة الكمال فلهم النجاة والسلامة كما قال الله تعالى فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من اصحاب اليمين قال وكل من لم يتوجه الى المقصد أو انتهض الى جهته لا على قصد الامتثال بالأمر والعبودية بل لغرض عاجل فهو من اصحاب الشمال ومن الضالين فله نزل من حميم وتصلية جحيم قال واعلم أن هذا هو الحق اليقين عند العلماء الراسخين في العلم أعني أنهم أدركوه بمشاهدة من الباطن ومشاهدة الباطن أقوى وأجل من مشاهدة الأبصار وترقوا فيه عن حد التقليد الى الاستبصار قلت وكلامه من هذا الجنس كثير ومن لم يعرف حقيقة مقصده يهوله مثل هذا الكلام لان صاحبه يتكلم بخبرة ومعرفة بما يقوله لا بمجرد تقليد لغيره لكن الشأن فيما خبره هل هو حق مطابق ومن سلك مسلك المتكلمين الجهمية والفلاسفة ولم يكن عنده خبرة بحقائق ما بعق به رسوله وأنزل به كتبه بل ولا بحقائق الأمور عقلا وكشفا فان هذا الكلام غايته وأما من عرف حقيقة ما جاءت به الرسل أو عرف مع ذلك بالبراهين العقلية والمكاشفات الشهودية صدقهم فيما أخبروا به فانه يعلم غاية مثل هذا الكلام وأنه إنما ينتهي الى التعطيل ولهذا ذاكرني مرة شيخ جليل له معرفة وسلوك وعلم في هذا فقال كلام أبي حامد يشوقك فتسير خلفه وهو

يشوقك فتسير خلفه منزلا بعد منزل فاذا هو ينتهي الى لا شيء وهذا الذي جعله هنا الغاية وهو معرفة الله وصفاته وأفعاله وملائكته قد ذكره في المضنون به على غير أهله وهو فلسفة محضة قول المشركين من العرب خير منه دع قول اليهود والنصارى بل قوم نوح وهود وصالح ونحوهم كانوا يقرون بالله وبملائكته وصفاته وأفعاله خيرا من هؤلاء لكن لم يقروا بعبادته وحده لا شريك له ولا بأنه أرسل رسولا من البشر وهذا حقيقة قول هؤلاء فانهم لا يأمرون بعبادة الله وحده لا شريك له ولا يثبتون حقيقة الرسالة بل النبوة عندهم فيض من جنس المنامات وأولئك الكفار ما كانوا ينازعون في هذا الجنس فان هذا الجنس موجود لجميع بني آدم ومع هذا فقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم كانوا يقرون بالملائكة كما قال فان أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة وقال قوم نوح ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الاولين بل فرعون قال لموسى أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين والعبادات كلها عندهم مقصودها تهذيب الاخلاق والشريعة سياسة مدنية والعلم الذي يدعون الوصول اليه لا حقيقة لمعلومه في الخارج والله أرسل رسوله بالاسلام والايمان بعبادة الله وحده وتصديق الرسول فيما أخبر فالاعمال عبادة الله والعلوم تصديق الرسول وكان النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ في ركعتي الفجر تارة بسورتي الاخلاص وتارة قولوا آمنا بالله وما أنزل الينا الآية فانها تتضمن الايمان والاسلام وبالآية من آل عمران قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم

والذين سلكوا خلف أبي حامد أو ضاهوه في السلوك كابن سبعين وابن عربي صرحوا بحقيقة ما وصلوا اليه وهو أن الوجود واحد وعلموا أن أبا حامد لا يوافقهم على هذا فاستضعفوه ونسبوه الى أنه مقيد بالشرع والعقل وأبو حامد بين علماء المسلمين وبين علماء الفلاسفة علماء المسلمين يذمونه على ما شارك فيه الفلاسفة مما يخالف دين الاسلام والفلاسفة يعيبونه على ما بقي معه من الاسلام وعلى كونه لم ينسلخ منه بالكلية الى قول الفلاسفة ولهذا كان الحفيد ابن رشد ينشد فيه ... يوما يمان اذا ما جئت ذا يمن ... وان لقيت معديا فعدناني ...
وأبو نصر القشيري وغيره ذموه على الفلسفة وأنشدوا فيه أبياتا معروفة يقولون فيها ... برئنا الى الله من معشر بهم مرض من كتاب الشفا ... وكم قلت يا قوم أنتم على ... شفا حفرة مالها من شفا ... فلما استهانوا بتعريفنا ... رجعنا الى الله حتى كفى ... فماتوا على دين رسطاليس وعشنا على سنة المصطفى ...
ولهذا كانوا يقولون أبو حامد قد أمرضه الشفاء وكذلك الطرطوسي والمازري وابن عقيل وأبو البيان وابن حمدين ورفيق أبي حامد أبو نصر المرغيناني وأمثال هؤلاء لهم كلام كثير في ذمه على ما دخل فيه من الفلسفة ولعلماء الاندلس في ذلك مجموع كبير ولهذا لما سلك خلفه ابن عربي وابن سبعين كان ابن سبعين في كتاب اليد وغيره يجعل الغاية هو المقرب وهو نظير المقرب في كلام أبي حامد ويجعل المراتب خمسة أدناها الفقيه ثم المتكلم ثم الفيلسوف ثم الصوفي الفيلسوف وهو السالك ثم المحقق وابن عربي له أربع عقائد الأولى عقيدة أبي المعالي وأتباعه مجردة عن حجة والثانية تلك العقيدة مبرهنة بحججها الكلامية والثالثة عقيدة الفلاسفة ابن سينا وأمثاله الذين يفرقون بين الواجب والممكن والرابعة التحقيق الذي وصل اليه وهو أن الوجود واحد وهؤلاء

يسلكون مسلك الفلاسفة الذي ذكره أبو حامد في ميزان العمل وهو أن الفاضل له ثلاث عقائد عقيدة مع العوام يعيش بها في الدنيا كالفقه مثلا وعقيدة مع الطلبة يدرسها لهم كالكلام والثالثة لا يطلع عليها أحد إلا الخواص ولهذا صنف الكتب المضنون بها على أهلها وهي فلسفة محضة سلك فيها مسلك ابن سيا ولهذا يجعل اللوح المحفوظ هو النفس الفلكية إلى امور أخرى قد بسطت في غير هذا الموضع ذكرنا ألفاظه بعينها في مواضع منها الرد على ابن سبعين وأهل الوحدة وغير ذلك فانه لما انتشر الكلام في مذهب أهل الوحدة وكنت لما دخلت إلى مصر بسببهم ثم صرت في الاسكندريةجاءني من فضلائهم من يعرف حقيقة أمرهم وقال ان كنت تشرح لنا كلام هؤلاء وتبين مقصودهم ثم تبطله وإلا فنحن لا نقبل منك كما لا نقبل من غيرك فان هؤلاء لا يفهمون كلامهم فقلت نعم أنا أشرح لك ما شئت من كلامهم مثل كتاب اليد والاحاطة لابن سبعين وغير ذلك فقال لي لا ولكن لوح الاصالة فان هذا يعرفون وهو في رءوسهم فقلت له هاته فلما أحضره شرحته له شرحا بينا حتى تبين له حقيقة الامر وأن هؤلاء ينتهي أمرهم إلى الوجود المطلق فقال هذا حق وذكر لي أنه تناظر اثنان متفلسف سبعيني ومتكلم على مذهب ابن التومرت فقال ذاك نحن شيخنا يقول بالوجود المطلق فقال الآخر ونحن كذلك إمامنا قلت له والمطلق في الاذهان لا في الأعيان فتبين له ذلك وأخذ يصنف في الرد عليهم ولم أكن أظن ابن التومرت يقول بالوجود المطلق حتى وقفت بعد هذا على كلامه المبسوط فوجدته كذلك وأنه كان يقول الحق حقان الحق المقيد والحق المطلق وهو الرب وتبينت أنه لا يثبت شيئا من الصفات ولا ما يتميز به موجود عن موجود فان ذلك يقيد شيئا من الاطلاق وسألني هذا عما يحتجون به من الحديث مثل الحديث المذكور في العقل وأن أول ما خلق الله تعالى العقل ومثل حديث كنت كنزا لا أعرف فأحببت أن اعرف وغير ذلك فكتبت له جوابا مبسوطا وذكرت أن هذه الاحاديث موضوعة وأبو حامد وهؤلاء لا يعتمدون على هذا وقد نقلوه إما من رسائل

اخوان الصفا أو من كلام أبي حيان التوحيدي أو من نحو ذلك وهؤلاء في الحقيقة هم من جنس الباطنية الاسماعيلية لكن أولئك يتظاهرون بالتشيع والرفض وهؤلاء غالبهم يميلون الى التشيع ويفضلون عليا ومنهم من يفضله بالعلم الباطن ويفضل أبا بكر في العلم الظاهر كأبي الحسن الحرلي وفيه نوع من مذهب الباطنية الاسماعيلية لكن لا يقول بوحدة الوجود مثل هؤلاء ولا أظنه يفضل غير الانبياء عليهم فهو أنبل من هؤلاء من وجه لكنه ضعيف المعرفة بالحديث والسير وكلام الصحابة والتابعين فيبني له أصولا على أحاديث موضوعة ويخرج كلامه من تصوف وعقليات وحقائق وهو خير من هؤلاء وفي كلامه أشياء حسنة صحيحة وأشياء كثيرة باطلة والله سبحانه وتعالى أعلم
الثاني أن صلاح النفس في محبة المعلوم المعبود وهي عبادته لا في مجرد علم ليس فيه ذلك وهم جعلوا غاية النفس التشبه بالله على حسب الطاقة وكذلك جعلوا حركة الفلك للتشبه به وهذا ضلال عظيم فان جنس التشبه يكون بين اثنين مقصودهما واحد كالإمام والمؤتم به وليس الأمر هنا كذلك بل الرب هو يعرف نفسه ويحب نفسه ويثني على نفسه والعبد نجاته وسعادته في أن يعرف ربه ويحبه ويثني عليه والتشبه به أن يكون هو محبوبا لنفسه مثنيا بنفسه على نفسه وهذا فساد في حقه وضار به والقوم أضل من اليهود والنصارى بل ومن مشركي العرب فانه ليس الرب عندهم رب العالمين وخالقهم ولا إلههم ومعبودهم ومشركو العرب كانوا يقرون بانه خالق كل شيء وما سواء مخلوق له محدث وهؤلاء الضالون لا يعترفون بذلك كما قد بسط في غير هذا الموضع
الوجه الثالث أنهم يظنون أن ما عندهم هو علم بالله وليس كذلك بل هو جهل والرازي لما شاركهم في بعض أمورهم صار حائرا معترفا بذلك لما ذكر أقسام اللذات وأن اللذة العقلية هي الحق وهي لذة العلم وأن شرف العلم بشرف المعلوم وهو الرب وأن العلم به ثلاث مقامات العلم بالذات والصفات والأفعال قال وعلى كل مقام عقدة فالعلم بالذات فيه أن وجود الذات هل هو زائد عليها أم لا وفي الصفات

هل الصفات زائدة على الذات أم لا وفي الأفعال هل الفعل مقارن أم لا ثم قال ومن الذي وصل الى هذا الباب أو من الذي ذاق من هذا الشراب ... نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال ... وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وغاية دنيانا أذى ووبال ... ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا ...
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفيه فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات الرحمن على العرش استوى اليه يصعد الكلم الطيب واقرأ في النفي ليس كمثله شيء ولا يحيطون به علما ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي فالسعادة أن يكون العلم المطلوب هو العلم بالله وما يقرب اليه ويعلم أن السعادة في أن يكون الله هو المحبوب المراد المقصود ولا يحتجب بالعلم عن المعلوم كما قال ذلك الشيخ العارف للغزالي لما قال له أخلصت أربعين صباحا فلم يتفجر لي شيء فقال يا بني أنت أخلصت للحكمة لم يكن الله هو مرادك والاخلاص لله أن يكون الله هو مقصود المرء ومراده فحينئذ تتفجر ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه كما في حديث مكحول عن النبي صلى الله عليه و سلم من أخلص لله أربعين صباحا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ولهذا تقول العامة قيمة كل امرئ ما يحسن والعارفون يقولون قيمة كل امرئ ما يطلب وفي الاسرائيليات يقول اني لا أنظر الى كلام الحكيم وإنما أنظر الى همته فالنفس لها قوة الإرادة مع الشعور وهما متلازمان وهؤلاء لحظوا شعورها وأعرضوا عن أرادتها وهي تتقوم بمرادها لا بمجرد ما تشعر به فانها تشعر بالخير والشر والنافع والضار ولكن لا يجوز أن يكون مرادها ومحبوبها إلا ما يصلحها وينفعها وهو الآله المعبود الذي لا يستحق العبادة غيره وهو الله لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ثم مع هذا يكون العلم حقا وهو ما أخبرت به الرسل فالعلم الحق هو

ما أخبروا به والارادة النافعة إرادة ما أمروا به وذلك عبادة الله وحده لا شريك له فهذا هو السعادة وهو الذي اتفقت عليه الانبياء كلهم فكلهم دعوا الى عبادة الله وحده لا شريك له وذلك إنما يكون بتصديق رسله وطاعتهم فلهذا كانت السعادة متضمنة لهذين الأصلين الاسلام والايمان عبادة الله وحده وتصديق رسله وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قال تعالى فلنسألن الذين أرسل اليهم ولنسألن المرسلين قال أبو العالية هما خصلتان يسأل عنهما كل أحد يقال لمن كنت تعبد وبماذا أجبت المرسلين وقد بسط هذا في غير هذا الموضع والله أعلم
واتبع لها أسعد الناس في الدنيا والآخرة وخير القرون القرن الذي شاهدوه مؤمنين به وبما يقول إذ كانوا أعرف الناس بالفرق بين الحق الذي جاء به وبين ما يخالفه وأعظم محبة لما جاء به وبغضا لما خالفه وأعظم جهادا عليه فكانوا أفضل ممن بعدهم في العلم والدين والجهاد أكمل علما بالحق والباطل وأعظم محبة للحق وبغضا للباطل وأصبر على متابعة الحق واحتمال الأذى فيه وموالاة أهله ومعاداة أعدائه واتصل بهم ذلك الى القرن الثاني والثالث فظهر ما بعث به من الهدى ودين الحق على كل دين في مشارق الارض ومغاربها كما قال صلى الله عليه و سلم زويت لي الارض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها وكان لا بد أن يظهر في أمته ما سبق به القدر واقتضته نشأة البشر من نوع من التفرق والاختلاف كما كان فيما غبر لكن كانت أمته خير الأمم فكان الخير فيهم أكثر منه في غيرهم والشر فيهم أقل منه في غيرهم كما يعرف ذلك من تأمل حالهم وحال بني إسرائيل قبلهم وبنو إسرائيل هم الذين قال الله فيهم ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الامر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما

كانوا فيه يختلفون ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون انهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وان الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين وقال لهم موسى يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم مالم يؤت أحدا من العالمين فاذا كان بنو اسرائيل الذين فضلهم على العالمين في تلك الازمان وكانت هذه الامة خيرا منهم كانوا خيرا من غيرهم بطريق الاولى فكان مما خصهم الله به أنه لا يعذبهم بعذاب عام لا من السماء ولا بأيدي الخلق فلا يهلكهم بسنة عامة ولا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فيجتاحهم كما كان يسلط على بني إسرائيل عدوا يجتاحهم حتى لا يبقى لهم دين قائم منصور ومن لا يقتل منهم يبقى مقهورا تحت حكم غيرهم بل لا تزال في هذه الامة طائفة ظاهرة على الحق الى يوم القيامة ولا يجتمعون على ضلالة فلا تزال فيهم أمة يدعون الى الخبر ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألت ربي أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها وسألته أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها وهذا البأس نوعان أحدهما الفتن التي تجري عليهم والفتنة ترد على القلوب فلا تعرف الحق ولا تقصده فيؤذي بعضهم بعضا بالاقوال والاعمال والثاني أن يعتدي أهل الباطل منهم على اهل الحق منهم فيكون ذلك محنة في حقهم يكفر الله بها سيآتهم ويرفع بالصبر عليها درجاتهم وبصبرهم وتقواهم لا يضرهم كيد الظالمين لهم بل تكون العاقبة للتقوى ويكونون من أولياء الله المتقين وحزب الله المفلحين وجند الله الغالبين إذا كانوا من أهل الصبر واليقين فانه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع أجر المحسنين والمتعدي منهم إما أن يتوب الله عليه كما تاب على إخوة يوسف بعد عدوانهم عليه وآثره الله عليهم بصبره وتقواه كما قال لما قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا انه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وان كنا

لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين وكما فعل سبحانه بقادة الاحزاب الذين كانوا عدوا لله وللمؤمنين وقال فيهم لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ثم قال عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتهم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم وفي هذا ما دل على أن الشخص قد يكون عدوا لله ثم يصير وليا لله مواليا لله ورسوله والمؤمنين فهو سبحانه يتوب على من تاب ومن لم يتب فالى الله إيابه وعليه حسابه وعلى المؤمنين أن يفعلوا معه ومع غيره ما أمر الله به ورسوله من قصد نصيحتهم وإخراجهم من الظلمات الى النور وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر كما أمر الله ورسوله لا اتباعا للظن وما تهوى الأنفس حتى يكون من خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله وهؤلاء يعلمون الحق ويقصدونه ويرحمون الخلق وهم أهل صدق وعدل أعمالهم خالصة لله صواب موافقة لأمر الله كما قال تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا قال الفضيل ابن عياض وغيره أخلصه وأصوبه والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة وهو كما قالوا فان هذين الأصلين هما دين الإسلام الذي ارتضاه الله كما قال ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم خليلا فالذي أسلم وجهه لله هو الذي يخلص نيته لله ويبتغي بعمله وجه الله والمحسن هو الذي يحسن عمله فيعمل الحسنات والحسنات هي العمل الصالح والعمل الصالح هو ما أمر الله به ورسوله من واجب ومستحب فما ليس من هذا ولا هذا ليس من الحسنات والعمل الصالح فلا يكون فاعله محسنا وكذلك قال لمن قال لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى قال تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقد قال تعالى ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين والاسلام هو دين جميع الانبياء والمرسلين ومن اتبعهم من الامم كما

أخبر الله بنحو ذلك في غير موضع من كتابه فأخبر عن نوح وابراهيم واسرائيل انهم كانوا مسلمين وكذلك عن اتباع موسى وعيسى وغيرهم والاسلام هو أن يستسلم لله لا لغيره فيعبد الله ولا يشرك به شيئا ويتوكل عليه وحده ويرجوه ويخافه وحده ويحب الله المحبة التامة لا يحب مخلوقا كحبه لله ويبغض لله ويوالي لله ويعادي لله فمن استكبر عن عبادة الله لم يكن مسلما ومن عبد مع الله غيره لم يكن مسلما وإنما تكون عبادته بطاعته وطاعة رسله من يطع الرسول فقد أطاع الله فكل رسول بعث بشريعة فالعمل بها في وقتها هو دين الاسلام وأما ما بدل منها فليس من دين الاسلام وإذا نسخ منها ما نسخ لم يبق من دين الاسلام كاستقبال بيت المقدس في أول الهجرة بضعة عشر شهرا ثم الامر باستقبال الكعبة وكلاهما في وقته دين الاسلام فبعد النسخ لم يبق دين الاسلام إلا أن يولي المصلي وجهه شطر المسجد الحرام فمن قصد أن يصلي إلى غير تلك الجهة لم يكن على دين الاسلام لانه يريد أن يعبد الله بما لم يأمره وهكذا كل بدعة تخالف أمر الرسول إما أن تكون من الدين المبدل الذي ما شرعه الله قط أو من المنسوخ الذي نسخه الله بعد شرعه كالتوجه الى بيت المقدس فلهذا كانت السنة في الاسلام كالاسلام في الدين هو الوسط كما قد شرح هذا في غير موضع والمقصود هنا أنه اذا رد ما تنازع فيه الناس إلى الله والرسول سواء كان في الفروع أو الأصول كان ذلك خيرا وأحمد عاقبة كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا وقال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق باذنه والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم وفي صحيح مسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان اذا قام من الليل يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات

والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق باذنك إنك تهدي من تشاء الى صراط مستقيم وهذه حال أهل العلم والحق والسنة يعرفون الحق الذي جاء به الرسول وهو الذي اتفق عليه صريح المعقول وصحيح المنقول ويدعون اليه ويأمرون به نصحا للعباد وبيانا للهدى والسداد ومن خالف ذلك لم يكن لهم معه هوى ولم يحكموا عليه بالجهل بل حكمه الى الله والرسول فمنهم من يكفره الرسول ومنهم من يجعله من أهل الفسق أو العصيان ومنهم من يعذره ويجعله من أهل الخطأ المغفور والمجتهد من هؤلاء المأمور بالاجتهاد يجعل له أجرا على فعل ما أمر به من الاجتهاد وخطؤه مغفور له كما دل الكتاب وأما أهل البدع فهم أهل أهواء وشبهات يتبعون أهواءهم فيما يحبونه ويبغضونه ويحكمون بالظن والشبه فهم يتبعون الظن وما تهوى الانفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى فكل فريق منهم قد أصل لنفسه أصل دين وضعه إما برأيه وقياسه الذي يسميه عقليات وإما بذوقه وهواه الذي يسميه ذوقيات وإما بما يتأوله من القرآن ويحرف فيه الكلم عن مواضعه ويقول انه إنما يتبع القرآن كالخوارج وإما بما يدعيه من الحديث والسنة ويكون كذبا وضعيفا كما يدعيه الروافض من النص والآيات وكثير ممن يكون قد وضع دينه برأيه أو ذوقه يحتج من القرآن بما يتأوله على غير تأوله ويجعل ذلك حجة لا عمدة وعمدته في الباطن على رأيه كالجهمية والمعتزلة في الصفات والافعال بخلاف مسائل الوعد والوعيد فانهم قد يقصدون متابعة النص فالبدع نوعان نوع كان قصد أهلها متابعة النص والرسول لكن غلطوا في فهم المنصوص وكذبوا بما يخلف ظنهم من الحديث ومعاني الآيات كالخوارج وكذلك الشيعة المسلمين بخلاف من كان منافقا زنديقا يظهر التشيع وهو في الباطن لا يعتقد الاسلام وكذلك المرجئة قصدوا اتباع الامر والنهي وتصديق الوعيد مع الوعد ولهذا قال عبد الله بن المبارك ويوسف ابن أسباط وغيرهما ان الثنتين والسبعين فرقة أصولها أربعة الشيعة والخوارج والمرجئة والقدرية وأما الجهمية النافية للصفات فلم يكن أصل دينهم اتباع الكتاب والرسول

فانه ليس في الكتاب والسنة نص واحد يدل على قولهم بل نصوص الكتاب والسنة متظاهرة بخلاف قولهم وإنما يدعون التمسك بالرأي المعقول وقد بسط القول على بيان فساد حججهم العقلية وما يدعيه بعضهم من السمعيات وبين أن المعقول الصريح موافق للمنقول الصحيح في بطلان قولهم لا مخالف له والمقصود هنا الكلام في أفعال الرب فان الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم صاروا يسلكون فيه بأصل أصل بالمعقول ويجعلونه العمدة وخاضوا في لوازم القدر برأيهم المحض فتفرقوا فيه تفرقا عظيما وظهر بذلك حكمة نهي النبي صلى الله عليه و سلم لأمته عن التنازع في القدر مع أن المتنازعين كان كل منهما يدلي بآية لكن كان ذلك يفضي إلى إيمان كل طائفة ببعض الكتاب دون البعض فكيف إذا كان المتنازعون عمدتهم رأيهم والحديث رواه أهل المسند والسنن مفصلا ورواه مسلم مجملا عن عبد الله بن رباح الانصاري أن عبد الله بن عمرو قال هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فسمع صوت رجلين اختلفا في آية فخرج علينا صلى الله عليه و سلم يعرف في وجهه الغضب فقال إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب وقال الإمام أحمد في المسند حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب قال فقال مالكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض بهذا هلك من كان قبلكم قال فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم لم اشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده وهذا حديث محفوظ من رواية عمرو بن شعيب وقد رواه ابن ماجه من حديث أبي معاوية وكتب أحمد في رسالته إلى المتوكل هذا الحديث وجعل يقول في مناظرته لهم يوم الدار في المحنة إنا قد نهينا عن أن نضرب كتاب الله بعضه ببعض وروى هذا المعنى الترمذي من حديث أبي هريرة وقال حديث حسن غريب قال وفي الباب الذي فررت منه فانه كما قيل ان له حياة وعلما وقدرة وإرادة وغضبا ورضى ونحو ذلك قلت هذا يستلزم أن يكون موافقا للمخلوق في مسمى هذه الاسماء وهذا تشبيه فقيل هذا يلزم مثله في الذات فان قيل بتعطيل الذات فذلك يستلزم

ما فررت منه من ثبوت جسم قديم حامل للاعراض والحركات وإذا كان هذا لازما لك على تقدير نفي الذات كما ثبت انه لازم على تقدير إثباتها كان لازما على تقدير النقيضين النفي والإثبات وما كان كذلك لم يمكن نفيه وأما نحن فقد بينا أن اللازم على تقدير إثباتها لا محذور فيه وإنما المحذور لازم على تقدير نفيها وهذا قد بسط في غير هذا الموضع والمقصود هنا أنه يقال لهؤلاء الذين ينفون الحكمة ثم الارادة ثم الفعل في الأفعال نظير ما قيل لأولئك في الصفات ويجعل مبدأ الكلام من الارادة في الموضعين فيقال لمن أثبتها ونفي الحكمة من المنتسبين الى إثبات القدر والمنتسبين الى السنة والجماعة لم نفيتم الحكمة فاذا قالوا لأنا لا نعرف من يفعل لحكمة إلا من يفعل لغرض يعود اليه وهذا لا يكون إلا فيمن يجوز عليه اللذة والألم والانتفاع والضرر والله منزه عن ذلك فيقال لهم ما قاله نفاة الارادة وأنتم لا تعقلون ارادة إلا فيمن يجوز عليه اللذة والالم والانتفاع والضرر وقد قلتم ان الله تعالى مريد فاما أن تطردوا أصلكم النافي فتنفوا الارادة أو المثبت فتثبتوا اللذة والا فما الفرق فاذا قال نفاة الارادة فلهذا نفينا الارادة كما رجحه الرازي في المطالب العالية واحتج به الفلاسفة قيل لهم فانفوا أن يكون فاعلا فانكم لا تعملون فاعلا غير مقهور إلا بارادة ولا تعقلون ما يفعل ابتداء إلا بارادة أو فاعلا حياء إلا بارادة أو فاعلا مطلقا إلا بارادة فان قال أتباع أرسطو فلهذا قلنا أنه لا يفعل شيئا وليس بموجب بذاته شيئا لكن قلنا ان الفلك يتشبه به أو قال من هو أعظم تعطيلا منهم فلهذا نفينا الأول بالكلية ولم يثبت علة تفعل ولا علة يتشبه بها قيل لهم فهذه الحوادث مشهودة وحركة الكواكب والشمس والقمر مشهودة فهذه الحركات الحادثة وغيرها من الحوادث مثل السحاب والمطر والنبات والحيوان والمعدن وغير ذلك مما يشهد حدوثه أحدث بنفسه من غير أن يحدثه محدث قديم أو لا بد للحوادث من محدث قديم فان قالوا بل حدث كل حادث بنفسه من غير أن يحدثه أحد كان هذا ظاهر الفساد يعلم بضرورة العقل أنه في غاية المكابرة ونهاية السفسطة مع لزوم ما فروا منه فانهم فروا من أن يكون ثم فاعل محدث

وقد أثبتوا فاعلا محدثا لكن جعلوا كل حادث هو يحدث نفسه ويفعلها فجعلوا ما ليس بشيء يجعل الشيء وجعلوا المعدوم يحدث الموجود فلزمهم ما فروا منه من إثبات فاعل مع ما لزمهم من الكفر العظيم وغاية الجهل وغاية فساد العقل وان قالوا بل كل محدث يحدثه محدث وللمحدث محدث قيل لهم هذا أيضا ممتنع في صريح العقل فان التسلسل في الفاعل ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء فانه كلما كثر ما يقدر أنه حادث كان أحوج إلى القديم فليس في تقدير حوادث لا تتناهى ما يوجب استغناءها عن القديم بل إذا كان المحدث الواحد لا بد له من محدث غيره فمجموع الحوادث أولى بالافتقار إلى محدث لها خارج عنها كلها فان المحدث لمجموعها يمتنع أن يكون واحدا منها فانه يلزم أن يحدث نفسه ويمتنع أن يكون المجموع أحدث المجموع فان الشيء لا يحدث نفسه والمجموع هي الآحاد الحادثة وهيئتها الاجتماعية وتلك الهيئة محتاجة الى المجموع الذي هو كل واحد واحد والمجموع ليس إلا الآحاد واجتماعها وكل ذلك مفتقر إلى محدث مباين لها فلا بد للحوادث من قديم ليس بحادث ثم يقال لهم إذا قدر تسلسل الفاعلين وان ما كان محدثا له محدث وهلم جرا فهذا فيه إثبات ما فررتم منه وهو أن هذا المحدث فعل هذا وهذا فعل هذا لكن أثبتم مالا يتناهى من ذلك في آن واحد فركبتم ما فررتم منه مع لزوم هذه الجهالات التي تقتضي غاية فساد العقل والكفر بالسمع وإذا كان المحذور يلزمهم على تقدير أن يكون الحادث أحدث نفسه أو أحدث كل حادث حادثا آخر مع فساد هذين تبين أنه لا ينفعه انكار القديم وان قال بل أقر بالمحدث القديم قيل فقد أقررت بفعل القديم للمحدث وإذا ثبت أن القديم فعل المحدث وأنت لا تعلم فاعلا إلا لجلب منفعة أو دفع مضرة قيل له فما كان جوابك عن هذا كان جوابا عن كونه يفعل بارادته وقيل لمثبت الارادة ما كان جوابك عن هذا كان جوابا عن حكمته فقد بين أن من نفي الحكمة فلا بد أن ينقض قوله ويلزمه مع التناقض نفي الصانع وهو مع نفي الصانع تناقضه أشد والمحذور الذي فر منه ألزم فلم يغن عنه فراره من إثبات الحكمة إلا زيادة الجهل والشر وهكذا يقال لمن نفى حبه

ورضاه وبغضه وسخطه وهذا مقام شريف من تدبره وتصوره تبين له أنه لا بد من الإقرار بما جاء به الرسول وأنه هو الذي يوافق صريح المعقول وأن من خالفه فهو ممن لا يسمع ولا يعقل وهو أسوأ حالا ممن فر من الملك العادل الذي يلزمه بطعام امرأته وأولاده والزكاة الشرعية إلى بلاد ملكها ظالم ألزمه باخراج أضعاف ذلك لخنايزه وكلابه مع قلة الكسب في بلاده وبمنزلة من فر من معاشرة أقوام أهل صلاح وعدل ألزموه ما يلزم واحدا منهم من الأمور المشتركة إذا كانوا مقيمين أو مسافرين أن يخرج مثلما يخرجه الواحد منهم فكره هذا وفر إلى بلد فألزمه أهلها بأن ينفق عليهم ويخدمهم وإلا قتلوه وما أمكنه الهرب منهم فمن فر من حكم الله ورسوله أمرا وخبرا أو ارتد عن الاسلام أو بعض شرائعه خوفا من محذور في عقله أو علمه أو دينه أو دنياه كان ما يصيبه من الشر أضعاف ما ظنه شرا في اتباع الرسول قال تعالى ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك وما انزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا واذا قيل لهم تعالوا الى ما أنزل الله والى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف اذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله ان أردنا إلا احسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع باذن الله ولو أنهم اذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
فصل ويقال لهم لم فررتم من إثبات المحبة والحكمة والارادة والفعل فان قالوا لأن ذلك لا يعقل إلا في حق من يلتذ ويتألم وينتفع ويتضرر والله منزه عن ذلك قيل للفلاسفة فأنتم تثبتون أنه مستلذ مبتهج فهذا غير محذور عندكم وان قلتم لان ذلك يستلزم لذة حادثة قيل لكم في حلول الحوادث قولان وليس معكم في النفي إلا ما يدل على نفي الصفات مطلقا كدليل التركيب وقد عرف فساده من

وجوه وقيل للجهمية والمعتزلة أن أردتم أن ذلك يقتضي حاجته الى العباد وأنهم يضرونه أو ينفعونه فهذا ليس بلازم ولهذا كان الله منزها عن ذلك كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح الإلهي يا عبادي انكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني فالله أجل من أن يحتاج إلى عباده لينفعوه أو يخاف منهم أن يضروه واذا كان المخلوق العزيز لا يتمكن غيره من قهره فمن له العزة جميعا وكل عزة فمن عزته أبعد عن ذلك وكذلك الحكيم المخلوق اذا كان لا يفعل بنفسه ما يضرها فالحق جل جلاله أولى أن لا يفعل ذلك لو كان ممكنا فكيف اذا كان ممتنعا قال تعالى الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا وقال تعالى وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن السلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فقد بين أن العصاة لا يضرونه ولا يظلمونه كعصاة المخلوقين فان مماليك السيد وجند الملك وأعوان الرجل وشركاءه اذا عصوه فيما يأمرهم ويطلبه منهم فقد يحصل له بذلك ضرر في نفسه أو ماله أو عرضه أو غير ذلك وقد يكون ذلك ظلما له والله تعالى لا يقدر أحد على أن يضره ولا يظلمه وان كان الكافر على ربه ظهيرا فمظاهرته على ربه ومعاداته له ومشاقته ومحاربته عادت عليه بضرره وظلمه لنفسه وعقوبته في الدنيا والآخرة وأما النفع فهو سبحانه غني عن الخلق لا يستطيعون نفعه فينفعوه فما أمرهم به اذا لم يفعلوه لم يضروه بذلك كما قال تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا ومن كفر فان الله غني عن العالمين وقال ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فان ربي غني كريم وقال إن تكفروا فان الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وان تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى وان أردتم أنه سبحانه لا يريد ولا يفعل ما يفرح به ويجعل عباده المؤمنين يفعلون ما يفرح به فمن أين لكم هذا وان سمى هذا لذة فالالفاظ المجملة التي قد يفهم منها معنى فاسد اذا لم ترد في كلام الشارع لم نكن محتاجين

الى اطلاقها كلفظ العشق وان أريد به المحبة التامة وقد أطلق بعضهم على الله أنه يعشق ويعشق وأراد به أنه يحب ويحب محبة تامة فالمعنى صحيح والمعنى فيه نزاع واللذة يفهم منها لذة الاكل والشرب والجماع كما يفهم من العشق المحبة الفاسدة والتصور الفاسد ونحو ذلك مما يجب تنزيه الله عنه فان الذين قالوا لا يجوز وصفه بأنه يعشق منهم من قال لأن العشق هو الإفراط في المحبة والله تعالى لا افراط في حبه ومنهم من قال العشق لا يكون الا مع فساد التصور للمعشوق والا فمع صحة التصور لا يحصل إفراط في الحب وهذا المعنى لا يمدح فاعله فان من تصور في الله ما هو منزه عنه فهو مذموم على تصوره ولوازم تصوره ومنهم من قال لان الشرع لم يرد بهذا اللفظ وفيه إبهام وإيهام فلا يطلق وهذا أقرب وآخرون ينكرون محبة الله وأن يحب ويحب كالمعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الاشعرية وغيرهم فهؤلاء يكون الكلام معهم في كونه يحب ويحب كما نطق به الكتاب والسنة في مثل قوله فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه لا في لفظ العشق كذلك لفظ اللذة فيه إبهام وإيهام والشرع لم يرد باطلاقه ولكن استفاض عن النبي صلى الله عليه و سلم ان الله يفرح بتوبة التائب أعظم من فرح من وجد راحلته بعد أن أفقدها وأيس منها في مفازة مهلكة ويئس من الحياة والنجاة من تلك الارض ومن وجود مركبه ومطعمه ومشربه ثم وجد ذلك بعد اليأس قال النبي صلى الله عليه و سلم فكيف تجدون فرحه بدابته قالوا عظيما يا رسول الله قال لله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته وقد نطق الكتاب والسنة بأنه يحب المتقين والمحسنين والصابرين والتوابين والمتطهرين والذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص وأنه يرضى عن المؤمنين فاذا كنتم نفيتم حقيقة الحب والرضى لأن ذلك يستلزم اللذة بحصول المحبوب قيل لكم إن كان هذا لازما فلازم الحق حق وان لم يكن لازما بطل نفيكم والفرح في الانسان هو لذة تحصل في قلبه بحصول محبوبه وقد جاء أيضا وصفه تعالى بأنه يسر في الأثر والكتب المتقدمة وهو مثل لفظ الفرح وأما الضحك فكثير في الأحاديث ولفظ البشبشة جاء أيضا أنه يتبشبش للداخل الى المسجد كما يتبشبش أهل الغائب

بغائبهم اذا قدم وجاء في الكتاب والسنة ما يلائم ذلك ويناسبه شيء كثير فيقال لمن نفى ذلك لم نفيته ولم نفيت هذا المعنى وهو وصف كمال لا نقص فيه ومن يتصف به أكمل ممن لا يتصف به وإنما النقص فيه أن يحتاج فيه الى غيره والله تعالى لا يحتاج الى أحد في شيء بل هو فعال لما يريد لكن القدرية قد يشكل هذا على قولهم فان العباد عندهم مستقلون بإحداث فعلهم ولكن هذا مثل إجابة دعائهم وإثابتهم على أفعالهم ونحو ذلك مما فيه أن أفعالهم تقتضي أمورا يفعلها هو وهم لا يفرون من كونه يجب عليه أشياء وأنه يفعل ما يجب عليه فيكون العبد قد جعله مريدا لما لم يكن مريدا له وحينئذ فاذا كان العبد يجعلونه مريدا عندهم فالقول في لوازم الارادة كالقول فيها وهذا إما أن يدل على فساد قولهم في القدر وهو الصواب وإما أن يكون هو الذي شاء ذلك من العبد فيلزمهم في لوازمها ما يلزمهم فيها واما على قول المثبتة فكل ما يحدث فهو بمشيئته وقدرته فما جعله أحدا مريدا فاعلا بل هو الذي يحدث كل شيء ويجعل بعض الاشياء سببا لبعض فان قال نافي المحبة والفرح والحكمة ونحو ذلك هذا يستلزم حاجته الى المخلوق ظهر فساد قوله وان قيل ان ذلك ان كان وصف كمال فقد كان فاقدا له وان كان نقصا فهو منزه عن النقص قيل له هو كمال حين اقتضت الحكمة حدوثه وحدوثه قبل ذلك قد يكون نقصا في الحكمة أو يكون ممتنعا غير ممكن كما يقال في نظائر ذلك وتمام البسط في هذا الأصل مذكور في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه على لوازم ذلك فان نفاة ذلك نفوا أن يكون في الممكن فعل ينزه عنه فليس عندهم فعل يحسن منه وفعل ينزه عنه بل عنده تقسيم الأفعال أفعال الرب والعبد الى حسن وقبيح لا يكون عندهم إلا بالشرع وذلك لا يرجع الى صفة في الفعل بل الشارع عندهم يرجح مثلا على مثل والحسن والقبيح إنما يعقل إذا كان الحسن ملائما للفاعل وهو الذي يلتذ به والقبيح ينافيه وهو الذي يتألم به والحسن والقبح في أفعال العباد بهذا

الاعتبار متفق على جوازه وإنما النزاع في كونه يتعلق به المدح والثواب وهذا في الحقيقة يرجع الى الالم واللذة فلهذا سلم الرازي في آخر عمره ما ذكره في كتاب ان الحسن والقبح العقليين ثابتان في أفعال العباد دون الرب اذا كان معناهما يؤول الى اللدة والالم والمعتزلة أثبتوا حسنا وقبحا عقليين في فعل القادر مطلقا سواء كان قديما أو محدثا وقال الحسن ما للقادر فعله والقبيح ما ليس له فعله وقالوا ان ذلك ثابت بدون كونه مستلزما للذة والألم كما ادعوا ثبوت حكمته للفاعل القادر ولا تعود اليه ولا يستلزم اللذة فادعوا ما هو خلاف الموجود والمعقول ولهذا تسلط عليهم النفاة فكان حجتهم عليهم أن يثبتوا أن هذا أمر لا يعقل إلا مع اللذة والالم ثم يقولون وذلك في حق الله محال فحجتهم مبنية على مقدمتين أن الحسن والقبح والحكمة مستلزم للذة والالم وذلك في حق الله محال والمعتزلة منعوا المقدمة الأولى فغلبوا معهم والمقدمة الثانية جعلوها محل وفاق وهي مناسبة المعتزلة لكونهم ينفون الصفات فنفى الفعل القائم به أولى على أصلهم ونفى مقتضي ذلك أولى على أصلهم وهذه المقدمة التي اشتركوا فيها تقتضي نفي كونه مريدا ونفي كونه فاعلا ونفي حدوث شيء من الحوادث كما أن نفي الصفات يقتضي نفي قائم بنفسه موصوف بالصفات فنفي اتصافه بالصفات يستلزم أن لا يكون في الوجود شيء يتصف بصفة ونفي فعله وأحداثه يقتضي أن لا يكون في الوجود شيء حادث فكان ما نفوه مستلزما نهاية السفسطة وجحد الحقائق ولهذا كان من وافق هؤلاء على نفي محبة الله لما أمر به من الصوفية يلزمهم تعطيل الأمر والنهي وان لا ينفي إلا القدر العام وقد التزم ذلك طائفة من محققيهم وكان نفي الصفات يستلزم نفي الصفات وان لا يكون موجودان أحدهما واجب قديم خالق والآخر ممكن أو محدث أو مخلوق وهكذا التزمه طائفة من محققيهم وهم القائلون بوحدة الوجود وهم يقولون بكون العبد أولا يشهد الفرق بين الطاعة والمعصية ثم يشهد طاعة بلا معصية ثم لا طاعة ولا معصية بل الوجود واحد فالذين اثبتوا الحسن والقبح في الافعال وأن لها صفات تقتضي

ذلك قالوا بما قاله جمهور العقلاء من المسلمين وغيرهم قال أبو الخطاب هذا قوله أكثر الفقهاء والمتكلمين لكن تناقضوا فلم يثبوا لازم ذلك فتسلط عليهم النفاء أكثر الفقهاء والمتكلمين لكن تناقضوا فلم يثبوا لازم ذلك فتسلط عليه النفاء لما نفوا الحسن والقبح في نفس الأمر قالوا لا فرق في ما يخلقه الله وما يأمره به بين فعل وفعل وليس في نفس الأمر حسن ولا قبيح ولا صفات توجب ذلك واستثنوا ما يوجب اللذة والألم لكن اعتقدوا ما اعتقدته المعتزلة أن هذا لا يجوز اثباته في حق الرب وأما في حق العبد فظنوا أن الأفعال لا تقتضي إلا لذة وأما في الدنيا وأما كونها مشتملة على صفات تقتضي لذة وألما في الآخرة فذلك عندهم باطل ولم يمكنهم أن يقولوا إن الشارع يأمر بما فيه لذة مطلقا وينهيى عما فيها ألم مطلقا وكو الفعل يقتضي ما يوجب اللذة هو عندهم من باب التولد وهم لا يقولون به بل قدرة العبد عندهم لا تتعلق إلا بفعل في محلها مع أنها عند شيخهم غير مؤثرة في المقدور ولا يقول إن العبد فاعل في الحقيقة بل كاسب ولم يذكروا بين الكسب والفعل فرقا معقولا بل حقيقة قولهم قول جهم أن العبد لا قدرة له ولا فعل ولا كسب والله عندهم فاعل فعل العبد وعله هو نفس مفعوله فصار الرب عندهم فاعلا لكل ما يوجد من أفعلا العباد ويلزمهم أن يكون هو الفاعل للقبائح وان يتصف بها على قولهم أنه بوصف بالصفات الفعلية القائمة بغيره وقد تناقضوا في هذا الموضع فجعلوه متكلما بكلام يقوم بغيره وجعلوه عادلا ومحسنا بعدل واحسان يقوم بغيره كما قد بسط في غير هذا الموضع وحينئذ فما بقي يمكنهم ان يفرقوا بين ممكن وممكن من جميع الأجناس أي يقولوا هذا يحسن من الرب فعله وهذا ينزه عنه بل يجوز عندهم ان يفعل كل ممكن مقدور والظلم عندهم هو فعل ما نهى المرء عنه أو التصرف في ملك الغير وكلاهما ممتنع في حق الله فأما ان يكون هناك امر ممكن مقدور وهو منزه عنه فهذا عندهم لا يجوز فلهذا جوزوا عليه كل ما يمكن ولا ينزهونه عن فعل لكونه قبيحا أو نقصا او مذموما ونحو ذلك بل يعلم ما يقع وما لا يقع بالخبر أي بخبر الرسول كما علم بخبره المأمور والمحظور والوعد

والوعيد والثواب والعقاب أوبالعادة مع أن العادة يجوز انتقاضها عندهم لكن قالوا قد يعلم بالضرورة عدم ما يجوز وقوعه من غير فرق لا في الوجود ولا في العلم بين ما علموا انتفاءه وما لم يعلموه إذ كان أصل قولهم هو جواز التفريق بين التماثلين بلا سبب فالارادة القديمة عندهم ترجح مثلا على مثل بلا سبب في خلق الرب وفي أمره وكذلك عندهم قد يحدث في قلب العبد علما ضروريا بالفرق بين المتماثلين بلا سبب فلهذا قالوا أن الشرع لا يأمر وينهى لحكمة ولم يعتمدوا على المناسبة وقالوا علل الشرع أمارات كما قالوا ان أعفال العباد أمارة على السعادة والشقاء فقط من غير أن يكون في أحد الفعلين معنى يناسب الثواب أو العقاب ومن أثبت المناسبة من متأخريهم كأبي حامد ومن تبعه قالوا عرفنا بالاستقراء أن المأمور به قترن به مصلحة العباد وهو حصول ما ينفعهم والمنهى عنه تقترن به المفسدة فإذا وجد الأمر والنهى علم وجود قرينه الذي علم بعادة الشرع من غير أن يكون الرب أمر به لتلك المصلحة ولا نهى عنه لتلك المفسدة وجمهوةهم وأئمتهم على أنه يمتنع أن يفعل لحكمة لكن الآمدي قال إن ذلك جائز غير واجب فلم يجعله واجبا ولا ممتنعا
فصل وهذا الأصل دخل في جميع أبواب الدين أصضوله وفروعه في خلق الرب لما يخلقه ورزقه واعطائه ومنعه وسائر ما يفعله تبارك وتعالى وجهل في أمره ونهيه وجميع ما يأمر به وينهى عنه ودخل في المعاد فعندهم يجوز أن يعذب الله جميع أهل العدل والصلاح والدين والأنبياء والمرسلين بالعذاب الأبدي وأن ينعم دميع أهل الكذب والظلم والفواحش بالنعيم الأبدي لكن بمجرد الخبر عرفنا أنه لا يفعل هذا ويجوز عندهم أن يعذب من لا له ذنب أصلا بالعذاب الأبدي بل هذا واقع عند من يقول بأن أطفال الكفار يعذبون في النار مع آبائهم كلهم يجوزون تعذيبهم إذ كان عندهم يجوز تعيب كل حي العذاب المؤبد بلا ذنب ولا غلاض ولا حكمة لكن هل يقع هذا في أطفال المشركين منهم جزم بوقوعه كالقاضي أبي يعلى ومن وافقه ومنهم من توقفت لعدم الدليل السمعى عنده لا لمانع عقلي كالقاضي

أبي بكر ونحوه وليس عندهم من أفعال الرب ما ينزهونه عنه أو ما تقتضي الحكمة وجوده بل يجوز عندهم أن يفعل كل ممكن ويجوز أن لا يفعل شيئا من الخير لكن إذا أخبر أنه يفعل شيئا أو أنه لا يفعله علم أنه واقع أو غير واقع بالخبر ويجوز عندهم أن يعذب من لا ذنب له ومن هو أبر الناس وأعدلهم وأفضلهم عذابا مؤبدا لا يعذبه أحدا من العالمين ويجوز أن ينعم شر الخلق من شياطين الإنس والجن نعيما في أعلى درجات الجنة لا ينعم مثله لمخلوق لكن لما أخبر بأن المؤمنين يدخلون الجنة والكفار يدخلون النار علم ما يقع مع أنه لو وقع ضده لم يكن بينهما فرق عندهم ثم مع مجيء الخبر فكثير منهم وافقه أما في جنس الفساق مطلقا فيجوزون أن يدخل جميعهم الجنة ويجوزون أن يدخل جميعهم النار ويجوزون أن يدخل بعضهم كما يقوله من يقوله ممن وافق الشيعة والأشعرية كالقاضي أبي بكر لأن القرآن عنده لم يدل على شيء والأخبار أخبار آحاد بزعمه فلا يحتج بها في ذلك وأما جمهور المنتسبين الى السنة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم فيقطعون بان الله يعذب بعض أهل الذنوب بالنار ويعفو عن بعضهم كما قال تعالى ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فهذا فيه الإخبار بانه يغفر ما دون الشرك وأنه يغفر لمن يشاء لا لكل أحد لكن هل الجزاء والثواب والعقاب مبني على الموازنة بالحكمة والعدل كما اخبر الله بوزن الأعمال أو يغفر ويعذب بلا سبب ولا حكمة ولا اعتبار الموازنة فيه لهؤلاء قولان فمن جوز ذلك فانه يجوز عندهم أن يعذب الله من هو من أبر الناس وأكثرهم طاعات وحسنات على سيئة صغيرة عذابا أعظم من عذاب أفسق الفاسقين ويجوز عندهم أن يغفر لأفسق الفاسقين من المسلمين وأعظمهم كبائر كل ذنب ويدخله الجنة ابتداء مع تعذيبهم ذلك في النار على صغيرة ولهذا قال جمهور الناس عن هؤلاء إنهم لا ينزهون الرب على السفه والظلم بل يصفونه بالأفعال التي يوصف بها المجانين والسفهاء فان المجنون والسفيه قد يعطي مالا عظيما لمن ليس هو له بأهل وقد

يعاقب عقوبة عظيمة من هو أهل للإكرام والإحسان والرب تعالى أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وخير الراحمين والحكمة وضع الأشياء مواضعها والظلم وضع الشيء في غير موضعه ومن تدبر حكمته في مخلوقاته ومشروعاته رأى ما يبهر العقول فانه مثلا خلق العين واللسان ونحوهما من الاعضاء لمنفعة وخلق الرجل والظفر ونحو ذلك لمنفعة فلا تقتضي الحكمة أن يستعمل العين واللسان حيث يستعمل اليد والرجل والظفر ولا أن يستعمل الرجل واليد حيث يستعمل العين واللسان وهذا من حكمته موجود في أعضاء الانسان وسائر الحيوان والنبات وسائر المخلوقات فكيف يجوز في حكمته وعدله ورحمته في من هو دائما يفعل ما يرضيه من الطاعات والعبادات والحسنات وقد نظر نظرة منهيا عنها أن يعاقبه على هذه النظرة بما يعاقب به أفجر الفساق وأن يكون أفجر الفساق في أعلى عليين وهو سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لكن لا يشاء إلا ما يناسب حكمته ورحمته وعدله كما لا يشاء ويريد إلا ما علم أنه سيكون فلو قيل هل يجوز أن يشاء ما علم أنه لا يكون لم يجر ذلك باتفاقهم لمناقضة علمه والعلم يطابق المعلوم فكيف يشاء ما يناقض حكمته ورحمته وعدله وبسط هذه الامور له مواضع متعددة
والمقصود أن هؤلاء لما احتاجوا الى إثبات النبوات اضطربوا في صفة النبي وما يجوز عليه وفي الآيات التي بها يعلم صدقه فجوزوا أن يرسل الله من يشاء بما يشاء لا يشترطون في النبي إلا أن يعلم ما أرسل به لأن تبليغ الرسالة بدون العلم ممتنع ومن جوز منهم تكليف ما لا يطاق مطلقا يلزمه جواز أن يأمره الله بتبليغ رسالة لا يعلم ما هي وجوزوا من جهة العقل ما ذكره القاضي أبو بكر أن يكون الرسول فاعلا للكبائر إلا أنه لا بد أن يكون عالما بمرسله لكن ما علم بالخبر أن الرسول لا يتصف به علم من جهة الخبر فقط لا لأن الله منزه عن إرسال ظالم أو مرتكب للفواحش أو مكاس أو مخنث أو غير ذلك فانه لا يعلم نفي شيء من ذلك بالعقل لكن بالخبر وهم في السمعيان عمدتهم الإجماع وأما الاحتجاج بالكتاب والسنة فأكثر ما يذكرونه تبعا للعقل او الاجماع والعقل والاجماع مقدمان عندهم على

الكتاب والسنة فلم يعتمد القاضي أبو بكر وأمثاله في تنزيه الانبياء لا على دليل عقلي ولا سمعي من الكتاب والسنة فان العقل عنده لا يمنع أن يرسل الله من شاءاذ كان يجوز عنده على الله فعل كل ما يقدر عليه وإنما اعتمد على الإجماع فما أجمع المسلمون عليه أنه لا يكون في النبي نزه عنه ثم ذكر ما ظنه إجماعا كعاداته وعادات أمثاله في نقل إجماعات لا يمكن نقلها عن واحد من الصحابة ولا ثلاثة من التابعين ولا أربعة من الفقهاء المشهورين كدعواه الاجماع على أن الصلاة في الدار المغصوبة مجزئة مع قوله إن العقل يحيل أن يكون مأمورا به فيدعي الاجماع على براءة المأمور من فعل ما أمر به لكونه فعل ما نهي عنه ولأهل الكلام والرأي من دعوى الإجماعات التي ليست صحيحة بل قد يكون فيها نزاع معروف وقد يكون إجماع السلف على خلاف ما ادعوا فيه الاجماع ما يطول ذكره هنا وقد ذكرنا قطعة من الاجماعات الفروعية حكاها طائفة من أعيان العلماء العالمين بالاختلاف مع أنها منتقضة وفيها نزاع ثابت لم يعرفوه وقد يكون غيرهم حكى الاجماع على نقيض قولهم وربما كان من السلف كقول الشافعي ما اعلم أحدا قبل شهادة العبد وقبله من الصحابة أنس بن مالك يقول ما أعلم أحد رد شهادة العبد وكدعوى ابن حزم الاجماع على إبطال القياس وأكثر الأصوليين يذكرون الاجماع على إثبات القياس وبسط هذا له موضع آخر
فصل ولما أرادوا إثبات معجزات الانبياء عليهم السلام وأن الله سبحانه لا يظهرها على يد كاذب مع تجويزهم عليه فعل كل شيء فنفوا منعا فقالوا لو جاز ذلك لزم أن لا يقدر على تصديق من ادعى النبوة وما لزم منه نفي القدرة كان ممتنعا فهذا هو المشهور عن الأشعري وعليه اعتمد القاضي أبو بكر وابن فورك والقاضي أبو يعلى وغيرهم وهو مبني على مقدمات أحدها أن النبوة لا تثبت الا بما ذكروه من المعجزات وأن الرب لا يقدر على إعلام الخلق بأن هذا نبي إلا بهذا الطريق وأنه لا يجوز أن يعلموا ذلك ضرورة وان اعلام الخلق بان هذا نبي بهذا الطريق

ممكن فلو قيل لهم لا نسلم أن هذا ممكن على قولكم فانكم إذا جوزتم عليه فعل كل شيء وارادة كل شيء لم يكن فرق بين أن يظهرها على يد صادق أو كاذب ولم يكن ارسال رسول يصدقه بالمعجزات ممكنا على أصلكم ولم يكن لكم حجة على جواز إرسال الرسول وتصديقه بالمعجزات إذ كان لا طريق عندهم إلا خلق المعجز وهذا إنما يكون دليلا اذا علم أنه إنما خلقه لتصديق الرسول وأنتم عندكم لا يفعل شيئا لشيء ويجوز عليه فعل كل شيء وسلك طائفة منهم طريقا آخر وهي طريقة أبي المعالي وأتباعه وهو أن العلم بتصديقه لمن أظهر على يديه المعجز علم ضروري وضربوا له مثلا بالملك وهذا صحيح اذا منعت أصولهم فان هذه تعلم اذا كان المعلم بصدق رسوله ممن يفعل شيئا لحكمة فاما من لا يفعل شيئا لشيء فكيف يعلم أنه خلق هذه المعجزات لتدل على صدقه لا لشيء آخر ولم لا يجوز أن يخلقها لالشيء على أصلهم وقالوا أيضا ما ذكره الأشعري المعجز علم الصدق ودليله فيستحيل وجوده بدون الصدق فيمتنع وجوده على يد الكاذب وهذا كلام صحيح لكن كونه علم الصدق مناقض لاصولهم فانه إنما يكون علم الصادق اذا كان الرب منزها عن ان يفعله على يد الكاذب أو علم بالاضطرار أنه إنما فعله لتصديق الصادق أو أنه لا يفعله على يد كاذب وإذا علم بالاضطرار تنزهه عن بعض الأفعال بطل أصلهم
فصل والمعتزلة قبلهم ظنوا أن مجرد كون الفعل خارقا للعادة هو الآية على صدق الرسول فلا يجوز ظهور خارق إلا لنبي والتزموا طردا لهذا انكار أن يكون للسحر تأثير خارج عن العادة مثل أن يموت ويمرض بلا مباشرة شيء وأنكروا الكهانة وأن تكون الجن تخبر ببعض المغيبات وأنكروا كرامات الاولياء فاتى هؤلاء فأثبتوا ما أثبته الفقهاء وأهل الحديث من السحر والكهانة والكرامات لكن قيل لهم فميزوا بين هذا وبين المعجزات فقالوا لا فرق في نفس الجنس وليس في جنس مقدورات الرب ما يختص بالانبياء لكن جنس خرق العادة واحد فهذا اذا اقترن بدعوى النبوة وسلم عن المعارضة عند تحدي الرسول بالمثل فهو دليل فهي عندهم لم تدل لكونها في نفسها وجنسها دليلا بل اذا

استدل بها المدعي للنبوة كانت دليلا وإلا لم تكن دليلا ومن شرط الدليل سلامته عن المعارضة وهي عندهم غاية الفرق فاذا قال المدعي للنبوة ائتوا بمثل هذه الآية فعجزوا كان هذا هو المعجز المختص بالنبي وإلا فيجوز عندهم أن تكون معجزات الرسول من جنس ما للسحرة والكهان من الخوارق اذا استدل بها الرسول فالحجة عنده مجموع الدعوى والخارق لا الخارق وحده والاعتبار بالسلامة عن المعارض بل قد لا يشترطون أن يكون خارقا للعادة لكن يشترطون أن لايعارض وعجز الناس عن المعارضة مع أنه معتاد لا خارق للعادة فالاعتبار عندهم بشيئين باقترانه بالدعوى وتحديه لمن دعاهم أن يأتوا بمثله فلا يقدرون قالوا وخوارق الأنبياء يظهر مثلها على يد الساحر والكاهن والصالح ولا تدل على النبوة لأنه لم يدعها قالوا ولو ادعى النبوة أحد من أهل هذه الخوارق مع كذبه لم يكن بد من أن الله يعجزه عنها فلا يخلقها على يده أو يقيض له من يعارضه فتبطل حجته واذا قيل لهم لم قلتم ان الله لا بد أن يفعل هذا وهذا وعندكم يجوز عليه كل شيء ولا يجب عليه فعل شيء ولا يجب منه فعل شيء قالوا لأنه لو لم يمنعه من ذلك أو يعارضه بآخر لكان قد أتى بمثل ما يأتي به النبي الصادق فتبطل دلالة آيات الانبياء فاذا قيل لهم وعلى أصلكم يجوز أنه تبطل دلالتها وعندكم يجوز عليه فعل كل شيء أجابوا بالوجهين المتقدمين إما لزوم أنه ليس بقادر أو أن الدلالة معلومة بالاضطرار وقد عرف ضعفهما ثم هنا يلزمهم شيء آخر وهو أنه لم قلتم إن المعجز الذي يدل به على صدق الانبياء ما ذكرتموه من مجرد كونه خارقا مع الدعوى وعدم المعارضة فان هذا يقال إنه باطل من وجوه
أحدها أنه إذا كان ما يأتي به النبي يأتي به الساحر والكاهن لكان أولئك يعارضون وهذا لا يعارض فالاعتبار إذن بعدم المعارضة فقولوا لكل من ادعى النبوة وقال معجزتي أن لا يدعيها غيري فهو صادق أو لا يقدر غيري على دعواها فهو صادق أو أفعل أمرا معتادا من الأكل والشرب واللباس ومعجزتي أن لا يفعله غيري أو لا يقدر غيري على فعله فهو صادق فالتزموا هذا وقالوا المنع من المعتاد

كإحداث غير المعتاد وعلى هذا فلو قال الرسول معجزتي أني أركب الحمار أو الفرس أو آكل هذا الطعام أو ألبس هذا الثوب أو أعدو إلى ذلك المكان وأمثال ذلك وغيره لا يقدر على ذلك كان هذا آية دعواه وهذا لا ضابط له فان ما يعجز عنه قوم دون قوم لا ينضبط ولكن هذا يفسد قول من فسرها بخرق العادة فان العادات تختلف وقد ذكروا هذا وقالوا المعجزة عند كل قوم ما كان خرقا لعادتهم وقالوا يشترط أن تكون خارقة لعادة من دعاهم وان كان معتادا لغيرهم وقالوا إذا كان المدعي كذابا فان الله يقيض له من يعارضه من أهل تلك الصناعة أو يمنعه من القدرة عليها وهذا وجه ثان يدل على فساد ما أصلوه هم والمعتزلة
الوجه الثالث المعارضة بالمثل أن يأتي بحجة مثل حجة النبي وحجته عندهم مجموع دعوى النبوة والاثبات بالخارق فيلزم على هذا أن تكون المعارضة بأن يدعي غيره النبوة ويأتي بالخارق وعلى هذا فليست معارضة الرسول بأن يأتوا بالقرآن أو عشر سور أو سورة بل أن يدعي أحدهم النبوة ويفعل ذلك وهذا خلاف العقل والنقل ولو قال الرسول لقريش لا يقدر أحد منكم أن يدعي النبوة ويأتي بمثل القرآن وهذا هو الآية وإلا فمجرد تلاوة القرآن ليس آية بل قد يقرأه المتعلم له فلا تكون آيه لأنه لم يدع النبوة ولو ادعاها لكان الله ينسيه إياه أو يقيض له من يعارضه كما ذكرتم لكانت قريش وسائر العلماء يعلمون أن هذا باطل
الرابع أنه إذا كان اعتمادكم على عدم المعارضة فقولوا ما قاله غيركم وهو أن آية سلامة ما يقوله من التناقض وأن كل من ادعى النبوة وكان كاذبا فلا بد أن يتناقض أو يقيض الله له من يقول مثل ما قال وأما السلامة من التناقض من غير دعوى النبوة فليست دليلا فهذا خير من قولكم فانه قد علم أن كل ما جاء من عند غير الله فانه لا بد أن يختلف ويتناقض وما جاء من عند الله لا يتناقض كما قال تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وأما دعوى الضرورة فمن ادعى الضرورة في شيء دون شيء مع تماثلهما وعدم الفرق بينهما في نفس الأمر كانت دعواه مردودة بل كذبا فان وجود العلم الضروري بشيء

دون شيء لا بد أن يكون لفرق إما في المعلوم وإما في العالم وإلا فاذا قدر تساوي المعلومات وتساوي حال العالم بها لم يعلم بالضرورة أحد المتماثلين دون الآخر
الخامس انه لا بد أن تكون الآية التي للنبي أمرا مختصا بالانبياء فان الدليل مستلزم للمدلول عليه فآية النبي هي دليل صدقه وعلامة صدقه وبرهان صدقه فلا توجد قط إلا مستلزمة لصدقه وقد ادعوا أن آيات صدقهم التي تكون منفكة عن صدقهم تكون لساحر وكاهن ورجل صالح ولمدعي الإلهية لكن لا تكون لمن يكذب في دعوى النبوة فجوزوا وجود الدليل مع عدم المدلول عليه إلا اذا ادعى المدلول عليه كاذب واستدلوا على ذلك بأن الساعة تخرق عندها خوارق ولا تدل على صدق أحد ولو ادعى مدع النبوة مع تلك الخوارق لدلت قالوا فعلم أن جنس ما هو معجز يوجد بدون صدق النبي لكن مع دعوى النبوة لا يوجد إلا مع الصدق والآية عندهم الدعوى والخارق والصدق هو المدلول عليه فلا يكون ذلك كذلك إلا مع هذا وأما وجود الخارق مجردا عن الدعوى فليس بدليل ولا فرق عندهم بين خارق وخارق وخارق معتاد عند قوم دون قوم وليس لهم ضابط في العادات ولسائل أن يقول جميع ما يفعله الله من الآيات في العالم فهو دليل على صدق الانبياء ومستلزم له وإن كانت الآيات معتادة لجنس الانبياء أو لجنس الصالحين الذين يتبعون الانبياء فهي مستلزمة لصدق مدعي النبوة فانها إذا لم تكن إلا لنبي أو من يتبعه لزم أن يكون من أحد القسمين والكاذب في دعوى النبوة ليس واحدا منهما فالتابع للانبياء الصالح لا يكذب في دعوى النبوة قط ولا يدعيها إلا وهو صادق كالانبياء المتبعين لشرع موسى فاذا كان آية نبي إحياء الله الموتى لم يمتنع أن يحي الله الموتى لنبي آخر أو لمن يتبع الانبياء كما قد أحيي الميت لغير واحد من الانبياء ومن تبعهم وكان ذلك آية على نبوة محمد صلى الله عليه و سلم ونبوة من قبله إذا كان إحياء الموتى مختصا بالانبياء وأتباعهم وكذلك ما يفعله الله من الآيات والعقوبات بمكذبي الرسل كتغريق فرعون وإهلاك قوم عاد بالريح الصرصر العاتية وإهلاك قوم صالح بالصيحة وأمثال ذلك فان هذا جنس لم يعذب به إلا من كذب

الرسل فهو دليل على صدق الرسل وقد يميت الله بعض الناس بأنواع معتادة من البأس كالطواعين ونحوها لكن هذا معتاد لغير مكذبي الرسل أما ما عذب الله به مكذبي الرسل فمختص بهم ولهذا كان من آيات الله كما قال وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا وكذلك ما يحدثه من أشراط الساعة كظهور الدجال ويأجوج ومأجوج وظهور الدابة وطلوع الشمس من مغربها بل والنفخ في الصور وغير ذلك هو من آيات الانبياء فانهم أخبروا به قبل ان يكون فكذبهم المكذبون فاذا ظهر بعد مئين أو ألوف من السنين كما أخبروا به كان هذا من آيات صدقهم ولم يكن هذا إلا لنبي أو لمن يخبر عن نبي والخبر عن النبي هو خبر النبي ولهذا كان وجود ما أخبر به الرسول من المستقبلات من آيات نبوته إذا ظهر المخبر به كما كان أخبر فيما مضى عرف صدقه فيما أخبر به إذ كان هذا وهذا لا يمكن أن يخبر به إلا نبي أو من أخذ عن نبي وهو لم يأخذ عن أحد من الانبياء شيئا فدل على نبوته ولهذا يحتج الله له في القرآن بذلك كما بسط في غير هذا الموضع وأخبار الكهان فيها كذب كثير والكاهن قد عرف أنه يكذب كثيرا مع فجوره قال تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والكهانة جنس معروف ومعروف أن الكاهن يتلقى عن الشيطان ولا بد من كذبهم وفجورهم والنبي لا يكذب قط ولا يكون إلا برا تقيا فالفرق بينهما ثابت في نفس صفاتهما وأفعالهما وآياتهما لا يقول عاقل إن مجرد ما يفعله الكاهن هو دليل إن اقترن بصادق وليس بدليل إذا لم يقترن بصادق وانه متى ادعاه كاذب لم يظهر على يده وهذا أيضا باطل
ويظهر بالوجه السادس وهو أنه قد ادعى جماعة من الكذابين النبوة وأتوا بخوارق من جنس خوارق الكهان والسحرة ولم يعارضهم أحد في ذلك المكان والزمان وكانوا كاذبين فبطل قولهم إن الكذاب إذا أتى بمثل خوارق السحرة والكهان فلا بد أن يمنعه الله ذلك الخارق أو يقيض له من يعارضه وهذا كالاسود العنسي الذي ادعى النبوة باليمن في حياة النبي صلى الله عليه و سلم واستولى على اليمن وكان معه

شيطان سحيق ومحيق وكان يخبر بأشياء غائبة من جنس أخبار الكهان وما عارضه أحد وعرف كذبه بوجوه متعددة وظهر من كذبه وفجوره ما ذكره الله بقوله هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم وكذلك مسيلمة الكذاب وكذلك الحارث الدمشقي ومكحول الحلبي وبابا الرومي لعنة الله عليهم وغير هؤلاء كانت معهم شياطين كما هي مع السحرة والكهان
السابع أن آيات الأنبياء ليس من شرطها استدلال النبي بها ولا تحديه بالإتيان بمثلها بل هي دليل على نبوته وان خلت عن هذين القيدين وهذا كإخبار من تقدم بنبوة محمد فانه دليل على صدقه وان كان هو لم يعلم بما أخبروا به ولا يستدل به وأيضا فما كان يظهره الله على يديه من الآيات مثل تكثير الطعام والشراب مرات كنبع الماء من بين أصابعه غير مرة وتكثير الطعام القليل حتى كفى أضعاف من كان محتاجا اليه وغير ذلك كله من دلائل النبوة ولم يكن يظهرها للاستدلال بها ولا يتحدى بمثلها بل لحاجة المسلمين اليها وكذلك إلقاء الخليل في النار إنما كان بعد نبوته ودعائه لهم الى التوحيد
الثامن أن الدليل الدال على المدلول عليه ليس من شرط دلالته استدلال أحد به بل ما كان النظر الصحيح فيه موصولا الى علم فهو دليل وان لم يستدل به أحد فالآية أدلة وبراهين تدل سواء استدل بها النبي أو لم يستدل وما لا يدل اذا لم يستدل به لا يدل إذا استدل به ولا ينقلب ما ليس بدليل دليلا اذا استدل به مدع لدلالته
التاسع أن يقال آيات الانبياء لا تكون إلا خارقة للعادة ولا تكون مما يقدر أحد على معارضتها فاختصاصها بالنبي وسلامتها عن المعارضة شرط فيها بل وفي كل دليل فانه لا يكون دليلا حتى يكون مختصا بالمدلول عليه ولا يكون مختصا إلا اذا سلم عن المعارضة فلم يوجد مع عدم المدلول عليه مثله وإلا اذا وجد هو أو مثله

بدون المدلول لم يكن مختصا فلا يكون دليلا لكن كما أنه لا يكفي مجرد كونه خارقا بعادة أولئك القوم دون غيرهم فلا يكفي أيضا عدم معارضة أولئك القوم بل لا بد أن يكون مما لم يعتده غير الانبياء فيكون خارقا لعادة غير الانبياء فمتى عرف أنه يوجد لغير الانبياء بطلت دلالته ومتى عارض غير النبي النبي بمثل ما أتى به بطل الاختصاص وما ذكره المعتزلة وغيرهم كابن حزم من أن آيات الانبياء مختصة بهم كلام صحيح لكن كرامات الاولياء هي من دلائل النبوة فانها لا توجد إلا لمن اتبع النبي الصادق فصار وجودها كوجود ما أخبر به النبي من الغيب وأما ما يأتي به السحرة والكهان من العجائب فتلك جنس معتاد لغير الانبياء وأتباعهم بل الجنس معروف بالكذب والفجور فهو خارق بالنسبة الى غير أهله وكل صناعة فهي خارقة عند غير أهلها ولا تكون آية وآيات الانبياء هي خارقة لغير الانبياء وان كانت معتادة للانبياء
العاشر أن آيات الانبياء خارجة مقدور من أرسل الانبياء اليه وهم الجن والانس فلا تقدر الانس والجن أن يأتوا بمثل معجز الانبياء كما قال تعالى قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا وأما الملائكة فلا تضر قدرتهم على مثل ذلك فان الملائكة انما تنزل على الانبياء لا تنزل على السحرة والكهان كما أن الشياطين لاتتنزل على الانبياء والملائكة لا تكذب على الله فاذا كانت الآيات من أفعال الملائكة مث أخبارهم للنبي عن الله بالغيب ومثل نصرهم له على عدوه وإهلاكهم له نصرا وهلاكا خارجين عن العادة كما فعلته الملائكة يوم بدر وغيره وكما فعلت بقوم لوط وكما فعلت بمريم والمسيح ونحو ذلك وكاتيانهم لسليمان بعرش بلقيس فقد روي أن الملائكة جاءته به وهي أقدر من الجن لم يكن هذا خارجا عما اعتاده الانبياء بل هذا ليس لغير الانبياء فلا يقال ان غير الانبياء اعتادوه فنقضت عادتهم بل هذا لم يعتده إلا الانبياء وهو مناقض لجنس عادات الآدميين بمعنى انه لا يوجد فيما

اعتاده بنو آدم في جميع الأصناف غير الانبياء كما اعتادوا العجائب من السحر والكهانة والصناعات العجيبة وما يستعينون عليه بالجن والانس والقوى الطبيعية مثل الطلاسم وغيرها فكل هذا معتاد معروف لغير الانبياء وهؤلاء جعلوا الطلاسم من جنس المعجزات وقالوا لو أتى بها نبي لكانت آية له واذا أتى بها من لم يدع النبوة جاز وان ادعاها كاذب سلبه الله علمها أو قيض له من يعارضه وهذا قول قبيح فانه لو جعل شيء من معجزات الانبياء وآياتهم من جنس ما يأتي به ساحر أو كاهن أو مطلسم أو مخدوم من الجن لاستوى الجنسان ولم يكن فرق بين الأنبياء وبين هؤلاء ولم يتميز بذلك النبي من غيره وهذا مما عظم غلط هؤلاء فيه فلم يعرفوا خصائص النبي وخصائص آياته كما أن المتفلسفة أبعد منهم عن الايمان فجعلوا للنبوة ثلاث خصائص حصول العلم بلا تعلم وقوة نفسه المؤثرة في هيولي العالم وتخيل السمع والبصر وهذه الثلاثة توجد لكثير من عوام الناس ولم يفرقوا بين النبي والساحر إلا بأن هذا بر وهذا فاجر والقاضي أبو بكر وأمثاله يجعلون هذا الفرق سمعيا والفرق الذي لا بد منه عندهم الاستدلال بها والتحدي بالمثل وكل من هؤلاء وهؤلاء أدخلوا مع الانبياء من ليس بنبي ولم يعرفوا خصائص الانبياء ولا خصائص آياتهم فلزمهم جعل من ليس بنبي نبيا أو جعل النبي ليس بنبي اذ كان ما ذكروه في النبوة مشتركا بين الانبياء وغيرهم فمن ظن أنه يكون لغير الانبياء قدح في الانبياء أن يكون هذا هو دليلهم بوجود مثل ما جاءوا به لغير النبي ومن ظن أنه لا يكون إلا لنبي إذا رأى من فعله من متنبئ كاذب وساحر وكاهن ظن أنه نبي والايمان بالنبوة أصل النجاة والسعادة فمن لم يحقق هذا الباب اضطرب عليه باب الهدى والضلال والايمان والكفر ولم يميز بين الخطأ والصواب ولما كان الذين اتبعوا هؤلاء وهؤلاء من المتأخرين مثل أبي حامد والرازي والآمدي وأمثالهم هذا ونحوه مبلغ علمهم بالنبوة لم يكن لها في قلوبهم من العظمة ما يجب لها فلا يستدلون بها على الامور العلمية الخبرية وهي خاصة النبي وهو الاخبار عن الغيب والانباء به فلا

يستدلون بكلام الله ورسوله على الإنباء بالغيب التي يقطع بها بل عمدتهم ما يدعونه من العقليات المتناقضة ولهذا يقرون بالحيرة في آخر عمرهم كما قال الرازي ... نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال ... وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال ... ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا ...
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات اليه يصعد الكلم الطيب الرحمن على العرش استوى واقرأ في النفي ليس كمثله شيء ولا يحيطون به علما ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي
الوجه الحادي عشر أن آيات الانبياء مما يعلم العقلاء أنها مختصة بهم ليست مما تكون لغيرهم فيعلمون أن الله لم يخلق مثلها لغير الانبياء وسواء في آياتهم التي كانت في حياة قومهم وآياتهم التي فرق الله بها بين أتباعهم وبين مكذبيهم بنجاة هؤلاء وهلاك هؤلاء ليست من جنس ما يوجد في العادات المختلفة لغيرهم وذلك مثل تغريق الله لجميع أهل الأرض إلا لنوح ومن ركب معه في السفينة فهذا لم يكن قط في العالم نظيره وكذلك إهلاك قوم عاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد مع كثرتهم وقوتهم وعظم عماراتهم التي لم يخلق مثلها في البلاد ثم أهلكوا بريح صرصر عاتية مسخرة سبع ليال وثمانية أيام حسوما حتى صاروا كلهم كأنهم أعجاز نخل خاوية ونجا هود ومن اتبعه فهذا لم يوجد نظيره في العالم وكذلك قوم صالح أصحاب مدائن ومساكن في السهل والجبل وبساتين أهلكوا كلهم بصيحة واحدة فهذا لم يوجد نظيره في العالم وكذلك قوم لوط أصحاب مدائن متعددة رفعت الى السماء ثم قلبت بهم وأتبعوا بحجارة من السماء تتبع شاذهم ونجا لوط وأهله إلا امرأته أصابها ما أصابهم فهذا لم يوجد نظيره في العالم وكذلك قوم فرعون وموسى جمعان

عظيمان ينفرق لهم البحر كل فرق كالطود العظيم فيسلك هؤلاء ويخرجون سالمين فاذا سلك الآخرون انطبق عليهم الماء فهذا لم يوجد نظيره في العالم فهذه آيات تعرف العقلاء عموما أنها ليست من جنس ما يموت به بنو آدم وقد يحصل لبعض الناس طاعون ولبعضهم جدب ونحو ذلك وهذا مما اعتاده الناس وهو من آيات الله من وجه آخر بل كل حادث من آيات الله تعالى ولكن هذه الآيات ليست من جنس ما اعتيد وكذلك الكعبة فانها بيت من حجارة بواد غير ذي زرع ليس عندها أحد يحفظها من عدو ولا عندها بساتين وأمور يرغب الناس فيها فليس عندها رغبة ولا رهبة ومع هذا فقد حفظها بالهيبة والعظمة فكل من يأتيها يأتيها خاضعا ذليلا متواضعا في غاية التواضع وجعل فيها من الرغبة أن يأتيها الناس من أقطار الارض محبة وشوقا من غير باعث دنيوي وهي على هذه الحال من ألوف من السنين وهذا مما لا يعرف في العالم لبنية غيرها والملوك ينبون القصور العظيمة فتبقى مدة ثم تهدم لا يرغب أحد في بنائها ولا يرهبون من خرابها وكذلك ما بني للعبادات قد تتغير حاله عى طول الزمان وقد يستولي العدو عليه كما استولى على بيت المقدس والكعبة لها خاصة ليست لغيرها وهذا مما حير الفلاسفة ونحوهم فانهم يظنون أن المؤثر في هذا العالم هو حركات الفلك وأن ما بني وبقي فقد بني بطالع سعيد فحاروا في طالع الكعبة اذ لم يجدوا في الاشكال الفلكية ما يوجب مثل هذه السعادة والفرح والعظمة والدوام والقهر والغلبة وكذلك ما فعل الله بأصحاب الفيل لما قصدوا تخريبها قال تعالى ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول قصدها جيش عظيم ومعهم الفيل فهرب أهلها منهم فبرك الفيل وامتنع من المسير الى جهتها واذا وجهوه الى غير جهتها توجه ثم جاءهم من البحر طير أبابيل أي جماعات في تفرقة فوجا بعد فوج رموا عليهم حصى هلكوا به كلهم فهذا مما لم يوجد نظيره في العالم فآيات الانبياء هي أدلة وبراهين على صدقهم والدليل يجب أن يكون مختصا بالمدلول عليه لا يوجد

مع عدمه لا يتحقق الدليل إلا مع تحقق المدلول كما أن الحادث لا بد له من محدث فيمتنع وجود حادث بلا محدث ولا يكون المحدث إلا قادرا فيمتنع وجود الاحداث من غير قادر والفعل لا يكون الا من عالم ونحو ذلك فكذلك ما دل على صدق النبي يمتنع وجوده إلا مع كون النبي صادقا ولم يجعلوا آيات الانبياء تدل دلالة عقلية مستلزمة للمدلول ولا تدل بجنسها ونفسها بل قال بعضهم قد تدل وقد لا تدل وقال آخرون تدل مع الدعوى ولا تدل مع عدم الدعوى وهذا يبطل كونها دليلا وآخرون أرادوا تحقيق ذلك فقالوا تدل دلالة وضعية من جنس دلالة اللفظ على مراد المتكلم تدل إن قصد الدلالة ولا تدل بدون ذلك فهي تدل مع الوضع دون غيره فيقال لهم وما يدل على قصد المتكلم هو أيضا دليل مطرد يمتنع وجوده بدون المدلول ودلالته تعلم بالعقل فجميع الادلة تعلم بالعقل دلالتها على المدلول فان ذلك اللفظ إنما يدل اذا علم أن المتكلم أراد به هذا المعنى وهذا قد يعلم ضرورة وقد يعلم نظرا فقد يعلم قصد المتكلم بالضرورة كما يعلم أحوال الانسان بالضرورة فيفرق بين حمرة الخجل وصفرة الوجل وبين حمرة المحموم وصفرة المريض بالضرورة وقد يعلم نظرا واستدلالا كما يعلم أن عادته إذا قال كذا أن يريد كذا وانه لا ينقض عادته إلا اذا بين ما يدل على انتقاضها فيعلم هذا كما يعلم سائر العاديات مثل طلوع الشمس كل يوم والهلال كل شهر وارتفاع الشمس في الصيف وانخفاضها في الشتاء ومن هذا سنة الله في الفرق بين الانبياء وأتباعهم وبين مكذبهم قال تعالى قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين وقال تعالى فهل ينظرون إلا سنة الاولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا وقال تعالى أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فانها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقال تعالى وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد فان هذه العجائب والآيات التي للانبياء

تارة تعلم بمجرد الاخبار المتواترة وان لم نشاهد شيئا من آثارها وتارة تشاهد بالعيان آثارها الدالة على ما حدث كما قال تعالى وعادا وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم وقال تعالى فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا وقال تعالى وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون وقال تعالى ان في ذلك لآيات للمتوسمين وانها لبسبيل مقيم ان في ذلك لأية للمؤمنين وان كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وانهما لبامام مبين أي لبطريق موضح متبين لمن مر به آثارهم وهذا الاخبار كانت منتشرة متواترة في العالم وقد علم الناس أنها آيات للانبياء وعقوبة لمكذبيهم لهذا كانوا يذكرونها عند نظائرها للاعتبار كما قال مؤمن آل فرعون يا قوم إني أخاف مثل يوم الآخرة مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد وقال شعيب ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد والقرآن آيته باقية على طول الزمان من حين جاء به الرسول تتلى آيات التحدي به ويتلى قوله فليأتوا بحديث مثله ان كانوا صادقين فأتوا بعشر سور مثله و بسورة من مثله ويتلى قوله قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا فنفس إخبار الرسول بهذا في أول الامر وقطعه بذلك مع علمه بكثرة الخلق دليل على أنه كان خارقا يعجز الثقلين عن معارضته وهذا لا يكون لغير الانبياء ثم مع طول الزمان قد سمعه الموافق والمخالف والعرب والعجم وليس في الامم من أظهر كتابا يقرأه الناس وقال انه مثله وهذا يعرفه كل أحد وما من كلام تكلم به الناس وان كان في أعلى طبقات الكلام لفظا ومعنى إلا وقد قال الناس نظيره وما يشبهه ويقاربه سواء كان شعرا أو خطابة أو كلاما في العلوم والحكمة والاستدلال والوعظ والرسائل وغير ذلك وما وجد من ذلك شيء إلا ووجد ما يشبهه ويقاربه والقرآن مما يعلم الناس عربهم وعجمهم أنه لم يوجد

له نظير مع حرص العرب وغير العرب على معارضته فلفظه آية ونظمه آية وإخباره بالغيوب آية وأمره ونهيه آية ووعده ووعيده آية وجلالته وعظمته وسلطانه على القلوب آية واذا ترجم بغير العربي كانت معانيه آية كل ذلك لا يوجد له نظير في العالم واذا قيل إن التوراة والإنجيل والزبور لم يوجد لها نظير أيضا لم يضرنا ذلك فإنا قلنا إن آيات الانبياء لا تكون لغيرهم وان كانت لجنس الانبياء كالإخبار بغيب الله فهذه آية يشتركون فيها وكذلك إحياء الموتى قد كان آية لغير واحد من الانبياء غير المسيح كما كان ذلك لموسى وغيره وليس المقصود هنا ذكر تفضيل بعض الانبياء على بعض بل المقصود أن جنس الانبياء متميزون عن غيرهم بالآيات والدلائل الدالة على صدقهم التي يعلم العقلاء أنها لم توجد لغيرهم فيعلمون أنها ليست لغيرهم لاعادة ولا خرق عادة بل اذا عبر عنها بأنها خرق عادة وبأنها من العجائب فالأمر العجيب هو الخارج عن نظائره وخارق العادة ما خرج عن الامر المعتاد فالمراد بذلك أنها خارجة عن الامر المعتاد لغير الانبياء وأنها من العجائب الخارجة عن النظائر فلا يوجد نظيرها لغير الأنبياء واذا وجد نظيرها سواء كان أعظم منها أو دونها لنبي فذلك توكيد لها أنها من خصائص الانبياء فان الانبياء يصدق بعضهم بعضا فآية كل نبي لجميع الانبياء كما أن آيات أتباعهم آيات لهم أيضا وهذا أيضا من آيات الانبياء وهو تصديق بعضهم لبعض فلا يوجد من أصحاب الخوارق العجيبة التي تكون بغير الانبياء كالسحرة والكهنة واهل الطبائع والصناعات الا من يخالف بعضهم بعضا فيما يدعو اليه ويأمر به ويعادي بعضهم بعضا وكذلك أتباعهم اذا كانوا من أهل الاستقامة فما أتى به الاول من الآيات فهو دليل على نبوته ونبوة من يبشر به وما أتى به الثاني فهو دليل على نبوته ونبوة من يصدقه ممن تقدم فما أتى به موسى والمسيح وغيرهما من الآيات فهي آيات لنبوة محمد لإخبارهم بنبوته فكان هذا الخبر مما دلت آياتهم على صدقه وما أتى به محمد من الآيات فهو دليل على إثبات جنس الانبياء مطلقا وعلى نبوة كل من سمي في القرآن خصوصا اذا كان هذا مما أخبر به

محمد صلى الله عليه و سلم عن الله ودلت على صدقه فيما يخبر به عن الله وحينئذ فاذا قدر أن التوراة أو الانجيل أو الزبور معجز لما فيه من العلوم والإخبار عن الغيوب والامر والنهي ونحو ذلك لم ينازع في ذلك بل هذا دليل على نبوتهم صلوات الله عليهم وعلى نبوة من أخبروا بنبوته ومن قال إنها ليست بمعجزة فان أراد ليست معجزة من جهة اللفظ والنظم كالقرآن فهذا ممكن وهذا يرجع فيه الى أهل اللغة العبرانية وأما كون التوراة معجزة من حيث المعاني لما فيها من الإخبار عن الغيوب أو الأمر والنهي فهذا لا ريب فيه ومما يدل على أن كتب الانبياء معجزة ان فيها الإخبار بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم قبل أن يبعث بمدة طويلة وهذا لا يمكن علمه بدون إعلام الله لهم وهذا بخلاف من أخبر بنبوته من الكهان والهواتف فان هذا إنما كان عند قرب مبعثه لما ظهرت دلائل ذلك واسترقته الجن من الملائكة فتحدثت به وسمعته الجن من أتباع الانبياء فالنبي الثاني اذا كان قد أخبر بما هو موجود في كتاب النبي الاول وقد وصل اليه من جهته لم يكن آية له فان العلماء يشاركونه في هذا وأما اذا أخبر بقدر زائد لم يوجد في خبر الأول او كان ممن لم يصل إليه خبر نبي غيره كان ذلك آية له كما يوجد في نبوة أشعيا وداود وغيرهما من صفات النبي مالا يوجد مثله في توراة موسى فهذه الكتب معجزة لما فيها من أخبار الغيب الذي لا يعلمه إلا نبي وكذلك فيها من الامر والنهي والوعد والوعيد ما لا يأتي به إلا نبي أو تابع نبي وما أتى أتباع الانبياء من جهة كونهم أتباعا لهم مثل أمرهم بما أمروا به ونهيهم عما نهوا عنه ووعدهم بما وعدوا به ووعيدهم بما يوعدون به فانه من خصائص الانبياء والكذاب المدعي للنبوة لا يأمر بجميع ما أمرت به الانبياء وينهى عن كل ما نهوا عنه فان ذلك يفسد مقصوده وهو كاذب فاجر شيطان من أعظم شياطين الانس والذي يعينه على ذلك من أعظم شياطين الجن وهؤلاء لا يتصور أن يأمروا بما أمرت به الانبياء وينهوا عما نهوا عنه لأن ذلك يناقض مقصودهم بل وان أمروا بالبغض في ابتداء الامر من يخدعونه ويربطونه فلا بد أن يناقضوا فيأمروا بما نهت عنه الانبياء ولا يوجبوا ما أمرت به الانبياء كما جرى مثل ذلك لمن ادعى النبوة من الكذابين ولمن أظهر موافقة الانبياء وهو في ==

   ج2. تاب:النبوات  شيخ الإسلام ابن تيمية

 == الباطن من المنافقين كالملاحدة الباطنية الذين يظهرون الاسلام والتشيع ابتداء ثم إنهم يستحلون الشرك والفواحش والظلم ويسقطون الصلاة والصيام وغير ذلك مما جاءت به الشريعة فمن أظهر خلاف ما أبطن وكان مطاعا في الناس فلا بد أن يظهر من باطنه ما يناقض ما أظهره فكيف بمن ادعى النبوة وأظهر انه صادق على الله وهو في الباطن كاذب على الله بل من أظهر خلاف ما أبطن من آحاد الناس يظهر حاله لمن خبره في مدة فان الجسد مطيع للقلب والقلب هو الملك المدبر له كما قال صلى الله عليه و سلم ألا ان في الجسد مضغة اذا صلحت صلح لها سائر الجسد واذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب فاذا كان القلب كاذبا على الله فاجرا كان ذلك أعظم الفساد فلا بد أن يظهر الفساد على الجوارح وذلك الفساد يناقض حال الصادق على الله وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وذكر أن آيات الانبياء الدالة على صدقهم كثيرة متنوعة وان النبي الصادق خير الناس والكاذب على الله شر الناس وبينهما من الفروق مالا يحصيه إلا الله فكيف يشتبه هذا بهذا بل لهذا من دلائل صدقه ولهذا من دلائل كذبه مالا يمكن إحصاؤه وكل من خص دليل الصدق بشيء معين فقد غلط بل آيات الانبياء هي من آيات الله الدالة على أمره ونهيه ووعده ووعيده وآيات الله كثيرة متنوعة كآيات وجوده ووحدانيته وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته سبحانه وتعالى والقرآن مملوء من تفصيل آياته وتصريفها وضرب الامثال في ذلك وهو يسميها آيات وبراهين وقد ذكرنا الفرق بين الآيات والمقاييس الكلية التي لا تدل الا على أمر كلي في غير هذا الموضع
الوجه الثاني عشر أن ما يأتي به الساحر والكاهن وأهل الطبائع والصناعات والحيل وكل من ليس من أتباع الانبياء لا يكون إلا من مقدور الانس والجن فما يقدر عليه الانس من ذلك هو وأنواعه والحيل فيه كثير وما يقدر عليه الجن هو من جنس مقدور الانس وإنما يختلفون في الطريق فان الساحر قد يقدر على أن يقتل انسانا بالسحر أو يمرضه أويفسد عقله أو حسه وحركته وكلامه بحيث لا يجامع أو لا يمشي أو لا يتكلم ونحو ذلك وهذا كله مما يقدر الانس على مثله لكن بطرق

أخرى والجن يطيرون في الهواء وعلى الماء ويحملون الأجسام الثقيلة كما قال العفريت لسليمان أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وهذا الجنس يكون لمن هو دون الانس والجن من الحيوان كالطيور والحيتان والانس يقدر على جنسه ولهذا لم يكن هذا الجنس آية لنبي لوجوده لغير الانبياء فكثير من الناس تحمله الجن بل شياطين الجن وتطير به في الهواء وتذهب به الى مكان بعيد كما كان العفريت يحمل عرش بلقيس من اليمن الى مكان بعيد ونحن نعرف من هؤلاء عددا كثيرا وليسوا صالحين بل فيهم كفار ومنافقون وفساق وجهال لا يعرفون الشريعة والشياطين تحملهم وتطير بهم من مكان الى مكان وتحملهم الى عرفات فيشهدون عرفات من غير إحرام ولا تلبية ولا طواف بالبيت وهذا الفعل حرام والجهال يحسبون أنه من كرامات الصالحين فتفعله الجن بمن يحب ذلك مكرا به وخديعة أو خدمة لمن يستخدمهم من هؤلاء الجهال بالشريعة وان كان له زهد وعبادة وكذلك الجن كثيرا ما يأتون الناس بما يأخذونه من أموال الناس من طعام وشراب ونفقة وماء وغير ذلك وهو من جنس ما يسرقه الانسي ويأتي به الى الانسي لكن الجن تأتي بالطعام والشراب في مكان العدم ولهذا لم يكن مثل هذا آية لنبي وإنما كان النبي صلى الله عليه و سلم يضع يده في الماء فينبع الماء من بين أصابعه وهذا لا يقدر عليه لا إنس ولا جن وكذلك الطعام القليل يصير كثيرا وهذا لا يقدر عليه لا الجن ولا الانس ولم يأت النبي صلى الله عليه و سلم قط بطعام من الغيب ولا شراب وإنما كان هذا قد يحصل لبعض أصحابه كما أتى خبيب بن عدي وهو أسير بمكة بقطف من عنب وهذا الجنس ليس من خصائص الانبياء ومريم عليها السلام لم تكن نبية وكانت تؤتى بطعام فان هذا قد يكون من حلال فيكون كرامة يأتي به إما ملك وإما جني مسلم وقد يكون حراما فليس كل ما كان من آيات الانبياء يكون كرامة للصالحين وهؤلاء يسوون بين هذا وهذا ويقولون الفرق هو دعوى النبوة والتحدي بالمثل وهذا غلط فان آيات الانبياء التي دلت على نبوتهم هي أعلى مما يشتركون فيه هم وأتباعهم مثل الاتيان بالقرآن ومثل الإخبار بأحوال الانبياء المتقدمين وأممهم والإخبار بما يكون يوم

القيامة وأشراط الساعة ومثل إخراج الناقة من الأرض ومثل قلب العصا حية وشق البحر ومثل أن يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وتسخير الجن لسليمان لم يكن مثله لغيره لكن من الجن المؤمنين من يعاون المؤمنين ومن الجن الفساق والكفار من يعاون الفساق كما يعاون الانس بعضهم بعضا فإما طاعة مثل طاعة سليمان فهذا لم يكن لغير سليمان ومحمد صلى الله عليه و سلم أعطي أفضل مما أعطي سليمان فانه أرسل الى الجن وأمروا أن يؤمنوا به ويطيعوه فهو يدعوهم الى عبادة الله وطاعته لا يأمرهم بخدمته وقضاء حوائجه كما كان سليمان يأمرهم ولا يقهرهم باليد كما كان سليمان يقهرهم بل يفعل فيهم كما يفعل في الانس فيجاهدهم الجن المؤمنون ويقيمون الحدود على منافقيهم فيتصرف فيهم تصرف العبد الرسول لا تصرف النبي الملك كما كان سليمان يتصرف فيهم والصالحون من أمته المتبعون له يتبعونه فيما كان يأمر به الانس والجن وآخرون دون هؤلاء قد يستخدمون بعض الجن في مباحات كما قد يستخدمون بعض الانس وقد يكون ذلك مما ينقص دينهم لا سيما ان كان بسبب غير مباح وآخرون شر من هؤلاء يستخدمون الجن في أمور محرمة من الظلم والفواحش فيقتلون نفوسا بغير حق ويعينونهم على ما يطلبونه من الفاحشة كما يحضرون لهم امرأة أو صبيا أو يجذبونه اليه وآخرون يستخدمونهم في الكفر فهذه الامور ليست من كرامات الصالحين فان كرامات الصالحين هو ما كان سببه الايمان والتقوى لا ما كان سببه الكفر والفسوق والعصيان وأيضا فالصالحون سابقوهم لا يستخدمونهم إلا في طاعة الله ورسوله ومن هو دون هؤلاء لا يستخدمهم إلا في مباح وأما استخدامهم في المحرمات فهو حرام وان كانوا إنما خدموه لطاعته لله كما لو خدم الانس رجلا صالحا لطاعته لله ثم استخدمهم فيما لا يجوز فهذا بمنزلة من أنعم عليه بطاعته نعمة فصرفها الى معصية الله فهو آثم بذلك وكثير من هؤلاء يسلب تلك النعمة ثم قد يسلب الطاعة فيصير فاسقا ومنهم من يرتد عن دين الاسلام فطاعة الجن للانسان ليست أعظم من طاعة الانس بل الانس أجل وأعظم وأفضل وطاعتهم أنفع واذا كان المطاع من الانس قد يطاع في طاعة الله فيكون محمودا مثابا

وقد يطاع في معصية الله فيكون مذموما آثما فكذلك المطاع من الجن الذي يطيعه الناس والمطاع من الانس قد يكون مطاعا لصلاحه ودينه وقد يكون مطاعا لملكه وقوته وقد يكون مطاعا لنفعه لمن يخدمه بالمعاوضة فكذلك المطاع من الجن قد يطاع لقول وملك محمود أو مذموم ثم الملك اذا سار بالعدل حمد وإن سار بالظلم فعاقبته مذمومة وقد يهلكه أعوانه فكذلك المطاع من لجن اذا ظلمهم أو ظلم الانس بهم أو بغيرهم كانت عاقبته مذمومة وقد تقتله الجن أو تسلط عليه من الانس من يقتله وكل هذا واقع نعرف من ذلك من الوقائع ما يطول وصفه كما نعرف من ذلك من وقائع الانس ما يطول وصفه وليس آيات الانبياء في شيء من هذا الجنس ونبينا صلى الله عليه و سلم لما أسري به من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى إنما أسري به ليرى من آيات ربه الكبرى وهذا هو الذي كان من خصائصه أن مسراه كان هذا كما قال تعالى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى وقال تعالى وما جعلنا الرؤيا التي أريناك الا فتنة للناس قال ابن عباس هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة اسري به فهذا الذي كان من خصائصه ومن أعلام نبوته وأما مجرد قطع تلك المسافة فهذا يكون لمن تحمله الجن وقد قال العفريت لسليمان أنا آتيك به قبل أن تقوم مقامك وحمل العرش من القصر من اليمن الى الشام أبلغ من ذلك وقال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك فهذا أبلغ من قطع المسافة التي بين المسجدين في ليلة ومحمد صلى الله عليه و سلم أفضل من الذي عنده علم من الكتاب ومن سليمان فكأن الذي خصه الله به أفضل من ذلك وهو أنه أسري به في ليلة ليريه من آياته فالخاصة ان الإسراء كان ليريه من آياته الكبرى كما رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى اذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى فهذا ما حصل مثله لا لسليمان ولا لغيره والجن وان قدروا على حمل بعض الناس في الهواء فلا يقدرون على إصعاده الى السماء واراءته آيات ربه الكبرى فكان ما آتاه الله محمدا خارجا

عن قدرة الجن والانس وانما كان الذي صحبه في معراجه جبريل الذي اصطفاه الله لرسالته والله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس وكان المقصود من الإسراء أن يريه ما رآه من آياته الكبرى ثم يخبر به الناس فلما أخبر به كذب به من كذب من المشركين وصدق به الصديق وأمثاله من المؤمنين فكان ذلك ابتلاء ومحنة للناس كما قال وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس أي محنة وابتلاء للناس ليتميز المؤمن عن الكافر وكان فيما أخبرهم به أنه رأى الجنة والنار وهذا مما يخوفهم به قال تعالى ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا والرسول لما أخبرهم بما رآه كذبوه في الإسراء وأنكروا أن يكون أسري به الى المسجد الاقصى فلما سألوه عن صفته فوصفه لهم وقد علموا أنه لم يره قبل ذلك وصدقه من رآه منهم كان ذلك دليلا على صدقه في المسرى فلم يمكنهم مع ذلك تكذيبه فيما لم يروه وأخبر الله تعالى بالمسرى الى المسجد الاقصى لأنهم قد علموا صدقه في ذلك بما أخبرهم به من علاماته فلا يمكنهم تكذيبه في ذلك وذكر أنه رأى من آيات ربه الكبرى ولم يعين ما رآه وهو جبريل الذي رآه في صورته التي خلق عليها مرتين لأن رؤية جبريل هي من تمام نبوته ومما يبين ان الذي أتاه بالقرآن ملك لا شيطان كما قال في سورة إذا الشمس كورت انه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين ثم قال وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالافق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين
فصل ومما يبين ضعف طريقة هؤلاء أنهم قالوا المعجزات لا تدل بجنسها على النبوة بل يوجد مثل المعجز من كل وجه ولا يدل على النبوة كأشراط الساعة وكما يوجد للسحرة والكهان والصالحين من الخوارق التي تماثل آيات الانبياء فيما زعمه هؤلاء قالوا لكن الفرق أن هذا يدعي النبوة ويحتج بها ويتحداهم بالمثل فلا يقدر أحد على معارضته وأولئك لو ادعوا النبوة لمنعهم الله منها وان كانوا قبل ذلك غير ممنوعين منها أو لقيض لهم من يعارضهم ولو عارضوا بها نبيا لمنعهم الله إياها ليسلم دليل النبوة قالوا والمعجز انما يدل دلالة وضعية بالجعل والقصد كدلالة الألفاظ

والعقد والخط والعلامات التي يجعلها الناس بينهم فيقال لهم هذه الأمور كلها انما تدل إذا تقدم علم المدلول بها أن الدال جعلها علامة كما يوكل الرجل وكيلا ويجعل بينه وبينه علامة إما وضع يده على ترقوته وإما وضع خنصره وإما وضع يده على رأسه فمن جاء بهذه العلامة علم أن موكله أرسله فأما إذا لم يتقدم ذلك لم تكن دلالة جعلية وضعية اصطلاحية وآيات الانبياء لما لم تتقدم قبلها من الرب مواضعة بينه وبين العباد قالوا هي تشبه ما إذا قال الرجل لموكله والرسول لمرسله انك أرسلتني الى هؤلاء القوم فان كنت أرسلتني فقم واقعد ليعلموا انك أرسلتني فاذا قام وقعد عقب طلب الرسول علم الحاضرون أنه قام وقعد ليعلمهم أنه رسوله وان كان بدون طلبه قد يقوم ويقعد لأمور أخرى فيقال لهم هنا لما علم الحاضرون انتفاء داع يدعوه إلا قصد التصديق علموا أنه قصد تصديقه ولهذا لو جوزوا قيامه لحاجة عرضت أو لحية أو عقرب وقعت في ثيابه أو لغير ذلك لم يجعلوا ذلك دليلا والسبر والتقسيم مما يعلم به الدليل وان لم يقصده الدليل حتى أن الرجل المشهور إذا خرج في غير وقت خروجه المعتاد فقد يعرف كثير من الناس لاي شيء خرج لعلمهم بانتفاء غيره وأن خروجه له مناسب وان لم يكن هنا أحد طلب الاستدلال فخروج الانسان عن عادته قد يكون لاسباب فاذا اقترن بسبب صالح وعلم انتفاء غيره علم أنه لذاك السبب وهذا إنما يكون ممن يفعل لداع يدعوه والرب تعالى عندهم لا يفعل لداع يدعوه فلزمهم إما إبطال أصلهم وإما إبطال هذه الدلالة وايضا فيقال لهم بل الدليل دل لجنسه وهو هذا الفعل الذي لم يفعل إلا لهذا الطلب ومتى وجد هذا كان جنسه دليلا وليست الدعوى جزءا من الدليل بل طلب الاعلام بهذا الفعل مع الفعل هو الدليل ولهذا لو قال فافعل ما يدل على صدقي وقام وقعد لم يدل على صدقه بخلاف ما إذا قال فقم واقعد ولو قال فأظهر ما يدل على صدقي فلا بد أن يظهر ما يدل جنسه أنه دليل كقول أو خط أو غير ذلك أو خلعة تختص بمثل ذلك ففرق بين أن يطلب فعلا معينا أو دليلا مطلقا وهو إذا طلب فعلا معينا كقيام أو وضع يد على الرأس أو صلاة ركعتين أو غير ذلك من الأفعال دل على

صدقه وان كان ذلك معتادا له أن يفعله فليس من شرط دلالته أن يخرج عن عادته لكن شرط دلالته أن يعلم أنه فعله لأجل الاعلام بحيث لا يكون هناك سبب داع غير الأعلام وحينئذ فهو دال لجنسه وكذلك يقال الرب إذا خرق العادة لمدعي الرسالة عقب مطالبته بآية علم أن الله لم يخلق تلك الأدلة على صدقه فهذا يدل وهذا انما يتم مع كون الرب يفعل شيئا لأجل شيء آخر وحينئذ فقد يكون من شرط الدليل مطالبة الطالب بدليل لا أن نفس الدعوى هي جزء الدليل وفرق بين طلبه من الرب آية أو طلبهم منه آية وبين الدعوى فاظهار ما يظهره الرب عقب طلبهم أو طلبه قد يقال فيه أن الطلب جزء الدليل وأنه لو أظهره بدون الطلب لم يدل وأما نفس دعوى النبوة فليست جزءا وعلى هذا فاذا قدر أنه يفعل ذلك عند طلبه أو طلب غيره آية دل على صدقه لكن هذا يكون إذا علم أنه لم يفعله إلا لإعلام أولئك بصدقه وهذا لا يكون إلا بأن يتميز جنس ما دل به عن غيره ولا يجوز أن يدل مع وجود مثله من غير دلالة بل متى قدر وجود مثله من غير دلالة بطل كونه دليلا ولو كانت الدعوى جزءا من الدليل لكانت المعارضة لا تكون إلا مع دعوى النبوة فلو أتوا بمثل القرآن من غير دعوى النبوة لم يكونوا عارضوه وهذا خلاف ما في القرآن وخلاف ما أجمع المسلمون بل العقلاء والله أعلم وهم يسمون ما يكون بقصد الدال كالكلام دليلا وضعيا فالأقوال والأفعال التي يقصد بها الدلالة كالعقد وما يجعله الرجل علامة ونحو ذلك يسمونه دليلا وضعيا ويسمون ما يدل مطلقا دليلا عقليا والأجود أن يقال جميع الأدلة عقلية بمعنى أن العقل إذا تصورها علم أنها تدل فان الدليل هو ما يكون النظر الصحيح فيه مفضيا الى العلم بالمدلول عليه وإنما يكون النظر الصحيح لمن يعقل دلالة الدليل فمن لم يعقل كون الدليل مستلزما للمدلول لم يستدل به ومن عقل ذلك استدل به فهو يدل بصفة هو في نفسه عليها لا بصفة هي في المستدل لكن كونه عقليا يرجع إلى أن المستدل علمه بعقله وهذا صفة في المستدل لا فيه أو الأجود أن يقال الدليل قد يدل بمجرده وقد يدل بقصد الدال على دلالته فالاول لا يحتاج الى قصد الدلالة كما تقول النحاة أن الأصوات تدل بالطبع وتدل بالوضع فالذي يدل بالطبع كالنحنحة

والسعال والبكاء ونحو ذلك من الاصوات وهذا ليس كلاما وحينئذ فما يدل بقصد الدال أحق بالدلالةودلالته أكمل ولهذا كانت دلالة الكلام على مقصود المتكلم وهي دلالة سمعية أكمل من جميع أنواع الأدلة على مراده وهو البيان الذي علمه الله الانسان وامتن بذلك على عباده فمنها ما يدل بمجرده ومنها ما يدل بقصد الدال فاذا انضم اليه ما يعرف أنه قصد الدلالة دل فالدليل هنا في الحقيقة قصد الدال للدلالة وهي دلالة لا تنتقض اذا لم يجوز عليه الكذب وإنما الذي دل به على قصده هو دل بجعله دليلا لم يدل بمجرده فهو دليل بالاختيار لا بمجرده فالاقوال والافعال التي يقصد بها الدلالة تدل باختيار الدال بها لا بمجردها ودلالتها تعلم بالعقل وقد تفتقر من العقل الى أكثر مما يفتقر اليه العقلي المجرد لانها تحتاج الى أن يعلم قصد الدال ولكن ما يحصل بها من الدلالة أوضح وأكثر كالكلام وعلى هذا فاذا أريد تقسيمها الى عقلي ووضعي أي الى عقلي مجرد والى وضعي يحتاج مع العقل الى قصد من الدال فهو تقسيم صحيح فدال يعلم بمجرد العقل وهذا لا يحتاج مع العقل إلى السمع أو غيره وحينئذ فاذا قيل في السمعيات انها ليست عقلية أي لا يكفي فيها مجرد العقل بل لا بد من انضمام السمع اليه وكذلك ذكر الرازي وغيره أن السمع المحض لا يدل لا بد من العقل وهذا صحيح فان العقل شرط في جميع العلوم التي تختص بالعقلاء والله أعلم ومما يلزم أولئك ان ما كان يظهر على يد النبي صلى الله عليه و سلم في كل وقت من الاوقات ليس دليلا على نبوته لأنه لم يكن كلما ظهر شيء من ذلك احتج به وتحدى الناس بالاتيان بمثله بل لم ينقل عنه التحدي إلا في القرآن خاصة ولا نقل التحدي عن غيره من الانبياء مثل موسى والمسيح وصالح ولكن السحرة لما عارضوا موسى أبطل معارضتهم وهذا الذي قالوه يوجب أن لا تكون كرامات الأولياء من جملة المعجزات وقد ذكر غير واحد من العلماء أن كرامات الاولياء معجزات لنبيهم وهي من آيات نبوته وهذا هو الصواب كقصة أبي مسلم الخولاني وغيره مما جرى لهذه الامة من الآيات ومثل ما كان يظهر على أيدي الحواريين وعلى يد موسى وأتباعه لأنه جعل التحدي بالمثل جزءا من دليله وآيته فلا يكون دليلا حتى يتحداهم بالمثل بل قد علم أن نفس استدلال المستدل

بالدليل يوجب اختصاصه بالمدلول عليه وكل من أتى بآية هي دليل وبرهان وحجة فقد علم أنه يقول انها مستلزمة للمدلول عليه لا يوجد مع عدمه فلا يمكن أحدا أن يعارضها فيأتي بمثلها مع عدم المدلول عليه وهؤلاء جعلوا من جملة الدليل دعوى النبوة والاحتجاج به والتحدي بالمثل ثلاثة أشياء وهذه الثلاثة هي أجزاء الدليل ودعوى النبوة هو الذي تقام عليه البينة والذي تقام عليه الحجة ليس هو جزءا من الحجة والدعوى تسمى مدلولا عليها ونفس المدعي يسمى مدلولا عليه وثبوت المدعي يسمى مدلولا عليه والعلم بثبوته يسمى مدلولا عليه فهنا دعوى النبوة وهنا النبوة المدعاة قبل أن يعلم ثبوتها وهنا ثبوتها في نفس الامر وهنا علم الناس بثبوتها وكذلك سائر الدعاوي فمن ادعى تحريم النبيذ المتنازع فيه فهنا دعواه التحريم ونفس التحريم هل هو ثابت أم منتف وثبوت التحريم في نفس الامر والعلم بالتحريم وكذلك من أدعى حقا عند الحاكم فهنا دعواه الحق وهنا نفس المدعي وهو استحقاقه ذلك الحق وهنا ثبوت هذا الاستحقاق في نفس الامر وهنا العلم باستحقاقه فالبينة والحجة يجب أن يقارن المدلول عليه الذي هو المدعي وثبوته في نفس الامر سواء ادعاه مدع أو لم يدعه وسواء علمه عالم أو لم يعلمه فان الدليل مستلزم لحرمة النبيد واستحقاق الحق وثبوت الحرمة في نفس الامر يستلزم للحرمة وأما مجرد الحرمة المتصورة فليست مستلزمة لوجودها في نفس الامر بل قد يتصور في الأذهان مالا يوجد في الاعيان والله أعلم
فصل وقد ذكر القاضي أبو بكر ان من المثبتة المجيزين للكرامات من أجاب عن حجة النفاة بأن قال الأدلة على ضربين عقلية ووضعية فالعقلي يدل لنفسه وجنسه والوضعي يدل مع المواطأة ولا يدل مثله مع عدمها كعقد العشرة وضعف أبو بكر هذا بأن قال لهم أن يقولوا إذا كانت المعجزات تجري مجرى القول فحيث قصدت دلت وعنده أن الأمر ليس كذلك قلت بل هذا القائل أحسن لأنها تدل إذا قصدت بها الدلالة مثل قيام الأمر وقعوده إذا طلب ذلك منه ومثل العلامة التي تكون للشخص إذا جعلها علامة فحيث قصد الدلالة به دل لكن لازم هذا أن لا يكون إلا إذا طلب الاستدلال بها لانفس الدعوى ثم أنه ذكر أن الخارق للعادة

لا بد أن يكون خارقا لعادة جميع المرسل اليهم ثم جوز أن يكون مما اعتاده كثير منهم بشرط أن يمنعهم عن المعارضة فيكون ذلك خرق عادة ثم قال في الكرامات لا يجوز أن تكثر حتى تصير عادة لان من حق المعجز على قولنا وقولهم ان يكون خارقا للعادة فلا تجوز إدامة ظهوره فيصير عادة بل يقع نادرا وقد جوزوا في السحر والكهانة أن يكون عادة لكن عند دعوى النبوة يمنعهم من المعارضة فكانت الكرامات أولى بذلك هي عادة للصالحين وإذا ادعى النبوة صادق منع من المعارضة فهذا اضطراب آخر وادعى اجماع الأمة على أنها لا تظهر على فاسق ولولا الإجماع لجوز ذلك لانه لا ينقض دليل النبوة فصارت تدل على الولاية بالإجماع على أنها لا تظهر الا على يد نبي أو ولي فبهذا الإجماع يعلم أن من ظهرت على يده هو ولي لله إذا لم يدع النبوة وهذا تناقض من وجهين أحدهما أنهم قد قالوا إنها لا تدل على الولاية لان الولي من مات على الايمان وهذا غير معلوم الثاني أنه يقال اذا جوزت أن يظهر على يد الساحر والكاهن ونحوهما من الكفار ما هو من جنس المعجزات والكرامات وقلت يجب أن لا يستثنى من السحر شيء لا يفعل عنده إلا ما ورد الإجماع والتوقيف على أنه لا يكون بضرب من السحر ولا يفعل عنده كفلق البحر ونحوه فيكون الفرق بين السحر وغيره إنما يعلم بهذا الإجماع ان ثبت والا فعندك يجوز أن يظهر على يد الساحر كل ما يظهر على يد النبي إذا لم يدع النبوة ولا يحتج بذلك إذا ادعى النبوة وعارضه معارض بالمثل فكيف تقول مع هذا إن الخوارق تدل على الولاية بالإجماع وانت تجوز ظهورها على أيدي الكفار من السحرة والكهان فان قال السحر والكهانة كانا قبل الرسول فلما جاء بطلا قيل أنت قد أثبت أن نفسه سحر بعد النبوة وان السحر كان على عهد الصحابة وقتلوا الساحر وذكرت اجماع الفقهاء على أن السحر يكون من المسلمين وأهل الكتاب والساحر ليس بولي لله والسحر عندك هو من جنس الكرامات الجميع خارق للعادة لم يستدل به على النبوة فكيف تقول مع هذا إن الخوارق لا تكون إلا لنبي أو ولي وأنت أثبتها للكفار وهذا كله من جهة أنه أخذ جنس الخوارق مشتركا فجوز أن يكون للنبي وغير النبي مع قوله ان الخارق لا بد أن يكون خارقا لعادة جميع المرسل اليهم

ولكن عنده هذا يحصل بعدم المعارضة وحينئذ فاشتراط كونه خارقا ومختصا بمقدور الرب باطل وهو قد حكى ان الإجماع على أن المعجز لا بد أن يكون خارقا للعادة فقال اعلموا رحمكم الله أن الكل من سائر الأمم قد شرطوا في صفة المعجز أن يكون خارقا للعادة ثم قال في فصول الكرامات
فصل ويقال لهم ان من الناس من لا يشترط في الآية المعجزة أن تكون خارقا للعادة وهذا كما ذكر إجماع الناس على أنه لا يدل على صدق النبي الا المعجزات فقال في الاستدلال على انها لو لم تدل لزم عجز القديم إذ لا دليل بقول كل احد أثبت النبوة على نبوة الرسل وصدقهم الا ظهور المعجزة فهذا إجماع لا خلاف فيه فلو ظهرت على يد المتنبي لبطلت دلالة النبوة ولوجب عجز القديم عن دليل يدل على نبوتهم وهو نفسه قد ذكر في ذلك عدة أقوال في غير هذا الكتاب وأيضا فالاستدلال بالإجماع إنما يكون بعد ثبوت النبوة فلا يحتج على مقدمات دليل النبوة بمجرد الإجماع وهؤلاء إنما أوقعهم في هذه المناقضات أن القدرية يجعلون لربهم شريعة بالقياس على خلقه ويقولون لا يجوز أن يفعل كذا ولا أن يفعل كذا كقولهم لا يجوز أن يضل هذا فإنا لو جوزنا عليه الاضلال لجاز أن يظهر المعجزات على أيدي الكذابين فان غاية ذلك أنه اضلال واذا جاز ذلك لم يبق دليل على صدق الانبياء ولم يفرق بين الصادق والكاذب فعارضهم هؤلاء بأن قالوا يجوز أن يفعل كل ممكن مقدور ليس يجب أن ينزه عن فعل من الأفعال وليس في الممكنات ما هو قبيح أو ظلم أو شيء بل كل ذلك حسن وعدل فله أن يفعله فقيل لهم فجوزوا اظهار المعجزات على أيدي الكذابين ففتقوا لهم فتقا فقالوا هذا يلزم منه عجز الرب عن أن ينصب دليلا يدل على صدق النبي وان كان يمكنه أن يعرف صدقهم بالضرورة فذاك يوجب أن يعرفوا نفسه بالضرورة وهو يرفع التكليف والتحقيق ان اظهار المعجزات الدالة على صدق الانبياء على يد الكاذب لا يجوز لكن قيل لامتناع ذلك في نفسه كما قاله الأشعري وقيل لأن ذلك يمتنع في حكمة الرب وعدله وهذا أصح فانه قادر على ذلك لكن لو فعله بطلت دلالة المعجز على الصدق وهذا كما أنه قادر على سلب العقول ولو فعل

ذلك لبطلت العلوم وهو سبحانه لو فعل ذلك قادر على تعريف الصدق بالضرورة وقادر على أن لا يعرف بذلك ولا يميز للناس بين الصادق والكاذب لكنه لا يفعل هذا المقدور ونحن نعلم بالاضطرار أنه لا يفعل ذلك وأنه لا يبعث أنبياء صادقين يبلغون رسالته ويأمر الناس باتباعهم ويتوعد من كذبهم فيقوم آخرون كذابون يدعون مثل ذلك وهو يسوي بين هؤلاء وهؤلاء في جميع ما يفرق به بين الصادق والكاذب بل قد علمنا من سنته أنه لا يسوي في دلائل الصدق والكذب بين المحدث الصادق والكاذب والشاهد الصادق والكاذب وبين الذي يعامل الناس بالصدق والكذب وبين الذي يظهر الاسلام صادقا والذي يظهره نفاقا وكذبا بل يميز هذا من هذا بالدلائل الكثيرة كما يميز بين العادل وبين الظالم وبين الأمين وبين الخائن فان هذا مقتضى سنته التي لا تتبدل وحكمته التي هو منزه عن نقيضها وعدله سبحانه بتسويته بين المتماثلات وتفريقه بين المختلفات فكيف يسوي بين أفضل الناس وأكملهم صدقا وبين أكذب الناس وشرهم كذبا فيما يعود الى فساد العالم في العقول والأديان والأبضاع والأموال والدنيا والآخرة وقول القدري اذا جاز عليه اضلال من أضله جاز عليه اضلال بعض الناس يقال له أولا ليس اظهار المعجزة على أيدي الكذابين من باب الاضلال بل لو ظهرت على يده لكانت لا تدل على الصدق فلم يكن دليلا يفرق بين الصدق والكذب وعدم الدليل يوجب عدم العلم بذلك الدليل لا يوجب اعتقاد نقيضه ولو كان لا يظهرها الا على يد كاذب لكانت إنما تدل على الكذب فالاشتراك بين الصنفين يرفع دلالتها واختصاص أحدهما بها يوجب دلالتها على المختص ويقال ثانيا تجويز اضلال طائفة معينة بمعنى أنه حصل لهم الضلال لعدم نظرهم واستدلالهم وقصدهم الحق وجعل قلوبهم معرضة عن طلب الحق وقصده وأنها تكذب الصادق ليس هو مثل اضلال العالم كله ورفع ما يعرف به الحق من الباطل بل مثل هذا مثل من قال اذا جاز ان يعمي طائفة من الناس جاز أن يعمي جميع الناس فلا يرى أحد شيئا واذا جاز أن يصم بعض الناس جاز أن يصم جميعهم فلا يسمع أحد شيئا وإذا جاز أن يزمن بعض الناس أو يشل يديه جاز إزمان جميع الناس وإشلال أيديهم حتى

لا يقدر أحد في العالم على شيء ولا بطش بيده واذا جاز أن يجنن بعض الناس جاز أن يجنن جميعهم حتى لا يبقى في الأرض الا مجنون لا عاقل واذا جاز أن يميت بعض الناس جاز أن يميتهم كلهم في ساعة واحدة مع بقاء العالم على ما هو عليه وأن يقال اذا جاز أن يضل بعض الناس عن قبول بعض الحق جاز أن يضله عن قبول لكل حق حتى لا يصدق أحدا في شيء ولا يقبل شيئا لما يقال له فلا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ولا ينام وان كل من أضل جاز أن يفعل به هذا كله وهذا كله مما يعرف بضرورة العقل الفرق بينهما ومن سوى بين هذا وهذا كان مصابا في عقله وآيات الانبياء هي من هذا الباب فلو لم يميز بين الصادق والكاذب لكان قد بعث أنبياء يبلغون رسالته ويأمرون بما أمر به من أطاعهم سعد في الدنيا والآخرة ومن كذبهم شقي في الدنيا والآخرة وآخرين كذابين يبلغون عنه مالم يقله ويأمرون بما نهى عنه وينهون عما أمر به ومن اتبعهم شقي في الدنيا والآخرة ولم يجعل لأحد سبيلا الى التمييز بين هؤلاء وهؤلاء وهذا أعظم من أن يقال انه خلق أطعمة نافعة وسموما قاتلة ولم يميز بينهما بل كل ما أكله الناس جاز أن يكون من هذا وهذا ومعلوم أن من جوز مثل هذا على الله فهو مصاب في عقله ثم ان الله جعل الاشياء متلازمة وكل ملزوم هو دليل على لازمه فالصدق له لوازم كثيرة فان من كان يصدق ويتحرى الصدق كان من لوازمه أنه لا يتعمد الكذب ولا يخبر بخبرين متناقضين عمدا ولا يبطن خلاف ما يظهر ولا يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه ولا يخون أمانته ولا يجحد حقا هو عليه الى أمثال هذه الأمور التي يمتنع أن تكون لازمة الا لصادق فاذا انتفت انتفى الصدق وإذا وجدت كانت مستلزمة لصدقه والكاذب بالعكس لوازمه بخلاف ذلك وهذا لان الإنسان حي ناطق والنطق من لوازمه الظاهرة لبني جنسه ومن لوازم النطق الخبر فانه ألزم له من الامر والطلب حتى قد قيل ان جميع أنواع الكلام يعود الى الخبر فلزم أن يكون من لوازم الانسان أخباره وظهور أخباره وكثرته وان هذا لا بد من وجوده حيث كان وحينئذ فاذا كان كذابا عرف الناس كذبه لكثرة ما يظهر منه من الخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه من أحوال نفسه وغيره ومما رآه وسمعه وقيل له في الشهادة والغيب ولهذا كل من كان كاذبا

ظهر عليه كذبه بعد مدة سواء كان مدعيا للنبوة أو كان كاذبا في العلم ونقله أو في الشهادة أو في غير ذلك وان كان مطاعا كان ظهور كذبه أكثر لما فيه من الفساد وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر اليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ملك كذاب وشيخ زان وعائل مستكبر ويروى وفقير مختال ولهذا كثير من أهل الدول كانوا يتواصون بالكذب وكتمان أمورهم ثم يظهر كالقرامطة ولهذا امتنع اتفاق الناس على الكذاب والكتمان من غير تواطؤ لما جعل الله في النفوس من الداعي الى الصدق والبيان وجعل الله في القلوب هداية ومعرفة بين هذا وهذا ولم يعرف قط في بني آدم أنه اشتبه صادق بكاذب الا مدة قليلة ثم يظهر الامر وليس هذا كالضلال في أمور خفية ومشتبهة على أكثر الناس فان التمييز بين الصادق والكاذب يظهر لجمهور الناس وعامتهم بعد مدة ولا يطول اشتباه ذلك عليهم وإنما يشتبه الامر عليهم فيما لم يتعمد فيه الكذب بل أخطأ أصحابه فأخذ عنهم تقليدا لهم وأما مع كون أصحابه يتعمدون الكذب فهذا لا يخفى على عامة الناس

فصل

وقد تقدم ذكر بعض الفروق بين آيات الانبياء وغيرهم وبينها وبين غيرها من الفروق مالا يكان يحصى الاول أن النبي صادق فيما يخبر به عن الكتب لا يكذب قط ومن خالفهم من السحرة والكهان لا بد أن يكذب كما قال هل أنبؤكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم الثاني من جهة ما يأمر به هذا ويفعله ومن جهة ما يأمر به هذا ويفعله فان الانبياء لا يأمرون الا بالعدل وطلب الآخرة وعبادة الله وحده وأعمالهم البر والتقوى ومخالفوهم يأمرون بالشرك والظلم ويعظمون الدنيا وفي أعمالهم الاثم والعدوان الثالث أن السحر والكهانة ونحوهما أمور معتادة معروفة لأصحابها ليست خارقة لعادتهم وآيات الانبياء لا تكون الا لهم ولمن اتبعهم الرابع أن الكهانة والسحر يناله الانسان بتعلمه وسعيه واكتسابه وهذا مجرب عند الناس بخلاف النبوة فانه لا ينالها أحد باكتسابه الخامس أن النبوة لو قدر أنها تنال بالكسب فانما تنال بالاعمال الصالحة والصدق والعدل والتوحيد لا تحصل مع الكذب على من دون الله

فضلا عن أن تحصل مع الكذب على الله فالطريق الذي تحصل به لو حصلت بالكسب مستلزم للصدق على الله فيما يخبر به السادس أن ما يأتي به الكهان والسحرة لا يخرج عن كونه مقدور للجن والانس وهم مأمورون بطاعة الرسل وآيات الرسل لا يقدر عليها لا جن ولا إنس بل هي خارقة لعادة كل من أرسل النبي اليه قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا السابع أن هذه يمكن أن تعارض بمثلها وآيات الانبياء لا يمكن أحدا أن يعارضها بمثلها الثامن أن تلك ليست خارقة لعادات بني آدم بل كل ضرب منها معتاد لطائفة غير الانبياء فليست معتادة لغير الصادقين على الله ولمن صدقهم التاسع أن هذه لا يقدر عليها مخلوق لا الملائكة ولا غيرهم كانزال القرآن وتكليم موسى وتلك تقدر عليها الجن والشياطين العاشر أنه إذا كان من الآيات ما يقدر عليه الملائكة فان الملائكة لا تكذب على الله ولا تقول لبشر ان الله أرسلك ولم يرسله وانما يفعل ذلك الشياطين والكرامات معتادة في الصالحين منا ومن قبلنا ليست خارقة لعادة الصالحين وهذه تنال بالصلاح بدعائهم وعبادتهم ومعجزات الانبياء لا تنال بذلك ولو طلبها الناس حتى يأذن الله فيها قل إنما الآيات عند الله قل ان الله قادر على أن ينزل آية الحادي عشر أن النبي قد تقدمه أنبياء فهو لا يأمر الا بجنس ما أمرت به الرسل قبله فله نظراء يعتبر بهم وكذلك الساحر والكاهن له نظراء يعتبر بهم والثاني عشر أن النبي لا يأمر الا بمصالح العباد في المعاش والمعاد فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيأمر بالتوحيد والاخلاص والصدق وينهى عن الشرك والكذب والظلم فالعقول والفطر توافقه كما توافقه الانبياء قبله فيصدقه صريح المعقول وصحيح المنقول الخارج عما جاء به والله أعلم فصل
ومن تدبر هذا وغيره تبين له أن جميع ما ابتدعه المتكلمون وغيرهم مما يخالف الكتاب والسنة فانه باطل ولا ريب أن المؤمن يعلم من حيث الجملة ان ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل لكن كثير من الناس لا يعلم ذلك في المسائل المفصلة لا يعرف ما

الذي يوافق الكتاب والسنة وما الذي يخالفه كما قد أصاب كثير من الناس في الكتب المصنفة في الكلام في أصول الدين وفي الرأي والتصوف وغير ذلك فكثير منهم قد اتبع طائفة يظن أن ما يقولونه هو الحق وكلهم على خطأ وضلال ولقد أحسن الامام أحمد في قوله في خطبته وان كانت مأثورة عمن تقدم
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل الى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لابليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه فما أحسن اثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب محالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين
فهؤلاء أهل البدع من أهل الكلام وغيرهم كما قال مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مفارقة الكتاب وتصديق ما ذكره أنك لا تجد طائفة منهم توافق الكتاب والسنة فيما جعلوه أصول دينهم بل لكل طائفة أصول دين لهم فهي أصول دينهم الذي هم عليه ليس هي أصول الدين الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه وما هم عليه من الدين ليس كله موافقا للرسول ولا كله مخالفا له بل بعضه موافق وبعضه مخالف بمنزلة أهل الكتاب الذين لبسوا الحق بالباطل كما قال تعالى يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون ولاتلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون وقال تعالى يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون لكن بعض الطوائف أكثر مخالفة للرسول من بعض وبعضها أظهر مخالفة ولكن الظهور أمر نسبي فمن عرف السنة ظهرت له مخالفة من خالفها فقد تظهر مخالفة بعضهم للسنة لبعض الناس لعلمه بالسنة دون من

لا يعلم منها ما يعلمه هو وقد تكون السنة في ذلك معلومة عند جمهور الامة فتظهر مخالفة من خالفها كما تظهر للجمهور مخالفة الرافضة للسنة وعند الجمهور هم المخالفون للسنة فيقولون أنت سنى أو رافضي وكذلك الخوارج لما كانوا أهل سيف وقتال ظهرت مخالفتهم للجماعة حين كانوا يقاتلون الناس وأما اليوم فلا يعرفهم أكثر الناس وبدع القدرية والمرجئة ونحوهم لا تظهر مخالفتها بظهور هذين وهاتان البدعتان ظهرتا لما قتل عثمان في الفتنة في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وظهرت الخوارق بمفارقة أهل الجماعة واستحلال دمائهم وأموالهم حتى قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب متبعا في ذلك لأمر النبي صلى الله عليه و سلم قال الامام أحمد بن حنبل صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه وهذه قد رواها صاحبه مسلم بن الحجاج في صحيحه وروى البخاري قطعة منها واتفقت الصحابة على قتال الخوارج حتى ان ابن عمر مع امتناعه عن الدخول في فرقة كسعد وغيره من السابقين ولهذا لم يبايعوا لأحد الا في الجماعة قال عند الموت ما آسى على شيء إلا على أني لم أقاتل الطائفة الباغية مع علي يريد بذلك قتال الخوارج والا فهو لم يبايع لا لعلي ولا غيره ولم يبايع معاوية الا بعد ان اجتمع الناس عليه فكيف يقاتل احدى الطائفتين وانما أراد المارقة التي قال فيها النبي صلى الله عليه و سلم تمرق مارقة على حين فرقة من الناس يقتلهم أدنى الطائفتين الى الحق وهذا حدث به أبو سعيد فلما بلغ ابن عمر قول النبي صلى الله عليه و سلم في الخوارج وأمره بقتالهم تحسر على ترك قتالهم فكان قتالهم ثابتا بالسنة الصحيحة الصريحة وباتفاق الصحابة بخلاف فتنة الجمل وصفين فان أكثر السابقين الاولين كرهوا القتال في هذا وهذا وكثير من الصحابة قاتلوا إما من هذا الجانب وإما من هذا الجانب فكانت الصحابة في ذلك على ثلاثة اقوال لكن الذي دلت عليه السنة الصحيحة أن علي بن أبي طالب كان أولى بالحق وأن ترك القتال بالكلية كان خيرا وأولى ففي الصحيحين عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال تمرق مارقة على حين فرقة من الاسلام يقتلهم أولى الطائفتين بالحق وقد ثبت عنه أنه جعل القاعد فيها خيرا من القائم والقائم خيرا من الماشي والماشي خيرا من الساعي وانه أثنى على من صالح ولم يثن على من قاتل ففي البخاري وغيره عن أبي بكرة ان النبي صلى الله عليه و سلم قال عن الحسن ان ابني هذا سيد

وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين فاثنى على الحسن في اصلاح الله به بين الفئتين وفي صحيح مسلم وبعض نسخ البخاري أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعمار تقتلك الفئة الباغية وفي الصحيحين أيضا أنه قال لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة قال معاذ وهم بالشام وفي صحيح مسلم عنه أنه قال لا يزال أهل المغرب ظاهرين لا يضرهم من خذلهم قال أحمد بن حنبل وغيره أهل المغرب أهل الشام أي أنها أول المغرب فان التغريب والتشريق أمر نسبي فلكل بلد غرب وشرق وهو صلى الله عليه و سلم تكلم بمدينته فما تغرب عنها فهو غرب وما تشرق عنها فهو شرق وهي مسامته أول الشام من ناحية الفرات كما أن مكة مسامته لحران وسميساط ونحوهما وتصويب قتالهم ان كان بعد الاصلاح فلم يقع الاصلاح وإن كان عند بغيهم في الاقتتال وان لم يكن اصلاح فهؤلاء البغاة لم يكن في اصحاب علي من يقاتلهم بل تركوا قتالهم إما عجزا وإما تفريطا فترك الاصلاح المأمور به وعلى هذا قوتلوا ابتداء قتالا غير مأمور به ولما صار قتالهم مأمورا به لم يقاتلوا القتال المأمور به بل نكل أصحاب علي عن القتال إما عجزا وإما تفريطا والبغاة المأمور بقتالهم هم الذين بغوا بعد الاقتتال وامتنعوا من الاصلاح المأمور به فصاروا بغاة مقاتلين والبغاة اذا ابتدأوا بالقتال جاز قتالهم بالاتفاق كما يجوز قتال الغواة قطاع الطريق اذا قاتلوا باتفاق الناس فأما الباغي من غير قتال فليس في النص أن الله أمر بقتاله بل الكفار إنما يقاتلون بشرط الحراب كما ذهب اليه جمهور العلماء وكما دل عليه الكتاب والسنة كما هو مبسوط في موضعه والصديق قاتل المرتدين الذين ارتدوا عما كانوا فيه على عهد الرسول من دينه وهم أنواع منهم من آمن بمتنبئ كذاب ومنهم من لم يقر ببعض فرائض الاسلام التي أقر بها مع الرسول ومنهم من ترك الاسلام بالكلية ولهذا تسمى هذه وأمثالها من الحروب بين المسلمين فتنا كما سماها النبي صلى الله عليه و سلم والملاحم ما كان بين المسلمين والكفار وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا أن الخوارج ظهروا في الفتنة وكفروا عثمان وعليا ومن والاهما وباينوا المسلمين في الدار وسموا دارهم دار الهجرة وكانوا كما وصفهم النبي صلى الله عليه و سلم يقتلون أهل الاسلام ويدعون أهل الاوثان وكانوا أعظم الناس صلاة

وصياما وقراءة كما قال النبي صلى الله عليه و سلم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية ومروقهم منه خروجهم باستحلالهم دماء المسلمين وأموالهم فانه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه وهم بسطوا في المسلمين أيديهم وألسنتهم فخرجوا منه ولم يحكم علي وأئمة الصحابة فيهم بحكمهم في المرتدين بل جعلوهم مسلمين وسعد بن أبي وقاص وهو أفضل من كان قد بقي بعد علي وهو من أهل الشورى واعتزل في الفتنة فلم يقاتل لا مع علي ولا مع معاوية ولكنه ممن تكلم في الخوارج وتأول فيهم قوله وما يضل به الا الفاسفين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض أولئك هم الخاسرون وحدث أيضا طوائف الشيعة الالهية الغلاة فرفع الى علي منهم طائفة ادعوا فيه الالهية فأمرهم بالرجوع فأصروا فأمهلهم ثلاثا ثم أمر بأخاديد من نار فخدت وألقاهم فيها فرأى قتلهم بالنار وأما ابن عباس فقال لو كنت أنا لم أحرقهم بالنار لنهي رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يعذب بعذاب الله ولضربت أعناقهم لقوله صلى الله عليه و سلم من بدل دينه فاقتلوه رواه البخاري وأكثر الفقهاء على قول ابن عباس وروي أنه بلغه أن ابن السوداء يسب أبا بكر وعمر فطلب قتله فهرب منه فاما قتله على السب أو لأنه كان متهما بالزندقة وقيل إنه هو الذي ابتدع بدعة الرافضة وأنه كان قصده افساد دين الاسلام وهذا يستحق القتل باتفاق المسلمين والذين يسبون أبا بكر وعمر فيهم تزندق كالاسماعيلية والنصيرية فهؤلاء يستحقون القتل بالاتفاق وفيهم من يعتقد بنبوة النبي صلى الله عليه و سلم كالامامية فهؤلاء في قتلهم نزاع وتفصيل مذكور في غير هذا الموضع وتواتر عن علي بن أبي طالب أنه قال خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر وهذا متفق عليه بين قدماء الشيعة وكلهم كانوا يفضلوا أبا بكر وعمر وانما كان النزاع في علي وعثمان حين صار لهذا شيعة ولهذا

شيعة وأما أبو بكر وعمر فلم يكن أحد يتشيع لهما بل جميع الامة كانت متفقة عليهما حتى الخوارج فانهم يتولونهما وانما يتبرءون من علي وعثمان وروي أن معاوية قال لابن عباس أنت على ملة علي أم عثمان قال لا على ملة علي ولا عثمان أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان كل من الشيعتين يذم الآخر بما برأه الله منه فكان بعض شيعة عثمان يتكلمون في علي بالباطل وبعض شيعة علي يتكلمون في عثمان بالباطل والشيعتان مع سائر الامة متفقة على تقديم أبي بكر وعمر قيل لشريك بن عبد الله القاضي أنت من شيعة علي وأنت تفضل أبا بكر وعمر فقال كل شيعة علي على هذا هو يقول على أعواد هذا المنبر خير هذه الامة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر أفكنا نكذبه والله ما كان كذابا وقد روى البخاري في صحيحه من حديث محمد بن الحنفية أنه قال له يا ابت من خير الناس بعد رسول الله فقال يا بني أو ما تعرف قال لا قال أبو بكر قال ثم من قال ثم عمر وهو مروي من حديث الهمدانيين شيعة علي عن أبيه وروي عن علي أنه قال ... ولو كنت بوابا على باب الجنة ... لقلت لهمدان ادخلي بسلام ...
وقد روي عنه انه قال لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري وقد ثبت عن علي رضي الله عنه بالاحاديث الثابتة بل المتواترة أنه قتل الغالية كالذين يعتقدون إلهيته بعد أن استتابهم ثلاثا كسائر المرتدين وأنه كان يبالغ في عقوبة من يسب أبا بكر وعمر وأنه كان يقول انهما خير هذه الامة بعد نبيها وهذا مبسوط في مواضع والمقصود هنا أن هاتين البدعتين حدثتا في ذلك الوقت ثم في آخر عصر الصحابة حدثت القدرية وتكلم فيهم من بقي من الصحابة كابن عمر وابن عباس ووائلة بن الاسقع وغيرهم وحدثت أيضا بدعة المرجئة في الايمان والآثار عن الصحابة ثابتة بمخالفتهم وأنهم قالوا الايمان يزيد وينقص كما ثبت ذلك عن الصحابة كما هو مذكور في موضعه وأما الجهمية نفاة الاسماء والصفات فإنما حدثوا في أواخر الدولة الاموية وكثير من السلف لم يدخلهم في الثنتين والسبعين فرقة منهم يوسف ابن أسباط وعبد الله بن المبارك قالوا أصول البدع أربعة الخوارج والشيعة

والقدرية والمرجئة فقيل لهم الجهمية فقالوا ليس هؤلاء من أمة محمد ولهذا تنازع من بعدهم من أصحاب أحمد وغيرهم هل هم من الثنتين والسبعين على قولين ذكرهما عن أصحاب أحمد أبو عبد الله بن حامد في كتابه في الاصول والتحقيق أن التجهم المحض وهو نفي الاسماء والصفات كما يحكي عن جهم والغالية من الملاحدة ونحوهم من نفي اسماء الله الحسنى كفر بين مخالف لما علم بالاضطرار من دين الرسول وأما نفي الصفات مع اثبات الاسماء كقول المعتزلة فهو دون هذا لكنه عظيم أيضا وأما من أثبت الصفات المعلومات بالعقل والسمع وإنما نازع في قيام الامور الاختيارية به كابن كلاب ومن اتبعه فهؤلاء ليسوا جهمية بل وافقوا جهما في بعض قوله وإن كانوا خالفوه في بعضه وهؤلاء من اقرب الطوائف الى السلف وأهل السنة والحديث وكذلك السالمية والكرامية ونحو هؤلاء يوافقون في جملة أقوالهم المشهورة فيثبتون الاسماء والصفات والقضاء والقدر في الجملة ليسوا من الجهمية والمعتزلة النفاة للصفات وهم أيضا يخالفون الخوارج والشيعة فيقولون باثبات خلافة الاربعة وتقديم أبي بكر وعمر ولا يقولون بخلود أحد من أهل القبلة في النار لكن الكرامية والكلابية وأكثر الاشعرية مرجئة وأقربهم الكلابية يقولون الايمان هو التصديق بالقلب والقول باللسان والاعمال ليست منه كما يحكى هذا عن كثير من فقهاء الكوفة مثل أبي حنيفة وأصحابه وأما الاشعري فالمعروف عنه وعن أصحابه أنهم يوافقون جهما في قوله في الايمان وأنه مجرد تصديق القلب أو معرفة القلب لكن قد يظهرون مع ذلك قول أهل الحديث ويتأولونه ويقولون بالاستثناء على الموافاة فليسوا موافقين لجهم من كل وجه وإن كانوا أقرب الطوائف اليه في الايمان وفي القدر أيضا فانه رأس الجبرية يقول ليس للعبد فعل البتة والاشعري يوافقه على أن العبد ليس بفاعل ولا له قدرة مؤثرة في الفعل ولكن يقول هو كاسب وجهم لا يثبت له شيئا لكن هذا الكسب يقول أكثر الناس انه لا يعقل فرق بين الفعل الذي نفاه والكسب الذي أثبته وقالوا عجائب الكلام ثلاثة طفرة النظام وأحوال أبي هاشم وكسب الاشعري وأنشدوا

مما يقال ولا حقيقة عنده ... معقوله تدنو الى الافهام ... الكسب عند الاشعري والحا ... ل عند البهشمي وطفرة النظام ...
وأما الكرامية فلهم في الايمان قول ما سبقهم اليه أحد قالوا هو الاقرار باللسان وإن لم يعتقد بقلبه وقالوا المنافق هو مؤمن ولكنه مخلد في النار وبعض الناس يحكي عنهم أن المنافق في الجنة وهذا غلط عليهم بل هم يجعلونه مؤمنا مع كونه مخلدا في النار فينازعون في الاسم لا في الحكم وقد بسط القول على منشأ الغلط حيث ظنوا أن الايمان لا يكون الا شيئا متماثلا عند جميع الناس اذا ذهب بعضه ذهب سائره ثم قالت الخوارج والمعتزلة وهو أداء الواجبات واجتناب المحرمات فاسم المؤمن مثل اسم البر والتقى وهو المستحق للثواب فاذا ترك بعض ذلك زال عنه اسم الايمان والاسلام ثم قالت الخوارج ومن لم يستحق هذا ولا هذا فهو كافر وقالت المعتزلة بل ينزل منزلة بين المنزلتين فنسميه فاسقا لا مسلما ولا كافرا ونقول انه مخلد في النار وهذا هو الذي امتازت به المعتزلة والا فسائر بدعهم قد قالها غيرهم فهم وافقوا الخوارج في حكمه ونازعوهم ونازعوا غيرهم في الاسم وقالت الجهمية والمرجئة بل الأعمال ليست من الايمان لكنه شيئان أو ثلاثة يتفق فيها جميع الناس التصديق بالقلب والقول باللسان أو المحبة والخضوع مع ذلك وقالت الجهمية والاشعرية والكرامية بل ليس إلا شيئا واحدا يتماثل فيه الناس وهؤلاء الطوائف أصل غلطهم ظنهم أن الايمان يتماثل فيه الناس وأنه اذا ذهب بعضه ذهب كله وكلا الامرين غلط فان الناس لا يتماثلون لا فيما وجب منه ولا فيما يقع منهم بل الايمان الذي وجب على بعض الناس قد لا يكون مثل الذي يجب على غيره كما كان الايمان بمكة لم يكن الواجب منه كالواجب بالمدينة ولا كان في آخر الامر كما كان في أوله ولا يجب على أهل الضعف والعجز من الايمان ما يجب على أهل القوة والقدرة في العقول والأبدان بل أهل العلم بالقرآن والسنة ومعاني ذلك يجب عليهم من تفصيل الايمان مالا يجب على من لم يعرف ما عرفوا وأهل الجهاد يجب عليهم من الايمان في تفصيل الجهاد مالا يجب على غيرهم وكذلك ولاة الامر واهل الاموال يجب على كل من معرفة ما أمر الله به ونهى عنه وأخبر

به مالا يجب على غيره والاقرار بذلك من الايمان ومعلوم أنه وان كان الناس كلهم يشتركون في الاقرار بالخالق وتصديق الرسول جملة فالتفصيل لا يحصل بالجملة ومن عرف ذلك مفصلا لم يكن ما أمر به ووجب عليه مثل من لم يعرف ذلك وايضا فليس الناس متماثلين في فعل ما أمروا به من اليقين والمعرفة والتوحيد وحب الله وخشية الله والتوكل على الله والصبر لحكم الله وغير ذلك مما هو من ايمان القلوب ولا في لوازم ذلك التي تظهر على الابدان واذا قدر أن بعض ذلك زال لم يزل سائره بل يزيد الايمان تارة وينقص تارة كما ثبت ذلك عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل عمر بن حبيب الخطمي وغيره انهم قالوا الايمان يزيد وينقص كما قد بسط في غير هذا الموضع إذ المقصود هنا أن طوائف أهل البدع من أهل الكلام وغيرهم ليس فيهم من يوافق الرسول في أصول دينه لا فيما اشتركوا فيه ولا فيما انفرد به بعضهم فانهم وان اشتركوا في مقالات فليس إجماعهم حجة ولا هم معصومون من الاجتماع على خطأ وقد زعم طائفة ان إجماع المتكلمين في المسائل الكلامية كاجماع الفقهاء وهذا غلط بل السلف قد استفاض عنهم ذم المتكلمين وذم أهل الكلام مطلقا ونفس ما اشتركوا فيه من إثبات الصانع بطريقة الاعراض وأنها لازمة للجسم أو متعاقبة عليه فلا يخلو منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها وأن الله يمتنع أن يقال أنه لم يزل متكلما بمشيئته وقدرته او يمتنع أن يقال أنه لم يزل فعالا وأنه صار فاعلا أو فاعلا ومتكلما بمشيئته مبتدع في الاسلام أول ما عرف أنه قاله الجهم بن صفوان مقدم الجهمية وأبو الهذيل العلاف مقدم المعتزلة ولهذا طرداه فقالا بامتناع الحوادث في المستقبل وقال الجهم بفناء الجنة والنار وقال أبو الهذيل بانقطاع حركاتهما كما قد بسط فروع هذا الاصل الذي اشتركوا فيه ثم افترقوا بعد ذلك في فروعه فائمتهم كانوا يقولون كلام الله القرآن وغيره مخلوق وكذلك سائر ما يوصف به الرب ليس له صفة قامت به لأن ذلك عرض عندهم لا يقوم الا بجسم والجسم حادث فقالوا القرآن وغيره من كلام الله مخلوق وكذلك سائر ما يوصف به الرب فجاء بعدهم مثل ابن كلاب وابن كرام والاشعري وغيرهم من

شاركهم في أصل قولهم لكن قالوا بثبوت الصفات لله وأنها قديمة لكن منهم من قال لا تسمى أعراضا لان العرض لا يبقى زمانين وصفات الرب باقية كما يقوله الاشعري وغيره ومنهم من قال تسمى أعراضا وهي قديمة وليس كل عرض حادثا كابن كرام وغيره ثم افترقوا في القرآن وغيره من كلام الله فقال ابن كلاب ومن اتبعه هو صفة من الصفات قديمة كسائر الصفات ثم قال ولا يجوز أن يكون صوتا لانه لا يبقى ولا معاني متعددة فإنها ان كان لها عدد مقدر فليس قدر بأولى من قدر وإن كانت غير متناهية لزم ثبوت معان في آن واحد لا نهاية لها وهذا ممتنع فقال انه معنى واحد وهو معنى آية الكرسي وآية الدين والتوراة والانجيل وقال جمهور العقلاء إن تصور هذا القول تصورا تاما يوجب العلم بفساده وقال طائفة بل كلامه قديم العين وهو حروف أو حروف وأصوات قديمة أزلية مع أنها مترتبة في نفسها وأن تلك الحروف والاصوات باقية أزلا وأبدا وجمهور العقلاء يقولون ان فساد هذا معلوم بالضرورة وهاتان الطائفتان تقولان انه لا يتكلم بمشيئته وقدرته وقال آخرون كالهشامية والكرامية بل هو متكلم بمشيئته وقدرته وكلامه قائم بذاته ولا يمتنع قيام الحوادث لكن يمتنع أن يكون لم يزل متكلما فإن ذلك يستلزم وجود حوادث لا أول لها وهو ممتنع فهذه الأربعة في القرآن وكلام الله هي أقوال المشركين في امتناع دوام كون الرب فعالا بمشيئته أو متكلما بمشيئته
وأما أئمة السنة والحديث كعبد الله بن المبارك واحمد بن حنبل وغيرهما فقالوا لم يزل الرب متكلما اذا شاء وكيف شاء فذكروا أنه يتكلم بمشيئته وقدرته وأنه لم يزل كذلك وهذا يناقض الاصل الذي اشترك فيه المتكلمون من الجهمية والمعتزلة ومن تلقى عنهم فلا هم موافقون للكتاب والسنة وكلام السلف لا فيما اتفقوا عليه ولا فيما تنازعوا فيه ولهذا يوجد في عامة أصول الدين لكل منهم قول وليس في أقوالهم ما يوافق الكتاب والسنة كأقوالهم في كلام الله واقوالهم في ارادته ومشيئته وفي علمه وفي قدرته وفي غير ذلك من صفاته وإن كان بعضهم اقرب الى السنة والسلف من بعض ولكن قد شاع ذلك بين أهل العلم والدين منهم فكثير من أهل العلم والدين المنتسبين الى السنة والجماعة من قد يوافقهم على بعض أقوالهم في مسألة القرآن أو

غيرهما اذ كان لا يعرف الا ذلك القول أو ما هو أبعد عن السنة منه اذ كانوا في كتبهم لا يحكون غير ذلك اذ كانوا لا يعرفون السنة واقوال الصحابة وما دل عليه الكتاب والسنة لا يعرفون الا قولهم وقول من يخالفهم من أهل الكلام ويظنون أنه ليس للامة الا هذان القولان أو الثلاثة وهم يعتمدون في السمعيات على ما يظنونه من الاجماع وليس لهم معرفة بالكتاب والسنة بل يعتمدون على القياس العقلي الذي هو أصل كلامهم وعلى الاجماع واصل كلامهم العقلي باطل والاجماع الذين يظنونه انما هو اجماعهم واجماع نظرائهم من أهل الكلام ليس هو إجماع أمة محمد ولا علمائها والله تعالى إنما جعل العصمة للمؤمنين من أمة محمد فهم الذين لا يجتمعون على ضلالة ولا خطأ كما ذكر على ذلك الدلائل الكثيرة وكل ما اجتمعوا عليه فهو مأثور عن الرسول فإن الرسول بين الدين كله وهم معصومون أن يخطئوا كلهم ويضلوا عما جاء به محمد بل هم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فلا يبقى معروف الا أمروا به ولا منكر الا نهوا عنه وهم أمة وسط عدل خيار شهداء الله في الارض فلا يشهدون الا بحق فإجماعهم هو على علم موروث عن الرسول جاء من عند الله وذلك لا يكون الا حقا وأما من كان إجماعهم على ما ابتدعه رأس من رءوسهم فيجوز أن يكون إجماعهم خطأ اذ ليسوا هم المؤمنين ولا أمة محمد وانما هم فرقة منهم واذا قيل المعتبر من أمة محمد بعلمائها قيل اذا اتفقت علماؤها على شيء فالباقون يسلمون لهم ما اتفقوا عليه لا ينازعونهم فيه فصار هذا اجماعا من المؤمنين ومن نازعهم بعلم فهذا لا يثبت الاجماع دونه كائنا من كان وأما من ليس من أهل العلم فيما تكلموا فيه فذاك وجوده كعدمه وقول من قال الاعتبار بالمجتهدين دون غيرهم وأنه لا يعتبر بخلاف أهل الحديث أو أهل الاصول ونحوهم كلام لا حقيقة له فإن المجتهدين ان أريد بهم من له قدرة على معرفة جميع الأحكام بأدلتها فليس في الأمة من هو كذلك بل أفضل الأمة كان يتعلم ممن هو دونه شيئا من السنة ليس عنده وإن عني به من يقدر على معرفة الاستدلال على الاحكام في الجملة فهذا موجود في كثير من أهل الحديث والاصول والكلام وإن كان بعض الفقهاء أمهر منهم بكثير من الفروع أو بأدلتها الخاصة أو بنقل الاقوال فيها فقد يكون أمهر منه في معرفة اعيان الادلة كالأحاديث

والفرق بين صحيحها وضعيفها ودلالات الالفاظ عليها والتمييز بين ما هو دليل شرعي وما ليس بدليل وبالجملة العصمة إنما هي للمؤمنين لامة محمد لا لبعضهم لكن اذا اتفق علماؤهم على شيء فسائرهم موافقون للعلماء واذا تنازعوا ولو كان المنازع واحدا وجب رد ما تنازعوا فيه الى الله والرسول وما أحد شذ بقول فاسد عن الجمهور الا وفي الكتاب والسنة ما يبين فساد قوله وإن كان القائل كثيرا كقول سعيد في أن المطلقة ثلاثا تباح بالعقد فحديث عائشة في الصحيحين يدل على خلافه مع دلالة القرآن أيضا وكذلك غيره وأما القول الذي يدل عليه الكتاب والسنة فلا يكون شاذا وأن القائل به أقل من القائل بذاك القول فلا عبرة بكثرة القائل باتفاق الناس ولهذا كان السلف من الصحابة والتابعين لهم باحسان يردون على من أخطأ بالكتاب والسنة لا يحتجون بالإجماع الا علامة وقد يبعث معه نشابه أو سيفه أو شيئا من السلاح المختص به أو يركبه دابته المختصة به ونحو ذلك مما يعلم الناس أنه قصد به تخصيصه وإن كانت تلك الافعال تفعل مع أمثاله وقد تفعل لغير الرسول ممن يقصد اكرامه وتشريفه لكن هي خارقة لعادته بمعنى أنه لم يعتد أن يفعل ذلك مع عموم الناس ولا يفعله الا مع من ميزه بولاية أو رسالة أو وكالة والولاية والوكالة تتضمن الرسالة فكل من هؤلاء هو في معنى رسوله الى من ولاه أني قد وليته والى من أرسله بأني أرسلته فهذه عادة معروفة في العلامات والدلائل التي يبين بها المرسل أن هذا رسولي وجنس خرق العادة لا يستلزم الاكرام بل تخرق عادته بالاهانة تارة وبالاكرام أخرى فقد يخرج ويركب في وقت لم تجر عادته به بل لعقوبة قوم وآيات الرب تعالى قد تكون تخويفا لعبادة كما قال وما نرسل بالآيات الا تخويفا وقد يهلك بها كما أهلك أمما مكذبين واذا قص قصصهم قال ان في ذلك لآيات وكان إهلاكهم خرقا للعادة دل بها على أنه عاقبهم بذنوبهم وتكذيبهم للرسل وأن ما فعلوه من الذنوب مما ينهى عنه ويعاقب فاعله بمثل تلك العقوبة فهذه خرق عادات لاهانة قوم وعقوبتهم لما فعلوه من الذنوب تجري مجرى قوله عاقبتهم لأنهم كذبوا رسولي وعصوه ولهذا يقول سبحانه كلما قص قصة من كذب رسله وعقوبته إياهم يقول فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا

القرآن للذكر فهل من مدكر كما يقول في موضع آخر إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين و إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الاليم واذا كانت تلك العلامات مما جرت عادته انه يفعلها مع من أرسله ويهلك بها من كذب رسله كانت أبلغ في الدلالة وكانت معتادة في هذا النوع وهؤلاء تكلموا بلفظ لم يحققوا معناه وهو لفظة خرق العادة وقالوا العادات تنقسم الى عامة وخاصة فمنها ما يشترك فيه جميع الناس في جميع الأعصار كالاكل والشرب واتقاء الحر والبرد والخاص منها ما يكون كعادة للملائكة فقط أو للجن فقط أو للانس دون غيرهم قالوا ولهذا صح أن يكون لكل قبيل منهم ضرب من التحدي وخرق لما هو عادة لهم دون غيرهم وحجة عليهم دون ما سواهم ومنها ما يكون عادة لبعض البشر نحو اعتياد بعضهم صناعة أو تجارة أو رياضة في ركوب الخيل والعمل بالسلاح لكن هذه كلها مقدورات للبشر قالوا وآية الرسل لا تكون مقدورة لمخلوق بل لا تكون الا مما ينفرد الله بالقدرة عليه فاذا قالوا هذا ظن الظان أنهم اشترطوا أمرا عظيما ولم يشترطوا شيئا فإنهم قالوا في جنس الأفعال التي لا تقدر الناس الا على اليسير منها كحمل الجبال ونقلها أن المعجزة هنا إقدارهم على الفعل لا نفس الفعل ورجحوا هذا على قول من يقول نفس الفعل آية لأن جنس الفعل مقدور وليس هذا بفرق طائل فإنه لا فرق بين تخصيصهم بالفعل أو بالقدرة عليه فاذا كان إقدارهم على الكثير الذي لم تجر به العادة معجزة كان نفس الكثير الذي لم تجر به العادة معجزة وهؤلاء عندهم أن قدرة العباد لا تؤثر في وجود شيء ولا يكون مقدورها الا في محلها فهم في الحقيقة لم يثبتوا قدرة فكل ما في الوجود هو مقدور لله عندهم ولهذا عدل ابو المعالي ومن اتبعه كالرازي عن هذا الفرق فلم يشترطوا أن يكون مما ينفرد الرب بالقدرة عليه وإذ كانت جميع الحوادث عندهم كذلك وقالوا ان ما يحصل على يد الساحر والكاهن وعامل الطلسمات وعند الطبيعة الغريبة هو مما ينفرد الرب بالقدرة عليه ويكون آية للنبي وهذا معتاد لغير الانبياء فلم يبق لقولهم خرق للعادة معنى معقول بل قالوا واللفظ للقاضي أبي بكر الواجب على هذا الاصل أن يكون

خرق العادة الذي يفعله الله مما يخرق عادة جميع القبيل الذين تحداهم الرسول بمثله ويحتج به على نبوته فإن أرسل ملكا الى الملائكة أظهر على يده ما هو خرق لعادتهم وإن أرسل بشرا أرسله بما يخرق عادة البشر وان أرسل جنيا أظهر على يديه ما هو خارق لعادة الجن فيقال السحر والكهانة معتاد للبشر وأنتم تقولون يجوز أن يكون ما يأتي به الساحر والكاهن آية بشرط أن لا يمكن معارضته فلم يبق لكونه خارقا للعادة معنى يعقل عندكم ولهذا قال محققوهم انه لا يشترط في الآيات أن تكون خارقة للعادة كما قد حكينا لفظهم في غير هذا الموضع كما تقدم وانما الشرط أنها لا تعارض وأن تقترن بدعوى النبوة هذان الشرطان هما المعتبران وقد بينا في غير موضع أن كلا من الشرطين باطل والاول يقتضي أن يكون المدلول عليه جزءا من الدليل
وآيات النبوة أنواع متعددة منها ما يكون قبل وجوده ومنها ما يكون بعد موته ومنها ما يكون في غيبته والمقصود هنا كان هو الكلام على المثال الذي ذكروه وأن ما ضرب من الامثلة على الوجه الصحيح فانه ولله الحمد يدل على صدق الرسول وعلى فساد أصولهم ولكن هم ضربوا مثالا اذا اعتبر على الوجه الصحيح كان حجة ولله الحمد على صدق النبي وعلى فساد ما ذكروه في المعجزات حيث قالوا هي الفعل الخارق للعادة المقترن بدعوى النبوة والاستدلال به وتحدي النبي من دعاهم أن يأتوا بمثله وشرط بعضهم أن يكون مما ينفرد الرب بالقدرة عليه وهذه الاربعة هي التي شرط القاضي أبو بكر ومن سلك مسلكه كابن اللبان وابن شاذان والقاضي أبي يعلى وغيرهم أن يكون مما ينفرد الرب بالقدرة عليه على أحد القولين أو منه ومن الجنس الآخر اذا وقع على وجه يخرق العادة وطريق متعذر على غيرهم مثله على القول الآخر قالوا وهذا لفظ القاضي أبي بكر والثاني أن يكون ذلك الشيء الذي يظهر على أيديهم مما يخرق العادة وينقضها ومتى لم يكن كذلك لم يكن معجزا والثالث أن يكون غير النبي ممنوعا من إظهار ذلك على يده على الوجه الذي ظهر عليه ودعا الى معارضته مع كونه خارقا للعادة والرابع أن يكون واقعا مفعولا عند تحدي الرسول بمثله وادعائه آية لنبوته وتقريعه بالعجز عنه من خالفه وكذبه

قالوا فهذه هي الشرائط والأوصاف التي تختص بها المعجزات
فيقال لهم الشرط الاول قد عرف أنه لا حقيقة له ولهذا أعرض عنه أكثرهم والثاني أيضا لا حقيقة له فإنهم لم يميزوا ما يخرق العادة مما لا يخرقها ولهذا ذهب من ذهب من محققيهم الى الغاء هذا الشرط فهم لا يعتبرون خرق عادة جميع البشر بل ما اعتاده السحرة والكهان وأهل الطلاسم عندهم يجوز أن يكون آية إذا لم يعارض وما اعتاده أهل صناعة أو علم أو شجاعة ليس هو عندهم آية وإن لم يعارض فالامور العجيبة التي خص الله بالأقدار عليها بعض الناس لم يجعلوها خرق عادة والامور المحرمة أو هي كفر كالسحر والكهانة والطلمسات جعلوها خرق عادة وجعلوها آية بشرط أن لا يعارض وهو الشرط الثالث وهو في الحقيقة خاصة المعجزة عندهم لكن كون غير الرسول ممنوعا منه أن اعتبروا أنه ممنوع مطلقا فهذا لا يعلم وإن اعتبروا انه ممنوع من المرسل اليهم فهذا لا يكفي بل يمكن كل ساحر وكاهن أن يدعي النبوة ويقول أنني كذا قالوا لو فعل هذا لكان الله يمنعه فعل ذلك أو يقيض له من يعارضه قلنا من أين لكم ذلك ومن أين يعلم الناس ذلك ويعلمون ان كل كاذب فلا بد أن يمنع من فعل الامر الذي اعتاده هو وغيره قبل ذلك أو أن يعارض والواقع خلاف ذلك فما أكثر من ادعى النبوة أو الاستغناء عن الانبياء وأن طريقه فوق طريق الانبياء وأن الرب يخاطبه بلا رسالة وأتى بخوارق من جنس ما تأتي السحرة والكهان ولم يكن فيمن دعاه من يعارضه
وأما الرابع وهو أن يكون عند تحدي الرسول فبه يحترزون عن الكرامات وهو شرط باطل بل آيات الانبياء آيات وإن لم ينطقوا بالتحدي بالمثل وهي دلائل على النبوة وصدق المخبر بها والدليل مغاير للمدلول عليه ليس المدلول عليه جزءا من الدليل لكن اذا قالوا الدليل هو دعاء الرسول لزمه أن يريهم آية وخلق تلك الآية عقب سؤاله وإن كان ذلك قد يخلقه بغير سؤاله لحكمة أخرى فهذا متوجه فالدليل هو مجموع طلب العلامة مع فعل ما جعله علامة كما ان العباد اذا دعوا الله فأجابهم كان ما فعله إجابة لدعائهم ودليلا على أن الله سمع دعاءهم وأجابهم كما أنهم اذا استسقوه فسقاهم واستنصروه فنصرهم وإن كان قد يفعل ذلك بلا دعاء فلا يكون

هناك دليل على إجابة دعاء فهو دليل على إجابة الدعاء اذا وقع عقب الدعاء ولا يكون دليلا اذا وقع على غير هذا الوجه وكذلك الرسول اذا قال لمرسله أعطني علامة فأعطاه ما شرفه به كان دليلا على رسالته وإن كان قد يفعل ذلك لحكمة أخرى لكن فعل ذلك عقب سؤاله آية لنبوته هو الذي يختص به وكذلك اذا علم أنه فعله اكراما له مع دعواه النبوة علم أنه قد أكرمه بما يكرم به الصادقين عليه فعلم أنه صادق لأن ما فعله به مختص بالصادقين الابرار دون الكاذبين عليه الفجار وعلى هذا فكرامات الاولياء هي من آيات الانبياء فإنها مختصة بمن شهد لهم بالرسالة وكل ما استلزم صدق الشهادة بنبوتهم فهو دليل على صدق هذه الشهادة سواء كان الشاهد بنبوتهم المخبر بها هم أو غيرهم بل غيرهم إذا أخبر بنبوتهم وأظهر الله على يديه ما يدل على صدق هذا الخبر كان هذا أبلغ في الدلالة على صدقهم من أن يظهر على أيديهم فقد تبين أنه ليس من شرط دلائل النبوة لاقترانه بدعوى النبوة ولا الاحتجاج به ولا التحدي بالمثل ولا تقريع من يخالفه بل كل هذه الامور قد تقع في بعض الآيات لكن لا يجب أن ما لا يقع معه لا يكون آية بل هذا إبطال لاكثر آيات الانبياء لخلوها عن هذا الشرط ثم هو شرط بلا حجة فان الدليل على المدلول عليه هو ما استلزم وجوده وهذا لا يكون الا عند عدم المعارض المساوي او الراجح وما كان كذلك فهو دليل سواء قال المستدل به ائتوا بمثله وانتم لا تقدرون على الاتيان بمثله وقرعهم وعجزهم أو لم يقل ذلك فهو اذا كان في نفسه مما لا يقدرون على الاتيان بمثله سواء ذكر المستدل هذا أو لم يذكره لا بذكره يصير دليلا ولا بعدم ذكره تنتفي دلالته وهؤلاء قالوا لا يكون دليلا الا اذا ذكره المستدل وهذا باطل وكذلك الدليل هو دليل سواء استدل به مستدل أو لم يستدل وهؤلاء قالو لا يكون دليل النبوة دليلا الا اذا استدل به النبي حين ادعى النبوة فجعل نفس دعواه واستدلاله والمطالبة بالمعارضة وتقريعهم بالعجز عنها كلها جزءا من الدليل وهذا غلط عظيم بل السكوت عن هذه الامور أبلع في الدلالة والنطق بها لا يقوي الدليل والله تعالى لم يقل فليأتوا بحديث مثله الا حين قالوا افتراه لم يجعل هذا القول شرطا في الدليل بل نفس عجزهم عن المعارضة هو من تمام الدليل وهم أنما شرطوا ذلك لأن كرامات

الأولياء عندهم متى اقترن بها دعوى النبوة كانت آية للنبوة وجنس السحر والكهانة متى اقترن به دعوى النبوة كان دليلا على النبوة عندهم لكن قالوا الساحر والكاهن لو ادعى النبوة لكان يمتنع من ذلك أو يعارض بمثله وأما الصالح فلا يدعي فكان أصلهم أن ما يأتي به النبي والساحر والكاهن والولي من جنس واحد لا يتميز بعضه عن بعض بوصف لكن خاصة النبي اقتران الدعوى والاستدلال والتحدي بالمثل بما يأتي به فلم يجعلوا لآيات الانبياء خاصة تتميز بها عن السحر والكهانة وعما يكون لآحاد المؤمنين ولم يجعلوا للنبي مزية على عموم المؤمنين ولا على السحرة والكهان من جهة الآيات التي يدل الله بها العباد على صدقه وهذا افتراء عظيم على الانبياء وعلى آياتهم وتسوية بين أفضل الخلق وشرار الخلق بل تسوية بين ما يدل على النبوة وما يدل على نقيضها فإن ما يأتي به السحرة والكهان لا يكون الا لكذاب فاجر عدو لله فهو مناقض للنبوة فلم يفرقوا بين ما يدل على النبوة وعلى نقيضها وبين مالا يدل عليها ولا على نقيضها فإن آيات الانبياء تدل على النبوة وعجائب السحرة والكهان تدل على نقيض النبوة وأن صاحبها ليس ببر ولا عدل ولا ولي لله فضلا عن أن يكون نبيا بل يمتنع أن يكون الساحر والكاهن نبيا بل هو من أعداء الله والانبياء أفضل خلق الله وايمان المؤمنين وصلاحهم لا يناقض النبوة ولا يستلزمها فهؤلاء سووا بين الاجناس الثلاثة فكانوا بمنزلة من سوى بين عبادة الرحمن وعبادة الشيطان والاوثان فإن الكهان والسحرة يأمرون بالشرك وعبادة الاوثان وما فيه طاعة للشيطان والانبياء لا يأمرون الا بعبادة الله وحده وينهون عن عبادة ما سوى الله وطاعة الشياطين فسوى هؤلاء بين هذا وهذا ولم يبق الفرق الا مجرد تلفظ المدعي بأني نبي فإن تلفظ به كان نبيا وإن لم يتلفظ به لم يكن نبيا فالكذاب المتنبي اذا أتى بما يأتي الساحر والكاهن وقال أنا نبي كان نبيا وقولهم إنه اذا فعل ذلك منع منه وعورض دعوى مجردة فهي لا تقبل لو لم يعلم بطلانها فكيف وقد علم بطلانها وإن كثيرا ادعوا ذلك ولم يعارضهم ممن ادعوه أحد ولا منعوا من ذلك فلزم على قول هؤلاء التسوية بين النبي الصادق والمتنبي الكاذب وقد قال تعالى فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق اذ جاءه أليس في جهنم

مثوى للكافرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ولم يفرق هؤلاء بين هؤلاء وهؤلاء ولا بين آيات هؤلاء وآيات هؤلاء وقال تعالى وما قدروا الله حق قدره اذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم مالم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح اليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى اذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون فنسأل الله العظيم أن يهدينا الى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين عبدوه وحده لا شريك له وآمنوا بما أرسل به رسله وبما جاءوا به من الآيات وفرق بين الحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد وطريق أولياء الله المتقين وأعداء الله الضالين والمغضوب عليهم فكان ممن صدق الرسل فيما اخبروا به وأطاعهم فيما أمروا به ولا حول ولا قوة إلا بالله
وهؤلاء يجوزون أن يامر الله بكل شيء وأن ينهى عن كل شيء فلا يبقى عندهم فرق بين النبي الصادق والمتنبي الكاذب لا من جهة نفسه فإنهم لا يشترطون فيه الا مجرد كونه في الباطن مقرا بالصانع وهذا موجود في عامة الخلق ولا من جهة آياته ولا من جهة ما يأمر به والفلاسفة من هذا الوجه أجود قولا في الانبياء فإنهم يشترطون في النبي اختصاصه بالعلم من غير تعلم وبالقدرة على التأثير الغريب والتخييل ويفرقون بين الساحر والنبي بأن النبي يقصد العدل ويأمر به بخلاف الساحر ولهذا عدل الغزالي في النبوة عن طريق أولئك المتكلمين الى طريق الفلاسفة

فاستدل بما يفعله النبي ويأمر به على نبوته وهي طريق صحيحة لكن انما أثبت بها نبوة مثل نبوة الفلاسفة وأولئك خير من الفلاسفة من جهة أنهم لما أقروا بنبوة محمد صدقوه فيما أخبر به من أمور الانبياء وغيرهم وكان عندهم معصوما من الكذب فيما يبلغه عن الله فانتفعوا بالشرع والسمعيات وبها صار فيهم من الاسلام ما تميزوا به على أولئك فإن أولئك لا ينتفعون بأخبار الانبياء اذ كانوا عندهم يخاطبون الجمهور بالتخييل فهم يكذبون عندهم للمصلحة ولكن آخرون سلكوا مسلك التأويل وقالوا انهم لا يكذبون ولكن أسرفوا فيه ففي الجملة ظهور الفلاسفة والملاحدة والباطنية على هؤلاء تارة ومقاومتهم لهم تارة لا بد له من أسباب في حكمة الرب وعدله ومن أعظم اسبابه تفريط أولئك وجهلهم بما جاء به الانبياء فالنبوة التي ينتسبون الى نصرها لم يعرفوها ولم يعرفوا دليلها ولا قدروها قدرها وهذا يظهر من جهات متعددة ولا حول ولا قوة إلا بالله
فصل قد ذكرنا في غير موضع أن أصول الدين الذي بعث الله به رسوله محمدا صلى الله عليه و سلم قد بينها الله في القرآن أحسن بيان وبين دلائل الربوبية والوحدانية ودلائل أسماء الرب وصفاته وبين دلائل نبوة أنبيائه وبين المعاد بين إمكانه وقدرته عليه في غير موضع وبين وقوعة بالادلة السمعية والعقلية فكان في بيان الله أصول الدين الحق وهو دين الله وهي أصول ثابتة صحيحة معلومة فتضمن بيان العلم النافع والعمل الصالح الهدى ودين الحق وأهل البدع الذين ابتدعوا أصول دين يخالف ذلك ليس فيما ابتدعوه لا هدى ولا دين حق فابتدعوا ما زعموا أنه أدلة وبراهين على إثبات الصانع وصدق الرسول وإمكان المعاد أو وقوعه وفيما ابتدعوه ما خالفوا به الشرع وكل ما خالفوه من الشرع فقد خالفوا فيه العقل أيضا فإن الذي بعث الله به محمدا وغيره من الانبياء هو حق وصدق وتدل عليه الادلة العقلية فهو ثابت بالسمع والعقل والذين خالفوا الرسل ليس معهم لا سمع ولا عقل كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء ان أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم

فسحقا لاصحاب السعير وقال تعالى لمكذبي الرسل أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ذكر ذلك بعد قوله وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم ابراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة وهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد ثم قال أفلم يسيروا في الارض الآية ثم قال وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير فذكر إهلاك من أهلك وأملاءه لمن أملى لئلا يغتر المغتر فيقول نحن لم يهلكنا وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن ما جاء به الرسول يدل عليه السمع والعقل وهو حق في نفسه كالحكم الذي يحكم به فإنه يحكم بالعدل وهو الشرع فالعدل هو الشرع والشرع هو العدل ولهذا يأمر نبيه أن يحكم بالقسط وأن يحكم بما أنزل الله والذي أنزل الله هو القسط والقسط هو الذي أنزل الله وكذلك الحق والصدق هو ما أخبرت به الرسل وما أخبرت به فهو الحق والصدق والسلف والأئمة ذموا أهل الكلام المبتدعين الذين خالفوا الكتاب والسنة ومن خالف الكتاب والسنة لم يكن كلامه الا باطلا فالكلام الذي ذمه السلف يذم لانه باطل ولأنه يخالف الشرع ولكن لفظ الكلام لما كان مجملا لم يعرف كثير من الناس الفرق بين الكلام الذي ذموه وغيره فمن الناس من يظن أنهم إنما أنكروا كلام القدرية فقط كما ذكره البيهقي وابن عساكر في تفسير كلام الشافعي ونحوه ليخرجوا أصحابهم عن الذم وليس كذلك بل الشافعي أنكر كلام الجهمية كلام حفص الفرد وأمثاله وهؤلاء كانت منازعتهم في الصفات والقرآن والرؤية لا في القدر وكذلك أحمد بن حنبل خصومه من أهل الكلام هم الجهمية الذين ناظروه في القرآن مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث صاحب حسين النجار وأمثاله ولم يكونوا قدرية ولا كان النزاع في مسائل القدر ولهذا يصرح أحمد وأمثاله من السلف بذم الجهمية بل يكفرونهم أعظم من سائر الطوائف وقال عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وغيرهما أصول أهل

الاهواء أربع الشيعة والخوارج والمرجئة والقدرية فقيل لهم الجهمية فقالوا الجهمية ليسوا من أمة محمد ولهذا ذكر أبو عبد الله بن حامد عن اصحاب أحمد في الجهمية هل هم من الثنتين والسبعين فرقة وجهين أحدهما أنهم ليسوا منهم لخروجهم عن الاسلام وطائفة تظن أن الكلام الذي ذمه السلف هو مطلق النظر والاحتجاج والمناظرة ويزعم من يزعم من هؤلاء أن قوله ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن منسوخ بآية السيف وهؤلاء أيضا غالطون فان الله تعالى قد أخبر عن قوم نوح وابراهيم بمجادلتهم للكفار حتى قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا وقال عن قوم ابراهيم وحاجه قومه الى قوله وتلك حجتنا آتيناها ابراهيم على قومه وذكر محاجة ابراهيم للكافر والقرآن فيه من مناظرة الكفار والاحتجاج عليهم ما فيه شفاء وكفاية وقوله تعالى ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن الا الذين ظلموا منهم وقوله وجادلهم بالتي هي أحسن ليس في القرآن ما ينسخهما ولكن بعض الناس يظن أن من المجادلة ترك الجهاد بالسيف وكل ما كان متضمنا لترك الجهاد المأمور به فهو منسوخ بآيات السيف والجهاد والمجادلة قد تكون مع أهل الذمة والهدنة والأمان ومن لا يجوز قتاله بالسيف وقد تكون في ابتداء الدعوة كما كان النبي صلى الله عليه و سلم يجاهد الكفار بالقرآن وقد تكون لبيان الحق وشفاء القلوب من الشبه مع من يطلب الاستهداء والبيان وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا أن المبتدعين الذين ابتدعوا كلاما وأصولا تخالف الكتاب وهي أيضا مخالفة للميزان وهو العدل فهي مخالفة للسمع والعقل كما ابتدعوا في اثبات الصانع إثباته بحدوث الاجسام وأثبتوا حدوث الاجسام بأنها مستلزمة للاعراض لا تنفك عنها قالوا وما لايخلوا عن الحوادث فهو حادث لامتناع لا أول لها فهؤلاء إذا حقق عليهم ما قالوه لم يوجدوا قد أثبتوا العلم بالصانع ولا أثبتوا النبوة ولا أثبتوا المعاد وهذه هي أصول الدين والايمان بل كلامهم في الخلق والبعث المبدأ والمعاد وفي اثبات الصانع ليس فيه تحقيق العلم لا عقلا ولا نقلا وهم معترفون بذلك كما قال الرازي لقد تأملت الطرق الكلامية

والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في النفي ليس كمثله شيء و لا يحيطون به علما وأقرأ في الاثبات الرحمن على العرش استوى اليه يصعد الكلم الطيب أأمنتم من في السماء ثم قال ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي وكذلك الغزالي وابن عقيل وغيرهما يقولون ما يشبه هذا وهو كما قالوا فان الرازي قد جمع ما جمعه من طرق المتكلمين والفلاسفة ومع هذا فليس في كتبه اثبات الصانع كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين جميع ما ذكره في اثبات الصانع وأنه ليس فيه ذلك وليس فيه أيضا اثبات النبوة فان النبوة مبناها على أن الله قادر وأنه يحدث الآيات لتصدق بها الرسل وليس في كتبه اثبات ان الله قادر ولا مريد بل كلامه فيه تقرير حجج من نفي قدرته وارادته دون الجانب الآخر كما قد بينا ذلك في الكلام على ما ذكره في مسألة القدرة والارادة مع أنه ولله الحمد الادلة الدالة على اثبات الصانع واثبات قدرته ومشيئته تفوق الاحصاء لكن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور
وسبب ذلك إعراضهم عن الفطرة العقلية والشرعة النبوية بما ابتدعه المبتدعون مما أفسدوا به الفطرة والشرعة فصاروا يسفسطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات كما قد بين هذا في مواضع وأيضا فإذا عرف أن الله قادر كما قد عرفه غيره فليس عنده في النبوة الا طريق أصحابه الأشعرية الذين سلكوا مسلك الجهمية في أفعال الله تعالى أو طريق الفلاسفة ولهذا يقول من يقول من علماء الزيدية وهم يميلون الى الاعتزال مع تشيع الزيدية يقولون نحن لا نتكلم في الشافعي فإنه إمام لكن هؤلاء صاروا جهمية يعني القدر فلاسفة والشافعي لم يكن جهميا ولا فيلسوفا وهؤلاء لم يعرفوا آيات الانبياء والفرق بينها وبين غيرها لكن ادعوا ان ما يأتي به الكهان والسحرة وغيرهم قد يكون من آيات الانبياء لكن بشرط أن لا يقدر أحد من المرسل اليهم على معارضته وهذه خاصة المعجز عندهم وهذا فاسد من وجوه كثيرة كما قد بسط في غير هذا الموضع وأما كلامه في المعاد فأبعد

من هذا وهذا كما قد بين ايضا وكذلك كلام من تقدمه من الجهمية وأتباعهم من الأشعرية وغيرهم ومن المعتزلة فإنك لا تجد في كلامهم الذي ابتدعوه لا إثبات الربوبية ولا النبوة ولا المعاد والأشعري نفسه وأتباعه ليس في كتبهم إثبات الربوبية ولا المعاد وكذلك من سلك سبيلهم في أدلتهم من أتباع الفقهاء كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم والمعتزلة كذلك أيضا وكذلك الكرامية وقد تأملت كلام أئمة هؤلاء الطوائف كأبي الحسين البصري ونحوه من المعتزلة وكابن الهيضم من الكرامية وكأبي الحسن نفسه والقاضي أبي بكر وأبي المعالي الجويني وأبي اسحاق الأسفراييني وأبي بكر بن فورك وأبي القاسم القشيري وأبي الحسن التميمي والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وابن الزاغوني غفر الله لهم ورحمهم أجمعين وتأملت ما وجدته في الصفات من المقالات مثل كتاب الملل والنحل للشهرستاني وكتاب مقالات الاسلاميين للأشعري وهو أجمع كتاب رأيته في هذا الفن وقد ذكر فيه ما ذكر أنه مقالة أهل السنة والحديث وأنه يختارها وهي أقرب ما ذكره من المقالات الى السنة والحديث لكن فيه أمور لم يقلها أحد من أهل السنة والحديث ونفس مقالة أهل السنة والحديث لم يكن يعرفها ولا هو خبير بها فالكتب المصنفة في مقالات الطوائف التي صنفها هؤلاء ليس فيها ما جاء به الرسول وما دل عليه القرآن لافي المقالات المجردة ولا في المقالات التي يذكر فيها الأدلة فإن جميع هؤلاء دخلوا في الكلام المذموم الذي عابه السلف وذموه ولكن بعضهم أقرب الى السنة من بعض وقد يكون هذا أقرب في بعض وهذا أقرب في مواضع وهذا لكون أصل اعتمادهم لم يكن على القرآن والحديث بخلاف الفقهاء فإنهم في كثير مما يقولونه إنما يعتمدون على القرآن والحديث فلهذا كانوا أكثر متابعة لكن ما تكلم فيه أولئك أجل ولهذا يعظمون من وجه ويذمون من وجه فإن لهم حسنات وفضائل وسعيا مشكورا وخطأهم بعد الاجتهاد مغفور والأشعري أعلم بمقالات المختلفين من الشهرستاني ولهذا ذكر عشر طوائف وذكر مقالات لم يذكرها الشهرستاني وهو أعلم بمقالات أهل السنة وأقرب اليهم وأوسع علما من

الشهرستاني والشهرستاني أعلم باختلاف المختلفين ومقالاتهم من الغزالي ولهذا ذكر لهم في القرآن أربع مقالات وعدد طوائف من أهل القبلة والغزالي حصر أهل العلم الآلهي في أربعة اصناف في الفلاسفة والباطنية والمتكلمين والصوفية فلم يعرف مقالات أهل الحديث والسنة ولا مقالات الفقهاء ولا مقالات أئمة الصوفية ولكن ذكر عنهم العمل وذكر عن بعضهم اعتقادا يخالفهم فيه أئمتهم وأبو طالب أعلم منهما بأقوال الصوفية ومع هذا فلم يعرف مقالة الأكابر كالفضيل بن عياض ونحوه وأبو الوليد بن رشد الحفيد حصر أهل العلم الآلهي في ثلاثة في الحشوية والباطنية والأشعرية والباطنية عنده يدخل فيهم باطنية الصوفية وباطنية الفلاسفة ومن هنا دخل ابن سبعين وابن عربي فأخذوا مذاهب الفلاسفة وادخلوها في التصوف وأبو حامد يدخل في بعض هذا فإن ابن سينا تكلم في مقالات العارفين بتصوف فاسد ثم ان هؤلاء مع هذا لما لم يجدوا الصحابة والتابعين تكلموا بمثل كلامهم بل ولا نقل ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم صار منهم من يقول كانوا مشغولين بالجهاد عن هذا الباب وأنهم هم حققوا ما لم يحققه الصحابة ويقولون أيضا ان الرسول لم يعلمهم هذا لئلا يشتغلوا به عن الجهاد فانه كان محتاجا اليهم في الجهاد وهكذا يقول من يقول من مبتدعة أهل الزهد والتصوف إذا دخلوا في عبادات منهي عنها ومذمومة في الشرع قالوا كان الصحابة مشغولين عنها بالجهاد وكان النبي صلى الله عليه و سلم يخاف أن يشتغلوا بها عن الجهاد واهل السيف قد يظن من يظن منهم أن لهم من الجهاد وقتال الاعداء مالم يكن مثله للصحابة وأن الصحابة كانوا مشغولين بالعلم والعبادة عن مثل جهادهم ومن أهل الكلام من يقول بل الصحابة كانوا على عقائدهم وأصولهم لكن لم يتكلموا بذلك لعدم حاجتهم اليه فهؤلاء جمعوا بين أمرين بين أن ابتدعوا أقوالا باطلة ظنوا أنها هي أصول الدين لا يكون علاما بالدين الا من وافقهم عليها وأنهم علموا وبينوا من الحق مالم يبينه الرسول والصحابة وإذا تدبر الخبير حقيقة ما هم عليه تبين له أنه ليس عند القوم فيما ابتدعوه لا علم ولا دين لا شرع ولا عقل وآخرون لما رأوا ابتداع هؤلاء وأن الصحابة والتابعين لم يكونوا يقولون مثل قولهم ظنوا أنهم كانوا كالعامة الذين لا يعرفون الأدلة والحجج وأنهم كانوا لا يفهمون ما في

القرآن مما تشابه على من تشابه عليه وهموتو أنه اذا كان الوقف على قوله وما يعلم تأويله إلا الله كان المراد أنه لا يفهم معناه الا الله لا الرسول ولا الصحابة فصاروا ينسبون الصحابة بل والرسول الى عدم العلم بالسمع والعقل وجعلوهم مثل أنفسهم لا يسمعون ولا يعقلون وظنوا أن هذه طريقة السلف وهي الجهل البسيط التي لا يعقل صاحبها ولا يسمع وهذا وصف أهل النار لا وصف افضل الخلق بعد الانبياء قال ابن مسعود رضي الله عنه من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فان الحي لا يؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد أبر هذه الامة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه واقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فانهم كانوا على الهدى المستقيم وقال أيضا ان الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد بعد قلبه فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وقد قال تعالى والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم باحسان فرضي عن السابقين مطلقا ورضي عمن اتبعهم باحسان وذلك متناول لكل من اتبعهم الى يوم القيامة كما ذكر ذلك أهل العلم قال ابن أبي حاتم قرئ على يونس بن عبد الاعلى أخبرنا ابن وهب حدثني عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم في قوله والذين اتبعوهم باحسان قال من بقي من أهل الاسلام إلى أن تقوم الساعة وبسط هذا له موضع آخر
والمقصود هنا أن الهدى البيان والأدلة والبراهين في القرآن فإن الله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق وأرسله بالآيات البينات وهي الأدلة البينة الدالة على الحق وكذلك سائر الرسل ومن الممتنع أن يرسل الله رسولا يأمر الناس بتصديقه ولا يكون هناك ما يعرفون به صدقه وكذلك من قال إني رسول الله فمن الممتنع أن يجعل مجرد الخبر المحتمل للصدق والكذب دليلا له وحجة على الناس

هذا لا يظن بأجهل الخلق فكيف بأفضل الناس وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما من نبي من الانبياء الا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة قال تعالى ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون فالبينات جمع بينة وهي الادلة والبراهين التي هي بينة في نفسها وبها يتبين غيرها يقال بين الامر أي تبين في نفسه ويقال بين غيره فالبين اسم لما ظهر في نفسه ولما أظهر غيره وكذلك المبين كقوله فاحشة مبينة أي متبينة فهذا شأن الادلة فان مقدماتها تكون معلومة بنفسها كالمقدمات الحسية والبديهية وبها يتبين غيرها فيستدل على الخفي بالجلي والهدى مصدر هداه هدى والهدى هو بيان ما ينتفع به الناس ويحتاجون اليه وهو ضد الضلالة فالضال يضل عن مقصوده وطريق مقصوده وهو سبحانه بين في كتبه ما يهدي الناس فعرفهم ما يقصدون وما يسلكون من الطرق عرفهم أن الله هو المقصود المعبود وحده وأنه لا يجوز عبادة غيره وعرفهم الطريق وهو ما يعبدونه به ففي الهدى بيان المعبود وما يعبد به والبينات فيها بيان الأدلة والبراهين على ذلك فليس ما يخبر به ويأمر به من الهدى قولا مجردا عن دليله ليؤخذ تقليدا واتباعا للظن بل هو مبين بالآيات البينات وهي الأدلة اليقينية والبراهين القطعية وكان عند أهل الكتاب من البينات الدالة على نبوة محمد وصحة ما جاء به أمور متعددة كبشارات كتبهم وغير ذلك فكانوا يكتمونه قال تعالى ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله فإنه كان عندهم شهادة من الله تشهد بما جاء به محمد وبمثله فكتموها وقال تعالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فانزله هاديا للناس وبينات من الهدى والفرقان فهو يهدي الناس إلى صراط مستقيم يهديهم الى صراط العزيز الحميد الذي له ما في السماوات وما في الارض بما فيه من الخبر والأمر وهو بينات دلالات وبراهين من الهدى من الأدلة الهادية المبينة للحق ومن الفرقان المفرق بين الحق والباطل والخير والشر والصدق والكذب والمأمور والمحظور والحلال والحرام

وذلك أن الدليل لا يتم الا بالجواب عن المعارض فالادلة تشتبه كثيرا بما يعارضها فلا بد من الفرق بين الدليل الدال على الحق وبين ما عارضه ليتبين ان الذي عارضه باطل فالدليل يحصل به الهدى وبيان الحق لكن لا بد مع ذلك من الفرقان وهو الفرق بين ذلك الدليل وبين ما عارضه والفرق بين خبر الرب والخبر الذي يخالفه فالفرقان يحصل به التمييز بين المشتبهات ومن لم يحصل له الفرقان كان في اشتباه وحيرة والهدى التام لا يكون الا مع الفرقان فلهذا قال أو لا هدى للناس ثم قال وبينات من الهدى والفرقان فالبينات الأدلة على ما تقدم من الهدى وهي بينات من الهدى الذي هو دليل على أن الأول هدى ومن الفرقان الذي يفرق بين البينات والشبهات والحجج الصحيحة والفاسدة فالهدى مثل أن يؤمر بسلوك الطريق إلى الله كما يؤمر قاصد الحج بسلوك طريق مكة مع دليل يوصله والبينات ما يدل ويبين أن ذلك هو الطريق وأن سالكه سالك للطريق لا ضال والفرقان أن يفرق بين ذاك الطريق وغيره وبين الدليل الذي يسلكه ويدل الناس عليه وبين غيرهم ممن يدعي الدلالة وهو جاهل مضل وهذا وامثاله مما يبين أن في القرآن الادلة الدالة للناس على تحقيق ما فيه من الأخبار والاوامر كثير وقد بسط هذا في غير هذا الموضع والمقصود هنا الكلام على النبوة فإن المتكلمين المبتدعين تكلموا في النبوات بكلام كثير لبسوا فيه الحق بالباطل كما فعلوا مثل ذلك في غير النبوات كالإلهيات وكالمعاد وعند التحقيق لم يعرفوا النبوة ولم يثبتوا ما يدل عليها فليس عندهم لا هدى ولا بينات والله سبحانه أنزل في كتبه البينات والهدى فمن تصور الشيء على وجهه فقد اهتدى اليه ومن عرف دليل ثبوته فقد عرف البينات فالتصور الصحيح اهتداء والدليل الذي يبين التصديق بذلك التصور بينات والله أنزل الكتاب هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان والقرآن اثبت الصفات على وجه التفصيل ونفي عنها التمثيل وهي طريقة الرسل جاءوا باثبات مفصل ونفي مجمل وأعداؤهم جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل فلو لم يكن الحق فيما بينه الرسول للناس وأظهر لهم بل كان الحق في نقيضه للزم أن يكون عدم الرسول خيرا من وجوده إذ كان وجوده لم يفدهم عند هؤلاء علما ولا هدى بل ذكر أقوالا تدل على الباطل

وطلب منهم أن يتعلموا الهدى بعقولهم ونظرهم ثم ينظروا فيما جاء به فأما أن يتأولوه ويحرفوا الكلم عن مواضعه وإما أن يعوضوه فذكرنا هذا ونحوه مما يبين أن الهدى مأخوذ عن الرسول وأنه قد بين للامة ما يجب اعتقاده من أصول الدين في الصفات وغيرها فكان الجواب خطابا مع من يقر بنبوته ويشهد له بأنه رسول الله فلم يذكر فيه دلائل النبوة وذكر أن الشبهات العقلية التي تعارض خبر الرسول باطلة وذكر في ذلك ما هو موجود في هذا الجواب ثم بعد ذلك حدثت أمور أوجبت أن يبسط الكلام في هذا الباب ويتكلم على حجج النفاة ويبين بطلانها ويتكلم على ما أثبتوه من أنه يجب تقديم ما يزعمون أنه معقول على ما علم بخبر الرسول وبسط في ذلك من الكلام والقواعد ما ليس هذا موضعه وتكلم مع الفلاسفة والملاحدة الذين يقولون ان الرسل خاطبوا خطابا قصدوا به التخييل الى العامة ما ينفعهم لا أنهم قصدوا الاخبار بالحقائق وهؤلاء لم يكن وقت الجواب قصد مخاطبتهم اذ كان هؤلاء في الحقيقة مكذبين المرسل يقولون أنهم كذبوا لما رأوه مصلحة بل كان الخطاب مع من يقر بأن الرسول لا يقول الا الحق باطنا وظاهرا ثم بعد هذا طلب الكلام على تقرير أصول الدين بأدلتها العقلية وان كانت مستفادة من تعليم الرسول وذكر فيها ما ذكر من دلائل النبوة في مصنف يتضمن شرح عقيدة صنفها شيخ المنظار بمصر شمس الدين الاصبهاني فطلب مني شرحها فشرحتها وذكرت فيها من الدلائل العقلية ما يعلم به أصول الدين وبعدها جاء كتاب من النصارى يتضمن الاحتجاج لدينهم بالعقل والسمع واحتجوا بما ذكروه من القرآن فأوجب ذلك أن يرد عليهم ويبين فساد ما احتجوا به من الأدلة السمعية من القرآن ومن كلام الانبياء المتقدمين وما احتجوا به من العقل وأنهم مخالفون للأنبياء وللعقل خالفوا المسيح ومن قبله وحرفوا كلامهم كما خالفوا العقل وبين ما يحتجون به من نصوص الانبياء وانها هي وغيرها من نصوص الانبياء التي عندهم حجة عليهم لا لهم وبين الجواب الصحيح لمن حرف دين المسيح وهم لم يطالبوا ببيان دلائل نبوة نبينا لكن اقتضت المصلحة أن يذكر من هذا ما يناسبه ويبسط الكلام في ذلك بسطا أكثر من غيره وقلوب كثير من الناس يجول فيها أمر النبوات وما جاءت به الرسل

وهم وإن أظهروا تصديقهم والشهادة لهم ففي قلوبهم مرض ونفاق اذ كان ما جعلوه أصولا لدينهم معارض لما جاءت به الانبياء وهم لم يتعلموا ما جاءت به الانبياء ولم يأخذوا عنهم الدلائل والاصول والبينات والبراهين وإذا وجب أن يؤخذ عن الانبياء ما أخبروا به من أصول الدين ومن تصديق خبرهم مع وجود ما يعارضه فلأن يؤخذ عنهم ما بينوا به تلك العقائد من الآيات والبراهين أولى وأحرى فإنه بهذا يتبين ذاك وإلا فتصديق الخبر متوقف على دليل صحته أو على صدق المخبر به وتصديقه بدون أن يعلم أنه في نفسه حق أو أن المخبر به صادق قول بلا علم والرسول صلوات الله عليه وسلامه قد أرسل بالبينات والهدى بين الأحكام الخبرية والطلبية وأدلتها الدالة عليها بين المسائل والوسائل بين الدين ما يقال وما يعمل وبين اصوله التي بها يعلم أنه دين حق وهذا المعنى قد ذكره الله تعالى في غير موضع وبين أنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ذكر هذا في سورة التوبة والفتح والصف والهدى هو هدى الخلق الى الحق وتعريفهم ذلك وإرشادهم اليه وهذا لا يكون الا بذكر الادلة والآيات الدالة على أن هذا هدى والا فمجرد خبر لم يعلم أنه حق ولم يقم دليل على أنه حق ليس بهدي وهو سبحانه اذا ذكر الانبياء نبينا وغيره ذكر انه أرسلهم بالآيات البينات وهي الادلة والبراهين البينة المعلومة علما يقينيا اذ كان كل دليل لا بد أن ينتهي الى مقدمات بينة بنفسها قد تسمى بديهيات وقد تسمى ضروريات وقد تسمى أوليات وقد يقال هي معلومة بأنفسها فالرسل صلوات الله عليهم بعثوا بالآيات البينات وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال ما من نبي من الانبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله الي فأرجو أن أكون اكثرهم تابعا يوم القيامة وهو سبحانه اذا خاطب جنس الانس ذكر جنس الانبياء وأثبت جنس ما جاءوا به واذا خاطب أهل الكتاب المقرين بنبوة موسى خاطبهم باثبات نبي بعده كما قال في سورة البقرة في خطابه لبني اسرائيل لما ذكر ما ذكره من أحوالهم مع موسى وذكرهم بإنعامه عليهم وبما فعلوه من السيئات ومغفرته لها قال تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا

عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى انفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ثم ذكر محمدا فقال ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين فذكر سبحانه أنه أرسل المسيح اليهم بالبينات بعد ما أرسل قبله الرسل وأنهم تارة يكذبون الرسل وتارة يقتلونهم وذكر أنه أرسل عيسى بالبينات لأنه جاء بنسخ بعض شرع التوراة بخلاف من قبله ولهذا لم يذكر ذلك عنهم وقال في موسى إنه أتاه الكتاب لأنهم كانوا مقرين بنبوته ولكن حرفوا كتابه في المعنى باتفاق الناس وحرفوا اللفظ أحيانا وفي بعض المواضع وهو تعالى قد ذكر في غير موضع أنه أرسل موسى بالآيات البينات فقال لما ناجاه وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون الا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فاني غفور رحيم وادخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات الى فرعون وقومه انهم كانوا فاسقين وقال في سورة القصص يا موسى أقبل ولا تخف انك من الآمنين اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم اليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك الى فرعون وملئه انهم كانوا قوما فاسقين وقال تعالى فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين وقد قال تعالى لما قص قصص الرسل نوح وهود وصالح وشعيب ونصره لهم وإهلاك أعدائهم ثم ذكر الانبياء عموما فقال وما أرسلنا في قرية من نبي الا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون الى قوله أو لم يهد للذين يرثون الارض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون تلك القرى نقص عليك ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب

الكافرين وما وجدنا لاكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين فقد أخبر أن أهل القرى كلهم الذين أهلكهم جاءتهم رسلهم بالبينات ولكن شابه متأخروهم متقدميهم فما كان هؤلاء ليؤمنوا بما كذب به أشباههم كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين وهذا كقوله تعالى كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول الا قالوا ساحر أو مجنون قال تعالى ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا الى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين فبين سبحانه أنه بعث موسى بآياته وقال في أثناء القصة إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا أقول على الله الا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فارسل معي بني اسرائيل فأخبر أنه جاء ببينة من الله أي بآية بينة من الله بدليل من الله وبرهان فهي آية منه وعلامة منه على صدقي واني رسول منه فإن قوله من ربكم متعلق بالرسول وبالآية يقال فلان قد جاء بعلامة من فلان فالعلامة منه والرسول منه والآية منه كما قال فذانك برهانان من ربك فدل على أن كل واحد من الرسول ومن آيات الرسول هو من الله تعالى قال له فرعون ان كنت جئت بآية فأت بها ان كنت من الصادقين وذكر القصة ومعارضة السحرة له الى أن قال فأوحينا الى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون قال فرعون آمنتم به قبل إن آذن لكم أن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين قالوا انا الى ربنا منقلبون وما تنقم منا الا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسليمن فذكر السحرة أنهم آمنوا بآيات ربهم لما جاءتهم وهم من أعلم الناس بالسحر لما علموا أن هذه الآيات آيات من الله كما قال موسى قد جئتكم ببينة من ربكم الى قوله فارسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين الى قوله فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين وليس المراد بالآيات هنا كتابا منزلا فان موسى لما ذهب الى فرعون

لم تكن التوراة قد نزلت وإنما أنزلت التوراة بعد أن غرق فرعون وخلص ببني اسرائيل فاحتاجوا الى شريعة يعملون بها قال تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الآولى بصائر للناس وهدى ولكن تكذيبهم بآياته إنكارهم أن تكون آية من الله وقولهم إنها سحر كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين وكانوا عنها غافلين لم يذكروها ويتأملوا ما دلت عليه من صدق موسى وانه مرسل من الله فالتكذيب ضد التصديق والغفلة عنها ضد النظر فيها ولهذا قيل النظر تجريد العقل عن الغفلات وقيل هو تحديق العقل نحو المرئي والأول هو النظر الطلبي وهو طلب ما يدله على الحق والثاني هو النظر الاستدلالي وهو النظر في الدليل الذي يوصله الى الحق وهذا الثاني هو الذي يوجب العلم فذمهم على الغفلة عن آياته يتضمن النوعين النظر فيها والتأمل لها والتذكر لها ضد الغفلة عنها وهي آيات معينة فإذا جرد العقل عن الغفلة عنها وصدقه للنظر فيها حصل له العلم بها وقد يحصل العلم بها ولكن يمتنع عن اتباعها لهواه كما قال الله عن قوم فرعون وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فإن الحق إذا ظهر صار معلوما بالضرورة والآيات والدلائل الظاهرة تدل على لوازمها بالضرورة لكن اتباع الهوى يصد عن التصديق بها واتباع ما أوجبه العلم بها وهذه حال عامة المكذبين مثل مكذبي محمد وموسى وغيرهما فإنهم علموا صدقهما علما يقينيا لما ظهر من آيات الصدق ودلائله الكثيرة لكن اتباع الهوى صد قال تعالى فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون وقال تعالى عن قوم فرعون وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا وقال موسى لفرعون لقد علمت ما أنزل هؤلاء الا رب السماوات والأرض بصائر ولهذا قال وكانوا عنها غافلين فعلموا أنها حق وغفلوا عنها كما يغفل الانسان عما يعلمه ومنه الغفلة عن ذكر الله تعالى قال تعالى ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا وقال تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال

ولا تكن من الغافلين وقال تعالى ان الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياته غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكذبون فذكر الذين هم عن آياته غافلون هنا كما ذكرهم هناك وهناك وصفهم بالتكذيب بها مع الغفلة عنها وضد الغفلة التذكر والتذكر لآياته سبحانه يوجب العلم بها وحضورها في القلب وهو موجب لاتباعها الا أن يمنعه هوى قال تعالى ان شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون فهو سبحانه لو علم فيهم خيرا وهو قصد الحق لأفهمهم لكنهم لا خير فيهم فلو أفهمهم لتولوا وهم معرضون وقال تعالى ولقد أرسلنا موسى بآياتنا الى فرعون وملئه فقال اني رسول رب العالمين فلما جاءهم بآياتنا اذا هم منها يضحكون وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون وقد ذكر الآيات التي هي دلائل النبوة منه في غير موضع غير ما تقدم كقوله تعالى فائتياه فقولا انا رسولا ربك فارسل معنا بني اسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى انا قد أوحي الينا أن العذاب على من كذب وتولى قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الاولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى الذي جعل لكم الارض مهادا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم ان في ذلك لآيات لأولى النهى منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله الى قوله عن السحرة لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات وقال تعالى ورسولا الى بني إسرائيل اني قد جئتكم بآية من ربكم وقال تعالى وقالوا لو لا يأتينا بآية من ربه أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الاولى فالآيات التي هي دلائل النبوة وبراهينها هي آيات من الله وعلامات منه أنه أرسل الرسول وكما أن الآيات التي هي كلامه تتضمن إخباره لعباده وأمره ففيها

الإعلام والالزام فكذلك دلائل النبوة هي آيات منه تتضمن إخباره لعباده بأن هذا رسوله وأمره لهم بطاعته ففيها الإعلام والإلزام وكما أن آياته القولية زعم المكذبون أنها ليست كلامه ولا منه بل هي من قول البشر وزعموا أن الرسول افتراها أو من معه أو تعلمها من غيره فكذلك الآيات الفعلية زعم المكذبون أنها ليست آية منه وعلامة ودلالة منه على أن الرسول ورسوله بل مما يفعله الرسول فيكذب وهذه من فعل المخلوقين لكنها عجيبة فهي سحر سحر بها الناس فلم يكن من المكذبين من قال انها من الله ولكن لم يخلقها لنصدقك بها بل خلقها لا لشيء أو خلقها وان كنت كاذبا فإنه قد يخلق مثل هذه على أيدي الكذابين ليضل بها الناس فإن هذا وان كان يقال انه قبيح فانه لا يقبح منه شيء كما أنه لم يكن في المكذبين من قال ان الكلام كلام الله لكنه كذب اذ الكذب وإن كان قبيحا من المخلوق فالخالق لا يقبح منه شيء وهذا لأنه من المعلوم بالفطرة الضرورية لجميع بني آدم ان الله لا يكذب ولا يفعل القبائح فلا يؤيد الكذاب بآيته ليضل بها الناس لكن قالوا ليست آية من الله بل هي سحر من عندك وهم وإن كانوا قد يعلمون أن الله خالق كل شيء ففرق بين ما يفعله البشر ويتوصلون إليه بالاكتساب وبين مالا قدرة لهم على التوصل إليه بسبب من الأسباب وفرق بين ما قد علموا أنه يخلقه لغير تصديق الرسل كالسحر فإنه لم يزل معروفا في بني آدم فقد علموا انه لا يخلقه آية وعلامة لنبي اذ كان موجودا لغير الانبياء معتادا منهم وإن كان عجيبا خارجا عن العادة عند من لم يعرفه بل كان المكذبون يطالبون الرسل بالآيات كقول فرعون فات بآية ان كنت من الصادقين وقول قوم صالح له إنما أنت من المسحرين ما أنت الا بشر مثلنا فأت بآية ان كنت من الصادقين وكانت الانبياء تأتي بالآيات وهي آيات بينات فيكذبون بها كما يكذب المعاند بالحق الظاهر المعلوم كما قال فرعون إنه ساحر ولما غلب السحرة وآمنوا واعترفوا بأن هذه آية من الله قال لهم فرعون إنه لكبيركم الذي علمكم السحر وان هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها وهذا كذب ظاهر فإن موسى جاء من السام ولم يجتمع بالسحرة إنما فرعون جمعهم ولم يكن دين موسى دين السحرة ولا مقصودة مقصودهم بل هم وهو في غاية التعادي والتباين

وكذلك سائر السحرة والكهنة مع الانبياء من أعظم الناس ذما لهم وأمرا بقتلهم مع تصديق الانبياء بعضهم ببعض وايجاب بعضهم الايمان ببعض وهم يأمرون بقتل من يكذب نبيا ويأمرون بقتل السحرة ومن آمن بهم والسحرة يذم بعضهم بعضا والانبياء يصدق بعضهم بعضا وهؤلاء يأمرون بعبادة الله وحده والصدق والعدل ويتبرءون من الشرك وأهله وهؤلاء يحبون أهل الشرك ويوالونهم ويبغضون أهل التوحيد والعدل فهذان جنسان متعاديان كتعادي الملائكة والشياطين كما قال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الانس والجن يوحي بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغي اليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون فمن جعل النبي ساحرا أو مجنونا هو بمنزلة من جعل الساحر أو المجنون نبيا وهذا من أعظم الفرية والتسوية بين الاضداد المختلفة وهو شر من قول من يجعل العاقل مجنونا والمجنون عاقلا أو يجعل الجاهل عالما والعالم جاهلا فإن الفرق بين النبي وبين الساحر والمجنون أعظم من الفرق بين العاقل والمجنون والعالم والجاهل وموسى صلوات الله عليه أمر بتصديق من يأتي بعده من الانبياء الصادقين كما أمر بتكذيب الكذابين وأما السحرة فإنه أمر بقتلهم وفي التوراة سأقيم لبني اسرائيل من إخوتهم نبيا مثلك اجعل كلامي على فمه كلكم يسمعون وهذا يقتضي طاعة من يقوم بعده من الانبياء ثم من الناس من يعين هذا فاليهود يقولون هو يوشع والنصارى يقولون هو المسيح وبعض المسلمين يقولون هو محمد صلى الله عليه و سلم يحتجون على ذلك بحجج كثيرة قد ذكرت في غير هذا الموضع ومنهم من يقول بل هذا اسم جنس وهو عام في كل نبي يأتي بعده لئلا يكذبوه كما فعلت اليهود وانكروا النسخ وهذا القول أقرب فيدخل في هذا المسيح ومحمد ومن قبلهما من أنبياء بني اسرائيل فان المقصود أمرهم بتصديق الانبياء وطاعتهم وأن الله سبحانه ينزل على الانبياء كلامه فالذي يقولونه هو كلام الله ما سمعوا منه وبسط هذا له موضع آخر وقد بسط القول في أن الناس يعلمون بالضرورة أن الآيات التي يأتي بها الانبياء آيات من الله وعلامة أعلم بها عباده أنه أرسلهم وأمرهم بطاعتهم والذين كذبوا بها كانوا يقولون ليست من الله بل هي سحر أو كهانة أو نحو ذلك

لا يقرون بأنها آية من الله ويقولون مع ذلك قد يخلقها الله لغير التصديق أو يخلقها ليضل بها الخلق أو نحو ذلك فإن بسط هذه الامور له موضع آخر والمقصود هنا أن الرسول بين للناس الادلة والبراهين الدالة على أصول الدين كلها كما قد ذكر سبحانه هذا في مواضع كقوله ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله وقوله شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ومن ذلك قوله تعالى لقد من الله على المؤمنين اذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وقد وصف الرسول بذلك في مواضع فذكر هذا في البقرة في دعوة ابراهيم وفي قوله تعالى كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة وفي قوله واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به وهنا لم يذكر يتلو عليهم آياته ويزكيهم لحكمة تختص بذلك وذكر هذا في آل عمران في قوله لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وقد قال واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة وهذا شبه الموضع الثالث في البقرة فأخبر في غير موضع عن الرسول أنه يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة فالتلاوة والتزكية عامة لجميع المؤمنين فتلاوة الآيات يحصل بها العلم فإن الآيات هي العلامات والدلالات فاذا سمعوها دلتهم على المطلوب من تصديق الرسول فيما أخبر والإقرار بوجوب طاعته وأما التزكية فهي تحصل بطاعته فيما يأمرهم به من عبادة الله وحده وطاعته فالتزكية تكون بطاعة مرة كما أن تلاوة آياته يحصل بها العلم وسميت آيات القرآن آيات وقيل انها آيات الله كقوله تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق لأنها علامات ودلالات على الله وعلى ما أراد فهي تدل على ما أخبر به وعلى ما أمر به ونهى عنه وتدل أيضا على أن الرسول صادق اذ

كانت مما لا يستطيع الانس والجن أن يأتوا بمثلها وقد تحداهم بذلك كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع وأيضا فهي نفسها فيها من بينات الادلة والبراهين ما يبين الحق فهي آيات من وجوه متعددة ثم قال ويعلمهم الكتاب والحكمة وهذا لمن يعلم ذلك منهم وقد يتعلم الشخص منهم بعض الكتاب والحكمة فالكتاب هو الكلام المنزل الذي يكتب والحكمة هي السنة وهي معرفة الدين والعمل به وقد قال تعالى وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون وقال تعالى واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ففرق بين الآيات الدالة على العلم التي يعلم بالعقل انها دلائل للرب وبين النذر وهو الإخبار عن المخوف كاخبار الانبياء بما يستحقه العصاة من العذاب فهذا يعلم بالخبر والنذر ولهذا قال وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وأما الآيات فتعلم دلالتها بالعقل والانبياء جاءوا بالآيات والنذر وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي اليهم فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وقال تعالى فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ومثل هذا كثير يذكر أن جميع الانبياء جاءوا بالآيات التي تعلم دلالتها بالعقل ولما كان كثير من الناس مقصرين فيما جاء به الرسول قد أخرجوا ما تعلم دلالته بالعقل عن مسمى الشرع تنازع الناس في معرفة الله وتوحيده وأصول الدين هل يجب ويحصل بالشرع أو يجب بالشرع ويحصل بالعقل أو يجب ويحصل بالعقل على ثلاثة أقوال مشهورة لأصحاب الإمام أحمد وغيرهم من أتباع الأئمة الأربعة فطائفة يقولون يجب بالشرع ويحصل به وهو قول السالمية وغيرهم مثل الشيخ أبي الفرج المقدسي وهذا هو الذي حكاه عن أهل السنة من أصحاب أحمد وغيرهم وكذلك من شابههم مثل ابن درباس وابن شكر وغيرهما من أصحاب الشافعي وهو المشهور عن أهل الحديث والفقه الذين يذمون الكلام وهذا مما وقع فيه النزاع بين صدقة بن الحسين الحنبلي المتكلم وبين طائفة من أصحاب أحمد وكذلك بين أبي الفرج بن الجوزي وطائفة منهم أولئك يقولون الوجوب والحصول بالشرع وهؤلاء يقولون الحصول بالعقل والوجوب بالشرع

وقد ذكر الآمدي ثلاثة اقوال في طرق العلم قيل بالعقل فقط والسمع لا يحصل به كقول الرازي وقيل بالسمع فقط وهو الكتاب والسنة وقيل بكل منهما ورجح هذا وهو الصحيح والقول الثاني أنها لا تجب إلا بالشرع لكن يحصل بالعقل وهو قول الأشعري وأصحابه ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهم والقول الثالث أنها تحصل بالعقل وتجب به وهو قول من يوجب بالعقل كالمعتزلة والكرامية وغيرهم من أتباع الأئمة كأبي الحسن الآمدي وأبي الخطاب وغيرهم وهو قول طائفة من المالكية والشافعية وعليه أكثر الحنفية ونقلوه عن أبي حنيفة نفسه وقد صرح هؤلاء قبل المعتزلة وقبل أبي بكر الرازي وأبي الخطاب وغيرهم أن من لم يأته رسول يستحق العقوبة في الآخرة لمخالفته موجب العقل وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن أعدل الأقوال أن الأفعال مشتملة على أوصاف تقتضي حسنها ووجوبها وتقتضي قبحها وتحريمها وأن ذلك قد يعلم بالعقل لكن الله لا يعذب أحدا إلا بعد بلوغ الرسالة كما قال وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ولم يفرق سبحانه بين نوع ونوع وذكرنا أن هذه الآية يحتج بها الأشعري وأصحابه ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى وأتباعه وهم يجوزون أن الله يعذب في الآخرة بلا ذنب حتى قالوا يعذب أطفال الآخرة فاحتجوا بها على المعتزلة والآية حجة على الطائفتين كما قد بسط في غير هذا الموضع
فصل وقد ذكر الله تعالى في القرآن الحجة على من أنكر قدرته وعلى من أنكر حكمته فأول ما أنزل الله تعالى اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم فذكر أنه الأكرم وهو أبلغ من الكريم وهو المحسن غاية الاحسان ومن كرمه أنه علم بالقلم علم الانسان مالم يعلم فعلمه العلوم بقلبه والتعبير عنها بلسانه وأن يكتب ذلك بالقلم فذكر التعليم بالقلم يتناول علم العبارة والنطق وعبارة المعاني والعلوم فإذا كان قد علمه هذه العلوم فكيف يمتنع عليه أن يعلمه ما يأمره به وما يخبره به وبيان ذلك أنه قال في أول السورة اقرأ باسم بك الذي خلق خلق الانسان من علق ومعلوم أن من رأى العلقة قطعة من دم فقيل له هذه العلقة يصير منها انسان بعلم كذا

وكذا لكان يتعجب من هذا غاية التعجب وينكره أعظم الانكار ومعلوم أن نقل الانسان من كونه علقة إلى أن يصير انسانا عالما قادرا كاتبا أعظم من جعل مثل هذا الانسان يعلم ما أمر الله به وما أخبر به فمن قدر على أن ينقله من الصغر إلى أن يجعله عالما قارئا كاتبا كان أن يقدر على جعله عالما بما أمر به وبما أخبر به أولى وأحرى وهذا كما استدل على قدرته على اعادة الخلق بقدرته على الابتداء وقد أخبر الله تعالى عن الكفار أنهم تعجبوا من التوحيد ومن النبوة ومن المعاد فقال تعالى والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا أن هذا لشيء عجاب فذكر تعجبهم من التوحيد والنبوة وقال تعالى أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم وهذا أيضا تعجب من أن أرسل اليهم رجل منهم وقوله أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس دل على أنه منذر لجنس الناس وأنه من جنس الناس لا يختص به العرب دون غيرهم وان كان أول ما أرسل اليهم وبلسانهم وقال تعالى ق والقران المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد وقال تعالى وان تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون وقال تعالى بل عجبت ويسخرون وإذا ذكروا لا يذكرون وإذا رأوا آية يستسخرون فالرسول كان يعجب من تكذيبهم لما جاءهم به من آيات الانبياء وهم يعجبون مما جاء به لكونه خارجا عما اعتادوه من النظائر فإنهم لم يعرفوا قبل مجيئه لا توحيدا ولا نبوة ولا معادا قال قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون وأما حكمته في إرسال بشر فقد ذكر أنه من جنسهم وأنه بلسانهم فهو أتم في الحكمة والرحمة وذكر أنهم لا يمكنهم

الأخذ عن الملك وأنه لو نزل ملكا لكان يجعله في صورة بشر ليأخذوا عنه ولهذا لم يكن البشر يرون الملائكة إلا في صورة الآدميين كما كان جبريل يأتي في صورة دحية الكلبي وكما أتى مرة في صورة أعرابي ولما جاءوا ابراهيم وامرأته حاضرة كانوا في صورة بشر وبشروها باسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قال تعالى وما منع الناس أن يؤمنوا اذ جاءهم الهدى الا ان قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا وأما قدرته على تعريف الخلق بأنه نبيه فكما تقدم فإنه إذا كان قادرا على أن يهدي الانسان الذي كان علقة ومضغة إلى أنواع العلوم بأنواع من الطرق انعاما عليه وفي ذلك من بيان قدرته وحكمته ورحمته ما فيه فكيف لا يقدر أن يعرفه صدق من أرسله اليه وهذا أعظم النعم عليه والاحسان اليه والتعريف بهذا دون تعريف الانسان ما عرفه به من أنواع العلوم فإنه إذا كان هداهم إلى ان يعلم بعضهم صدق رسول من أرسله اليه بشر مثله بعلامات يأتي بها الرسول وان كان لم تتقدم مواطأة وموافقة بين المرسل والمرسل اليهم فمن هدى عباده إلى أن يرسلوا رسولا بعلامة ويعلم المرسل إليه أنها علامة تدل على صدقه قطعا فكيف لا يقدر هو أن يرسل رسولا ويجعل معه علامات يعرف بها عباده أنه قد أرسله وهذا كمن جعل غيره قديرا عليما حكيما فهو أولى أن يكون قديرا عليما حكيما فمن جعل الناس يعلمون صدق رسول يرسله بعض خلقه بعلامات يعلم بها المرسل صدق رسوله فمن هدى العباد الى هذا فهو أقدر على أن يعلمهم صدق رسوله بعلامات يعرفون بها صدقه وإن لم يكن قبل ذلك قد تقدم بينهم وبينه مواطأة
وللناس طرق في دلالة المعجزة على صدق الرسول طريق الحكمة وطريق القدرة وطريق العلم والضرورة وطريق سنته وعادته التي بها يعرف أيضا ما يفعل وهو جنس المواطأة وطريق العدل وطريق الرحمة وكلها طرق صحيحة وكلما كان الناس إلى الشيء أحوج كان الرب به أجود وكذلك كلما كانوا إلى بعض العلم أحوج كان به أجود فإنه سبحانه الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان مالم يعلم وهو الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى وهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم

هدى فكيف لا يقدر أن يهدي عباده إلى أن يعلمون أن هذا رسوله وأن ما جاء به من الآيات آية من الله وهي شهادة من الله له بصدقه وكيف تقتضي حكمته أن يسوي بين الصادق والكاذب فيؤيد الكاذب من آيات الصدق بمثل ما يؤيد به الصادق حتى لا يعرف هذا من هذا وأن يرسل رسولا يأمر الخلق بالايمان به وطاعته ولا يجعل لهم طريقا إلى معرفة صدقه وهذا كتكليفهم بما لا يقدرون عليه ومالا يقدرون على أن يعلموه وهذا ممتنع في صفة الرب وهو منزه عنه سبحانه فإنه لا يكلف نفسا إلا وسعها وقد علم من سنته وعادته أنه لا يؤيد الكذاب بمثل ما أيد به الصادق قط بل لا بد أن يفضحه ولا ينصره بل لا بد أن يهلكه وإذا نصر ملكا ظالما مسلطا فهو لم يدع النبوة ولا كذب عليه بل هو ظالم سلطه على ظالم كما قال تعالى وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بخلاف من قال انه أرسله فهذا لا يؤيده تأييدا مستمرا الا مع الصدق لكنه قد يمهله مدة ثم يهلكه كما فعل بمن كذب الرسل أنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ولفظ النبي كلفظ الرسول هو في الأصل إنما قيل مضافا الى الله فيقال رسول الله ثم عرف باللام فكانت اللام تعاقب الإضافة كقوله فارسلنا الى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول وقوله لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منهم لو اذا وكذلك اسم النبي يقال نبي الله كما قال فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ان كنتم مؤمنين وقيل لهم لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا فتقولون يا محمد بل قولوا يا نبي الله يا رسول الله ورسول فعول بمعنى مفعول أي مرسل فرسول الله الذي أرسله الله فكذلك نبي الله هو بمعنى مفعول أي منبأ الله الذي نبأه الله وهذا أجود من أن يقال انه بمعنى فاعل أي منبئ فانه إذا نبأه الله فهو نبي الله سواء أنبأ بذلك غيره أو لم ينبئه فالذي صار به النبي نبيا أن ينبئه الله وهذا مما يبين ما امتاز به عن غيره فإنه إذا كان الذي ينبئه الله كما أن الرسول هو الذي يرسله الله فما نبأ الله حق وصدق ليس فيه كذب لا خطأ ولا عمدا وما يوحيه الشيطان هو من إيحائه ليس

من إنباء الله فالذي اصطفاه الله لانبائه وجعله نبيا له كالذي اصطفاه لرسالته وجعله رسولا له فكما أن رسول الله لا يكون رسولا لغيره فلا يقبل أمر غير الله فكذلك نبي الله لا يكون نبيا لغر الله فلا يقبل أنباء أحد إلا أنباء الله واذا أخبر بما أنبأ الله وجب الايمان به فإنه صادق مصدوق ليس في شيء مما أنبأه الله به شيء من وحي الشيطان وهذا بخلاف غير النبي فإنه وإن كان قد يلهم ويحدث ويوحى اليه أشياء من الله ويكون حقا فقد يلقي اليه الشيطان أشياء ويشتبه هذا بهذا فإنه ليس نبيا لله كما أن الذي يأمر بطاعة الله غير الرسول وإن كان أكثر ما يأمر به هو طاعة الله فقد يغلط ويأمر بغير طاعة الله بخلاف الرسول المبلغ عن الله فإنه لا يأمر الا بطاعة الله قال تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله وقال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع باذن الله فنبي الله هو الذي ينبئه الله لا غيره ولهذا أوجب الله الايمان بما أوتيه النبيون فقال تعالى قولوا آمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل الى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون وقال تعالى آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقال تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم والآخر والملائكة والكتاب والنبيين وليس كل ما أوحي اليه الوحي العام يكون نبيا فإنه قد يوحي الى غير الناس قال تعالى وأوحى ربك الى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون وقال تعالى وأوحي في كل سماء أمرها وقال تعالى عن يوسف وهو صغير فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا اليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون وقال تعالى وأوحينا الى أم موسى أن أرضعيه وقال تعالى وإذ أوحيت الى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي وقوله وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا يتناول وحي الانبياء وغيرهم كالمحدثين الملهمين كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال قد كان

في الامم قبلكم محدثون فان يكن في أمتي أحد فعمر منهم وقال عبادة بن الصامت رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في منامه فهؤلاء المحدثون الملهمون المخاطبون يوحى اليهم هذا الحديث الذي هو لهم خطاب وإلهام وليسوا بأنبياء معصومين مصدقين في كل ما يقع لهم فإنه قد يوسوس لهم الشيطان بأشياء لا تكون من ايحاء الرب بل من ايحاء الشيطان وإنما يحصل الفرقان بما جاءت به الانبياء فهم الذين يفرقون بين وحي الرحمن ووحي الشيطان فإن الشياطين أعداؤهم وهم يوحون بخلاف وحي الانبياء قال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الانس والجن يوحي بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون وقال تعالى وان الشياطين ليوحون الى أوليائهم ليجادلوكم وان اطعتموهم انكم لمشركون وقد غلط في النبوة طوائف غير الذين كذبوا بها إما ظاهرا وباطنا وإما باطنا كالمنافق المحض بل الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل الى الرسول وإلى من قبله وهم خلق كثير فيهم شعبة نفاق وان لم يكونوا مكذبين للرسول من كل وجه بل قد يعظمونه بقلوبهم ويعتقدون وجوب طاعته في أمور دون أمور وأبعد هؤلاء عن النبوة المتفلسفة والباطنية والملاحدة فإن هؤلاء لم يعرفوا النبوة الا من جهة القدر المشترك بين بني آدم وهو المنام وليس في كلام أرسطو وأتباعه كلام في النبوة والفارابي جعلها من جنس المنامات فقط ولهذا يفضل هو وأمثاله الفيلسوف على النبي وابن سينا عظمها أكثر من ذلك فجعل للنبي ثلاث خصائص أحدها أن ينال العلم بلا تعلم ويسميها القوة القدسية وهي القوة الحدسية عنده والثاني أن يتخيل في نفسه ما يعلمه فيرى في نفسه صورا نورانية ويسمع في نفسه أصواتا كما يرى النائم في نومه صورا تكلمه ويسمع كلامهم وذلك موجود في نفسه لا في الخارج فهكذا عند هؤلاء جميع ما يختص به النبي مما يراه ويسمعه دون الحاضرين انما يراه في نفسه ويسمعه في نفسه وكذلك الممرور عندهم والثالث أن يكون له قوة يتصرف بها في هيولي العالم باحداث أمور غريبة وهي عندهم آيات الانبياء وعندهم ليس في العالم حادث الا عن قوة نفسانية أو ملكية أو طبعية كالنفس الفلكية والانسانية والأشكال الفلكية والطبائع التي للعناصر

الاربعة والمولدات لا يقرون بأن فوق الفلك نفسه شيء يفعل ويحدث شيئا فلا يتكلم ولا يتحرك بوجه من الوجوه لا ملك ولا غير ملك فضلا عن رب العالم والعقول التي يثبتونها عندهم ليس فيها تحول من حال الى حال البتة لا بارادة ولا قول ولا عمل ولا غير ذلك وكذلك المبدأ الاول وهؤلاء عندهم جميع ما يحصل في نفوس الانبياء إنما هو من فيض العقل الفعال ثم انهم لما سمعوا كلام الانبياء أرادوا الجمع بينه وبين أقوالهم فصاروا يأخذون ألفاظ الانبياء فيضعونها على معانيهم ويسمون تلك المعاني الالفاظ المنقولة عن الانبياء ثم يتكلمون ويصفون الكتب بتلك الالفاظ المأخوذة عن الانبياء فيظن من لم يعرف مراد الانبياء ومرادهم أنهم عنوا بها ما عنته الانبياء وضل بذلك طوائف وهذا موجود في كلام ابن سينا ومن أخذ عنه وقد ذكر الغزالي ذلك عنهم تعريفا بمذهبهم وربما حذر عنه ووقع في كلامه طائفة من هذا في الكتب المضنون بها على غير أهلها وفي غير ذلك حتى في كتابه الاحياء يقول الملك والملكوت والجبروت ومقصوده الجسم والنفس والعقل الذي أثبتته الفلاسفة ويذكر اللوح المحفوظ ومراده به النفس الفلكية الى غير ذلك مما قد بسط في غير هذا الموضع وهو في التهافت وغيره يكفرهم وفي المضنون به يذكر ما هو حقيقة مذهبهم حتى يذكر في النبوات عين ما قالوه وكذلك في الإلهيات وهذه الصفات الثلاث التي جعلوها خاصة الانبياء توجد لعموم الناس بل توجد لكثير من الكفار من المشركين وأهل الكتاب فإنه قد يكون لاحدهم من العلم والعبادة ما يتميز به على غيره من الكفار ويحصل له بذلك حدس وفراسة يكون أفضل من غيره وأما التخييل في نفسه فهذا حاصل لجميع الناس الذين يرون في مناماتهم ما يرون لكن هو يقول أن خاصة النبي أن يحصل له في اليقظة ما حصل لغيره في المنام وهذا موجود لكثير من الناس قد يحصل له في اليقظة ما يحصل لغيره في المنام ويكفيك أنهم جعلوا مثل هذا يحصل للممرور وللساحر ولكن قالوا الساحر قصده فاسد والممرور ناقص العقل فجعلوا ما يحصل للانبياء من جنس ما يحصل للمجانين والسحرة وهذا قول الكفار في الانبياء كما قال تعالى وكذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا

قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون وهؤلاء عندهم ما يحصل للنبي من المكاشفة والخطاب هو من جنس ما يحصل للساحر والمجنون لكن الفرق بينه وبين الساحر أنه يأمر بالخير وذاك يأمر بالشر والمجنون ماله عقل وهذا القدر الذي فرقوا به موجود في عامة الناس فلم يكن عندهم للانبياء مزية على السحرة والمجانين الا ما يشاركهم فيه عموم المؤمنين وكذلك ما أثبتوه من القوة الفعالة المتصرفة هي عندهم تحصل للساحر وغيره وذلك أنهم لا يعرفون الجن والشياطين وقد أخبروا بأمور عجيبة في العالم فأحالوا ذلك على قوة نفس الانسان فما يأتي به الانبياء من الآيات والسحرة والكهان وما يخبر به المصروع والممرور هو عندهم كله من قوة نفس الانسان فالخبر بالغيب هو لاتصالها بالنفس الفلكية ويسمونها اللوح المحفوظ والتصرف هو بالقوة النفسانية وهذا حذق ابن سينا وتصرفه لما أخبر بأمور في العالم غريبة لم يمكنه التكذيب بها فاراد اخراجها على أصولهم وصرح بذلك في إشارته وقال هذه الامور لم نثبتها ابتداء بل لما تحققنا أن في العالم أمورا من هذا الجنس أردنا أن نبين أسبابها وأما أرسطو وأتباعه فلم يعرفوا هذه الامور الغريبة ولم يتكلموا عليها ولا على آيات الانبياء ولكن كان السحر موجودا فيهم وهؤلاء من أبعد الامم عن العلوم الكلية والالهية فان حدوث هذه الغرائب من الجن واقترانهم بالسحرة والكهان مما قد عرفة عامة الامم وذكروه في كتبهم غير العرب مثل الهند والترك وغيرهم من المشركين وعباد الاصنام وأصحاب الطلاسم والعزائم وعرفوا أن كثيرا من هذه الخوارق هو من الجن والشياطين وهؤلاء الجهال لم يعرفوا ذلك ولهذا كان من اصلهم أن النبوة مكتسبة وكان السهروردي المقتول يطلب أن يكون نبيا وكذلك ابن سبعين وغيره والنبوة الحق هي إنباء الله لعبده ونبي الله من كان الله هو الذي ينبئه ووحيه من الله وهؤلاء وحيهم من الشياطين فهم من جنس المتنبئين الكذابين كمسيلمة الكذاب وأمثاله بل أولئك أحذق منهم فإنهم كانت تأتيهم أرواح فتكلمهم وتخبرهم بأمور غائبة وهي موجودة في الخارج لا في أنفسهم وهؤلاء لا يعرفون مثل هذا ووجود الجن والشياطين في الخارج وسماع كلامهم أكثر من أن يمكن سطر عشره هنا وكذلك صرعهم للانس وتكلمهم على

ألسنتهم والفرق بين النبي والساحر أعظم من الفرق بين الليل والنهار والنبي يأتيه ملك كريم من عند الله ينبئه عن الله والساحر والكاهن انما معه شيطان يأمره ويخبره قال تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون فلا الخبر كالخبر ولا الامر كالامر ولا مخبر هذا كمخبر هذا ولا آمر هذا كآمر هذا كما أنه ليس هذا مثل هذا ولهذا قال تعالى لما ذكر الذي جاء بالقرآن الى محمد وأنه ملك منفصل ليس خيالا في نفسه كما يقوله هؤلاء قال تعالى انه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالافق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فاين تذهبون ان هو الا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين فالقرآن قول رسول أرسله الله لم يرسله الشيطان وهو ملك كريم ذو قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين فهو مطاع عند ذي العرش في الملأ الأعلى والشياطين لا يطاعون في السماوات بل ولا يصعدون اليها وابليس من حين أهبط منها لم يصعد اليها ولهذا كان أصح القولين أن جنة آدم جنة التكليف لم تكن في السماء فإن إبليس دخل الى جنة التكليف جنة آدم بعد إهباطه من السماء وقول الله له فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي الى يوم الدين وقوله قال فاخرج منها مذموما مدحورا لكن كانت في مكان عال في الارض من ناحية المشرق ثم لما أكل من الشجرة أهبط منها الى الأرض كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع ولفظ الجنة في غير موضع من القرآن يراد به بستان في الارض كقوله انا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة وقوله واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب الى قوله كلتا الجنتين أتت أكلها ولم تظلم منه شيئا الى قوله ودخل جنته وهو ظالم لنفسه وقوله تعالى ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة الآية الى قوله أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب الآية وقوله تعالى لقد كان لسبأ في

مساكنهم آية جنتان عن يمين وشمال الى قوله وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل وقوله كم تركوا من جنات وعيون الآية وقوله أتتركون فيما ههنا آمنين في جنات وعيون وجنة الجزاء والثواب التي في السماء لم يدخلها الشيطان بعد أن أهبط من السماء وهو أهبط من السماء لما امتنع من السجود لآدم قبل أن يدخل آدم الى جنة التكليف التي وسوس له وأخرجه منها وجنة الجزاء مخلوقة أيضا وقد أنكر بعض أهل البدع أن تكون مخلوقة وقال ان آدم لم يدخلها لكونها لم تخلق بعد فأنكر ذلك من أنكره من علماء السنة وقد ذكر أبو العالية وغيره من السلف أن الشجرة التي نهي عنها آدم كان لها غائط فلما أكل احتاج الى الغائط وجنة الجزاء ليس فيها هذا لكن الله أعلم بصحة هذا النقل وإنما المقصود أن بعض السلف كان يقول إنها في السماء وبعضهم يقول إنها في مكان عال من الارض ولفظ الجنة في القرآن قد ذكر فيما شاء الله من المواضع وأريد به جنة في الارض وجنة الجزاء مخصوصة بمماتهم كقوله قيل ادخل الجنة قال ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين فإن أرواح المؤمنين تدخل الجنة من حين الموت كما في هذه الآية قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين قال تعالى وما أنزلنا على قومه بعده من جند من السماء وما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة واحدة فاذا هم خامدون وقال تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون وقال تعالى لما ذكر أحوال الموتى عند الموت فأما ان كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما ان كان من أصحاب اليمين فسلام لك من اصحاب اليمين وأما ان كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم وهذا غير ما ذكره في أول السورة من انقسامهم يوم القيامة الكبرى الى سابقين وأصحاب يمين ومكذبين فانه سبحانه ذكر في أول السورة انقسامهم يوم القيامة الكبرى وذكر في آخرها انقسامهم عند الموت وهو القيامة الصغرى كما قال المغيرة بن شعبة من مات فقد قامت قيامته وكذلك قال علقمة وسعيد بن جبير عن ميت أما هذا فقد قامت

قيامته أي صار الى الجنة أو النار وإن كان بعد هذا تعاد الروح الى البدن ويقعد بقبره ومقصودهم أن الشخص لا يستبطئ الثواب والعقاب فهو اذا مات يكون في الجنة أو في النار قال تعالى عن قوم نوح مما خطيئاتهم أغرقوا فادخلوا نارا وقال عن آل فرعون النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم القيامة تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون اشد العذاب وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا الكلام على النبوة فهؤلاء المتفلسفة ما قدروا النبوة حق قدرها وقد ضل بهم طوائف من المتصوفة المدعين للتحقيق وغيرهم وابن عربي وابن سبعين ضلوا بهم فانهم اعتقدوا مذهبهم وتصوفوا عليه ولهذا يقول ابن عربي ان الاولياء أفضل من الانبياء وسائر الاولياء يأخذون عن خاتم الانبياء علم التوحيد وإنه هو يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به الى الرسول فإن الملك عنده هو الخيال الذي في النفس وهو جبريل عندهم وذلك الخيال تابع للعقل فالنبي عندهم يأخذ عن هذا الخيال ما يسمعه من الصوت في نفسه ولهذا يقولون أن موسى كلم من سماء عقله والصوت الذي سمعه كان في نفسه لا في الخارج ويدعي أحدهم أنه أفضل من موسى وكما ادعى ابن عربي أنه أفضل من محمد فانه يأخذ عن العقل الذي يأخذ منه الخيال والخيال عنده هو الملك الذي يأخذ منه النبي فلهذا قال فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به الى النبي قال فإن عرفت هذا فقد حصل لك العلم النافع وبسط الكلام على هؤلاء له مواضع أخر والمقصود هنا الكلام على النبوة فالنبي هو الذي ينبئه الله وهو ينبئ بما أنبأ الله به فإن أرسل مع ذلك الى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله اليه فهو رسول وأما اذا كان انما يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو الى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا اذا تمنى ألقي الشيطان في أمنيته وقوله من رسول ولا نبي فذكر ارسالا يعم النوعين وقد خص أحدهما بأنه رسول فان هذا هو الرسول المطلق الذي أمره بتبليغ رسالته الى من خالف الله كنوح وقد ثبت في الصحيح أنه أول رسول بعث الى أهل الأرض وقد كان قبله أنبياء كشيت وإدريس

وقبلهما آدم كان نبيا مكلما قال ابن عباس كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الاسلام فأولئك الانبياء يأتيهم وحي من الله بما يفعلونه ويأمرون به المؤمنين الذين عندهم لكونهم مؤمنين بهم كما يكون أهل الشريعة الواحدة يقبلون ما يبلغه العلماء عن الرسول وكذلك أنبياء بني اسرائيل يأمرون بشريعة التوراة وقد يوحى الى أحدهم وحي خاص في قصة معينة ولكن كانوا في شرع التوراة كالعالم الذي يفهمه الله في قضية معنى يطابق القرآن كما فهم الله سليمان حكم القضية التي حكم فيها هو وداود فالانبياء ينبئهم الله فيخبرهم بأمره وبنهيه وخبره وهم ينبئون المؤمنين بهم ما أنبأهم الله به من الخبر والامر والنهي فإن أرسلوا الى كفار يدعونهم الى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ولا بد أن يكذب الرسل قوم قال تعالى كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول الا قالوا ساحر أو مجنون وقال ما يقال لك الا ما قد قيل للرسل من قبلك فان الرسل ترسل الى مخالفين فيكذبهم بعضهم وقال وما أرسلنا من قبلم إلا رجالا نوحي اليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون حتى اذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين وقال انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد فقوله وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي دليل على أن النبي مرسل ولا يسمى رسولا عند الاطلاق لانه لم يرسل الى قوم بما لا يعرفونه بل كان يأمر المؤمنين بما يعرفونه أنه حق كالعلم ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم العلماء ورثة الانبياء وليس من شرط الرسول أن يأتي بشريعة جديدة فان يوسف كان رسولا وكان على ملة ابراهيم وداود وسليمان كانا رسولين وكانا على شريعة التوراة قال تعالى عن مؤمن آل فرعون ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى اذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا وقال تعالى انا أوحينا اليك كما أوحينا الى نوح والنبيين من بعده وأوحينا الى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان

وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما والإرسال اسم عام يتناول إرسال الملائكة وإرسال الرياح وإرسال الشياطين وإرسال النار قال تعالى يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس وقال تعالى جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة فهنا جعل الملائكة كلهم رسلا والملك في اللغة هو حامل الألوكة وهي الرسالة وقد قال في موضع آخر الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس فهؤلاء الذين يرسلهم بالوحي كما قال وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي باذنه ما يشاء وقال تعالى وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وقال تعالى إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين توزهم أزا لكن الرسول المضاف الى الله اذا قيل رسول الله فهم من يأتي برسالة الله من الملائكة والبشر كما قال الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس وقالت الملائكة يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا اليك وأما عموم الملائكة والرياح والجن فإن إرسالها لتفعل فعلا لا لتبلغ رسالة قال تعالى اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا فرسل الله الذين يبلغون عن الله أمره ونهيه هم رسل الله عند الاطلاق وأما من أرسله الله ليفعل فعلا بمشيئة الله وقدرته فهذا عام يتناول كل الخلق كما أنهم كلهم يفعلون بمشيئته وإذنه المتضمن لمشيئته لكن أهل الايمان يفعلون بأمره ما يحبه ويرضاه ويعبدونه وحده ويطيعون رسله والشياطين يفعلون بأهوائهم وهم عاصون لامره متبعون لما يسخطه وان كانوا يفعلون بمشيئته وقدرته وهذا كلفظ البعث يتناول البعث الشرعي كما قال هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم ويتناول البعث العام الكوني كقوله فاذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وقال تعالى واذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب فالعام بحكم مشيئته وقدرته والخاص هو أيضا بحكم مشيئته وقدرته

وهو مع ذلك بحكم أمره ورضاه ومحبته وصاحب الخاص من أولياء الله يكرمه ويثبته وأما من خالف أمره فإنه يستحق العقوبة ولو كان فاعلا بحكم المشيئة فإن ذلك لا يغني عنه من الله شيئا ولا يحتج بالمشيئة على المعاصي الا من تكون حجته داحضة ويكون متناقضا متبعا لهواه ليس عنده علم بما هو عليه كالمشركين الذين قالوا ولو شاء الله ما أشركنا ولا آبانا ولا حرمنا من شيء كما قد بسط في غير هذا الموضع والله أعلم
فصل الدليل الذي هو الآية والبرهان يجب طرده كما تقدم فإنه لو كان تارة يتحقق مع وجود المدلول عليه وتارة يتحقق مع عدمه فإذا تحقق لم يعلم هل وجد المدلول أم لا فإنه كما يوجد مع وجوده يوجد مع عدمه ولهذا كان الدليل إما مساويا للمدلول عليه وإما أخص منه لا يكون أعم من المدلول ولهذا لم يكن للأمور المعتادة دلالة على ما هو أخص كطلوع الشمس والقمر والكواكب لا يدل على صدق أحد ولا كذبه لا مدعي النبوة ولا غيره فإنها توجد مع كذب الكاذب كما توجد مع صدق الصادق لكن يدل على ما هو أعم منها وهو وجود الرب وقدرته ومشيئته وحكمته فان وجود ذاته وصفاته ثابت سواء كانت هذه المخلوقات موجودة أو لم تكن فيلزم من وجود المخلوق وجود خالقه ولا يلزم من عدمه عدم خالقه فلهذا كانت المخلوقات كلها آيات للرب فما من مخلوق إلا وهو آية له هو دليل وبرهان وعلامة على ذاته وصفاته ووحدانيته وإذا عدم كان غيره من المخلوقات يدل على ما دل عليه ويجتمع على المعلوم الواحد من الادلة ما لا يحصيه الا الله وقد يكون الشيء مستلزما لدليل معين فإذا عدم عرف انتفاؤه وهذا مما يكون لازما ملزوما فتكون الملازمة من الطرفين فيكون كل منهما دليلا وإذا قدر انتفاؤه كان دليلا على انتفاء الآخر كالادلة على الاحكام الشرعية فما من حكم إلا جعل الله عليه دليلا وإذا قدر انتفاء جميع الأدلة الشرعية على حكم علم أنه ليس حكما شرعيا وكذلك ما تتوفر الههم والدواعي على نقله فإنه اذا نقل دل التواتر على وجوده وإذا لم ينقل مع توفر الهمم والدواعي على نقله لو كان موجودا علم أنه لم يوجد كالأمور الظاهرة التي يشترك فيها الناس مثل موت ملك وتبدل ملك

بملك وبناء مدينة ظاهرة وحدوث حادث عظيم في المسجد أو البلد فمثل هذه الامور لا بد أن ينقلها الناس اذا وقعت فإذا لم تنقل نقلا عاما بل نقلها واحد علم أنه قد كذب وهذا مبسوط في غير هذا الموضع وقد بسط في غير هذا الموضع الفرق بين الآية التي هي علامة تدل على نفس المعلوم وبين القياس الشمولي الذي لا يدل الا على قدر كلي مشترك لا يدل على شيء معين اذ كان لا بد فيه من قضية كلية وأن ذلك القياس لا يفيد العلم بأعيان الأمور الموجودة ولا يفيد معرفة شيء لا الخالق ولا نبي من أنبيائه ولا نحو ذلك بل اذا قيل كل محدث فلا بد له من محدث دل على محدث مطلق لا يدل على عينه بخلاف آيات الله فانها تدل على عينه وبينا أن القرآن ذكر الاستدلال بآيات الله وقد يستدل بالقياس الشمولي والتمثيلي لكن دلالة الآيات أكمل وأتم وتبين غلط من عظم دلالة القياس الشمولي المنطقي وأنهم من أبعد الناس عن العلم والبيان وذكرنا أيضا غلط من فضل الشمولي على التمثيلي وأنهما من جنس واحد والتمثيلي أنفع وإنما الآيات تكون أحسن وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي ما ذكره أبو بكر بن الأنباري وغيره في الآيات آيات القرآن مثل قوله قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون مستكبرين ثلاثة اقوال قال في معنى الآية ثلاثة أقوال أحدها أنها العلامة فمعنى آية علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها وبعدها قال الشاعر ... ألا أبلغ لديك بني تميم ... بآية ما يحبون الطعاما ...
وقال النابغة ... توهمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع ...
قال وهذا اختيار أبي عبيد قلت أما أن الآية هي العلامة في اللغة فهذا صحيح وما استشهد به من الشعر يشهد لذلك وأما تسمية الآية من القرآن آية لأنها علامة صحيح لكن قول القائل إنها علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها وبعدها ليس بطائل فإن هذا المعنى الحد والفصل فالآية مفصولة عما قبلها وعما بعدها وليس معنى كونها آية هو هذا وكيف وآخر الآيات آية مثل آخر سورة الناس وكذلك آخر آية من السورة وليس بعدها شيء وأول الآيات آية وليس قبلها شيء مثل أول آية من

القرآن ومن السورة وإذا قرئت الآية وحدها كانت آية وليس معها غيرها وقد قام النبي صلى الله عليه و سلم بآية يرددها حتى أصبح ان تعذبهم فانهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم فهي آية في نفسها لا لكونها منقطعة مما قبلها وما بعدها وأيضا فكونه علامة على هذا الانقطاع قدر مشترك بين جميع الاشياء التي يتميز بعضها عن بعض ولا تسمى آيات والسورة متميزة عما قبلها وما بعدها وهي آيات كثيرة وأيضا فالكلام الذي قبلها منقطع وما قبلها آية فليست دلالة الثانية على الانقطاع بأولى من دلالة الأولى عليه وأيضا فكيف يكون كونها آية علامة للتمييز بينها وبين غيرها والله سماها آياته فقال تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق والصواب أنها آية من آيات الله أي علامة من علاماته ودلالة من أدلة الله وبيان من بيانه فان كل آية قد بين فيها من أمره وخبره ما هي دليل عليه وعلامة عليه فهي آية من آياته وهي أيضا دالة على كلام الله المباين لكلام المخلوقين فهي دلالة على الله سبحانه وعلى ما أرسل بها رسوله ولما كانت كل آية مفصولة بمقاطع الآي التي يختم بها كل آية صارت كل جملة مفصولة بمقاطع الآي آية ولهذا كان النبي صلى الله عليه و سلم يقف على رءوس الآي كما نعتت قراءته الحمد لله رب العالمين ويقف الرحمن الرحيم ويقف مالك يوم الدين ويقف ويسمى أصحاب الوقف وقف السنة لأن كل آية لها فصل ومقطع تتميز به عن الاخرى قال والوجه الثاني أنها سميت آية لأنها جماعة حروف من القرآن وطائفة منه قال أبو عمر الشيباني يقال خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم وأنشدوا ... خرجنا من النقبين لاحي مثلنا ... بآياتنا نزجي اللقاح المطافلا ...
قلت هذا فيه نظر فإن قولهم خرج القوم بآيتهم قد يراد به بالعلامة التي تجمعهم مثل الراية واللواء فإن العادة أن كل قوم لهم أمير تكون له آية يعرفون بها فاذا أخرج الامير آيتهم اجتمعوا اليه ولهذا سمى ذلك علما والعلم هي العلامة والآية ويسمى راية لانه يرى فخروجهم بآيتهم أي بالعلم والآية التي تجمعهم فيستدل به على خروجهم جميعهم فإن الامير المطاع اذا خرج لم يتخلف أحد

بخلاف ما اذا خرج بعض أمرائه وإلا فلفظ الآية هي العلامة وهذا معلوم بالاضطرار من اللغة والاشتراك في اللفظ لا يثبت بأمر محتمل قال والثالث أنها سميت آية لانها عجب وذلك أن قارئها يستدل اذا قرأها على مباينتها لكلام المخلوقين وهذا كما يقول فلان آية من الآيات أي عجب من العجائب ذكره ابن الأنباري قلت هذا القول هو داخل في معنى كونها آية من آيات الله فإن آيات الله كلها عجيبة فإنها خارجة عن قدرة البشر وعما قد يشبه بها من مقدور البشر والقرآن كله عجب تعجبت به الجن كما حكى عنهم تعالى انهم قالوا انا سمعنا قرآنا عجبا يهدي الى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا فإنه كلام خارج عن المعهود من الكلام وهو كما في الحديث لا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد وكل آية لله خرجت عن المعتاد فهي عجب كما قال تعالى أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا فالآيات العلامات والدلالة ومنها مألوف معتاد ومنها خارج عن المألوف المعتاد وآيات القرآن من هذا الباب فالقرآن عجب لا لأن مسمى الآية هو مسمى العجب بل مسمى الآية أعم ولهذا قال كانوا من آياتنا عجبا ولكن لفظ الآية قد يخص في العرف بما يحدثه الله وإنها غير المعتاد دائما كما قال النبي صلى الله عليه و سلم ان الشمس والقمر آيتان من آيات الله وانهما لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده وقد قال تعالى وما منعنا أن نرسل بالآيات الا أن كذب بها الاولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات الا تخويفا وفي الحديث الصحيح لما دخلت أسماء على عائشة وهي في الصلاة فسألتها فقالت سبحان الله فقالت آية فأشارت أي نعم وتسمى صلاة الكسوف صلاة الآيات وهي مشروعة في أحد القولين في مذهب أحمد في جميع الآيات التي يحصل بها التخويف كانتثار الكواكب والظلمة الشديدة وتصلى للزلزلة نص عليه كما جاء الأثر بذلك فهذه الآيات أخص من مطلق الآيات وقد قال تعالى وما تأتيهم من آية من آيات ربهم الا كانوا عنها معرضين وقال صلى الله عليه و سلم ثلاث آيات يتعلمهن خير له من ثلاث خلفات سمان

فصل والدليل الذي هو الآية والعلامة ينقسم إلى ما يدل بنفسه وإلى ما يدل بدلالة الدال به فيكون الدليل في الحقيقة هو الدال به الذي قصد أن يدل به وقد جعل ذلك علامة وآية ودليلا والذي يدل بنفسه يعلم أنه يدل بنفسه وان لم يعلم أن أحدا جعله دليلا وان كان في نفس الأمر كل مخلوق قد جعله الله آية ودلالة وهو سبحانه عليم مريد فلا يمكن أن يقال لم يرد بالمخلوقات أن تكون أدلة له ولا أنها ليست دليلا يجعلها أدلة كما قد يطلقه طائفة من النظار ولكن يستدل بها مع عدم النظر في كونها جعلت أدلة كما قد يطلقه اذ كان فيها مقاصد كثيرة غير الدلالة والذي جعلها دليلا وهو الله جعل ذاتها يستدل بها مع قطع النظر عن كونها هي دليلا فما من مخلوق إلا ويمكن الاستدلال به على الخالق والمحدث نفسه يعلم بصريح العقل أن له محدثا وهذه الأدلة التي تدل بنفسها قد تسمى الأدلة العقلية ويسمى النوع الآخر الادلة الوضعية لكونها انما دلت بوضع واضع والتحقيق أن كلاهما عقلي إذا نظر فيه العقل علم مدلوله لكن هذه تدل بنفسها وتلك تدل بقصد الدال بها فيعلم بها قصده وقصده هو الدال بها كالكلام فإنه يدل بقصد المتكلم به وارادته وهو يدل على مراده وهو يدلنا بالكلام على ما أراد ثم يستدل بارادته على لوازمها فإن اللازم أبدا مدلول عليه بملزومه والآيات التي تدل بنفسها مجردة نوعان منها ما هو ملزوم مدلول عليه بذاته لا يمكن وجود ذاته دون وجود لازمه المدلول عليه مثل دلالة المخلوقات على الخالق ومنها ما هو مستلزم له مدة طويلة أو قصيرة فتدل عليه تلك المدة مثل نجوم السماوات فإنه يستدل بها على الجهات والامكنة وعلى غيرها من النجوم وعلى الزمان ماضيه وغابره ما دام العالم على هذه الصورة قال تعالى وألقي في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات وبالتجم هم يهتدون وقال تعالى وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ثم قال وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ثم قال وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به

نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا الى قوله ان في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون وقوله وألقي في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات هي علامات ألقاها في الأرض وهذا قول الأكثرين قالت طائفة هي معالم الطرق يستدل بها بالنهار ويستدل بالنجم بالليل وقالت طائفة هي الجبال وهي أيضا مما يستدل به ولهذا سماها الله أعلاما في قوله وله الجواري المنشآت في البحر كالأعلام فبأي آلاء ربكما تكذبان أي كالجبال والأعلام جمع علم والعلم ما يعلم به كالعلامة ومنه أعلام الطرق المنصوبة ومنه يقال لدلائل النبوة أعلام النبوة ويقال للراية المرفوعة انها علم وإنها جعلت علامة لصاحبها وأتباعه والعالم بالفتح مثل الخاتم ما يعلم به كما أن الخاتم ما يختم به وهو بمعنى العالم ويسمى كل صنف من المخلوقات عالما لأنه علم وبرهان على الخالق تعالى بخلاف العالم بالكسر فانه الذي يعلم كالخاتم بالكسر فإنه الذي يختم قال تعالى ولكن رسول الله وخاتم النبيين لأنه ختمهم كما يسمى الماحي والحاشر والعاقب وقد قرئ وخاتم أي ختموا به فالجبال أعلام وهي علامات لمن في البر والبحر يستدل بها على ما يقاربها من الأمكنة فانه يلزم من وجودها وجوده وهي لا تزال دالة ما دامت موجودة ومدلولها موجودا وهي أثبت من غيرها فقد يكون عندها قرية وسكان فيكون علما عليهم ثم قد تخرب القرية ويذهب السكان فتزول الدلالة لزوال الملزوم وهذا كله مما يبين أن الدليل قد يكون معينا بل الآيات كلها معينة وأن يكون مطابقا ملازما لمدلوله ليس أحدهما أعم من الآخر كالثريا مع الدبران وكالجدي مع بنات نعش ونحو ذلك فتبين غلط من ذكر أنه يحصر الادلة فيقال إما أن يستدل بالعام على الخاص أو بالخاص على العام أو بأحد الخاصين على الآخر والأول هو القياس الشمولي والثاني هو الاستقراء والثالث هو التمثيل وقد بينا ما في هذا الكلام من الغلط في حصره وفي حكم أقسامه فإن هؤلاء المقسمون للأمور العامة كثيرا ما يغلطون في هذا وهذا إذ كان المقسم يجب أن يستوفي جميع الأقسام ولا يدخل فيها ما ليس منها كالحاد وهم يغلطون فيها كثيرا

لعدم إحاطتهم بأقسام المقسوم كما يقسمون أقسام الموجودات أو أقسام مدارك العلم أو أقسام العلوم أو غير ذلك وليس معهم دليل على الحصر الا عدم العلم وحصر الأقسام في المقسوم هو من الاستقراء ثم إذا حكموا على تلك الأقسام بأحكام فقد يغلطون أيضا كما قد ذكر هذا في غير هذا الموضع مثل غلط من حصر الأدلة في هذه الأنواع من أهل المنطق ومن تبعهم وقد بسط هذا في مواضع وذلك مثل قولهم الدليل إما أن يستدل بالعام على الخاص أو بالخاص على العام أو بأحد الخاصين على الآخر فان الدليل أولا لا يكون قط أعم من المدلول عليه إما مساويا له وإما أخص منه فإن الدليل ملزوم للمدلول عليه والملزوم حيث تحقق تحقق اللازم وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم فحيث تحقق الدليل تحقق المدلول عليه فإذا كان مساويا له أو أخص كان حيث تحقق المدلول كما أنه حيث تحقق ما هو ناطق النطق الذي يختص الانسان تحقق الانسان وتحقق أيضا ما هو أعم من الانسان وهو ثبوت حيوان وجسم حساس تام متحرك بالارادة بمعنى أنه تحقق مطلق هذا الجنس وإلا فلم يوجد شيء أعم من الانسان بمجرد وجوده لكن وجد من صفاته ما يشبه به غيره ويصح اطلاقه عليه وعلى غيره وهو مسمى الجسم والحيوان ونحو ذلك وكذلك إذا وجد آية أو خبر يدل على الايجاب أو التحريم لزم ثبوت الايجاب أو التحريم وقد ثبت الايجاب والتحريم بآية أخرى أو خبر آخر فلهذا قيل الدليل يجب طرده ولا يجب عكسه وإذا كان الدليل لا يكون أعم من المدلول عليه فقولهم إما أن يستدل بالعام على الخاص إنما أرادوا به القياس الشمولي الذي هو مقدمتان صغرى وكبرى كقولنا النبيذ المتنازع فيه مسكر وكل مسكر حرام أو كل مسكر خمر كما ثبت في صحيح مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال كل مسكر خمر وكل مسكر حرام بين أن المسكر موصوف بأنه خمر وبأنه حرام ولم يقصد القياس الشمولي وهو أن يستدل على أن المسكر حرام فالرسول أجل من هذا شرعا وعقلا صلى الله عليه و سلم فإنه بكلامه تثبت الاحكام وغيره إذا قال كل مسكر خمر أو حرام احتاج أن يستدل عليه وأما هو فيستدل بنفس كلامه والنظم الشمولي المنطقي

لا يوجد في كلام فصيح بل هو طويل لا يحتاج اليه كما قد بسط في مواضع وبين أن الدليل قد يكون مقدمة واحدة وقد يكون مقدمتين وقد يكون ثلاث مقدمات وأربعا وأكثر بحسب ما يحتاج اليه المستدل الطالب لدلالة نفسه أو الطالب ليدل غيره فإنه قد لا يحتاج الا الى مقدمة واحدة مثل من عرف أن الخمر حرام لكن لم يعرف أن كل مسكر هو خمر فإذا عرف بالنص أن كل مسكر خمر عرف أن مسكر حرام وكان علمه موقوفا على مقدمة واحدة بخلاف من لم يكن عرف بعد أن الخمر حرام فيحتاج الى مقدمة ثانية ثم ان كان عرف أن محمدا رسول الله بنصوصه المتواترة كفاه ذلك وإن كان لم يقر بنبوته احتاج الى مقدمة ثالثة وهو الايمان بأنه رسول الله لا يقول على الله الا الحق ويذكر له من دلائل النبوة وأعلامها ما يعرف به ذلك فيهتدي أن كان طالب علم وتقوم عليه الحجة ان لم يكن كذلك فقول هؤلاء في مثل هذا انا استدللنا بالعام على الخاص لبس عظيم فإن المدلول عليه وهو تحريم النبيذ المتنازع فيه مثلا وان كان أخص من تحريم المسكر والخمر فالدليل ليس هو القضية العامة بل الدليل أن النبيذ المتنازع فيه مسكر وهو احدى المقدمتين وهذه قضية خاصة أخص من مسمى المسكر فإن المسكر يتناول المتفق على تحريمه والمتنازع فيه وهذا هو الحد الاوسط وهو المتكرر في المقدمتين الذي هو محمول في الصغرى موضوع في الكبرى فالاستدلال وقع بإسكاره على أنه خمر ومحرم ومسكر النبيذ المتنازع فيه أخص من مسمى المسكر والخمر والمقدمة الثانية الكبرى وهي قولنا وكل مسكر خمر ليست هي الدليل بل لا بد من الصغرى معها وهي خاصة فالمدلول عليه ان كان تحريم النبيذ المتنازع فيه فهذا انما يدل على تحريمه أنه مسكر وليس اسكاره أعم منه بل يلزم من ثبوت اسكاره ثبوته فان ثبوت الموصوف بدون الصفة ممتنع فاسكاره دل على تحريمه وليس تحريمه أعم من اسكاره بل جنس الاسكار والحرام أعم من هذا المسكر فهذا المحرم لكن هذا العام ليس هو الدليل بدون الخاص بل قوله كل مسكر حرام يدل على تحريم كل مسكر مطلقا من غير تعيين فيكون الإسكار مستلزما للتحريم والمسكر أخص من الحرام وهذا إستدلال بالخاص على العام فوجود المسكر أخص من وجود الحرام حيث

كان مسكر كان الحرام موجودا وليس اذا كان الحرام موجودا يجب وجود المسكر لان المحرمات كثيرة كالدم والميتة ولحم الخنزير فالحد الأوسط وهو المسكر دل على ثبوت الاعم وهو التحريم من الأخص في الاخص وهو النبيذ المتنازع فيه فالمدلول عليه التحريم وهو أعم من المسكر فهو استدلال بالخاص على العام لكن المعنى العام الكلي لا يوجد في الخارج عاما كليا بل معينا فهو استدلال على نوع من أنواعه وهو التحريم الثابت في النبيذ المتنازع فيه وهذا أخص من مطلق التحريم كما أن مسكره أخص من مطلق المسكر ومن هنا ظنوا أنهم استدلوا بالعام على الخاص حيث استدلوا بتحريم كل مسكر على تحريم هذا المسكر وليس الامر كذلك بل الذي دل على تحريم هذا المسكر ليس هو مجرد القضية العامة الكليةبل لا بد معها من قضية أخص منها جزئية مثل قولنا هذا النبيذ مسكر وبهذا الخاص يعلم ثبوت ذلك لا بمجرد العام والدليل هنا ليس هو أعم من المدلول عليه ولا يمكن ذلك قط وأما قولهم ان الاستدلال بالخاص على العام هو الاستقراء فمجرد الخاص ان لم يستلزم العام لا يدل عليه والمستقرئ ان لم يحصر الافراد لا يعلم أن ذلك المعنى شامل لها فما استدل بخاص على عام بل بعام مثله مطابق له وقولهم في قياس التمثيل انه استدلال بخاص على خاص ليس كذلك فان مجرد ثبوت الحكم في صورة لا يستلزم ثبوته في أخرى ان لم يكن بينهما قدر مشترك ولا يثبت بذلك حتى يقوم دليل على أن ذلك المشترك مستلزم للحكم والمشترك هو الذي يسمى في قياس التمثيل الجامع والوصف والعلة والمناط ونحو ذلك فإن لم يقم دليل على أن الحكم متعلق به لازم له لم يصح الاستدلال وهذا المشترك في قياس التمثيل هو الحد الاوسط في قياس الشمول بعينه فالمعنى في القياسين واحد ولكن التأليف والنظم متنوع اذا أراد أن يثبت تحريم النبيذ بقياس الشمول قال هذا هو حرام لأنه شراب مسكر فيكون حراما قياسا على المسكر من العنب فالدليل هو المسكر وهو المشترك وهو الحد الاوسط ثم لا يكفي ذلك حتى يبين أن العلة في الاصل هي المشترك فيقول وعصير العنب حرم لكونه مسكرا وهذا الوصف موجود في الفرع الذي هو صورة النزاع فيجب اشتراكهما في التحريم وقوله انه حرام لكونه مسكرا هي المقدمة الكبرى في قياس

الشمول وهي قولنا كل مسكر حرام فثبت أن علة التحريم هي السكر إما بالنص وهو قوله كل مسكر حرام وإما بدلالة القرآن وهو أنه يوقع العداوة والبغضاء ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة وإما بالمناسبة وإما بالدوران وإما بالسبر والتقسيم كما قد عرف في موضعه وهو نظير ما يستدل به على ثبوت القضية الكبرى ثم الدليل قد يكون قطعيا وقد يكون ظنيا لخصوص المادة لا تعلق لذلك بصورة القياس فمن جعل قياس الشمول هو القطعي دون قياس التمثيل فقط غلط كما أن من جعل مسمى القياس هو التمثيل دون الشمول فلم يفهم معناه والذي عليه جمهور العلماء أن كلا منهما قياس قد يكون قطعيا وقد يكون ظنيا وطائفة يقولون اسم القياس لا يستعمل الا في الشمول كما يقوله ابن حزم ومن يقوله من المنطقيين وطائفة يقولون لا يستعمل حقيقة إلا في التمثيل ومن هؤلاء من يقول ليس في العقليات قياس وهذا مبسوط في مواضع والمقصود هنا التنبيه على جنس الادلة وأيضا فالدليل قد يكون مطابقا للمدلول عليه ملازما له ليس أعم منه كالكواكب التي في السماء المتلازمة التي يستدل بكل منها على الآخر وكالناطقية والانسانية التي يستدل بثبوت كل منهما على ثبوت الآخر وهذا خارج عن تقسيمهم فان هذا ليس استدلالا بعام على خاص ولا بخاص على عام ولا بخاص على نظيره بطريق التمثيل بل هو استدلال بأحد المتلازمين على الآخر قد يكونان عامين وخاصين فالكواكب خاصة والعام كالاستدلال بالحيوانية على الحس والحركة الا أنه استدلال بعام على عام ملازم له وكذلك الاستدلال بكونه جسما على وجود جنس العرض والاستدلال بوجود جنس العرض على وجود جنس الجسم هو استدلال بأحد العامين المتلازمين على الآخر والمقصود هنا أن هذه المعينات كالنجوم والجبال والطرق كلها آيات وأعلام وعلامات على ما هو لازم لها في العادة وكذلك قد يستدل على منزل الشخص بما هو ملازم من دور الجيران والباب وغير ذلك وشجرة هناك وغير ذلك من العلامات التي يذكرها الناس يستدلون بها ويدلون غيرهم بها وسميت الجبال أعلاما لأنها مرتفعة عالية والعالي يظهر ويعلم ويعرف قبل الشيء المنخفض ولهذا يوصف

العالي بالظهور كقوله فما استطاعوا أن يظهروه ويقال ظهر الخطيب على المنبر ومنه قوله النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح وأنت الظاهر فليس فوقك شيء فأدخل معنى العلو في اسمه الظاهر لأن الظاهر يعلو والعالي يظهر وكذلك العالي يعرف قبل غيره ومنه قيل عرف الديك أصله فعل بمعنى مفعول أي معروف كما يقال كره بمعنى مكروهه ومنه الأعراف وهي أمكنة عالية بين الجنة والنار وقد قيل في قوله وعلامات وبالنجم أن العلامات هي النجوم منها ما يكون علامة لا يهتدى به ومنها ما يهتدى به وقول الأكثرين أصح فإن العلامات كلها يهتدى بها ولأنه قال وألقي في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات وهذا كله مما ألقاه في الأرض وهو منصوب بألقى أو بفعل من جنسه كما قال بعضهم أي وجعل في الأرض أنهارا لأن الألقاء من جنس الجعل وبسط ما في هذا من إعراب ومعان له مقام آخر والمقصود هنا ذكر العلامات والعلامات يدخل فيها ما تقدم من الرواسي والسبل فإن كونها رواسي وسبلا يسلكها الناس غير كونها علامات والعطف قد يكون لتغاير الصفات مع اتحاد الذات كقوله الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى وأمثاله فكيف اذا كانت العلامات تتناول هذا وغيره فإن الجبال أعلام وهي علامات وكذلك الطرق يستدل بها السالك فيها ولهذا يسمى الطريق إماما لأن السالك يأتم به وكذلك يسمون ما يستدل به المستدل طريقا ومسلكا ويقال لاصحاب هذا القول عدة طرق ومسالك حتى أطلقوا على ما يصنف من الاحتجاج على مسائل النزاع طريقة لأنه فيه أدلة المصنف على موارد النزاع ومن هذا الباب الاستدلال على المرض بعلامات له والاستدلال بالاصوات فان كانت كلاما كانت الدلالة قصدية إرادية قصد المتكلم أن يدل بها وهي دلالة وضعية عقلية وان كانت غير كلام كانت الدلالة عقلية طبعية كما يستدل بالاصوات التي هي بكاء وانتحاب وضحك وقهقهة ونحنحة وتنخم ونحو ذلك على أحوال المصوت ومن الدلائل الشعائر مثل شعائر الاسلام الظاهرة التي تدل على أن الدار دار الاسلام

كالأذان والجمع والأعياد وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا غزا قوما لم يغز حتى يصبح فإن سمع أذانا أمسك وان لم يسمع أذانا أغار بعدما يصبح هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم كان يغير اذا طلع الفجر وكان يستمع الاذان فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار فسمع رجلا يقول الله اكبر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم على الفطرة ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله فقال خرجت من النار وعن عصام المزني قال كان النبي صلى الله عليه و سلم اذا بعث السرية يقول اذا رأيتم مسجدا أو سمعتم مناديا فلا تقتلوا أحدا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ومن هذا النوع دلائل الجهات ومنه دلائل القبلة يستدل عليها بالنجوم والشمس والقمر والرياح والطرق وغير ذلك من الدلائل كما قد ذكر الناس ما ذكروه من دلائل القبلة
فصل والنوع الثاني ما يدل بقصد الدال به كالكلام وكالعقد باليد والاشارة بها أو بالعين أو الحاجب أو غير ذلك من الأعضاء وقد يسمى ذلك رمزا ووحيا وكذلك الخط خط الكتابة بخلاف الاستدلال بآثار خطى الانسان فإن هذا من النوع الاول وكذلك القيافة وهي من النوع الاول وهو الاستدلال بالشبه على النسب وكذلك القائف قد يعرف بالأثر من هو الواطئ وأين ذهب ومن هذا النوع الاميال التي جعلت علامات على حدود الحرم والاميال تجعل في الطرقات فإنه قصد بها الدلالة على الطريق أي قصد الناس بها ذلك وهذا النوع قسمان منه ما يكون بالاتفاق والمواطأة بين اثنين فصاعدا كما يتفق الرجل مع وكيله على علامة لمن يرسله اليه مثل وضع خنصره في خنصره ومثل وضع يده على ترقوته كما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم جعل ذلك علامة مع بعض الناس وكما يجعل الملوك وغيرهم لهم علامات عند بعض الناس من جاء بها عرفوا أنه مرسل من جهته ومن هذا الباب شعائر الناس في الحرب كل طائفة يعرف أصحابها بشعارها ولهذا قال الفقهاء ويجعل لكل طائفة شعارا يتداعون به كما كان للمهاجرين شعار وللانصار شعار ومن هذا الباب الأعلام والرايات للمقدمين فان الراية ترى فيعلم صاحبها وكذلك

العلم يعلم فيعلم صاحبه وقد تميز راية عن راية لما يختص به صاحبها ويسمى ذلك رنكا وقد يكون ذلك اسم الشخص وقد يكون غير ذلك لكن قد اتفق مع غيره على أن هذا علامة وآية له فمتى رؤي استدل به على أنه هو المضاف اليه ذلك العلم ويجعل هذا على الدور والثياب والدواب ومنه الوسم الذي تعلم به إبل الصدقة وإبل الجزية فإن الوسم علامة مقصودة للواسم وأما السيما فهي علامة بنفسها لم يقصدها مثل سيما المؤمنين وسيما المنافقين قال تعالى في المؤمنين سيماهم في وجوههم من أثر السجود وقال في المنافقين فلعرفتهم بسيماهم وقال عتل بعد ذلك زنيم قيل له زنمة من الشر يعرف بها ومنه سيما المؤمنين يوم القيامة التي بها يعرفهم نبيهم وهو أنهم غر محجلين من آثار الوضوء فهذه علامة وآية لكنها من النوع الاول لم يقصد المسلمون أن يتوضئوا ليعرفوا بالوضوء لكن من اللوازم لهم الوضوء للصلاة وقد جعل الله أثر ذلك نورا في وجوههم وأيديهم وليس هذا لغيرهم فإن هذا الوضوء لم يكن لغيرهم والحديث الذي يروى هذا وضوئي ووضوء النبيين من قبلي ضعيف بخلاف الصلاة في المواقيت الخمس فإن الانبياء كانوا يصلون في هذه المواقيت كما قال هذا وقتك ووقت الانبياء قبلك والوسم والسيما من الوسم متفقان في الاشتقاق الاوسط فان أصل سيما سوما فلما سكنت الواو وانكسر ما قبلها قلبت ياء مثل ميقات وميعاد ونحو ذلك والاسم أيضا من هذا الباب وهو علم على المسمى ودليل عليه وآيه عليه وهذا المعنى ظاهر فيه فلذلك قال الكوفيون انه مشتق من الوسم والسمة وهي العلامة وقال البصريون بل هو مشتق من السمو فإنه يقال في تصغيره سمي لا وسيم وفي جمعه أسماء لا أوسام وفي تصريفه سميت ولا وسمت وكلا القولين حق لكن قول البصريين أتم فإنه مشتق منه على قولهم في الاشتقاق الاصغر وهو اتفاق اللفظين في الحروف وتأليفها وعلى قول الكوفيين هو مشتق منه من الاشتقاق الاوسط وهو اتفاق اللفظين في الحروف لا في ترتيبها كما قلنا في الوسم والسيما والسمو هو العلو والسامي هو العالي والعلو مستلزم للظهور كما تقدم فالعالي ظاهر والظاهر عال

فكان الاسم بعلوه يظهر فيدل على المسمى لأنه يظهر باللسان والخط ويظهر للسمع المسمى فيعرف بالقلب وقد تقدم أنهم يسمون الجبال أعلاما لما فيها من الظهور ودلالة الاسم على مسماه دلالة قصدية فان المسمى يسمى بالاسم ليعرف به المسمى وليدل عليه يقصد به الدلالة على مجرد نفسه كأسماء الأعلام للأشخاص وتارة يقصد به الدلالة على ما في اللفظ من المعنى كالأسماء المشتقة مثل العالم والحي والقادر ومن هذا الباب تسمية المعبودين آلهة سموها بما لا تستحقه كما يسمى الجاهل عالما والعاجز قادرا والكذاب نبيا فلهذا قال تعالى ان هي إلا اسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان والنوع الثاني من هذه الدلالة القصدية أن يقصد الدال الدلالة من غير مواطأة مع المستدلين على أنه دليل لكن هم يعلمون أنه قصد الدلالة لعلمهم بأحواله مثل ما يرسل الرجل شيئا من ملابسه المختص به مع شخص فيعلمون أنه أرسلها علامة على أنه أرسله قال سعيد بن جبير عن ابن عباس ان في ذلك لآية للمؤمنين قال العلامة تكون بين الرجل وأهله رواه ابن المنذر حدثنا موسى بن هارون حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن سفيان عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ورواه ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان حدثنا أبو اسامة حدثني سفيان عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ان في ذلك لآية قال علامة ألم تر إلى الرجل إذا أراد أن يرسل إلى أهله في حاجة أرسل بخاتمه أو ثبوته فعرفوا أنه حق فتارة يرسل خاتمه معه فيعلمون أنه أرسله ليعلموا أنه أرسله إذ كانوا قد علموا أن الخاتم معه وأنه ليس في إرساله مع ذلك الشخص الذي لا يعرفونه مقصود له إلا أن يكون علامة على أنه أرسله اليهم فيصدقونه فيما أخبر عنه وتارة يرسل معه عمامته أو نعليه وقد علموا أنه لا يخلع عمامته ويبعثها مع ذلك الشخص إلا لتكون علامة على صدقه كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم في غزاة الفتح لما كانت راية الخزرج مع سعد بن عبادة وكان فيه حدة وقال لا قريش بعد اليوم اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة قيل للنبي صلى الله عليه و سلم إنه يخاف منه أن يضع السيف في أهل مكة فقال قولوا

له يعطى الراية لابنه قيس فقيل انه لا يقبل منه فقال هذه عمامتي قولوا له قد أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك فلما رأى عمامته مع من جاء بها علم أنه ليس له في إعطائه عمامته مقصود إلا أن تكون علامة ولم يكن قبل ذلك قد واطأه على ذلك وكذلك لما أعطى أبا هريرة نعليه ليخرج فيبشر الناس بما ذكره له فإنهم إذا أرادوا معه نعليه علموا أنه لم يعطه النعلين إلا علامة وكذلك قد يكون بين الشخص وبين غيره سر لم يطلع عليه المرسل فيقول له اعطني علامة فيقول قل له بعلامة ما تكلمت أنت وهو في كذا وكذا أو ما فعلت أنت وهو كذا وكذا فيعلم المرسل اليه أن المرسل هو أعلم هذا الرسول بهذا الأمر اذ كان غيره لم يعلمه ويعلم أنه ليس له في إعلامه به مقصود إلا أن يكون علامة له على تصديقه ثم أكثر هذه الآيات التي هي علامات للناس يرسلونها مع من يرسلونه ليعرف صدقه هي قطعية عند المستدل بها المرسل اليه من الأهل والاصدقاء والوكلاء والنواب وغيرهم يأتيهم الرجل بعلامة وهي مستدلة على حيهم فيعلمون قطعا أن هذا جاء من عنده ويعلمون قطعا أنه لم يرسله بتلك العلامة الا ليعلموا صدقه لا يخطر لسعد بن عبادة حين رأى عمامة النبي صلى الله عليه و سلم معهم أنهم أخذوها بغير قصده بأن تكون سقطت منه ونحو ذلك بل قد علم أنها كانت على رأسه وهو راكب في الجيش وقد أرسلها مع هذا وكذلك خاتم الشخص الذي يعلمون أنه لا ينزع خاتمه من يده ويعطيها لغيره ليعبث بها عنه وهو لا يختم بها شيئا إلا لذلك وقد يقع في مثل ذلك احتمالات فيستعمل المستدلون التقسيم فإن الاستدلال مداره على أنه أرسله بالعلامة وأنه إنما أرسله بها ليبين صدقه فقد يعرض في المقدمة الاولى أنه أخذها بغير اختياره أو أن الخاتم سقط منه أو ان كان مسافرا أنه قتل أو مات فقد يقع مثل ذلك وقد يؤخذ خاتم الرجل بغير أمره ويختم به كتابه كما حكى أن مروان فعل مثل ذلك بعثمان والمقدمة الثانية أنه قد يرسله بالخاتم ليختم به شيئا أو ليصلحه ونحو ذلك فإذا عرض مثل هذا الاحتمال وقوى توقفوا وإن عرفوا انتفاء ذلك مثل أن يكون قد ذهب من عندهم

قريبا وليس له ما يختم به ونحو ذلك قطعوا بأنه أرسله علامة ثم بعد هذا قد يعلمون أنه أرسله لكن قد يكذب عليه ولكن العهدة في هذا على المرسل فإن ارسال العلامة هو إعلام منه لهم بأني أرسلته اليكم فهذا الفعل هو مثل هذا القول يجري مجرى إعلامهم وإخبارهم بأنه أرسله وتصديقه في قوله هو أرسلني والإخبار تارة يكون بالقول وتارة يكون بالعمل كما يعلم الرجل غيره بالاشارة بيده ورأسه وعينه وغير ذلك وان لم يتقدم بينهما مواضعة لكن يعلم قصده ضرورة مثل أن يسأله عن شيء هل كان فيرفع رأسه أو يخفضه أو يشير بيده أو يكون قائما فيشير اليه اجلس أو قاعدا مطلوبا فيشير اليه أن اهرب فقد جاء عدوك أو نحو ذلك من الاشارات التي هي أعمال بالأعضاء وهي تدل دلالة ضرورية تعلم من قصد الدال كما يدل القول وقد تكون أقوى من دلالة القول لكن دلالة القول أعم وأوسع فإنه يدل على الأمور الغائبة وعلى الأمور المعضلة وهذه الأدلة العيانية هي أقوى من وجه ولكن ليس فيها من السعة للمعاني الكثيرة ما في الاقوال
فصل وخاصة الدليل أن يكون مستلزما للمدلول فكل ما استلزم شيئا كان دليلا عليه ولا يكون دليلا إلا إذا كان مستلزما له ثم دلاله الدليل تعلم كما يعلم لزوم اللازم للملزوم وهذا لا بد أن يعلم بالضرورة أو بدليل ينتهي الى الضرورة وعلى هذا فآيات الأنبياء هي أدلة صدقهم وهي ما يستلزم صدقهم ويمتنع وجوده بدون صدقهم فلا يمكن أن يكون ما يدل على النبوة موجودا بدون النبوة ثم كونه مستلزما للنبوة ودليلا عليها يعلم بالضرورة أو بما ينتهي إلى الضرورة فآيات الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لا تحد بحدود يدخل فيها غير آياتهم كحد بعضهم كالمعتزلة وغيرهم بأنها خرق العادة ولم يعرف مسمى هذه العبارة بل ظن أن خوارق السحرة والكهان والصالحين خرق للعادة فكذبها وحد بعضهم بأنها الخارق للعادة إذا لم يعارضه أحد وجعل هذا فصلا احترز به عن تلك الامور فقال المعجزة هي الخارق المقرون بالتحدي بالمثل مع عدم المعارضة وجوز أن يأتي غير الانبياء بمثل ما أتوا به سواء مع المعارضة وجعل ما يأتي به الساحر والكاهن معجزات مع عدم المعارضة وحقيقة المعجز هذا ما لم يعارض ولا حاجة إلى كونه خارقا للعادة

بل الامور المعتادة إذا لم تعارض كانت آية وهذا باطل قطعا ثم مسيلمة والأسود العنسي وغيرهما لم يعارضوا ثم يقال ما يعني بعدم المعارضة في ذلك المكان والزمان فالسحرة والكهان لا يعارضون والعنسي ومسيلمة لم يعارضا في مكانهم ووقت اغرائهم وإن قال لا يعارض البتة فمن أين يعلم هذا العدم فإن قيل فما آيات الانبياء قيل هي آيات الانبياء التي تعلم أنها مختصة بالانبياء وأنها مستلزمة لصدقهم ولا تكون إلا مع صدقهم وهي لا بد أن تكون خارقة للعادة خارجة عن قدرة الانس والجن ولا يمكن أحدا أن يعارضها لكن كونها خارقة للعادة ولا تمكن معارضتها هو من لوازمها ليس هو حدا مطابقا لها والعلم بأنها مستلزمة لصدقهم قد يكون ضروريا كانشقاق القمر وجعل العصا حية وخروج الناقة فمجرد العلم بهذه الآيات يوجب علما ضروريا بأن الله جعلها آية لصدق هذا الذي استدل بها وذلك يستلزم أنها خارقة للعادة وأنه لا يمكن معارضتها فهذا من جملة صفاتها لا أن هذا وحده كاف فيها وهذا اذا قال من قال أن فلانا أرسلني اليكم فإنه يأتي بما يعلم أنه علامة والعلامة والدليل والآية حدها أنها تدل على المطلوب وآيات الانبياء تدل على صدقهم وهذا لا يكون الا مع كونها مستلزمة لصدقهم فيمتنع أن تكون معتادة لغيرهم ويمتنع أن يأتي من يعارضهم بمثلها ولا يمتنع أن يأتي نبي آخر بمثلها ولا أن يأتي من يصدقهم بمثلها فان تصديقه لهم يتضمن صدقهم فلم يأت إلا مع صدقهم وقد تكون الآيات تدل على جنس الصدق وهو صدق صاحبها فيلزم صدقه اذا قال أنا نبي ولكن يمتنع أن يكون لكاذب فهذا ونحوه مما تنكشف به حقيقة هذا الباب وهو من أهم الأمور وإذا فسر خرق العادة بأنها خرق لعادات غير الانبياء أي لا يكون لغير جنسهم وجنس من صدقهم وفسر عدم المعارضة بأنه لا يقدر أن يأتي بها من ليس بنبي أو متبع لنبي كان المعنى واحدا واتحدت التفاسير الثلاثة
فصل والله سبحانه دل عباده بالدلالات العيانية المشهودة والدلالات المسموعة وهي كلامه لكن عامتهم تعذر عليهم أن يسمعوا كلامه منه فأرسل اليهم بكلامه رسلا وأنزل اليهم كتبا والمخلوق اذا قصد إعلام من يتعذر أن يسمع منه أرسل اليه رسلا وكتب اليه كتبا كما يفعل الناس ولاة الامور وغيرهم يرسلون

الى من بعد عنهم رسولا ويكتبون اليه كتبا ثم انه سبحانه جعل مع الرسل آيات هن علامات وبراهين هي أفعال يفعلها مع الرسل يخصهم بما لا يوجد لغيرهم فيعلم العباد لاختصاصهم بها أن ذلك إعلام منه للعباد وإخبار لهم أن هؤلاء رسلي كما يعلمهم بكلامه المسموع منه ومن رسوله ولهذا قد يعلم برسالة رسول بإخبار رسول أخبر عنه وقد يخبر عن ارساله بكلامه لمن سمع كلامه منه كما أخبر موسى وغيره بالوحي الذي يوحيه اليهم فآيات الانبياء هي علامات وبراهين من الله تتضمن إعلام الله لعباده وإخباره فالدليل وهو الآية والعلامة لا يدل إلا إذا كان مختصا بالمدلول عليه مستلزما له إما مساويا له وأما أخص منه لا يكون أعم منه غير مستلزم له فلا يتصور أن يوجد الدليل بدون المدلول عليه فالآيات التي أعلم الله بها رسالة رسله وصدقهم لا بد أن تكون مختصة بهم مستلزمة لصدقهم فان الإعلام والإخبار بأن هذا رسول وتصديقه في قوله إن الله أرسلني لا يتصور أن يوجد لغير رسول والآيات التي جعلها الله علامات هي أعلام بالفعل الذي قد يكون اقوى من القول فلا يتصور أن تكون آيات الرسول إلا دالة على صدقهم ومدلولها أنهم صادقون لا يجوز أن توجد بدون صدق الرسل البتة وكون الرب أراد بها إعلام عباده بصدقهم وصدقهم بها في إخبارهم أنه أرسلهم وكونها آية وعلامة على صدقهم أمر يعلم كما تعلم دلالة سائر الادلة كما يعلم من الرجل أصدقاؤه ووكلاؤه أنه أرسل هذا بهذه العلامات فتارة يعلم ذلك بالضرورة بعد تصور الامر وتارة يحتاج الى نظر هل هذه العلامة منه أو من غيره وهل هو أرسله بها أو غيره وهل قصد بها الإعلام والتصديق أم لا وهل يعلم من حال الذاكر أنه أرسله أنه صادق فقد يرسل من يعلمون هم صدقه وأنه لا يكذب فيعلمون صدقه بمجرد قوله هو أرسلني من غير آية ولا علامة ولهذا إذا قال من صدقه إنه رأى رؤيا صدقه وجزم بصدقه من قد خبر صدقه والرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وكذلك لو أخبر بغير ذلك كما أخبر عمران بن حصين أن الملائكة تسلم عليه فلم يشك الذين أخبرهم في صدقه من غير آية فمن كان يعلم صدق موسى والمسيح ومحمد وغيرهم وأنهم لا يكذبون في أخف الامور فكيف بالكذب على الله إذا أخبرهم أحدهم بما

جاءه من الوحي والرسالة وما غاب من الملائكة فإنه قد يجزم بصدقه من غير آية لا سيما ان كان ما يقوله لهم مما يؤيد صدقه ولهذا لم يكن من شرط الايمان بالانبياء وجود الآيات بل قد يعلم صدقهم بدون ذلك كما قد بين في موضع آخر وتارة يحتاجون إلى العلامة وتارة يعلمون كذبه بأن يذكر عن صاحبهم ما يعلمون هم خلافه ويصفه بما علموا نقيضه وقد يظهر لهم من قصده أنه كذاب ملبس طالب أغراض له إما مال يعطونه أو ولاية يولونه أو امرأة يزوجونه بها أو غير ذلك من أغراض النفوس فيسألونه عن مقصوده فإذا عرفوا مقصوده فقد يعلمون كذبه أو صدقه ومثل هذا كثير في عادات الناس فكثيرا ما يجيء الرجل بما يزعم أنه علامة وتكون مشتركة فيقال له ما تريد فيذكر مراده فيعلمون كذبه فدلائل الصدق والكذب لا تنحصر كدلائل الحب والبغض هي كثيرة جدا وهذا يعرفه من جرب عادات الناس
فصل فالآيات التي تكون آيات للانبياء هي دليل وبرهان والله تعالى سماها برهانا في قوله لموسى فذانك برهانان من ربك وهي العصا واليد وسماها برهانا وآيات في مواضع كثيرة من القرآن فحدها حد الدليل والبرهان وهي أن تكون مستلزمة لصدق النبي فلا يتصور أن توجد مع انتفاء صدق من أخبر أن الله أرسله فليس له إلا حالان إما أن يكون الله أرسله فيكون صادقا أو لا يكون أرسله فلا يكون صادقا فآيات الصدق لا توجد إلا مع أحد النقيضين وهو الصدق لا توجد قط مع الآخر وهو انتفاء الصدق كسائر الادلة التي هي البراهين والآيات والعلامة فإنها لا توجد إلا مع تحقق المدلول عليه لا توجد مع عدمه قط اذ كانت مستلزمة له يلزم من وجود الدليل وجود المدلول عليه فلا يوجد الدليل مع عدم المدلول عليه فلا توجد آياتهم مع عدم صدقهم فيجب أن يتصور هذا الموضع فإنه حق معلوم بعد تصوره لكل العقلاء بالضرورة فلا يمكن أحدا كذب النبي أن يأتي بمثلها فإنه لو أتى بمثلها مع تكذيب النبي لكانت قد وجدت مع قوله اني صادق ومع قول هذا المكذب إنه كاذب فلم تختص بصدقه ولم تستلزمه فلا يلزم إذا قال إني صادق أن يكون صادقا وهذا قد أتى

بمثل ما أتى به وقال انه كاذب ولا يكون إعلاما من الله لعباده وإخبارا لهم بأني أرسلته ولا تصديقا له كما لو قال رجلا إن فلانا أرسلني وجاء بعلامة ذكر أنه خصه بها مثل أن يقول العلامة أنه أعطاني خاتمه فيقول المكذب وأنا أيضا أعطاني خاتمه الأخرى لاصلحها له أو لأختم بها كذا وأنت إنما أعطاك خاتمه لتصلحها أو أن تختم بها فإذا أتى المكذب له بمثل ما أتى به امتنع كونها آية ولكن لو كان قد جاء بالخاتم غيره لأمر آخر أرسله له لم يمتنع ذلك بل قد جرت عادته معهم بأنه من ارسله يرسل معه خاتمه فقد صار ارسال الخاتم عادة له يدل على صدق من أرسله فهو يميز رسله بالخاتم لا يخص بها واحدا منهم وهي عادة منه لرسله ليست لغيرهم لا عادة ولا غير عادة فهذا شأن الآيات والعلامات التي يقصد الدال بها أن يدل بها
فصل والله تعالى سماها آيات وبراهين وهو اسم مطابق لمسماه مطرد لا ينتقض فلا تكون قط إلا آيات لهم وبراهين وأما تسميتها بخرق العادة فللناس في ذلك ثلاثة أقوال أحدها أن ذلك حد لها مطرد منعكس فكل خرق هو معجزة للنبي فهو خرق عادة والثاني أن خرق العادة شرط فيها وليس بحد لها فيجب أن تكون خارقة لعادة ولكن ليس كل خارق للعادة يكون آية لنبي كأشراط الساعة بل أن يقع على وجه مخصوص مثل دعوى النبوة والاستدلال بها والتحدي بمثلها مع عجز الناس عن معارضته والقول الثالث أن كونها خارقة للعادة ليس بحد ولا شرط قال القاضي أبو بكر في مناظرته في الكرامات ويقال لهم أيضا إن من الناس من لا يشترط في الآية المعجزة أن تكون خارقة للعادة ويقول إنما تكون آية اذا كانت من فعل الله مع التحدي بمثلها ودعوى النبوة فدلالتها على وجه لا يمكن أن يشترك في ادعائه الصادق والكاذب فإذا ظهرت على هذا الوجه كانت آية لمن فعلت على يده قال المجيبون بهذا ولهذا لم تكن أشراط الساعة آية لاحد وان خرقت العادة اذ لم يكن معها دعوى نبوة ولأن موت زيد عند قول الرسول آيتي أن يميت الله زيدا عند دعائي موته فإذا مات عند دعوته صار ذلك آية له وإن كان فعل الموت في الانسان وغيره من الحيوان معتادا قال ان قالوا لو كان كذلك لكان من قال آيتي

أن تطلع الشمس وتغرب ويأتي الليل والنهار والضياء والظلام وفعل ذلك مع دعواه الرسالة كان آية له وإن لم يكن المفعول من ذلك خارقا للعادة فلما لم يكن كذلك وإن كان واقعا من فعل الله مع دعوى النبوة لكونه غير خارق للعادة بطل ما قلتموه يقال لهم قد أجبنا عن هذا حين قلنا ويكون الواقع من فعل الله مع دعوى النبوة مما لا يشترك فيه الصادق والكاذب ويستوي مع ظهوره دعوى المحق والمبطل وطلوع الشمس وغروبها ولو قال النبي آيتي أن يظلنا السحاب الساعة وتزلزل الارض وتحدث الامطار بدعوى فحدث ذلك لكان آية له وإن كان مثل ذلك قد يحدث في العصر ويشاهد فإذا قال المتنبي انني معارضه وآيتي في كوني نبيا ظهور مثل ذلك منع منه ولم يحدث قلت هذا الذي ذكروه هو أيضا خرق للعادة فإن ظهور مثل ذلك على هذا الوجه مما لم تجر به العادة وهو نفسه القاضي أبو بكر في هذا الكتاب كتاب البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانة والسحر والنيرنجيات قد قال قبل هذا باب القول في معنى العادة وانخراقها والعادة التي اذا انخرقت دلت على صدق الرسل والاعتياد للأمر وتفصيل ذلك وتنزيله واعلموا رحمكم الله أن الكل من سائر الامم قد شرطوا في صفة المعجز أن يكون خارقا للعادة وإذا كان ذلك واجبا وجب معرفة هذه العادة ومعرفة انخرافها فقد حكي هنا الإجماع وهناك صرح بالاختلاف وقوى ذلك القول وسبب ذلك اضطرابهم في معنى العادة وانخراقها فان كل قوم يفهمون غير ما يفهمه الآخرون والله تعالى انما سماها آيات وهذا القول الذي ذكره وقواه وهو لا يشترط فيها أن تكون خارقة للعادة هو حقيقة قول القاضي وأمثاله من المتكلمين الأشعرية ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى وأمثاله فإن المعجزات عندهم لا تختص بجنس من الأجناس المقدورات بل خاصتها أن النبي يحتج بها ويتحدى بمثلها فلا يمكن معارضته فاشترطوا لها وصفين أن تكون مقترنة بدعوى النبوة وجعلوا المدلول جزءا من الدليل وأنها لا تعارض وبالاول فرقوا بينها وبين الكرامات وبه وبالثاني فرقوا بينها وبين السحر والكهانة وصرحوا بأن جميع خوارق السحرة والكهان يجوز أن تكون معجزة لنبي لكن إذا كانت معجزة لم تمكن معارضتها فلو ادعى ساحر أو كاهن النبوة لكان الله

يعجزه عن تلك الخوارق التي علم أن غيره من السحرة والكهان يفعل مثلها وليس بنبي وما يأتي به الانبياء من المعجزات جوزوا أن يأتي بمثله الساحر والكاهن إلا ما منع منه السمع للإجماع على أن الساحر لا يقلب العصا حية وهذا الفرق ليس يختص به أحد النوعين ولا ضابط له وصرحوا بأنه لا يستثنى من الخوارق إلا ما انعقد عليه الإجماع وصرحوا بأن العجائب الطبيعية مثل جذب حجر المغناطيس الحديد يجوز أن يكون معجزة لكن بشرط أن لا يعارض وكذلك الطلاسم وكذلك الامور المعتادة يجوز أن تكون معجزة بشرط أن يمنع غيره منها فتكون المعجزة منع المعتاد فالخاصة عندهم فيها أنها لا تعارض وأنها تقترن بدعوى النبوة وقد يشترطون أن تكون خارقة للعادة لكن يكتفون بمنع المعارض فهو وحده خرق للعادة فلا يشترطون هذا وهذا وقد اشترط القاضي أبو بكر أن يكون مما يختص الرب بالقدرة عليه ولا حقيقة له فإن جميع الحوادث كذلك عندهم وكل ما خرج عن محل قدرة العبد فالرب عندهم مختص بفعله كخوارق السحرة والكهان وحقيقة الامر أنه لا فرق عندهم بين المعجزات والكرامات والسحر والكهانة لكن هذه إذا لم تقترن بدعوى النبوة لم تكن آية وإذا اقترنت بها كانت آية بشرط أن لا تعارض ثم انه لما أثبت النبوة قال انه يجوز على النبي فعل كل شيء من الكبائر الا أن يمنع من ذلك سمع كما قال كل ما كان معجزة للانبياء يجوز أن يأتي به الساحر إلا أن يمنع منه سمع اذ كان في نفس الامر لا فرق بين فعل وفعل بل يجوز من الرب كل شيء فيجوز أن يبعث كل أحد ولا يقيم على نبوته دليلا هذا حقيقة قولهم انه يجوز أن يبعث كل احد وإنه اذا بعثه لا يقيم دليلا على نبوته بل يلزم العباد بتصديقه بلا دليل يدلهم على صدقه فإن غاية هذا تكليف مالا يطاق وهم يجوزونه وهذا الذي قالوه باطل من وجوه متعددة قد بسطت في غير هذا الموضع منها أنهم جعلوا المدلول عليه وهو اخبارالنبي بنبوته وشهودها وثبوتها جزءا من الدليل قالوا لأنها لو كانت معجزة لجنسها لم تقع الا معجزة والخوارق التي تكون أمام الساعة ليست معجزة لأحد فعلم ان الدليل هو مجموع دعوى النبوة والخارق والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن تلك من آيات الله تعالى

فالخوارق التي لا يقدر عليها العباد كلها آيات الله تعالى وهي دالة على ما تظهر دلالتها عليه تارة تكون تخويفا كما قال النبي صلى الله عليه و سلم ان الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده والتخويف يتضمن الامر بطاعته والنهي عن معصيته وأشراط الساعة آيات على قربها وعلى جزاء الأعمال وهو يتضمن الامر بالطاعة والنهي عن المعصية والثاني أن يقال هي آيات على صدق الانبياء فإنهم أخبروا بها وهي آية على ما اخبروا به وعلى صدقهم وأيضا فإن عامة معجزات الرسول لم يكن يتحدى بها ويقول ائتوا بمثلها والقرآن انما تحداهم لما قالوا إنه افتراه ولم يتحدهم به ابتداء وسائر المعجزات لم يتحد بها وليس فيما نقل تحد إلا بالقرآن لكن قد علم أنهم لا يأتون بمثل آيات الانبياء فهذا لازم لها لكن ليس من شرط ذلك أن يقارن خبره وايضا فمن آيات الانبياء ما كان قبل ولادتهم وقبل إنبائهم وما يكون بعد موتهم فإن الآية دليل على صدق الخبر بأنه رسول الله وهذا الدليل لا يختص لا بمكان ولا زمان ولا يكون هذا الدليل إلا من جنس لا يقدر عليه الإنس كلهم ولا الجن فلا بد أن يكون جنسه معجزا أعجز الانس والجن وأما قولهم خاصة المعجز عدم المعارضة فهذا باطل وإن كان عدم المعارضة لازما له فإن هذا العدم لا يعلم إذ يمكن أن يعارضه من ليس هناك إذا كان مما يعلم أنه معتاد مثل خوارق السحرة والكهان فإنه وإن لم يمكن أن يعارض في هذا الموضع ففي السحرة والكهان من يفعل مثلها مع أنه ليس بنبي ودليل النبوة يمتنع ثبوته بدون النبوة وإذا قالوا الدليل هو مجموع الدعوى والدليل تبين خطأهم وان القوم لم يعرفوا دلائل النبوة ولا اقاموا دليلا على نبوة الانبياء كما لم يقيموا دليلا على وجود الرب فليس في كتبهم ما يدل على الرب تعالى ولا على رسوله مع أن هذا هو المقصود من أصول الدين وايضا فمسيلمة والعنسي لم يكن عندهما من يعارضهما وأيضا فالمعارض ان اعتبروه في المدعوين وهذا مقتضى في خرق العادة وإن العادات تختلف فلكل قوم عادة قالوا فالمعتبر خرق عادة من أرسل اليهم وعلى هذا فإذا أرسل الى بني اسرائيل ففعل مالم يقدروا عليه كان آية وإن كان ذلك

مما يقدر عليه العرب ويقدر عليه السحرة والكهان وصرحوا بأن السحر الذي قال الله فيه وما يعلمان من أحد حتى يقولا انما نحن فتنة فلا تكفر يجوز أن يكون من معجزات الانبياء اذا لم يعارض وقد قال الرازي أن السمعيات لا يحتج بها لأن دلالتها مشروطة بعدم المعارض العقلي وذلك غير معلوم وكذلك يقال في معجزات هؤلاء إن خاصتها عدم المعارضة فإن اعتبروا أن أحدا من الخلق لا يعارض فهذا لا يعلم وإن اكتفوا بأن لا يعارض في ذلك المكان والزمان فكثير من الصناعات والعجائب والعلوم من هذا الباب وهم لا ينكرون هذا بل يقولون المعجز هو هذا مع دعوى النبوة وقد تبين أن الشيء في نفسه إذا لم يكن دليلا لم يصر دليلا باستدلال المستدل به بل هو في نفسه دليل وإن لم يستدل به اذ كان الدليل هو المستلزم للمدلول فدليل صدق النبي هو يدل على أنه نبي وأن الخبر بنبوته صدق وإن كان هو لا يستدل بذلك ولا يتحدى بمثلها وقد لا يخبر بنبوة نفسه ويكون له دلائل تدل على نبوته كما كانت قبل أن يولد وفي الامكنة البعيدة فتبين أن قول هؤلاء هو أنه لا يعلم ما يستدل به على نبوة الانبياء وهذا اذا انضم الى أصلهم وهو أن الرب يجوز عليه فعل كل شيء صارا شاهدين بأنه على أصلهم لا دليل على النبوة اذ كان عندهم لا فرق بين فعل من الرب وفعل وعندهم لا فرق بين جنس وجنس في اختصاصه بالانبياء به فليس في أجناس المعقولات ما يكون آية تختص بالانبياء فيستلزم نبوتهم بل ما كان لهم قد يكون عند غيرهم حتى السحرة والكهان وهم أعداؤهم وفرقوا بعدم المعارضة وهذا فرق غير معلوم وهو مجرد دعوى قالوا لو ادعى الساحر والكاهن النبوة لكان الله ينسيه الكهانة والسحر ولكان له من يعارضه لان السحر والكهانة هي معجزة عندهم وفي هذه الاقوال من الفساد عقلا وشرعا ومن المناقضة لدين الاسلام وللحق ما يطول وصفه ولا ريب أن قول من أنكر وجود هذه الخوارق أقل فسادا من هذا ولهذا يشنع عليهم ابن حزم وغيره بالشناعات العظيمة ولهذا يقيم أكابر فضلائهم مدة يطلبون الفرق بين المعجزات والسحر فلا يجدون فرقا اذ لا فرق عندهم في نفس الامر والتحقيق أن آيات الانبياء مستلزمة للنبوة ولصدق الخبر بالنبوة فلا يوجد إلا مع الشهادة للرسول بأنه

رسول لا يوجد مع التكذيب بذلك ولا مع عدم ذلك البتة وليست من جنس ما يقدر عليه لا الانس ولا الجن فان ما يقدر عليه الانس والجن يفعلونه فلا يكون مختصا بالانبياء ومعنى كونها خارقة للعادة أنها لا توجد إلا للنبوة لا مرة ولا أقل ولا أكثر فالعادة هنا تثبت بمرة والقاضي أبو بكر يقول ان ما فعل مرات يسيرة لا يكون معتادا وفي كلامه في هذا الباب من الاضطراب ما يطول وصفه وهو رأس هؤلاء الذين اتبعوه كالقاضي أبي يعلى وأبي المعالي والرازي والآمدي وغيرهم وما يأتي به السحرة والكهان يمتنع أن يكون آية لنبي بل هو آية على الكفر فكيف يكون آية للنبوة وهو مقدور للشياطين وآيات الانبياء لا يقدر عليها جن ولا إنس وآيات الانبياء آيات لجنسها فحيث كانت آية لله تدل على مثل ما أخبرت به الانبياء وإن شئت قلت هي آيات لله يدل بها على صدق الانبياء تارة وعلى غير ذلك تارة وما يكون للسحرة والكهان لا يكون من آيات الانبياء بل آيات الانبياء مختصة بهم وأما كرامات الاولياء فهي أيضا من آيات الانبياء فإنها إنما تكون لمن تشهد لهم بالرسالة فهي دليل على صدق الشاهد لهم بالنبوة وأيضا فإن كرامات الاولياء معتادة من الصالحين ومعجزت الانبياء فوق ذلك فانشقاق القمر والإتيان بالقرآن وانقلاب العصا حية وخروج الدابة من صخرة لم يكن مثله للاولياء وكذلك خلق الطير من الطين ولكن آياتهم صغار وكبار كما قال تعالى فأراه الآية الكبرى فلله تعالى آية كبيرة وصغيرة وقال عن نبيه محمد لقد رأى من آيات ربه الكبرى فالآيات الكبرى مختصة بهم وأما الآيات الصغرى فقد تكون للصالحين مثل تكثير الطعام فهذا قد وجد لغير واحد من الصالحين لكن لم يوجد كما وجد للنبي صلى الله عليه و سلم أنه أطعم الجيش من شيء يسير فقد يوجد لغيرهم من جنس ما وجد لهم لكن لا يماثلون في قدره فهم مختصون إما بجنس الآيات فلا يكون لمثلهم كالإتيان بالقرآن وانشقاق القمر وقلب العصا حية وانفلاق البحر وأن يخلق من الطين كهيئة الطير وإما بقدرها وكيفيتها كنار الخليل فإن أبا مسلم الخولاني وغيره صارت النار عليهم بردا وسلاما لكن لم تكن مثل نار ابراهيم في عظمتها كما وصفوها فهو مشارك للخليل في جنس الآية كما هو مشارك في جنس الايمان محبة

الله وتوحيده ومعلوم أن الذي امتاز به الخليل من هذا لا يماثله فيه أبو مسلم وأمثاله وكذلك الطيران في الهواء فإن الجن لا تزال تحمل ناسا وتطير بهم من مكان إلى مكان كالعفريت الذي قال لسليمان أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك لكن قول الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك لا يقدر عليه العفريت ومسرى النبي صلى الله عليه و سلم الى بيت المقدس ليريه الله من آياته الكبرى أمر اختص به بخلاف من يحمل من مكان الى مكان لا ليريه الله من آياته الكبرى أمر اختص به ولا يعرج الى السماء فهؤلاء كثيرون وهذا مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود هنا أن هؤلاء حقيقة قولهم انه ليس للنبوة آية تختص بها كما أن حقيقة قولهم إن الله لا يقدر أن يأتي بآية تختص بها وإنه لو كان قادرا على ذلك لم يلزم أن يفعله بل ولم يفعله فهذان أمران متعلقان بالرب اذ هو عندهم لا يقدر أن يفعل شيئا لشيء والآية انما تكون آية اذا فعلها لتدل ولو قدر أنه قادر فهم يجوزون عليه فعل كل شيء فيمكن أنه لم يجعل على صدق النبي دليلا وأما الذي ذكرناه عنهم هنا فإنه يقتضي أنه لا دليل عندهم على نبوة النبي بل كل ما قدر دليلا فإنه يمكن وقوعه مع عدم النبوة فلا يكون دليلا فهم هناك حقيقة قولهم انا لا نعلم على النبوة دليلا وهنا حقيقة قولهم إنه لا دليل على النبوة ولهذا كان كلامهم في هذا الباب منتهاه التعطيل ولهذا عدل الغزالي وغيره عن طريقهم في الاستدلال بالمعجزات لكون المعجزات على أصلهم لا تدل على نبوة نبي وليس عندهم في نفس الامر معجزات وإنما يقولون المعجزات علم الصدق لانها في نفس الامر كذلك وهم صادقون في هذا لكن على اصلهم ليست دليلا على الصدق ولا دليل على الصدق فآيات الأنبياء تدل على صدقهم دلالة معلومة بالضرورة تارة وبالنظر أخرى وهم قد يقولون إنه يحصل العلم الضروري بأن الله صدقه بها وهي الطريقة التي سلكها أبو المعالي والرازي وغيرهما وهي طريقة صحيحة في نفسها لكن تناقض بعض أصولهم فالقدس ليس في آيات الأنبياء لكن في الأقوال الفاسدة التي تنافض ما هو معلوم بالضرورة عقلا وما هو أصل الايمان شرعا ومن عرف تناقضهم في الاستدلال يعرف أن الآفة في فساد قولهم لا في جهة صحة الدلالة فقد

يظهر بلسانه ما ليس في قلبه كالمنافقين الذين يقولون في أول سورة المنافقون نشهد أنك لرسول الله والله يعلم أنك لرسوله والله يشهد أن المنافقين لكاذبون ولقد صدق الإمام أحمد في قوله علماء الكلام زنادقة وطريقة القرآن فيها الهدى والنور والشفاء سماها آيات وبراهين فآيات الانبياء مستلزمة لصدقهم وصدق من صدقهم وشهد لهم بالنبوة والآيات التي يبعث الله بها انبياء قد يكون مثلها لأنبياء أخر مثل إحياء الموتى فقد كان لغير واحد من الأنبياء وقد يكون إحياء الموتى على يد أتباع الانبياء كما قد وقع لطائفة من هذه الامة ومن أتباع عيسى فإن هؤلاء يقولون نحن إنما أحيى الله الموتى على أيدينا لاتباع محمد أو المسيح فبايماننا بهم وتصديقنا لهم أحيى الله الموتى على أيدينا فكان إحياء الموتى مستلزما لتصديقه عيسى ومحمدا لم يكن قط مع تكذيبهما فصار آية لنبوتهم وهو أيضا آية لنبوة موسى وغيره من أنبياء بني اسرائيل الذين أحيى الله الموتى على أيديهم وليس مدلول الآيات هو مجرد دعواه أن الله أرسلني وإخباره عن نفسه بذلك لأن ذلك معلوم بالحس لمن سمعه وبالتواتر لمن لم يسمعه بل صدقه في هذا الخبر وهو ثبوت نبوته فالآية مستلزمة لصدقه وثبوت نبوته ومن أخبر غيره عن إرسال الله له وأتى هذا المخبر بآية كانت أيضا آية على صدق هذا المخبر وثبوت نبوة النبي فان من أخبر عن نبوة نبي من الانبياء وأتى بآية على صدقه في خبره كانت تلك آية ودليلا على نبوة النبي وأن إخبار المخبر بنبوته صدق بل كون غيره هو المخبر الآتي بالعلامة أبلغ ولهذا كانت من أعظم آيات النبي إخبار غيره من الانبياء بنبوته فإن قال آخر إنه كذب وأتى بمثل تلك الآية بطلت الدلالة المعينة ولا يلزم من بطلان دليل معين بطلان سائر الأدلة فان الدليل يجب طرده ولا يجب عكسه ولو جاء من قال إن فلانا أرسلني ومعه شخص فصدقه وقال إنه أمرني أن أخبركم بأني رسوله بعلامة كيت وكيت لكان ذلك أبلغ وكل من علم صدق النبي فقد صدقه أنه أن يعلم الناس أن الله يشهد له بالنبوة ويحكم بينه وبين منازعيه بتصديقه وتكذيبهم وذلك بآياته وعلاماته يبين بها أنه مصدق للرسول وقد يصدقه

بكلامه الذي قد بين أنه كلامه فكونه في نفسه آية وعلامة إذ كان لا يمكن الجن والانس أن يأتوا بمثله فهو من أعظم الآيات وبغير ذلك فالآيات كلها شهادة بالنبوة وإخبار بها وتصديق للمخبر فهي تستلزم ثبوت النبوة في نفسها وأن صاحب الآيات قد نبأه الله وأوحى اليه كما أوحي إلى غيره من الانبياء وتستلزم أيضا صدق الإخبار بأنه نبي فهو اذا قال إني نبي كان صادقا وكذلك كل من أخبر بنبوته فإنه يكون صادقا وثبوت الشيء وصدق من أخبر به متلازمان فكل حق ثابت إذا أخبر به مخبر فهو صادق وكل خبر صادق فقد تحقق مخبره فالخبر الصادق هو ومخبره متلازمان يلزم من صدق الخبر تحقق مخبره ومن تحقق الشيء صدق المخبر به بخلاف الكذب فإنه ومخبره ليسا متلازمين بل الخبر الكذب يوجد مع انتفاء مخبره والمخبر به يتحقق على صفة خلاف ما في الخبر الكاذب فلهذا كانت الآيات والعلامات والدلائل ونحو هذا كما تدل على المدلول وأنه حق ثابت فهي أيضا تدل على صدق من أخبر به كائنا من كان فمن قال اني ابن فلان وقامت بينة بنسبة فهي تثبت صدقه وصدق كل من قال هو ابن فلان وكذلك البينة التي تشهد برؤية الهلال هي تشهد بصدق كل من أخبر بطلوعه وكذلك كل دليل دل على مدلول فهو دليل على صدق كل من أخبر بذلك المدلول عليه وكذلك اذا قال الصادق ان الله أرسلني فهذا خبر منه عن ارسال الله فالآية الدالة على صدقه تدل على صدق كل من قال ان الله أرسله فالآيات الدالة على صدق محمد اذا قال ما أمره الله به في قوله قل يا أيها الناس إني رسول الله اليكم جميعا هي دالة على صدق كل من قال أشهد أن محمدا رسول الله فجميع آياته وآيات الانبياء الذين أخبروا بنبوته كموسى والمسيح وأنبياء بني اسرائيل وغيرهم كلها آيات ومعجزات تبين صدق كل واحد من المؤمنين به الذين يقول أحدهم أشهد أن محمدا رسول الله سواء قالها مجردة أو قالها في صلاته أو عقب طهارته أو متى ما قالها ليست آيات النبوة دالة على أنه وحده هو الصادق في قوله اني رسول الله اليكم جميعا بل الآيات تصدقه وتصدق كل من شهد له بالرسالة وهكذا سائر الادلة الدالة على مدلول فإنها تدل على صدق من أخبر بذلك المدلول عليه من جميع الخلق وقد عرف أن الدليل لا بد أن

يكون مختصا بالمدلول عليه مستلزما له فآيات الانبياء وسائر أنواع الآيات والأدلة لا تكون مع نقيض المدلول عليه أي مع عدمه فإنها اذا كانت مع وجوده وعدمه لم تكن دالة على وجوده ولا على عدمه ولم يكن الاستدلال بها على وجوه أولى به من الاستدلال على عدمه كالامور المعتادة التي توجد مع الصادق والكاذب كطلوع الشمس وغروبها فإن هذه لا تدل على صدق أحد ولا كذبه وكذلك خوارق السحرة والكهان هي معتادة مع صدق أحدهم ومع كذبه فلا تدل على الصدق اذ كان كذبهم أكثر من صدقهم كالذين يخبرون بكلمة صدق وعشر كذب قال تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون فكيف إذا كان مع الصدق مائة كذبة كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لما سئل عن الكهان كما روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت سأل ناس رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الكهان فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ليسوا بشيء قالوا يا رسول الله فانهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم تلك الكلمة من الحق يحفظها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة فيلزم من هذا أن آيات الانبياء لا يكون مثلها لمن يكذبهم وهو الذي يخبر بكذبهم والناس فيهم رجلان إما مصدق وإما مكذب فالمكذب لهم يمتنع أن يأتي بمثل آياتهم ومتى كذب مكذب لمدعي النبوة وأتى بمثل آيته سواء دل على أن تلك ليست من آيات الانبياء ولا تدل على صدق النبي لكن لا يلزم أن تدل على كذبه فإن الدليل المعين إذا بطل لا يستلزم انتفاء المدلول عليه فقد تكون له آيات أخر تدل على نبوته وصدق الصادق وكذب الكاذب يعرف بوجوه كثيرة جدا وكذلك النبوة لها آثار مستلزمة لها بدون إخبار النبي بانه نبي وكذب المتنبي الذي يزين له الشيطان أن يقول إنه نبي له آثار تستلزم انتفاء النبوة وأنه كاذب إما عمدا وإما أن الشيطان قد لبس عليه فإن الخبر عند كثير من الناس ينقسم الى صدق وكذب فالمطابق هو الصدق والمخالف هو الكذب وأثبت بعضهم واسطه بين

الصدق والكذب وهو مالم يتعمده الانسان قال فهذا ليس بصدق لأنه غير مطابق وليس بكذب لأن صاحبه لم يتعمد الكذب بل أخطأ ولس كل من أخطأ يقال انه كاذب كالناسي في الصلاة إذا قال صليت أربعا ولم يصل إلا ثلاثا كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لما قال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت فقال لم أنس ولم تقصر فقال بلى قد نسيت فقال أكما يقول ذو اليدين قالوا نعم والذي يدل عليه القرآن أن كل من تكلم بلا علم فأخطأ فهو كاذب كالذين حرموا وحللوا وأوجبوا وان كان الشيطان قد زين لهم ذلك وأوهمهم أنه حق ولهذا قال قل هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم وهي تتنزل على من يظن أنه يصدقها قال تعالى ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون وقال تعالى وقال الشيطان لما قضى الامر ان الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وكذلك الذي تدل عليه الشرع أن كل من أخبر بخبر ليس له أن يخبر به وهو غير مطابق فإنه يسمى كاذبا وإن كان لم يتعمد الكذب كقول النبي صلى الله عليه و سلم لما قيل له ان أبا السنابل قال ما أنت بناكحة حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر فقال كذب من قالها إن له لأجرين أنه جاهد مجاهد ولما قال سعد بن عبادة في يوم الفتح اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة وحكاه أبو سفيان لرسول الله صلى الله عليه و سلم قال كذب سعد ولكن هذا يوم تعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة وكذلك قال عبادة بن الصامت لما قيل له إن أبا محمد يقول الوتر واجب فقال كذب أبو محمد وكذلك ابن عباس لما قيل له إن نوفا يقول إن موسى بني اسرائيل ليس هو موسى الخضر فقال كذب نوف وأيضا من أخبر الناس خبرا طلب أن يصدقوه فيه وقد نهوا عن تصديقه الا ببينة فإنه أيضا كاذب كما قال تعالى في القرآن لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون وقال في القاذفين فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون الا الذين تابوا من بعد

ذلك وأصلحوا فان الله غفور رحيم وكذلك أن القاذف وإن كان قد رأى الفاحشة بعينه لكنه إذا أخبر بها الناس فهو يطلب منهم أن يصدقوه بمجرد خبره وليس لهم ذلك بل ليس لهم أن يصدقوه حتى يأتي بأربعة شهداء وهو لا يخبر الناس ليكذبوه بل يخبرهم ليعتقدوا ثبوت ما أخبرهم به ويعتقدوا أن المقذوف قد فعل الفاحشة وهم ليس لهم أن يقولوا ذلك إلا بأربعة شهداء فإذا لم يأت بأربعة شهداء فهو عند الله كاذب لأنه أخبر الناس بأن هذا فعل الفاحشة وقال خبرا طلب به تصديقهم وأن يظهر أن هذا فعلها فحقيقية خبره أن هذا فعل فاحشة ظاهرة يرتب عليها هذا بل ان كان فعل شيئا فقد فعله سرا لم يعلم به الناس وقد علم أن الذنب إذا كتم لم يضر الا صاحبه ولكن إذا أعلن فلم ينكر ضر الناس وهذا لم يعلنه وأكثر المسلمين إذا فعل أحدهم فاحشة باطنة تاب منها ومن إعلانها يتشبه الناس بعضهم ببعض في ذلك فلهذا نهى الله عن فعلها وعن التكلم بها صدقا وغير صدق فإنها اذا فعلت وكتمت خف أمرها وإذا أظهرت كان فيها مفاسد كثيرة قال النبي صلى الله عليه و سلم من ابتلي من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله فإن من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله وقال كل أمتي معافى الا المجاهدين وإن من المهاجدة ان يبيت الرجل على الذنب قد ستره الله فيصبح يقول يا فلان فعلت البارحة كذا وكذا فقد نهى الله تعالى صاحبها أن يظهرها ويعلنها فكيف القاذف بخلاف ما اذا أقر بها عند ولي أمر ليقيم عليه الحد أو يشهد بها نصاب تام لإقامة الحد فذاك فيه منفعة وصلاح وقد يخبر بها بعض الناس سرا لمن يعلمه كيف يتوب ويستفتيه ويستشيره فيما يفعل فعلى ذلك المفتى والمشير أن يكتم عليه ذلك ولا يشيع الفاحشة وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا أن الناس في من قال اني رسول قسمان إما مصدق وإما غير مصدق فمن ليس بمصدق لا يمكنه أن يأتي بمثل آيات الانبياء سواء قال انه كاذب أو توقف في التصديق والتكذيب وكذلك المؤمنون أتباع الانبياء اذا أتوا بآية كانت دليلا على نبوة النبي الذي اتبعوه فلا يمكن من لا يصدق النبي أن يعارضهم ومتى عارضهم لم تكن من آيات الانبياء ولهذا كان أبو مسلم لما قال له الاسود العنسي أتشهد أني رسول الله قال ما أسمع قال أتشهد أن

محمدا رسول الله قال نعم فألقاه في النار فصارت عليه بردا وسلاما فكرامات الصالحين هي مستلزمة لصدقهم في قولهم ان محمد رسول ولثبوت نبوته فهي من جملة آيات الانبياء وآياتهم وما خصهم الله به لا يكون لغير الانبياء واذا قال القائل معجزات الانبياء وآياتهم وما خصهم الله به فهذا كلام مجمل فانه لا ريب أن الله خص الانبياء بخصائص لا توجد لغيرهم ولا ريب ان من آياتهم ما لا يقدر ان يأتي به غير الانبياء بل النبي الواحد له آيات لم يأت بها غيره من الانبياء كالعصا واليد لموسى وفرق البحر فإن هذا لم يكن لغير موسى وكانشقاق القمر والقرآن وتفجير الماء من بين الأصابع وغير ذلك من الآيات التي لم تكن لغير محمد من الانبياء وكالناقة التي لصالح فإن تلك الآية لم يكن مثلها لغيره وهو خروج ناقة من الارض بخلاف احياء الموتى فانه اشترك فيه كثير من الانبياء بل ومن الصالحين وملك سليمان لم يكن لغيره كما قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فطاعة الجن والطير وتسخير الريح تحمله من مكان الى مكان له ولمن معه لم يكن مثل هذه الآية لغير سليمان وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما من نبي من الانبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة وهو من حين أتى بالقرآن وهو بمكة يقرأ على الناس قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا فقد ظهر أن من آيات الانبياء ما يختص به النبي ومنها ما يأتي به عدد من الانبياء ومنها ما يشترك فيه الانبياء كلهم ويختصون به وهو الاخبار عن الله بغيبه الذي لا يعلمه الا الله قال عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم ان قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا لكن ما يظهر على المؤمنين بهم من الآيات بسبب الايمان بهم فيه قولان قال طائفة ليس ذلك من آياتهم وهذا قول من يقول من شرط المعجزة أن تقارن دعوى النبوة لا تقدم عليها ولا تتأخر عنها كما قاله هؤلاء الذين يجعلون خاصة المعجزة التحدي بالمثل وعدم المعارضة

ولا تكون إلا مع الدعوى كما تقدم وهو قول قد عرف فساده من وجوه والقول الثاني وهو القول الصحيح أن آيات الأولياء هي من جملة آيات الانبياء فإنها مستلزمة لنبوتهم ولصدق الخبر بنبوتهم فإنه لولا ذلك لما كان هؤلاء أولياء ولم تكن لهم كرامات لكن يحتاج أن يفرق بين كرامات الأولياء وبين خوارق السحرة والكهان وما يكون للكفار والفساق وأهل الضلال والغي بإعانة الشياطين لهم كما يفرق بين ذلك وبين آيات الانبياء والفروق بين ذلك كثيرة كما قد بسط في غير هذا الموضع
فصل فقد تبين أن من آيات الانبياء ما يظهر مثله على اتباعهم ويكون ما يظهر على أتباعهم من آياتهم فان ذلك مختص بمن يشهد بنبوتهم فهو مستلزم له لا تكون تلك الآيات الا لمن أخبر بنبوتهم وإذا لم يخبر بنبوتهم لم تكن له تلك الآيات وهذا حد الدليل وهو أن يكون مستلزما للمدلول عليه فإذا عدم المدلول عليه عدم الدليل ولهذا من السلف من يأتي بالآيات دلالة على صحة الاسلام وصدق الرسول كما ذكر أن خالد بن الوليد شرب السم لما طلب منه آية ولم يضره
فصل في معنى خرق العادة وأن الاعتبار أن تكون خارقة لعادة غير الانبياء مطلقا بحيث تختص بالانبياء فلا توجد الا مع الإخبار بنبوتهم وأما إخبار الكهان ببعض الامور الغائبة لإخبار الشياطين لهم بذلك وسحر السحرة بحيث يموت الانسان من السحر أو يمرض ويمنع من النكاح ونحو ذلك مما هو باعانة الشياطين فهذا أمر موجود في العالم كثير معتاد يعرفه الناس ليس هذا من خرق العادة بل هو من العجائب الغريبة التي يختص بها بعض الناس كما يختص قوم بخفة اليد والشعبذة وقوم بالسباحة الغريبة حتى يضطجع أحدهم على الماء وكما يختص قوم بالقيافة حتى يباينوا بها غيرهم وكما يختص قوم بالعيافة ونحو ذلك مما هو موجود ولهذا كان مكذبو الرسل يجعلون آياتهم من جنس السحر وهذا مستقر في نفوسهم أن الساحر ليس برسول ولا نبي كما في قصة موسى لما قالوا ان هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحرة فماذا تأمرون قال تعالى كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون

وهذا لحيرتهم وضلالتهم تارة ينسبون إلى الجنون وعدم العقل وتارة الى الحذق والخبرة التي ينال بها السحر فان السحر لا يقدر عليه ولا يحسنه كل أحد لكن العجائب والخوارق المقدورة للناس منها ما سببه من الناس بحذقهم في ذلك الفن كما يحذق الرجل في صناعة من الصناعات وكما يحذق الشاعر والخطيب والعالم في شعره وخطابته وعلمه وكما يحذق بعض الناس في رمي النشاب وحمل الرمح وركوب الخيل فهذه كلها قد يأتي الشخص منها بما لا يقدر عليه أهل البلد بل أهل الاقليم لكنها مع ذلك مقدورة مكتسبة معتاده بدون النبوة قد فعل مثلها ناس آخرون قبلهم أو في مكان آخر فليست هي خارقة لعادة غير الانبياء مطلقا بل توجد معتادة لطائفة من الناس وهم لا يقولون انهم أنبياء ولا يخبر أحد عنهم بأنهم أنبياء ومن هنا دخل الغلط على كثير من الناس فإنهم لما رأوا آيات الانبياء خارقة للعادة لم يعتد الناس مثلها اخذوا مسمى خرق العادة ولم يميزوا بين ما يختص به الانبياء ومن أخبر بنبوتهم وبين ما يوجد معتادا لغيرهم واضطربوا في مسمى هذا الاسم كما اضطربوا في مسمى المعجزات ولهذا لم يسمها الله في كتابه إلا آيات وبراهين فإن ذلك اسم يدل على مقصودها ويختص بها لا يقع على غيرها لم يسمها معجزة ولا خرق عادة وان كان ذلك من بعض صفاتها فهي لا تكون آية وبرهانا حتى تكون قد خرقت العادة وعجز الناس عن الإتيان بمثلها لكن هذا بعض صفاتها وشرط فيها وهو من لوازمها لكن شرط الشيء ولازمه قد يكون أعم منه وهؤلاء جعلوا مسمى المعجزة وخرق العادة هو الحد المطابق لها طردا وعسكا كما أن بعض الناس يجعل اسمها أنها عجائب وآيات الانبياء اذا وصفت بذلك فينبغي أن تقيد بما يختص بها فيقال العجائب التي أتت بها الانبياء وخوارق العادات والمعجزات التي ظهرت على أيديهم أو التي لا يقدر عليها البشر أو لا يقدر عليها الانس والجن أو لا يقدر عليها الا الله بمعنى أنه لا يقدر عليها أحد بحيلة واكتساب كما يقدرون على السحر والكهانة فبذلك تتميز آياتهم عما ليس من آياتهم وإلا فلفظ العجائب قد يدخل فيه بعض الناس الشعبذة ونحوها والتعجب في اللغة يكون من أمر خرج عن نظائره وما خرج عن نظائره فقد خرق تلك العادة المعينة في نظائره فهو أيضا خارق للعادة وهذا شرط في آيات الانبياء أن

لا يكون لها نظير لغير الانبياء ومن يصدقهم فإذا وجد نظيرها من كل وجه لغير الانبياء ومن شهد لهم بالنبوة لم تكن تلك من آياتهم بل كانت مشتركة بين من يخبر بنبوتهم ومن لا يخبر بنبوتهم كما يشترك هؤلاء وهؤلاء في الطب والصناعات وأما السحر والكهانة فهو من إعانة الشياطين لبني آدم فإن الكاهن يخبره الجن وكذلك الساحر انما يقتل ويمرض ويصعد في الهواء ونحو ذلك باعانة الشياطين له فأمورهم خارجة عما اعتاده الانس باعانة الشياطين لهم قال تعالى ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس وقال أوليائهم من الانس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله فالجن والانس قد استمتع بعضهم ببعض فاستخدم هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء في أمور كثيرة كل منهم فعل للآخر ما هو غرضه ليعينه على غرضه والسحر والكهانة من هذا الباب وكذلك ما يوجد لعباد الكفار من المشركين وأهل الكتاب ولعباد المنافقين والملحدين من المظهرين للاسلام والمبتدعين منهم كلها باعانة الجن والشياطين لكن الشياطين تظهر عند كل قوم بما لا ينكرونه فإذا كان القوم كفارا لا ينكرون السحر والكهانة كما كانت العرب وكالهند والترك المشركين ظهروا بهذا الوصف لأن هذا معظم عند تلك الأمة وإن كان هذا مذموما عند أولئك كما قد ظهر ذم هؤلاء عند أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى أظهرته الشياطين فيمن يظهر العبادة ولا يكون مخلصا لله في عبادته متبعا للانبياء بل يكون فيه شرك ونفاق وبدعة فتظهر له هذه الامور التي ظهرت للكهان والسحرة حتى يظن أولئك أن هذه من كرامات الصالحين وأن ما هو عليه هذا الشخص من العبادة هو طريق أولياء الله وإن كان مخالفا لطريق الانبياء حتى يعتقد من يعتقد أن لله طريقا يسلكها اليه أولياؤه غير الايمان بالانبياء وتصديقهم وقد يعتقد بعض هؤلاء أن في هؤلاء من هو أفضل من الانبياء وحقيقة الامر أن هؤلاء عارضوا الانبياء كما كانت تعارضهم السحرة والكهان كما عارضت السحرة لموسى وكما كان كثير من المنافقين يتحاكمون إلى بعض الكهان دون النبي صلى الله عليه و سلم ويجعلونه نظير النبي وكان في العرب عدة من هؤلاء وكان بالمدينة منهم أبو

برزة الاسلمي قبل أن يسلم كان كاهنا وقد قيل ان الذي أنزل الله تعالى فيه الم تر الى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وقد ذكر قصته غير واحد من المفسرين ولما كان الذين يعارضون آيات الانبياء من السحرة والكهان لا يأتون بمثل آياتهم بل يكون بينهما شبه كشبه الشعر بالقرآن ولهذا قالوا في النبي إنه ساحر وكاهن وشاعر مجنون قال تعالى انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا فجعلوا له مثلا لا يماثله بل بينهما شبه مع وجود الفارق المبين وهذا هو القياس الفاسد فلما كان الشعر كلاما له فواصل ومقاطع والقرآن آيات له فواصل ومقاطع قالوا شاعر ولكن شتان وكذلك الكاهن يخبر ببعض المغيبات ولكن يكذب كثيرا وهو يخبر بذلك عن الشياطين وعليه من آثارهم ما يدل على أنه أفاك أثيم كما قال تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون ثم قال والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون فذكر سبحانه الفرق بين النبي وبين الكاهن والشاعر وكذلك الساحر لما كان يتصرف في العقول والنفوس بما يغيرها وكان من سمع القرآن وكلام الرسول خضع له عقله ولبه وانقادت له نفسه وقلبه صاروا يقولون ساحر وشتان وكذلك مجنون لما كان المجنون يخالف عادات الكفار وغيرهم لكن بما فيه فساد لا صلاح والانبياء جاءوا بما يخالف عادات الكفار لكن بما فيه صلاح لا فساد قالوا مجنون قال تعالى كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون فتارة يصفونه بغاية الحذر والخبرة والمعرفة فيقولون ساحر وتارة بغاية الجهل والغباوة والحمق فيقولون مجنون وقد ضلوا في هذا وهذا كما قال تعالى انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا فهم بمنزلة السائر في الطريق وقد ضل عنها يأخذ يمينا وشمالا ولا يهتدي الى السبيل التي تسلك والسبيل التي يجب سلوكها قول الصدق والعمل بالعدل

والكهانة والسحر يناقض النبوة فإن هؤلاء تعينهم الشياطين تخبرهم وتعاونهم بتصرفات خارقة ومقصودهم الكفر والفسوق والعصيان والانبياء تعينهم الملائكة هم الذين يأتونهم فيخبرونهم بالغيب ويعاونونهم بتصرفات خارقة كما كانت الملائكة تعين النبي صلى الله عليه و سلم في مغازية مثل يوم بدر أمده الله بألف من الملائكة ويوم حنين قال ويوم حنين اذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم وقال تعالى ان لا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وقال تعالى اذ يوحي ربك الى الملائكة إني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب وقد بين سبحانه أن الذي جاء بالقرآن ملك كريم ليس بشيطان فقال إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالافق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون ولما كانت الانبياء مؤيدة بالملائكة والسحرة والكهان تقترن بهم الشياطين كان من الفروق التي بينهم الفروق التي بين الملائكة والشياطين والمتفلسفة الذين لم يعرفوا الملائكة والجن كابن سينا وأمثاله ظنوا أن هذه الخوارق من قوى النفس قالوا والفرق بين النبي والساحر أن النبي يأمر بالخير والساحر يأمر بالشر وجعلوا ما يحصل للممرور من هذا الجنس اذ لم يعرفوا صرع الجن للانسان وإن الجني يتكلم على لسان الانسان كما قد عرف ذلك الخاصة والعامة وعرفه علماء الأمة وأئمتها كما قد بسط في غير هذا الموضع والجهمية المجبرة الذين قالوا ان الله قد يفعل كل ممكن مقدور لا ينزهونه عن فعل شيء ويقولون انه يفعل بلا سبب ولا حكمة وهو الخالق بجميع الحوادث لم يفرقوا بين ما تأتي به الملائكة ولا ما تأتي به الشياطين بل الجميع يضيفونه الى الله على حد واحد ليس في ذلك حسن ولا قبيح عندهم حتى يأتي الرسول فقبل ثبوت

الرسالة لا يميزون بين شيء من الخير والشر والحسن والقبيح فلهذا لم يفرقوا بين آيات الانبياء وخوارق السحرة والكهان بل قالوا ما يأتي به السحرة والكهان يجوز أن يكون من آيات الانبياء وما ياتي به الانبياء يجوز أن يظهر على أيدي السحرة والكهان لكن ان دل على انتفاء ذلك نص أو إجماع نفوه مع أنه جائز عندهم أن يفعله الله لكن بالخبر علموا أنه لم يفعله فهؤلاء لما رأوا ما جاءت به الانبياء وعلموا أن آياتهم تدل على صدقهم وعلموا ذلك اما بضرورة وإما بنظر واحتاجوا الى بيان دلائل النبوة على أصلهم كان غاية ما قالوا أنه كل شيء يمكن أن يكون آية للنبي بشرط أن يقترن بدعواه وبشرط أن يتحدى بالاتيان بالمثل فلا يعارض ومعنى التحدي بالمثل أن يقول لمن دعاهم ائتوا بمثله وزعموا أنه اذا كان هناك سحرة وكهان وكانت معجزته من جنس ما يظهر على أيديهم من السحر والكهانة فإن الله لا بد أن يمنعهم عن مثل ما كانوا يفعلونه وأن من ادعى منهم النبوة فانه يمنعه من تلك الخوارق أو يقيض له من يعارضه بمثلها فهذا غاية تحقيقهم وفيه من الفساد ما يطول وصفه وطاعة الجن والشياطين لسليمان صلوات الله عليه لم تكن من جنس معاونتهم للسحرة والكهان والكفار وأهل الضلال والغي ولم تكن الآية والمعجزة والكرامة التي أكرمه الله بها هي ما كانوا يعتادونه مع الانس فإن ذلك انما كان يكون في أمور معتادة مثل اخبارهم أحيانا ببعض الغائبات ومثل إمراضهم وقتلهم لبعض الانس كما أن الانسي قد يمرض ويقتل غيره ثم هم انما يعاونون الانس على الإثم والعدوان إذا كانت الاناسي من أهل الإثم والعدوان يفعلون ما تهواه الشياطين فتفعل الشياطين بعض ما يهوونه قال تعالى ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس وقال أوليائهم من الانس ربنا استمتع بعضنا ببعض وأما التسخير الذي سخروه لسليمان فلم يكن لغيره من الانبياء فضلا عمن ليس بنبي وقد سأل ربه ملكا لا ينبغي لاحد من بعده فقال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب قال تعالى فسخروا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الاصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير

حساب وقال تعالى ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره على الارض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا له حافظين وقال تعالى ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلناله عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل دواد شكرا وقليل من عبادي الشكور فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين وكذلك ما ذكره من قول العفريت له أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك فهذه الطاعة من التسخبر بغير اختيارهم في مثل هذه الاعمال الظاهرة العظيمة ليس مما فعلته بأحد من الانس وكان ذلك بغير أن يفعل شيئا مما يهوونه من العزائم والاقسام والطلاسم الشركية كما يزعم الكفار أن سليمان سخرهم بهذا فنزهه الله عن ذلك بقوله واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وأما طاعة الجن لنبينا وغيره من الرسل كموسى فهذا نوع آخر فان هذا طاعتهم فيما أمرهم الله به من عبادته وطاعته كطاعة الانس لنبينا حيث أرسل الى الطائفتين فدعاهم الى عبادة الله وحده وطاعته ونهاهم عن معصيته التي بها يستحقون العذاب في الآخرة وكذلك الرسل دعوهم إلى ذلك وسليمان منهم لكن هذا انما ينتفع به منهم من آمن طوعا ومن لم يؤمن فإنه يكون بحسب شريعة ذلك الرسول هل يترك حتى يكون الله هو الذي ينتقم منه أو يجاهد وسليمان كان على شريعة التوراة واستخدامه لمن لم يؤمن منهم هو مثل استخدام الاسير الكافر فحال نبينا مع الجن والانس أكمل من حال سليمان وغيره فإن طاعتهم لسليمان كانت طاعة ملكية فيما يشاء وأما طاعتهم لمحمد فطاعة نبوة ورسالة فيما يأمرهم به من عبادة الله وطاعة الله واجتناب معصية الله فان سليمان كان نبيا ملكا ومحمد صلى الله عليه و سلم كان عبدا رسولا مثل ابراهيم وموسى وسليمان مثل داود ويوسف وغيرهما مع أن داود

وسليمان ويوسف هم رسل أيضا دعوا إلى توحيد الله وعبادته كما أخبر الله أن يوسف دعا أهل مصر لكن بغير معاداة لمن لم يؤمن ولا إظهار مناوأة بالذم والعيب والطعن لما هم عليه كما كان نبينا أول ما انزل عليه الوحي وكانت قريش اذ ذاك تقره ولا تنكر عليه إلى أن أظهر عيب آلهتهم ودينهم وعيب ما كانت عليه آباؤهم وسفه أحلامهم فهنالك عادوه وآذوه وكان ذلك جهادا باللسان قبل أن يؤمر بجهاد اليد قال تعالى ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا وكذلك موسى مع فرعون أمره أن يؤمن بالله وأن يرسل معه بني إسرائيل وان كره ذلك وجاهد فرعون بالزامه بذلك بالآيات التي كان الله يعاقبهم بها إلى أن أهلكه الله وقومه على يديه
فصل فالذين سموا هذه الآيات خوارق العادات وعجائب ومعجزات اذا جعلوا ذلك شرطا فيها وصفة لازمة لها بحيث لا تكون الآيات الا كذلك فهذا صحيح وإن كانت هذه الامور قد تجعل أمرا عاما فتكون متناولة لآيات الانبياء وغيرها كالحيوان الذي ينقسم الى انسان وغير انسان وأما اذا جعلوا ذلك حدا لها وضابطا فلا بد أن يقيدوا كلامهم مثل أن يقولوا خوارق للعادات التي تختص الانبياء أو يقولوا خوارق عادات الناس كلهم غير الانبياء فإن آياتهم لا بد أن تخرق عادة كل أمة من الأمم وكل طائفة من الطوائف لا تختص آياتهم بخرق عادة بلد معين ولا من أرسلوا اليه بل تخرق عادة جميع الخلق إلا الانبياء فإنها اذا كانت معتادة للأنبياء مثل الخبر الصادق بغيب الله تعالى الذي لا يعرف إلا من جهتهم فما كان معتادا للانبياء دون غيرهم فهو من أعظم آياتهم وبراهينهم وإن كان معتادا لهم فإن الدليل هو ما يستلزم المدلول عليه فإذا لم يكن ذلك معتادا الا لنبي كان مستلزما للنبوة وكان من أتى به لا يكون إلا نبيا وهو المطلوب بل لو كان مستلزما للصدق ولا يأتي به الا صادق لكان المخبر عن نبوة نبي إما نبوة نفسه أو نبوة غيرها إذا كان كاذبا لم يحصل له مثل ذلك الدليل الذي هو مستلزم للصدق ولا يحصل أيضا لمن كذب بنبوة نبي صادق اذ هو أيضا كاذب وانما يحصل لمن أخبر بنبوة نبي صادق وحينئذ فيكون ذلك الدليل مستلزما للخبر الصادق بنبوة النبي وهذا هو المطلوب

فإن مدلول الآيات سواء سميت معجزات أو غيرها هو الخبر الصادق بنبوة النبي ومدلولها إخبار الله وشهادته بأنه نبي وأن الله أرسله فقول الله محمد رسول الله وقوله إني رسول الله إليكم وقول كل مؤمن انه رسول الله كل ذلك خبر عن رسالته وهذا هو مدلول الآيات وقد يكون مدلول الآيات نفس النبوة التي هي مخبر هذا الخبر ويكون الدليل مثل خبر من الأخبار وهذا من جنس الاول فما دل على نفس النبوة دل على صدق المخبر بها وما دل على صدق المخبر بها دل عليها وأما نفس إخبار الرب بالنبوة وإعلامه بها وشهادته بها قولا وعملا فهو إخبار منه بها وهو الصادق في خبره فإخباره هو دليل عليها فإنه لا يقول الا الحق ولا يخبر الا بالصدق وايضا فهو الذي أنشأ الرسالة وإرساله بكلامه قد يكون إنشاء للرسالة وقد يكون إخبارا عن إرساله كالذي يرسل رسولا من البشر قد يرسله والناس يسمعون فيقول له اذهب الى فلان فقل له كذا وكذا وقد يرسله بينه وبينه ثم يقول للناس إني قد أرسلته ويرسله بعلامات وآيات يعرف بها المرسل اليه صدقه وكذلك اذا وصفت بأنها معجزات فلا بد أن يعجز كل من ليس بنبي ولم يشهد للنبي بالنبوة فتعجز جميع المكذبين للرسول والشاكين في نبوته من الجن والانس وكذلك إذا قيل هي عجائب والعجب ما خرج عن نظيره فلم يكن له نظير فلا بد أن يكون من العجائب التي لا نظير لها أصلا عند غير الانبياء لا من الجن ولا من الانس فإذا كان ليس لها نظير في شيء آخر فهذا يؤيد أنها من خصائص الانبياء ومن آياتهم فهذا الموضع من فهمه فهما جيدا تبين له الفرقان في هذا النوع فإن كثيرا من الناس يصفها بأنها خوارق ومعجزات وعجائب ونحو ذلك ولا يحقق الفرق بين من يجب أن يخرق عادته ومعجزه ومن لا يجب أن يكون في حقه كذلك فالواجب أن يخرق عادة كل من لم يقر بنبوة الانبياء فلا يكون لمكذب بنبوتهم ولا لشاك وقولنا يخرق عادتهم هو من باب العادة التي تثبت بمرة ليس من شرط فسادها أن تقع غير مرة مع انتفاء الشهادة بالنبوة بل متى وقعت مرة واحدة مع انتفاء الشهادة بالنبوة لم تكن مختصة بشهادة النبوة ولا بالنبوة فلا يجب أن تكون آية وقولنا ولا يجب أن

تخرق عادات الأنبياء ولم نقل ولا يجوز أن تخرق عادات الانبياء بل قد تكون خارقة أيضا لعادات الانبياء وقد خص بها نبي واحد مثل أكثر آيات الانبياء فإن كل نبي خص بآيات لكن لا يجب في آيات الانبياء ان تكون مختصة بنبي بل ولا يجب أن يختص ظهورها على يد النبي بل متى اختصت به وهي من خصائصه كانت آيه له سواء وجدت قبل ولادته أو بعد موته أو على يد أحد من الشاهدين له بالنبوة فكل هذه من آيات الانبياء والذين قالوا من شرط الآيات أن تقارن دعوى النبوة غلطوا غلطا عظيما وسبب غلطهم أنهم لم يعرفوا ما يخص بالآيات ولم يضبطوا خارق العادة بضابط يميز بينها وبين غيرها بل جعلوا ما للسحرة والكهان هو أيضا من آيات الانبياء إذا اقترن بدعوى النبوة ولم يعارضه معارض وجعلوا عدم المعارض هو الفارق بين النبي وغيره وجعلوا دعواه النبوة جزءا من الآية فقالوا هذا الخارق إن وجد مع دعوى النبوة كان معجزة وإن وجد بدون دعوى النبوة لم يكن معجزة فاحتاجوا لذلك أن يجعلوه مقارنا للدعوى قالوا والدليل على ذلك أن مثل آيات الانبياء يأتي في آخر الزمان إذا جاءت أشراط الساعة ومع ذلك ليس هو من آياتهم وكذلك قالوا في كرامات الأولياء وليس الامر كذلك بل أشراط الساعة هي من آيات الانبياء من وجوه منها أنهم أخبروا بها قبل وقوعها فإذا جاءت كما أخبروا كان ذلك من آياتهم ومنها أنهم أخبروا بالساعة فهذه الاشراط مصدقة لخبرهم بالساعة وكل من آمن بالساعة آمن بالانبياء وكل من كذب الانبياء كذب الساعة قال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الانس والجن يوحي بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغي اليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون وقال تعالى وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به فكل من آمن بالآخرة فقد آمن بالقرآن فاذا جاءت أشراط الساعة كانت دليلا على صدق خبرهم أن الساعة حق وأن القرآن حق وكان هذا من الآيات الدالة على صدق ما جاء به الرسول من القرآن وهو المطلوب فلا يوجد خرق عادة

لجميع الناس إلا وهو من آيات الانبياء وكذلك الذي يقتله الدجال ثم يحييه فيقوم فيقول أنت الأعور الكذاب الذي أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه و سلم والله ما ازددت فيك إلا بصيرة فيريد الدجال أن يقتله فلا يقدر على ذلك فهذا الرجل بعد أن قتل وقام يقول للدجال أنت الأعور الكذاب الذي أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه و سلم والله ما ازددت فيك بهذا القتل إلا بصيرة ثم يريد الدجال أن يقتله فلا يقدر عليه فعجزه عن قتله ثانيا مع تكذيب الرجل له بعد أن قتله وشهادته للرسول محمد صلى الله عليه و سلم بالرسالة هو من خوارق العادات التي لا توجد إلا لمن شهد للأنبياء بالرسالة وهذا الرجل هو من خيار أهل الأرض المسلمين فهذا الخارق الذي جرى فيه هو من خصائص من شهد لمحمد بالنبوة فهو من أعلام النبوة ودلائلها وكونه قتل أولا أبلغ في الدلالة فإن ذلك لم يزغه ولم يؤثر فيه وعلم أنه لا يسلط عليه مرة ثانية فكان هذا اليقين والإيمان مع عجزه عنه هو من خوارق الآيات ومعلوم أن قتله ممكن في العادة فعجزه عن قتله ثانيا هو الخارق للعادة ودل ذلك على أن إحياء الله له لم يكن معجزة للدجال ولا ليبين بها صدقه لكن أحياه ليكذب الدجال وليبين أن محمدا رسول الله وأن الدجال كذاب وأنه هو الأعور الكذاب الذي أنذر به النبي صلى الله عليه و سلم حيث قال ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الدجال وسأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لأمته إنه أعور وإن الله ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر يقرأه كل مؤمن قارئ وغير قارئ وفي بعض الأحاديث الصحيحة واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت فذكر لهم آيات ظاهرة يشترك فيها الناس تبين لهم كذبه فيما يدعيه من الربوبية اذ كان كثير من الناس يجوزون ظهور الإله في البشر النصارى وغير النصارى وما يأتي به الدجال إنما يحار فيه ويراه معارضا لآيات الانبياء من لم يحكم الفرقان فقوم يكذبون أن يأتي بعجيب ويقولون ما معه الا التمويه كما قالوا في السحر والكهانة مثل كثير من المعتزلة والظاهرية كابن حزم وقوم يقولون لما ادعى الإلهية كانت الدعوى معلومة البطلان فلم يظهر الخارق كما يقول ذلك القاضي أبو بكر وطائفة ويدعون أن النصارى اعتقدت في المسيح الإلهية لكونه أتى بالخوارق مع إقراره بالعبودية فكيف بمن يدعي الالهية ولكن هذا الخارق الذي يظهره

الله في هذا الرجل الصالح الذي طلب منه الدجال أن يؤمن به فلم يفعل بل كذبه وقال أنت الأعور الدجال الذي أخبرنا به النبي صلى الله عليه و سلم فقتله ثم أحياه الله فقال له أنت الأعورالدجال فكذبه قبل أن قتل وبعد ما أحياه الله وأراد الدجال قتله ثانية فلم يمكن فعجزه عن قتله ثانيا من أعظم الخوارق مع تكذيبه وأما إحياؤه مع تكذيبه له أولا وعجزه ثانيا عن قتله فليس بخارق فهذا إحياء معين معه دلائل معدودة تبين أنه من الآيات الدالة على صدق الرسول لا على صدق الدجال وتبين بذلك أن الآيات جميعها تدل على صدق الأنبياء فان آيات الله مرة أو مرتين أو ثلاثا لا يشترط في ذلك تكرار بل شرطها ان لا يكون لها نظير في العالم لغير الانبياء ومن يشهد بالنبوة ولم يوجد لغيرهم كان هذا دليلا على أنها مختصة بالانبياء ومن أطلق خرق العادة ولم يفسره ويبينه فلم يعرف خاصتها بل ظن أن ما وجد من السحر والكهانة خرق عادة أو ظن أن خرق العادة أن لا يعارضها معارض من المرسل اليهم وكثير من المتنبئين الكذابين أتوا بخوارق من جنس خوارق السحرة والكهان ولم يكن من أولئك القوم من أتى بمثلها لكن قد علم أن في العالم مثلها في غير ذلك المكان أو في غير ذلك الزمان وإنما الخارق كما قال في القرآن قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ولهذا قال في آيات التحدي أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين وقال في تلك الآية فان لم يستجيبوا لكم فاعلموا أن ما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فلم يكتف بعجز المدعوين بل أمرهم أن يدعوا الى معاونتهم كل من استطاعوا أن يدعوه من دون الله وهذا تعجيز لجميع الخلق الانس والجن والملائكة وقال في البقرة وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله ان كنتم صادقين أي ادعوا كل من يشهد لكم فيوافقكم على أن هذا ليس من عند الله ادعوا كل من لم يقر بأن هذا منزل من الله فهذا تعجيز لكل من لم يؤمن به ومن آمن به وبقي في ريب بل قد علم أنه من عند الله وهذا التحدي في البقرة وهي مدنية بعد يونس وهود ولهذا

قال وإن كنتم في ريب وهناك قال ام يقولون افتراه فهذا تحد لكل مرتاب وذاك تحد لكل مثل مكذب ولهذا قيل في ذلك من استطعتم فإنه أبلغ وقيل في هذا شهداءكم وقد قال بعض المفسرين شهداءكم آلهتكم وقال بعضهم من يشهد أن الذي جئتم به مثل القرآن والصواب أن شهداءهم الذين يشهدون لهم كما ذكره ابن اسحاق باسناده المعروف عن ابن عباس قال شهداءكم من استطعتم من أعوانكم على ما أنتم عليه وقال السدي عن أبي مالك شهداءكم من دون الله أي شركاءكم فإن هؤلاء هم الذين يتصور منهم المعارضة اذا كانوا في ريب منه أما من أيقن أنه من عند الله فانه يمتنع أن يقصد معارضته لعلمه بان الخلق عاجزون عن ذلك والله تعالى شهد لمحمد بما أظهره من الآيات فادعوا من يشهد لكم وهؤلاء يشهدون من دون الله لا يشهدون بما شهد الله به فتكون شهادتهم مضادة لشهادة الله كما قال لكن الله يشهد بما أنزل اليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وقال قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب كما قال شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم وقد قلنا يجوز أن تكون آياتهم خارقة لعادة جميع الخلق الا للنبي لكن لا يجب هذا فيها فإن قيل قد ذكرتم أن آيات الانبياء هي الخوارق التي تخرق عادة جميع الثقلين فلا تكون لغير الانبياء ولغير من شهد لهم بالنبوة وهذا كلام صحيح فصلتم به بين آيات الانبياء وغيرهم بفصل مطرد منعكس بخلاف من قال هي خرق العادة ولم يميز بينها وبين غيرها وتكلم في خرق العادة بكلام متناقض تارة يمنع وجود السحر والكهانة وتارة يجعل هذا الجنس من الآيات ولكن الفرق عدم المعارضة لكن لم يذكروا الفرق في نفس الامر ونفس كونها معجزة وخارقا وآية لماذا كان وما هو الوصف الذي امتازت به حتى صارت آية ودليلا دون غيرها فذكرتم الدليل لكن لم تذكروا الحقيقة التي بها صار الدليل دليلا قيل لا بد أن تكون مما يعجز عنها الانس والجن فان هذين الثقلين بعث اليهم الرسل كما قال تعالى يا معشر الجن والانس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا

وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين وقال تعالى وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين والانس والجن منهم من آمن بالرسل ومنهم من كذبهم فلا بد أن يكون مما لا يقدر عليها جنس الانس والجن ثم الكرامات يخص بها المؤمنين من الطائفتين وأما آيات الأنبياء التي بها تثبت نبوتهم وبها وجب على الناس الإيمان بهم فهي أمر يخص الانبياء لا يكون للاولياء ولا لغيرهم بل يكون من المعجزات الخارقة للعادات الناقضة لعادات جميع الانس والجن غير الانبياء فما كان الإنس أو الجن يقدرون عليه فلا يكون وحده آية للنبي وما تقدر عليه الملائكة فذاك قد يكون من آياتهم لانهم لم يرسلوا الى الملائكة والملائكة لا تفعل شيئا الا بإذن الله فما تفعله الملائكة معهم فهو بإذن الله وهو ما خص به الانبياء بخلاف الإنس والجن وخاصتها التي تمتاز بها عن غيرها أن تكون آية ودليلا على نبوتهم فكل ما استلزم نبوتهم فهو آية لهم وما لا يستلزم نبوتهم فليس بآية وليست مختصة بجنس من الموجودات بل تكون في جنس العلم والاخبار بغيب الرب الذي اختص به وتكون في جنس القدرة والتصرف والتأثير في العالم وهي مقدورة للرب فله سبحانه أن يجعلها في أي جنس كان من المقدورات ولهذا تنوعت آيات الانبياء بل النبي الواحد تتنوع آياته فليس القرآن الذي هو قول الله وكلامه من جنس انشقاق القمر ولا هذا وهذا من جنس تكثير الطعام والشراب كنبع الماء من بين الاصابع وهذا كما أن آيات الرب الدالة على قدرته ومشيئته وحكمته وأمره ونهيه لا تختص بنوع فكذلك آيات أنبيائه فهذا مما ينبغي أن يعرف ولكن خاصتها أنها لا تكون إلا مستلزمة لصدق النبي وصدق الخبر بأنه من نبي فلا تكون لمن يكذبه قط ولا يقدر أحد من مكذبي الانبياء أن يأتي بمثل آيات الانبياء وأما مصدقوهم فهم معترفون بأن ما يأتون به هو من آيات الانبياء مع أنه لا تصل آيات الاتباع الى مثل آيات المتبوع مطلقا وإن كانوا قد يشاركونه في بعضها كاحياء الموتى وتكثير الطعام والشراب فلا يشركونه في القرآن وفلق البحر وانشقاق القمر لأن الله فضل الانبياء على غيرهم

وفضل بعض النبيين على بعض فلا بد أن يمتاز الفاضل بما لا يقدر المفضول على مثله اذ لو أتى بمثل ما أتى لكان مثله لا دونه
فصل وكثير من هؤلاء مضطربون في مسمى العادة التي تخرق والتحقيق أن العادة أمر إضافي فقد يعتاد قوم مالم يعتده غيرهم فهذه إذا خرقت فليست إلا لصدق النبي لا توجد بدون صدقه والرب تعالى في الحقيقة لا ينقض عادته التي هي سنته التي قال فيها سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا وقال فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا وهي التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين فهو سبحانه إذا ميز بعض المخلوقات بصفات يمتاز بها عن غيره ويختصه بها قرن بذلك من الأمور ما يمتاز به عن غيره ويختص به ولا ريب أن النبوة يمتاز بها الأنبياء ويختصون بها والله تعالى يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس وهو أعلم حيث يجعل رسالته فمن خصه بذلك كان له من الخصائص التي لا تكون لغيره ما يناسب ذلك فيستدل بتلك الخصائص على أنه من أهل الاختصاص بالنبوة وتلك سنته وعادته في أمثاله يميزهم بخصائص يمتازون بها عن غيرهم ويعلم أن أصحابها من ذلك الصنف المخصوص الذين هم الانبياء مثلا ولم تكن له سبحانه عادة بان يجعل مثل آيات الانبياء لغيرهم حتى يقال إنه خرق عادته ونقضها بل عادته وسنته المطردة أن تلك الآيات لا تكون الا مع النبوة والإخبار بها لا مع التكذيب بها أو الشك فيها كما أن سنته وعادته أن محبته ورضاه وثوابه لا يكون إلا لمن عبده وأطاعه وأن سنته وعادته أن يجعل العاقبة للمتقين وسنته وعادته أنه ينصر رسله والذين آمنوا كما قال تعالى ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا وكل ما يظن أنه خرقه من العادات فله أسباب انخرقت فيها تلك العادات فعادته وسنته لا تتبدل اذ أفعاله جارية على وجه الحكمة والعدل هذا قول الجمهور وأما من لا يثبت سببا ولا حكمة ولا عدلا فإنهم يقولون انه يخرق عادات لا لسبب ولا لحكمة ويجوزون أن يقلب الجبل ياقوتا والبحر لبنا والحجارة آدميين ونحو

ذلك مع بقاء العالم على حاله ثم يقولون مع هذا ولكن نعلم بالضرورة أنه لم يفعل ذلك ويقولون العقل هو علوم ضرورية كالعلوم بجاري العادات وهذا تناقض بين فإنهم اذا جوزوا هذا ولم يعلموا فرقا بين ما يقع منه وما لا يقع كان الجزم بوقوع هذا دون هذا جهلا وغاية ما عندهم ان قالوا يخلق في قلوبنا علم ضروري بأن هذا لم يقع ويخلق في قلوبنا علم ضروري بأن الله خرق العادة لتصديق هذا النبي فيقال اذا كان قد جعل الله في قلوبكم علما ضروريا كما جعله في قلوب أمثالكم فأنتم صادقون فيما تخبرون به عن أنفسكم من العلم الضروري لكن خطاكم اعتقادكم أن العادات قد ينقضها الله بلا سبب ولا لحكمة فهذا ليس معلوما لكم بالضرورة وخطاكم من حيث جوزتم ان يكون شيئان متساويان من كل وجه ثم يعلم بضرورة أو نظر ثبوت أحدهما وانتفاء الآخر فإن هذا تفريق بين المتماثلين وهذا قدح في البديهيات فإن أصل العلوم العقلية النظرية اعتبار الشيء بمثله وأن حكمه حكم مثله فإذا جوزتم أن يكون الشيئان متماثلين من كل وجه وأن العقل يجزم بثبوت أحدهما وانتفاء الآخر كان هذا قدحا في أصل كل علم وعقل وإذا قلتم ان العادات جميعها سواء وان الله يفعل ما يفعل بلا سبب ولا حكمة بل محض المشيئة مع القدرة رجحتم هذا على هذا وقلتم لا فرق بين قلب الجبال بواقيت والبحار لبنا وبين غير ذلك من العادات وجوزتم أن يجعل الله الحجارة آدميين علماء من غير سبب تغير به المخلوقات كان هذا قدحا في العقل فلا أنتم عرفتم سنة الله المعتادة في خلقه ولا عرفتم خاصة العقل وهو التسوية بين المتماثلين فإنه سبحانه لم يخرق قط عادة الا لسبب يناسب ذلك فلق البحر لموسى وغير ذلك من الآيات التي بعث بها فإن ذلك خلقه ليكون آية وعلامة وكان ذلك بسبب نبوة موسى وانجائه قومه وبسبب تكذيب فرعون ومن جوز أن ذلك البحر أو غيره ينفلق كما انفلق لموسى من غير أن يكون هناك سبب إلهي يناسب ذلك فهو مصاب في عقله ولهذا اضطرب أصحاب هذا القول ولم يكن عندهم ما يفرقون بين دلائل النبوة وغيرها وكانت آيات الانبياء والعلم بأنها آيات ان حققوها على وجهها فسدت أصولهم وإن طردوا أصولهم كذبوا العقل والسمع ولم يمكنهم لا تصديق الانبياء ولا العلم بغير ذلك من

أفعال الله تعالى التي يفعلها بأسباب وحكم كما قد بسط هذا في موضع آخر
فصل ودليل الشيء مشروط بتصور المدلول عليه فلا يعرف آيات الانبياء إلا من عرف ما اختص به الانبياء وامتازوا به عمن سواهم والنبوة مشتقة من الانباء والنبي فعيل وفعيل قد يكون بمعنى فاعل أي منبئ وبمعنى مفعول أي منبأ وهما هنا متلازمان فالنبي الذي ينبئ بما أنبأه الله به والنبي الذي نبأه الله وهو منبأ بما أنبأه الله به وما أنبأه الله به لا يكون كذبا وما أنبأ به النبي عن الله لا يكون يطابق كذبا لا خطأ ولا عمدا فلا بد أن يكون صادقا فيما يخبر به عن الله يطابق خبره مخبره لا تكون فيه مخالفة لا عمدا ولا خطأ وهذا معنى قول من قال هم معصومون فيما يبلغونه عن الله لكن لفظ الصادق وإن النبي صادق مصدوق نطق به القرآن وهو مدلول الآيات والبراهين ولفظ العصمة في القرآن جاء في قوله والله يعصمك من الناس أي من أذاهم فمعنى هذا اللفظ في القرآن هو الذي يحفظه الله عن الكذب خطأ وعمدا والتعبير عن حقائق الايمان بعبارات القرآن أولى من التعبير عنها بغيرها فان ألفاظ القرآن يجب الايمان بها وهي تنزيل من حكيم حميد والأمة متفقة عليها ويجب الاقرار بمضمونها قبل أن تفهم وفيها من الحكم والمعاني مالا تنقضي عجائبه والألفاظ المحدثة فيها إجمال واشتباه ونزاع ثم قد يجعل اللفظ حجة بمجرده وليس هو قول الرسول الصادق المصدوق وقد يضطرب في معناه وهذا أمر يعرفه من جربه من كلام الناس فالاعتصام بحبل الله يكون بالاعتصام بالقرآن والاسلام كما قال تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ومتى ذكرت ألفاظ القرآن والحديث وبين معناها بيانا شافيا فإنها تنظم جميع ما يقوله الناس من المعاني الصحيحة وفيها زيادات عظيمة لا توجد في كلام الناس وهي محفوظة مما دخل في كلام الناس من الباطل كما قال إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وقال تعالى وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وقال تعالى كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير وقال تلك آيات الكتاب الحكيم وفيه

من دلائل الربوبية والنبوة والمعاد مالا يوجد في كلام أحد من العباد ففيه أصول الدين المفيدة لليقين وهي أصول دين الله ورسوله لا اصول دين محدث ورأي مبتدع وقد يكون معصوما على لغة القرآن بمعنى أن الله عصمه من الشياطين شياطين الانس والجن وأن يغيروا ما بعث به أو يمنعوه عن تبليغه فلا يكتم ولا يكذب كما قال تعالى عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا فهو يسلك الوحي من بين يدي الرسول ومن خلفه وهذا في معنى عصمته من الناس فهو المؤيد المعصوم بما يحفظه الله من الإنس والجن حتى يبلغ رسالات ربه كما أمر فلا يكون فيها كذب ولا كتمان ولفظ الإنباء يتضمن معنى الإعلام والإخبار لكنه في عامة موارد استعماله أخص من مطلق الأخبار فهو يستعمل في الإخبار بالامور الغائبة المختصة دون المشاهدة المشتركة كما قال وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم وقال فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير وقال قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون وقال عم يتساءلون عن النبأ العظيم الذين هم فيه مختلفون وقال وإن يأت الاحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كان فيكم ما قاتلوا إلا قليلا وقال ولتعلمن نبأه بعد حين وقال لكل نبأ مستقر وقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين الى قوله قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وقوله يعتذرون اليكم اذا رجعتم اليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون الى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون فهذا في خطاب المنافقين ولم يقل والمؤمنون لأنهم لم يكونوا يطلعون المؤمنين على ما في بطونهم وهذا بخلاف قوله يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها فإنها أمور مشهودة يعرفها  الناس لكن العجب كون الأرض تخبر بذلك فالعجب في المخبر لا في الخبر كشهادة الأعضاء وقال قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم ان كنتم صادقين وجمع النبي أنبياء مثل ولي وأولياء ووصي وأوصياء وقوي وأقوياء ويشبهه حبيب وأحباء كما قال تعالى وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه ففعيل اذا كان معتلا أو مضاعفا جمع على أفعلاء بخلاف حكيم وحكماء وعليم وعلماء وهو من النبا وأصله الهمزة وقد قرئ به وهي قراءة نافع يقرأ النبئ لكن لما كثر استعماله لينت همزته كما فعل مثل ذلك في الذرية وفي البرية وقد قيل هو من النبو وهو العلو فمعنى النبي المعلى الرفيع المنزلة والتحقيق أن هذا المعنى داخل في الأول فمن أنبأه الله وجعله منبئا عنه فلا يكون الا رفيع القدر عليا وأما لفظ العلو والرفعة فلا يدل على خصوص النبوة اذ كان هذا يوصف به من ليس بنبي بل يوصف بأنه الأعلى كما قال ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون وقراءة الهمز قاطعة بأنه مهموز وما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال أنا نبي الله ولست بنبئ الله فما رأيت له إسنادا لا مسندا ولا مرسلا ولا رأيته في شيء من كتب الحديث ولا السير المعروفة ومثل هذا لا يعتمد عليه واللفظان مشتركان في الاشتقاق الأكبر فكلاهما فيه النون والباء وفي هذا الهمزه وفي هذا الحرف المعتل لكن الهمزة أشرف فإنها أقوى قال سبويه هي نبوة من الخلق تشبه التهوع فالمعنى الذي يدل عليه ويمكن أن تلين فتصير حرفا معتلا فيعبر عنه باللفظين بخلاف المعتل فإنه لا يجعل همزة فلو كان أصله نبي مثل علي ووصي وولي لم يجز أن يقال بالهمز كما لا يقال علئ ووصيء ووليء بالهمز وإذا كان أصله الهمز جاز تليين الهمزة وإن لم يكثر استعماله كما في لفظ خبئ وخبيئة وأيضا فإن تصريفه أنبأ ونبأ وينبئ بالهمزة ولم يستعمل فيه نبا ينبو وإنما يقال هذا ينبو عنه والماء ينبو عن القدم اذا كان يجفو عنها ويقال النبوة وفي فلان نبوة عنا أي مجانبة فيجب القطع بأن النبي ماخوذ من الإنباء لا من النبوة والله أعلم
فصل قد تقدم أن للناس في وجه دلالة المعجزات وهي آيات الأنبياء على

نبوتهم طرقا متعددة منهم من قال دلالتها على التصديق تعلم بالضرورة ومنهم من قال تعلم بالنظر والاستدلال وكلا القولين صحيح فإن كثيرا من العلوم في هذا الباب كدلالة الأخبار المتواترة فإنه قد يحصل بالخبر علم ضروري وقد يحصل العلم بالاستدلال وطائفة منهم الكعبي وأبو الحسين البصري وأبو الخطاب أنه نظري والتحقيق أن كلا القولين حق فإنه يحصل بها علم ضروري والادلة النظرية توافق ذلك وكذلك كثير من الادلة والعلامات والآيات من الناس من يعرف استلزامها للوازمها بالضرورة ويكون اللزوم عنده بينا لا يحتاج فيه إلى وسط ودليل ومنهم من يفتقر إلى دليل ووسط يبين له ان هذا الدليل مستلزم لهذا الحكم لازم له ومن تأمل معارف الناس وجد أكثرها من هذا الضرب فقد يجيء المخبر اليهم بخبر فيعرف كثير منهم صدقه أو كذبه بالضرورة لأمور تقترن بخبره وآخرون يشكون في هذا ثم قد يتبين لبعضهم بأدلة وقد لا يتبين وكثير من الناس يعلم صدق المخبر بلا آية البتة بل إذا أخبره وهو خبير بحاله أو بحال ذلك المخبر به أو بهما علم بالضرورة إما صدقه وإما كذبه وموسى بن عمران لما جاء إلى مصر فقال لهارون وغيره ان الله أرسلني علموا صدقه قبل أن يظهر لهم الآيات ولما قال لهارون ان الله قد أمرك أن تؤازرني صدقه هارون في هذا لما يعلم من حاله قديما ولما رأى من تغير حاله الدال على صدقه وكذلك النبي صلى الله عليه و سلم لما ذكر حاله لخديجة وغيرها وذهبت به الى ورقة بن نوفل وكان عالما بالكتاب الأول فذكر له النبي صلى الله عليه و سلم ما يأتيه علم أنه صادق وقال هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى ياليتني فيها جذعا ياليتني أكون حيا حين يخرجك قومك قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أومخرجي هم قال نعم لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا وكذلك النجاشي لما سمع القرآن قال إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة وكذلك أبو بكر وزيد بن حارثة وغيرهما علموا صدقه علما ضروريا لما أخبرهم بما جاء به وقرأ عليهم ما أنزل عليه وبقي القرآن الذي قرأه آية وما يعرفون من صدقه وأمانته مع غير ذلك من القرائن يوجب علما ضروريا بأنه صادق وخبر الواحد المجهول من آحاد الناس قد تقترن به القرائن يعرف بها صدقه بالضرورة فكيف =ج3=

  ج3. كتاب:النبوات  شيخ الإسلام ابن تيمية

استكمال ج3.== بمن عرف صدقه وأمانته وأخبر بمثل هذا الأمر الذي لا يقوله إلا من هو من أصدق الناس أو من أكذبهم وهم يعلمون أنه من الصنف الأول دون الثاني فإذا كان العلم بصدقه بلا آية قد يكون علما ضروريا فكيف بالعلم بكون الآية علامة على صدقه وجميع الأدلة لا بد أن تعرف دلالتها بالضرورة فإن الأدلة النظرية لا بد أن تنتهي إلى مقدمات ضرورية وأكثر الخلق اذا علموا ما جاء به موسى والمسيح ومحمد علموا صدقهم بالضرورة ولهذا لا يوجد أحد قدح في نبوتهم إلا أحد رجلين إما رجل جاهل لم يعرف أحوالهم واما رجل معاند متبع لهواه وعامة من كذبهم في حياتهم كان معاندا فالرؤساء كذبوهم لئلا تزول رئاستهم أو مأكلتهم والاتباع طاعة لكبرائهم كما أخبر الله بمثل ذلك في غير موضع من القرآن لم يكن التكذيب لقيام حجة تدل على الكذب فإنه يمتنع قيام دليل يدل على الكذب فالمكذب مفتر متكلم بلا علم ولا دليل قطعا وكذلك كل من كذب بشيء من الحق أو صدق بشيء من الباطل يمتنع أن يكون عليه دليل صحيح فإن الدليل الصحيح يستلزم مدلوله فإذا كان المدلول منتفيا امتنع أن يكون عليه دليل صحيح وكثير من الناس قد يكون شاكا لعدم طلبه العلم وإعراضه عنه فالمكذب متكلم بلا علم قطعا والشاك معرض عن طلب العلم مقصر مفرط ولو طلب العلم تبين له الحق اذا كان متمكنا من معرفة أدلة الحق وأما من لم يصل اليه الدليل ولا يتمكن من الوصول اليه فهذا عاجز وأما الذين سلكوا طريق الحكمة فلهم أيضا مسالك مثل أن يقال ان الله سبحانه وتعالى اذا بعث رسولا أمر الناس بتصديقه وطاعته فلا بد أن ينصب لهم دليلا يدلهم على صدقه فإن ارسال رسول بدون علامة وآية تعرف المرسل اليهم أنه رسول قبح وسفه في صرائح العقول وهو نقص في جميع الفطر وهو سبحانه منزه عن النقائص والعيوب ولهذا ينكر على المشركين أنهم يصفونه بما هو عندهم عيب ونقص لا يرضونه لأنفسهم مثل كون مملوك أحدهم شريكه يساويه فإن هذا من النقائص والعيوب التي ينزهون أنفسهم عنها ويعيبون ذلك على من فعله من الناس فإذا كان هذا عيبا ونقصا لا يرضاه الخلق لانفسهم لمنافاته الحكمة والعدل فإن الحكمة والعدل تقتضي وضع كل شيء موضعه الذي يليق به ويصلح به فلا تكون العين

كالرجل ولا الإمام الذي يؤتم به في الدين والدنيا في آخر المراتب والسفلة من أتباعه في أعلى المراتب فكذلك المالك لا يكون مملوكه مساويا له فإن ذلك يناقض كون أحدهما مالكا والآخر مملوكا ولهذا جاءت الشريعة بأن المرأة لا تتزوج عبدها لتناقض الأحكام فان الزوج سيد المرأة وحاكم عليها والمالك سيد المملوك وحاكم عليه فإذا جعل مملوكها زوجها الذي هو سيدها تناقضت الأحكام فهذا وأمثاله مما يبين أن هذه القضية مستقرة في فطر العقلاء ولهذا قال تعالى ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم أي كما يخاف بعضكم بعضا كذلك يفصل الآيات لقوم يعقلون بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله ومالهم من ناصرين وكذلك كل أحد يعلم بفطرته أن الذكر أفضل من الأنثى وكانت العرب أشد كراهية للبنات من غيرهم حتى كان منهم ن يئد البنات ويدفن البنت وهي حية حتى قال تعالى وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت وقال تعالى وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب وكانوا لا يورثون الاناث وقد قالت أم مريم ولس الذكر كالأنثى وكان من الكفار من جعل له الإناث أولادا وشركاء قال تعالى أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى ان هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم وقال تعالى ان الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الانثى وما لهم به من علم ان يتبعون الا الظن وان الظن لا يغني من الحق شيئا وقال تعالى ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون يعني ساء الحكم حكمهم أي بئس الحكم حكمهم كما يقال بئسما فعل وبئسما حكم حيث حكموا بأن لله البنات ولهم ما يشتهون فهذا حكم جائر كما أن تلك القسمة قسمة جائرة عوجاء فهذا حكمهم بينهم وبين ربهم

وهذا قسمهم يجعلون لانفسهم أفضل النوعين ولربهم أدنى النوعين وهو مثل السوء ولله المثل الأعلى فالواجب أن يكون أفضل الأنواع وأكملها لله وما فيها نقص وعيب فالمخلوق أحق بها من الخالق اذ كان كل كمال في المخلوق فهو من خالقه فيمتنع أن يكون الانقص خلق الاكمل والفلاسفة يقولون بعبارتهم كل كمال في المعلول فهو من العلة وأيضا فالموجود الواجب أكمل من الممكن والقديم أكمل من المحدث والغني أكمل من الفقير فيمتنع اتصاف الأكمل بالنقائص واتصاف الأنقص بالكمالات ولهذا يوصف سبحانه بأنه الأكرم والأكبر والأعلى وأنه أرحم الراحمين وخير الحاكمين وخير الغافرين وأحسن الخالقين فلا يوصف قط الا بما يوجب اختصاصه بالكمالات والممادح والمحاسن التي لا يساويه فيها غيره فضلا عن أن يكون لغيره النوع الفاضل وله النوع المفضول ولهذا عاب الله المشركين بان جعلوا لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل الى الله وما كان لله فهو يصل الى شركائهم ساء ما يحكمون فبئس الحكم حكمهم في هذا كما أنه بئس الحكم حكمهم في جعل الذكور لهم والاناث له وساء بمعنى بئس كقوله ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا أي بئس مثلا مثلهم ولهذا قالوا في قوله ساء ما يحكمون بئسما يقضون وقال تعالى أفاصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة اناثا انكم لتقولون قولا عظيما وقال تعالى وجعلوا له من عباده جزءا ان الانسان لكفور مبين أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون فهذه الطريقة وهي أن ما يستحقه المخلوق من الكمال الذي لا نقص فيه فالخالق أولى به وما ينزه عنه المخلوق من العيوب المذمومة فالخالق تعالى أولى بتنزيهه عن كل عيب وذم وهو سبحانه القدوس السلام الحميد المجيد من ابلغ الطرق البرهانية وهي مستعملة في القرآن في غير موضع فلذلك يقال الواحد من الناس قادر على ارسال رسول

وعلى أن يرسل نشابة وعلامة يعرف المرسل اليهم بها صدقه فكيف لا يقدر الرب على ذلك ثم اذا أرسله اليهم وأمرهم بتصديقه وطاعته ولم يعرفهم أنه رسوله كان هذا من أقبح الامور فكيف يجوز مثل هذا على الله ولو بعثه بعلامة لا تدلهم على صدقه كان ذلك عيبا مذموما فكل ما ترك من لوازم الرسالة اما أن يكون لعدم القدرة واما أن يكون للجهل والسفة وعدم الحكمة والرب أحق بالتنزيه عن هذا وهذا من المخلوق فإذا أرسل رسولا فلا بد أن يعرفهم أنه رسوله ويبين ذلك وما جعله آية وعلامة ودليلا على صدقه امتنع أن يوجد بدون الصدق فامتنع أن يكون للكاذب المتنبي فان ذلك يقدح في الدلالة فهذا ونحوه مما تعرف به دلالة الآيات من جهة حكمة الرب فكيف اذا انضم الى ذلك ان هذه سنته وعادته وأن هذا مقتضى عدله وكل ذلك عند التصور التام يوجب علما ضروريا بصدق الرسول الصادق وأنه لا يجوز أن يسوي بين الصادق والكاذب فيكون ما يظهره النبي من الآيات يظهر مثله على يد الكاذب اذ لو فعل هذا لتعذر على الخلق التمييز بين الصادق والكاذب وحينئذ فلا يجوز أن يؤمروا بتصديق الصادق ولا يذموا على ترك تصديقه وطاعته اذ الامر بذلك بدون دليله تكليف مالا يطاق وهذا لا يجوز في عدله وحكمته ولو قدر أنه جائز عقلا فإنه غير واقع
فصل وقد دل القرآن على أنه سبحانه لا يؤيد الكذاب عليه بل لا بد أن يظهر كذبه وأن ينتقم منه فقال تعالى ولو تقول علينا بعض الأقاويل لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين ذكر هذا بعد قوله فلا أقسم بما تبصرون ومالا تبصرون انه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ثم قال ولو تقول علينا بعض الاقاويل لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين هذا بتقدير أن يتقول بعض الاقاول فكيف بمن يتقول الرساله كلها وقوله لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين الوتين عرق في الباطن يقال هو نياط القلب اذا قطع مات الانسان عاجلا وذلك يتضمن هلاكه لو تقول على الله وقوله لأخذنا

منه باليمين قيل لاخذنا بيمينه كما يفعل بمن يهان عند القتل فيقال خذ بيده فيجر بيده ثم يقتل فهذا هلاك بعزة وقدرة من الفاعل وإهانة وتعجيل هلاك للمقتول وقيل لاخذنا منه باليمين أي بالقوة والقدرة فان الميامن أقوى ممن يأخذ بشماله كما قال فاخذناهم أخذ عزيز مقتدر وكما قال ان بطش ربك لشديد لكنه قال أخذنا منه ولم يقل لأخذناه فهذا يقوي القول الأول وقال تعالى أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ يختم على قلبك ثم قال ويمحو الله الباطل ويحق الحق بكلماته فقوله ويمحو الله الباطل عطف جملة على جملة قالوا وليس من جواب الشرط لأنه قال ويحق الحق بالضم وهو معطوف على قوله يمحو الله الباطل فمحوه للباطل وإحقاقه الحق خبر منه لا بد أن يفعله فقد بين أنه لا بد أن يمحو الباطل ويحق الحق بكلماته فانه اذا أنزل كلماته دل بها على أنه نبي صادق إذا كانت آية له وبين بها الحق من الباطل وهو أيضا يحق الحق ويبطل الباطل بكلماته فإنه إذا أنزل كلماته دل بها على أنه نبي صادق إذا كانت آية له وبين بها الحق من الباطل وهو أيضا يحق الحق ويبطل الباطل بكلماته التي تكون بها الأشياء فيحق الحق بما يظهره من الآيات وما ينصر به أهل الحق كما تقدمت كلمته بذلك كما قال ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون وقال وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا وقال وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين وقال تعالى أتى أمر الله فلا تستعجلوه وأمره يتضمن ما يأمر به وهو الكائن بكلماته وقال تعالى انما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون وكلماته صدق وعدل والعدل وضع الاشياء مواضعها فمن عدله أن يجعل الصادق عليه المبلغ لرسالته حيث يصلح من كرامته ونصره وأن يجعل الكاذب عليه حيث يليق به من اهانته وذله قال تعالى ان الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين قال ابو قلابة هي لكل مفتر الى يوم القيامة ومن أعظم الافتراء عليه دعوى النبوة والرسالة

كذبا كما قال تعالى ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح اليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله وذكر في هذا الكلام جميع أصناف الكاذبين الذين يعارضون رسله الصادقين كما ذكر فيما قبله حال الكاذبين في قوله وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون ثم قال ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء الآية فان الكاذب إما أن يقول ان غيري أنزل علي وإما أن يقول أنا أصنف مثل هذا القرآن وإذا قال غيري أنزل علي فأما أن يعينه فيقول أن الله أنزله علي وإما أن يقول أوحي ولا يعين من أوحاه فذكر الأصناف الثلاثة فقال ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح اليه شيء فهذان نوعان من جنس ثم قال ومن لم يقل أو قال اذ كان هذا معارضا لا يدعي أنه رسول فقال ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله وهؤلاء المعارضون قد تحداهم في غير موضع وقال قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا والرسول أخبر بهذا خبرا تاما في أول الامر وهذا لا يمكن إلا مع قطعه أنه على الحق وإلى الآن لم يوجد أحد أنزل مثل ما أنزل الله قوله ومن قال سأنزل ولم يقل أقدر أن أنزل فإن قوله سأنزل هو وعد بالفعل وبه يحصل المقصود بخلاف قوله أقدر فانه لا يحصل به غرض المعارض وإنما يحصل إذا فعل فمن وعد بانزال مثل ما أنزل كان من أظلم الناس وأكذبهم اذ كان قد تبين عجز جميع الثقلين الانس والجن عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن وقوله مثل ما أنزل الله يقتضي أن كل ما أنزله الله على أوليائه فهو معجز لا يقدر عليه الا الله كالتوراة والانجيل والزبور وهذا حق فإن في ذلك من أنباء الغيب مالا يعلمه الا الله

وفيه أيضا من تأييد الرسل بذلك مالا يقدر على أن يرسل بتلك الرسالة إلا الله فلا يقدر أحد أن ينزل مثل ما أنزل الله على نبيه فيكون به مثل الرسول ولا أن يرسل به غيره
فصل والاستدلال بالحكمة أن يعرف أولا حكمته ثم يعرف أن من حكمته أنه لا يسوي بين الصادق بما يظهر به صدقه وبأن ينصره ويعزه ويجعل له العاقبة ويجعل له لسان صدق في العالمين والكاذب عليه يبين كذبه ويخذله ويذله ويجعل عاقبته عاقبة سوء ويجعل له لسان الذم واللعنة في العالمين كما قد وقع فهذا هو الواقع لكن المقصود أن نبين أن ما وقع منه فهو واجب الوقوع في حكمته لا يجوز أن يقع منه ضد ذلك فهذا استدلال ببيان أنه يجب أن يقع منه ما يقع ويمتنع أن يقع منه ضده وذلك ببيان أنه حكيم وأن حكمته توجب أن يبين صدق الانبياء وينصرهم ويبين كذب الكاذبين ويذلهم كذلك يفعل بأتباع النبيين وبأعدائهم كما أخبر بذلك في كتابه وبين أن هذا حق عليه يجب أن يفعله ويمتنع أن يفعل ضده كما قال تعالى ولقد أرسلنا من قبلك رسلا الى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين وكما قال كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله لقوي عزيز وقوله لأغلبن قسم أقسم الله عليه فهو جواب قسم تقديره والله لاغلبن أنا ورسلي وهذا يتضمن إخباره بوقوع ذلك وأنه كتب على نفسه ذلك وأمر به نفسه وأوجبه على نفسه فإن صيغة القسم تتضمن التزام ما حلف عليه إما حضا عليه وأمرا به وإما منعا منه ونهيا عنه ولهذا كان في شرع من قبلنا يجب الوفاء بذلك ولا كفارة فيه وكذلك كان في أول الاسلام ولهذا كان أبو بكر لا يحنث في يمين حتى أنزل الله كفارة اليمين كما ذكرت ذلك عائشة ولهذا أمر أيوب أن يأخذ بيده ضغثا فيضرب به ولا يحنث فإن ذلك صار واجبا باليمين كوجوب المنذور الواجب بالنذر يحتذى به حذو الواجب بالشرع والضرب بالضغث يجوز في الحدود اذا كان المضروب لا يحتمل التفريق كما جاء في الحديث ولو كان في شرعهم كفارة لأغنت عن الضرب مطلقا لكن الإنسان قد يلتزم مالا يعلم عاقبته ثم يندم عليه والرب تعالى عالم بعواقب الامور فلا يحلف على أمر ليفعلنه

إلا وهو يعلم عاقبته واليمين موجبة ولهذا قال تعالى كتب الله لأغلبن وكتب مثل كتب في قوله كتب ربكم على نفسه الرحمة فهي كتابة تتضمن خبرا وايجابا ومنه قوله تعالى وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها وفي الحديث الصحيح الآلهي يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا وقد بسط هذا الأصل في مواضع مثل الكلام في مسألة القدر المختار ومسألة العدل والظلم وغير ذلك فان كثيرا من المتكلمين يقول ان القادر المختار لا يفعل الا بوصف الجواز فيفعل الفعل في حال تردده بين أن يفعل وأن لا يفعل ومنهم من يقول يفعله مع رجحان أن يفعل رجحانا لا ينتهي إلى حد الوجوب وهو قول محمد بن الهيضم الكرامي ومحمود الخوارزمي المعتزلي وبهذا استطال عليهم الفلاسفة فقالوا الرب موجب لأن الممكن لا يقع حتى يحصل المؤثر التام الموجب له والتحقيق أن الرب يخلق بمشيئته وقدرته وهو موجب لكل ما يخلقه بمشيئته وقدرته ليس موجبا بمجرد الذات ولا موجبا بمعنى أن موجبه يقارنه فإن هذا ممتنع فهذان معنيان باطلان وهو قادر يفعل بمشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فما شاءه وجب كونه وما لم يشأه امتنع كونه ولهذا قال كثير من النظار إن الارادة موجبة للمراد وعلى هذا فقولنا يجوز أن يكون ويجوز أن لا يكون إنما هو جواز الشيء بمعنى الشك في أيهما هو الواقع وإلا ففي نفس الامر أحدهما هو الواقع ليس في نفس الامر ظنيا مترددا بين الوقوع وعدم الوقوع والامكان الذهني قد يراد به عدم العلم بالامتناع وقد يراد به الشك في الواقع وكلا النوعين عدم علم والامكان الخارجي يراد به أن وجوده في الخارج ممكن لا ممتنع كولادة النساء ونبات الارض وأما الجزم بالوقوع وعدمه فيحتاج الى دليل وفي نفس الامر ما ثم الا ما يقع أو لا يقع والواقع لا بد من وقوعه ووقوعه واجب لازم وما لا يقع فوقوعه ممتنع لكن واجب بغيره وممتنع لغيره وهو واجب من جهات من جهة علم الرب من وجهين ومن جهة إرادته من وجهين ومن جهة كلامه من وجهين ومن جهة كتابته من وجهين ومن جهة رحمته ومن جهة عدله أما علمه فما علم انه سيكون فلا بد أن يكون وما علم أنه لا

يكون فلا يكون وهذا مما يعترف به جميع الطوائف إلا من ينكر العلم السابق كغلاة القدرية الذين تبرأ منهم الصحابة ومن جهة أنه يعلم ما في ذلك الفعل من الحكمة فيدعوه علمه إلى فعله أو ما فيه من الفساد فيدعوه الى تركه وهذا يعرفه من يقر بأن العلم داع ومن يقر بالحكمة ومن جهة إرادته فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ومن جهة حكمته وهي الغاية المرادة لنفسها التي يفعل لأجلها فاذا كان مريدا للغاية المطلوبة لزم أن يريد ما يوجب حصولها ومن جهة كلامه من وجهين من جهة أنه اخبر به وخبره مطابق لعلمه ومن جهة أنه أوجبه على نفسه وأقسم ليفعلنه وهذا من جهة إيجابه على نفسه والتزامه أن يفعله ومن جهة كتابته إياه في اللوح وهو يكتب ما علم أن سيكون وقد يكتب إيجابه والتزامه كما قال كتب الله لأغلبن أنا ورسلي وقال كتب ربكم على نفسه الرحمة فهذه عشرة أوجه تقتضي الجزم بوقوع ما سيكون وأن ذلك واجب حتم لا بد منه فما في نفس الأمر جواز يستوي فيه الطرفان الوجود والعدم وإنما هذا في ذهن الانسان لعدم علمه بما هو الواقع ثم من علم بعض تلك الاسباب علم الواقع فتارة يعلم لأنه أخبر بعلمه وهو ما أخبرت الانبياء بوقوعه كالقيامة والجزاء وتارة يعلم من جهة المشيئة لأنه جرت به سنته الشاملة التي لا تتبدل وتارة يعلم من جهة حكمته كما قد بسط في غير هذا الموضع والحكمة والعدل والرحمة والعادة تعلم بالعقل كما قد عرف من حكمة الرب وعدله وسنته ويستدل بذلك على العلم والخبر والكتاب كما أن العلم والخبر والكتاب يعلم بإخبار الانبياء ويستدل بذلك على العدل والحكمة والرحمة والجهمية المجبرة لا تجزم بثبوت ولا انتفاء إلا من جهة الخبر أو العادة اذ كانوا لا يثبتون الحكمة والعدل والرحمة في الحقيقة كما قد بسط في غير موضع وحكي عن الجهم أنه كان يخرج فينظر الجذمي ثم يقول أرحم الراحمين يفعل هذا يقول أنه يفعل لمحض المشيئة ولو كان يفعل بالرحمة لما فعل هذا وهذا من جهله لم يعرف ما في الابتلاء من الحكمة والرحمة والمصلحة والمجبرة المثبتة للقدر المتبعون لجهم والقدرية النفاة مناقضون لهم كما قد بسط الكلام على ذلك في غير موضع وما زال العقلاء يستدلون بما علموه من صفات الرب على ما

يفعله كقول خديجة للنبي صلى الله عليه و سلم لما قال لها لقد خشيت على نفسي فقالت كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتصدق الحديث وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق فاستدلت بما فيه من مكارم الاخلاق ومحاسن الاعمال على أن الله لا يخزيه ومنه قوله تعالى قل هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم فان الشيطان إنما ينزل على ما يناسبه ويطلبه وهو يريد الكذب والإثم فينزل على من يكون كذلك وبسط هذا له موضع آخر والكلام في النبوة فرع على إثبات الحكمة التي توجب فعل ما تقتضيه الحكمة ويمتنع فعل ما تنفيه فنقول هو سبحانه وتعالى حكيم يضع كل شيء موضعه المناسب له فلا يجوز عليه ان يسوي بين جنس الصادق والكاذب والعادل والظالم والعالم والجاهل والمصلح والمفسد بل يفرق بين هذه الانواع بما يناسب الصادق العادل العالم المصلح من الكرامة وما يناسب الكاذب الظالم الجاهل المفسد من الهوان كما قال تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار وقال أفنجعل المسلمين كالمجرمين وهذا استفهام انكار على من ظن ذلك وهو يتضمن تقرير المخاطبين واعترافهم بان هذا لا يجوز عليه وأن ذلك بين معروف يجب اعترافهم به وإقرارهم به كما يقال لمن ادعى امرا ممتنعا مثل نعم كثيرة في موضع صغير فيقال له أههنا كانت هذه النعم أي هذا ممتنع فاعترف بالحق وإذا ادعى على من هو معروف بالصدق والامانة أنه نقب داره وأخذ ماله قيل له أهذا فعل هذا ومنه قوله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله وقوله تعالى ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ونظائره كثيرة وكذلك قوله أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون فإن هذا استفهام إنكار على حسب أنه يسوي بين هؤلاء وهؤلاء فبين أن هذا الحساب باطل وأن التسوية ممتنعة في حقه لا يجوز أن يظن به بل من ظن ذلك فقد ظن بربه ظن السوء وذلك ظن أهل الجاهلية الذين يظنون بالله ظن السوء

فمن جوز ذلك على الله فقد ظن بربه ظن السوء وقوله تعالى فيما جرى يوم أحد وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية فسره ابن عباس وغيره بأنهم ظنوا أن الله لم يقدر ما جرى وأنه لا ينصر رسوله فكما أن القدر يجب الايمان به ويعلم أن كل ما كان فقد سبق به علم الرب فكذلك يعلم أنه لا بد أن ينصر رسله والذين آمنوا وكما انه لا يجوز أن يقع خلاف المقدر فلا يجوز أن لا ينصر رسله والذين آمنوا ومثله قوله تعالى فيما أنزله عام الحديبية لما ظن ظانون أن الرسول وأتباعه لا ينصرون فقال تعالى ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا وهذا يدل على أن هذا ظن سوء بالله لا يجوز أن يظن به أن يفعل ذلك ومن ينفي الحكمة يقول يجوز عليه فعل كل شيء وليس عنده ظن سوء بالله وإن قيل لما أخبر أنه بنصره كان ضد ذلك ظن سوء لأن خبره لا يقع بخلاف مخبره قيل عن هذا جوابان أحدهما أن هؤلا يلزمهم تجويز إخلاف الوعد عليه لأن هذا من باب الافعال المقدورة وهو يجوزون كل مقدور وإذا قيل إخلاف الوعد قبيح فهم ليس عندهم شيء قبيح ينزهون الرب عنه الثاني أنه إذا علم أنه يفعله ولو بالعلم الضروري فإنما ذاك لأنه واقع ولو قدر أن رجلا ظن أن الله لا يفعل ما سيفعله مما ليس فيه ذم مثل أن يظن أنه يموت بعد شهر لم يقل أن هذا ظن سوء وإنما يكون ظن سوء اذا كان المظنون عيبا قبيحا لا يجوز أن يضاف الى المظنون به ومنه قوله تعالى إذا جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم واذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر ويظنون بالله الظنونا فهذا ذم لمن ظن بالله الظنون ومن ذلك قوله تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون وهذا يقتضي أن هذا ممتنع عليه ومن حكم بجوازه فقد حكم حكما باطلا جائرا ممتنعا كالذين جوزوا أن تكون له بنات وهم يكرهون أن تكون لهم بنات فيجوزون على الله ما هو قبيح عندهم قال تعالى ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه

على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ومما يبين حكمته أن نقول أفعاله المحكمة المتقنة دلت على علمه وهذا مما وقع الاتفاق عليه من هؤلاء فإنهم يسلمون أن الإحكام والإتقان يدل على علم الفاعل وهذا أمر ضروري عندهم وعند غيرهم وهو من أعظم الادلة العقلية التي يجب ثبوت مدلولها والإحكام والإتقان انما هو أن يضع كل شيء في محله المناسب لتحصل به الحكمة المقصودة منه مثل الذي يخيط قميصا فيجعل الطوق على قدر العنق والكمين على قدر اليدين وكذلك الذي يبني الدار يجعل الحيطان متماثلة ليعتدل السقف والذي يصنع الإبريق يوسع ما يدخل منه الماء ويضيق ما يخرج منه وحكمة الرب في جميع المخلوقات باهرة قد بهرت العقلاء واعترف بها جميع الطوائف والفلاسفة من أعظم الناس إثباتا لها وهم يثبتون العناية والحكمة الغائية وإن كان فيهم من قصر في أمر الارادة والعلم وكذلك المتكلمون كلهم متفقون على إثبات الحكمة في مخلوقاته وإن كانوا في الارادة وفعله لغاية متنازعين وذلك مثلما في خلق الانسان وأدنى ذلك أن العين والفم والاذن فيها مياه ورطوبة فماء العين ملح وماء الفم عذب وماء الأذن مر فان العين شحمة والملوحة تحفظها أن تذوب وهذه أيضا حكمة تمليح البحر فان له سببا وحكمة فسببه سبوخة أرضه وملوحتها فهي توجب ملوحة مائه وحكمتها أنها تمنع نتن الماء بما يموت فيه من الحيتان العظيمة فإنه لولا ملوحة مائه لأنتن ولو أنتن لفسد الهواء لملاقاته له فهلك الناس بفساده وإذا وقع أحيانا قتل خلق كثير فإنه يفسد الهواء حتى يموت بسبب ذلك خلق كثير وماء الأذن مر ليمنع دخول الهوام إلى الأذن وماء الفم عذب ليطيب به ما يأكله فلو جعل الله ماء الفم مرا لفسد الطعام على أكلته ولو جعل ماء الاذن عذبا لدخل الذباب في الدماغ ونظائر هذا كثيرة فلا يجوز أن يفعل بخلاف ذلك مثل أن يجعل العينين في القدمين ويجعل الوجه خشنا غليظا كالقدمين فانه يفسد مصلحة النظر والمشي بل من الحكمة أنه جعل العينين في أعلى البدن في مقدمه ليرى بها ما أمامه فيدري أين يمشي وجعل الرجل خشنة تصبر على ما تلاقيه من التراب وغيره والعين لطيفة يفسدها أدنى شيء فجعل لها أجفانا تغطيها واهدابا فنقول هذا ومثله من مخلوقات الرب دل على

أنه قد أحكم ما خلقه وأتقنه ووضع كل شيء بالموضع المناسب له وهذا يوجب العلم الضروري أنه عالم فيميز بين هذا وبين هذا حتى خص هذا بهذا وهذا بهذا وهو أيضا يوجب العلم الضروري بأنه أراد تخصيص هذا بهذا وهذا بهذا فدل على علمه وإرادته وهذا مما يسلمونه فنقول ودل أيضا على أنه جعل هذا لهذا فجعل ماء العين والبحر ملحا للحكمة المذكورة وجعل العين في أعلى البدن وجعل لها أجفانا للحكمة المذكورة وكذلك إذا أنزل المطر وقت الحاجة اليه علم أنه أنزله ليحيي به الأرض وكذلك إذا دعاه الناس مضطرين فأنزل المطر علم أنه أنزله ليحيي الأرض لاجابة دعائهم فلا يتصور أن يعلم أنه أراد هذا لهذا ولا يتصور الإحكام والاتقان إلا اذا فعل هذا للحكمة المطلوبة فكان ما علم من إحكامه وإتقانه دليلا على علمه وعلى حكمته أيضا وأنه يفعل لحكمة والذين استدلوا بالاحكام على علمه ولم يثبتوا الحكمة وأنه يفعل هذا لهذا متناقضون عند عامة العقلاء وحذاقهم معترفون بتناقضهم فإنه لا معنى للإحكام إلا الفعل لحكمة مقصودة فإذا انتفت الحكمة ولم يكن فعله لحكمة انتفى الاحكام وإذا انتفى الاحكام انتفى دليل العلم وإذا كان الاحكام معلوما بالضرورة ودلالته على العلم معلومة بالضرورة علم أن حكمته ثابتة بالضرورة وهو المطلوب وأيضا فإذا ثبت أنه عام فنفس العلم يوجب أنه لا يفعل قبيحا ولا يجوز أن يفعل القبيح الا من هو جاهل كما قد بسط في غير هذا الموضع وبين أن العالم يعلم ما الذي يصلح أن يفعل وإن فعل هذا أولى من فعل هذا وإذا كان مريدا للفعل وقد علم أن الفعل على هذا الوجه هو الاصلح امتنع أن يريد الوجه الآخر والانسان لا يريد القبيح الا لنقص علمه ما أن يفعل بلا علم بل لمجرد الشهوة أو يظن خطأ فيظن أن هذا الفعل يصلح وهو لا يصلح فإنما يقع القبيح في فعله لفعله مع الجهل البسيط أو المركب والرب منزه عن هذا وهذا فيمتنع أن يفعل القبيح وأيضا فإنه قد ثبت أنه مريد وأن الارادة تخصص المراد عن غيره وهذا انما يكون اذا كان التخصيص لرجحان المراد اما لكونه أحب الى المريد وأفضل عنده فأما اذا ساوى غيره من كل وجه امتنع ترجيح الارادة له فكان اثبات الارادة مستلزما اثبات الحكمة والا لم تكن الارادة فقد تبين ثبوت

حكمته من جهة علمه ومن جهة نفس أفعاله المتقنة المحكمة التي تدل على علمه بالاتفاق وهذه أصول عظيمة من تصورها تصورا جيدا انكشف له حقائق هذا الموضع الشريف وإذا ثبت أنه حكيم وأن حكمته لازمة لعلمه ولازمة لارادته وهما لازمان لذاته كانت حكمته من لوازم ذاته فيمتنع أن يفعل الا لحكمة وبحكمة ويمتنع أن يفعل على خلاف الحكمة ومعلوم بصريح العقل أن العلم خير من الجهل والصدق خير من الكذب والعدل خير من الظلم والاصلاح خير من الافساد ولهذا وجب اتصافه تعالى بالرحمة والعلم والصدق والعدل والاصلاح دون نقيض ذلك وهذا ثابت في خلقه وأمره فكما أنه في خلقه عادل حكيم رحيم فكذلك هو في أمره وما شرعه من الدين فإنه لا يكون الا عدلا وحكمة ورحمة ليس هو كما تقول الجهمية المجبرة ومن اتبعهم من أهل الكلام والرأي أنه يأمر العباد بما لا مصلحة لهم فيه اذا فعلوه وأن ما أمر به لا يجب أن يفعل على حكمة وينكرون تعليل الاحكام او يقولون أن علل الشرع أمارات محضة فهذا كله باطل كما قد بسط في مواضع بل ما يأمر به مصلحة لا مفسدة وحسن لا قبيح وخير لا فساد وحكمة وعدل ورحمة والحمد لله رب العالمين فإذا قدر رجلان ادعيا على الرب الرسالة أو توليا على الناس أو كانا من عرض الناس أحدهما عام صادق عادل مصلح والآخر جاهل ظالم كاذب مفسد ثم قدر أن ذلك العالم العادل عوقب في الدنيا والآخرة فاذل في الدنيا وقهر وأهلك وجعل في الآخرة في جهنم وذلك الظالم الكاذب الجاهل أكرم في الدنيا والآخرة وجعل في الدرجات العلى كان معلوما بالاضطرار أن هذا نقيض الحكمة والعدل وهو أعظم سفها وظلما من تعذيب ماء البحر وماء العين فإن هذا غايته موت شخص أو النوع وهذا أقل فسادا من إهلاك خيار الخلق وتعذيبهم وإكرام شرار الخلق وإهانتهم وإذا كان هذا أعظم مناقضة للحكمة والعدل من غيره وتبين بالبراهين اليقينية أن الرب لا يجوز عليه خلاف الحكمة والعدل علم بالاضطرار أن الرب سبحانه لا يسوي بين هؤلاء وهؤلاء فضلا عن أن يفضل الأشرار على الأخيار وهو سبحانه أنكر التسوية فقال أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا

وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون وقال تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون وقد جعل من جوز أن الله لا ينصر رسوله والمؤمنين في الدنيا والآخرة ويعذبهم في الآخرة في جهنم وأن الفراعنة يكرمهم في الآخرة والمنازع عنده لا فرق بين هذا وهذا بالنسبة الى الرب وإلى ارادته وحكمته وعلمه بل انما علم وقوع أحدهما بمجرد الخبر لا لامتناع أحدهما ووجوب الآخر والخبر إنما هو خبر الانبياء وذلك موقوف على العلم بصدقهم وهو يستلزم صدقهم وعلى أصله يمتنع العلم بصدقهم فانه يجوز أن يسوي الله بين الصادق والكاذب على أصله اذ كان يجوز عليه عنده كل مقدور وعنده لا يجوز أن يفعل فعلا لحكمة فلا يجوز على اصله أن يخلق الله آية ليدل به على صدقهم وإذا قال تجوبز ذلك يقتضى أنه لا يقدر على خلق ما به يبين صدق الصادق فلذلك منعت من ذلك لأنه يقضي الى تعجيزه قيل له انما يفضي الى عجزه اذا كان خلق دليل الصدق ممكنا وعلى أصلك لا يمكن إقامة الدليل على امكانه فإن الدليل يستلزم المدلول ويمتنع ثبوته مع عدمه وأي شيء قدرته جاز أن يخلقه على أصلك على يد الكاذب وأنت لا تنزهه عن فعل ممكن وإذا قلت أنزهه عن فعل ممكن يستلزم عجزه كان هذا تناقضا فإن فعل الممكن لا يستلزم العجز بل امتناع الممكن يستلزم العجز وبيان ذلك أن يقال ما خلقه على يد الصادق هو قادر على أن يخلقه على يد الكاذب أم لا فان قلت ليس بقادر فقد أثبت عجزه وان قلت هو قادر على ذلك فالمقدور عندك لا ينزه عن شيء منه وإن قلت هذا المقدور أنزهه عنه لئلا يلزم عجزه كان حقيقة قولك أثبت عجزه لا نفي عجزه فجعلته عاجزا لئلا تجعله عاجزا فجمعت بين النقيضين بين اثبات العجز ونفيه وإنما لزمه هذا لأنه لا ينزه الرب عن فعل مقدور فاستوت المقدورات كلها في الجواز عليه عنده ولم يحكم بثبوت مقدور إلا بالعادة او الخبر والعادة يجوز انتقاضها عنده والخبر موقوف على العلم بصدق المخبر ولا طريق له الى ذلك فتبين أن كل من لم ينزه الرب عن السوء والسفه ويصفه بالحكمة والعدل لم يمكنه أن يعلم نبوة نبي ولا المعاد ولا صدق الرب في شيء من الإخبار فهذه طريقة من يجعل وجه دلالة المعجز على صدق الانبياء

لئلا يلزم العجز وأما الطريق الثانية وهي أجود وهي التي اختارها أبو المعالي وأمثاله فهو أن دلالة المعجز على التصديق معلومة بالاضطرار وهذه طريقة صحيحة لمن اعتقد أن يفعل لحكمة وأما إذا قيل انه لا يفعل لحكمة انتفى العلم الاضطراري والامثلة التي يذكرونها كالملك الذي جعل آية لرسوله أمرا خارجا عن عادته انما دلت للعلم بأن الملك يفعل شيئا لشيء فإذا نفوا هذا بطلت الدلالة وكذلك دليل القدرة هو دليل صحيح لكن مع إثبات الحكمة فإنه سبحانه وتعالى قادر على أن يميز بين الصادق والكاذب اذ كان قادرا على أن يهدي عباده الى ما هو أدق من هذا فهداهم الى أسهل لكن هذا يستلزم اثبات حكمته ورحمته فمن لم يثبت له حكمة ورحمة امتنع عليه العلم بشيء من أفعاله الغائبة وأيضا فآيات الانبياء تصديق بالفعل فهي تدل اذا علم أن من صدقه الرب فهو صادق وذلك يتضمن تنزيهه عن الكذب وعلى أصلهم لا يعلم ذلك فإن ما يخلقه من الحروف والأصوات عندهم هو مخلوق من المخلوقات فيجوز أن يتكلم كلاما يدل على شيء وقد أراد به شيئا آخر فإن هذا من باب المفعولات عندهم والكلام النفسي لا سبيل لأحد الى العلم به فعلى اصلهم يجوز الكذب في الكلام المخلوق العربي وهو الذي يستدل به الناس فلا يبقى طريق الى العلم بأنه صادق فيما يخلقه من الكلام ولهذا نجد حذاقهم في السمعيات انما يفرون الى ما علم بالاضطرار من قصد الرسول لا الى الاستدلال بالقرآن فالقاضي أبو بكر عمدته أن يقول هذا مما وقفنا عليه الرسول وعلمنا قصده بالاضطرار كما يقول مثل ذلك في تخليد أهل النار وفيما علمه من الاحكام اذ كانوا لا يعتمدون على القول المسموع لا خبرا ولا أمرا فهم لا طريق عندهم الى التمييز بين ما يقع وما لا يقع مثل التمييز بين كونه يثيب المحسن ويعاقب المسيء أو لا يفعله ففي الجملة جميع أفعاله من ارسال الانبياء ومجازاة العباد وقيام القيامة لا طريق لهم الى العلم بذلك الا من جهة الخبر وطريق الخبر على أصلهم مسدود وهم يعلمون صدق الرسول وصدق خبره معلوم في أنفسهم لكن يناقض أصولهم لكن مع هذا هم واقفة فيما أخبرت به الرسل من الوعيد فضعف علمهم بما أخبرت به الرسل فصاروا في نقص عظيم في علمهم وايمانهم بما اخبرت به الرسل وما أمرت به وفي أصل ثبوت الرسالة هذه

السمعيات وأما العقليات فمدارها على حدوث الجسم وقد عرف فساد أصلهم فيها فهذه أصولهم العقلية والسمعية وهم لا يعلمون أيضا ما يفعله الرب من غير الخبر الا من جهة العادة والعادة يجوز عندهم نقضها بلا سبب ولا لحكمة ويجوزون أن تصبح الجبال بواقيت والبحار زيبقا فإذا احتجوا بالعادات فقيل لهم عندكم يجوز نقضها بلا سبب ولا حكمة أجابوا بأن الشيء قد يعلم جوازه ويعلم بالضرورة أنه لا يقع وهذا أيضا جمع بين النقيضين وهم يقولون العقل هو العلم بجواز الجائزات وامتناع الممتنعات ووجوب الواجبات كالعلم بأن الجبل لم ينقلب ياقوتا ثم يجعلون هذا من الجائز على أصلهم ليس في الأفعال لا واجب ولا ممتنع بل كل مقدور فإنه جائز الوجود وجائز العدم لا يعلم أحد الطرفين الا بخبر أو عادة لا بسبب يقتضيه ولا حكمة تستلزمه كما ان المرجح له عندهم مجرد الارادة لا بسبب ولا حكمة وإذا علم جواز الشيء وعدمه ولم يعلم ما يوجب أحدهما أمتنع أن يعلم بالضرورة ثبوت أحدهما والناس إنما يعلمون أن الجبال لم تنقلب بواقيت لعلمهم بأن هذا ممتنع وأن الله اذا أراد قلبها بواقيت أحدث أسبابا تقتضي ذلك فأما انقلاب العادة بلا سبب فهذا ممتنع عند العقلاء وجميع ما خرق الله به العادة كان لاسباب تقتضيه ولحكم فعل لاجلها لم يكن ترجيحا بلا مرجح كما يقوله هؤلاء فهذا هذا ولا حول ولا قوة الا بالله ولو لم يتعلق هذا بالايمان بالرسول وبما أخبر به الرسول واحتجنا الى ان نميز بين الصحيح والفاسد في الادلة والاصول لما ورد على ما قاله هؤلاء من هذه السؤالات لم تكن بنا حاجة الى كشف الاسرار لكن لما تكلموا في اثبات النبوة صاروا يوردون عليها أسئلة في غاية القوة والظهور ولا يجيبون عنها الا بأجوبة ضعيفة كما ذكرنا كلامهم فصار طالب العلم والإيمان والهدي من عندهم لا سيما إذا اعتقد أنهم أنصار الاسلام ونظاره والقائمون ببراهينه وأدلته إذا عرف حقيقة ما عندهم لم يجد ما ذكروه يدل على ثبوت نبوة الانبياء بل وجده يقدح في الانبياء ويورث الشك فيها أو الطعن فيها وأنها حجة لمكذب الانبياء أعظم مما هي حجة لمصدق الانبياء فافسد طريق الايمان والعلم وانفتح طريق النفاق والجهل لا سيما على من لم يعرف الا ما قالوه والذي يفهم ما قالوه لا يكون

إلا فاضلا قد قطع درجة الفقهاء ودرجة من قلد المتكلمين فيصير هؤلاء إما منافقين وإما في قلوبهم مرض ويظن الظان أنه ليس في الامر على نبوة الانبياء براهين قطعية ولا يعلم أن هذا انما هو لجهل هؤلاء أصولهم الفاسدة التي بنوا عليها الاستدلال وقدحهم في الآلهية وأنهم لم ينزهوا الرب عن فعل شيء من الشر ولا أثبتوا له حكمة ولا عدلا فكان ما جهلوه من آيات الانبياء إذ كان العلم بآيات الله وما قصه لخلقه من الدلائل والبراهين مستلزما لثبوت علمه وحكمته ورحمته وعدله فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم وهم في الاصل انما قصدوا الرد على القدرية الذين قالوا إن الله لم يشأ كل شيء ولم يخلق أفعال العباد وهو مقصود صحيح لكن ظنوا أن هذا لا يتم إلا بجحد حكمته وعدله ورحمته فغلطوا في ذلك كما أن المعتزلة أيضا غلطوا من جهات كثيرة وظنوا أنه لا تثبت حكمته وعدله ورحمته إن لم يجحد خلقه لكل شيء وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ويجحد اتصافه بالكلام والارادة وغير ذلك من اقوال المعتزلة التي هي من أقوال هؤلاء فإن هؤلاء في الصفات خير من المعتزلة وفي الافعال من بعض الوجوه ولهذا لما ظهر للغزالي ونحوه ضعف طريق الاستدلال بالمعجزات الذي سلكه شيوخه وهو لا يعرف غيره أعرض عنها وذكر أنه إنما علم ثبوت النبوة بقرائن تعجز عنها العبارة وهي علوم ضرورية حصلت له على الطول وجعل الدليل على النبوة هو العلم بنأ ما جاء به حق من غير جهته وهذه طريق صحيحة قد سلك الجاحظ نحوا منها ولكن النبوة التي علمها أبو حامد هي النبوة التي تثبتها الفلاسفة وهي من جنس المنامات ولهذا استدل على جوازها بمبدأ الطب والهندسة ونحو ذلك وأمر النبوة أعظم من هذا بكثير وتلك النبوة موجودة لخلق من الناس فلهذا لا يوجد للنبوة ما تستحقه من التصديق والاحترام ولا يعتمدون عليها في استفادة شيء من العلم الخبري وهي الإنباء بالغيب وهي خاصة النبوة والرازي كلامه في النبوة متردد بين نبوة الفلاسفة ونبوة اصحابه هؤلاء كما ترى وليس في واحد من الطريقين إثبات النبوة التي خص الله بها أنبياءه فلهذا ضعفت معرفة هؤلاء بالأنبياء وضعف أخذ العلم من طريقهم لا سيما وقد عارضوا كثيرا مما جاء عنهم بالعقليات ودخلوا فيما

هو أبعد عن الهدى والعلم من العقليات والذوقيات التي من سلكها ضل ضلالا بعيدا وإنما ينجو من سلك منها شيئا إذا لطف الله فعرفه السلوك خلف طريق الانبياء فمن لم يهتد بما جاءت به الانبياء فهو أبعد الناس عن الهدى تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ويل لكل افاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزؤا أولئك لهم عذاب مهين وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ويل يومئذ للمكذبين فبأي حديث بعده يؤمنون وكيف تكفرون وأنتم تتلى عيكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي الى صراط مستقيم ولهذا اعترف الرازي بهذا في آخر مصنفاته حيث قال ولقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الاثبات اليه يصعد الكلم الطيب الرحمن على العرش استوى وأقرأ في النفي ليس كمثله شيء ولا يحيطون به علما ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي وأكثر الانتفاع بكلام هؤلاء هو فيما يثبتونه من فساد أقوال سائر الطوائف وتناقضها وكذلك كلام عامة طوائف المتكلمين ينتفع بكلام كل طائفة في بيان فساد قول الطائفة الاخرى لا في معرفة ما جاء به الرسول فليس في طوائف أهل الاهواء والبدع من يعرف حقيقة ما جاء به الرسول ولكن يعرف كل طائفة منه ما يعرفه فليسوا كفارا جاحدين له وليسوا عارفين به ... فلقد عرفت وما عرفت حقيقة ... ولقد جهلت وما جهلت خمولا ...
وبسط هذه الامور له موضع آخر ولكن نبهنا هنا على طريق الحكمة
فصل وإذا عرفت حكمة الرب وعدله تبين أنه إنما يرسل من اصطفاه لرسالته واختاره لها كما قال الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس وكما قال لموسى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى وأنه إذا أبلغ الرسالة وقام بالواجب وصبر على تكذيب المكذبين وأذاهم كما مضت به سنته في

الرسل قال كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون وقال تعالى ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم وقال تعالى ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم الا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا ايديهم في أفواهم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا اليه مريب قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والارض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم الى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا باذن الله وعلى الله فليتوك المؤمنون وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى اليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الارض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ الى سائر ما أخبر به من أحوال الرسل والرسل صادقون مصدقون من عند الله يخبرون بالحق ويأمرون بالعدل ويدعون الى عبادة الله وحده لا شريك له وأهل الكذب المدعون للنبوة ضد هؤلاء كاذبون يأتيهم الشياطين الكاذبون يأمرون بما نهى الله عنه وينهون عما أمر الله به فإنهم لا بد أن يأمروا بتصديقهم واعتقاد نبوتهم وطاعتهم وذلك مما نهى الله عنه ولا بد أن ينهوا عن متابعة من يكذبهم ويعاديهم وذلك مما أمر الله به فإنه يمتنع في حكمة الرب وعدله أن يسوي بين هؤلاء خيار الخلق وبين هؤلاء شرار الخلق لا في سلطان العلم وبراهينه وأدلته ولا في سلطان النصر والتأييد بل يجب في حكمته أن يظهر الآيات والبراهين الدالة على صدق هؤلاء وينصرهم ويؤيدهم ويعزهم ويبقى لهم سلطان الصدق ويفعل ذلك بمن اتبعهم وان يظهر الآيات المبينة لكذب أولئك ويذلهم

ويخزيهم ويفعل ذلك بمن اتبعهم كما قد وقع في هؤلاء وهؤلاء وقد دل القرآن على الاستدلال بهذا في غير موضع والادلة والبراهين كما تقدم نوعان نوع يدل بمجرده بحيث يمتنع وجوده غير دال كدلالة حدوث الحادث على محدث فهذا يدل بمجرده وان قدر أن أحدا لم يقصد الدلالة به لكن الرب بكل شيء عليم وهو مريد لخلق ما خلقه ولصفاته لكن لا يشترط في الاستدلال بهذا أن يعلم أن دالا قصد أن يدل به والنوع الثاني ما هو دليل بقصد الدال وجعله فهذا لولا القصد وجعله دليلا لم يكن دليلا فهو انما قصد به الدلالة فهذا مقصوده مجرد الدلالة وذلك بمجرده هو الدليل وهذا كالكلام الذي يدل بقصد المتكلم وغير ذلك مثل الاشارة بالرأس والعين والحاجب واليد ومثل الكتابة ومثل العقد ومثل الأعلام التي نصبت على الطرق وجعلت علامة على حدود الارض وغير ذلك ومن ذلك العلامات التي يبعثها الشخص مع رسوله ووكيله إلى أهله سواء كان قد تواطأ معهم عليها مثل أن يقول علامته أن يضع يده على ترقوته أو يضع خنصره في خنصره ونحو ذلك أو كانت علامة قصد بها الإعلام من غير تقدم مواطأة مثل إعطائه عمامته أو نعليه كما أعطى النبي صلى الله عليه و سلم عمامته علامة على ولاية قيس بن سعد وعزل أبيه عن الإمارة يوم الفتح وكما أعطى أبا هريرة نعليه علامة على ما أرسله به وكما يعطي الرجل لرسوله خاتمه ونحو ذلك فهذه الدلائل دلت بالقصد والجعل وقد كان يمكن أن لا تجعل دليلا فاذا كانت آيات الانبياء من هذا الجنس فهي إنما تدل مع قصد الرب الى جعلها دليلا وجعله لها دليلا بأن يجعل المدلول لازما لها فكل من ظهرت على يده كان نبيا صادقا فإن الدليل لا يكون دليلا إلا مع كونه مستلزما للمدلول فيمتنع أن يكون دليلا اذا وجد معه عدم المدلول أو وجد ضد المدلول فآيات الانبياء الدالة على صدقهم يمتنع وجودها بدون صدق النبي ووجودها مع مدعي النبوة كاذبا أعظم استحالة فإنها اذا كانت ممتنعة مع عدم نبوة صادقة وإن لم تكن هناك نبوة كاذبة فمع الكاذبة أشد امتناعا فهي مستلزمة للنبوة لا تكون مع عدم النبوة البتة والكاذب قد عدمت في حقه النبوة ووجد في حقه ضدها وهو الكذب في دعواها يمتنع كونه نبيا صادقا فيمتنع أن يخلق الرب ما يدل على صدق الانبياء بدون صدقهم لامتناع

وجود الملزوم دون لازمه ومع كذبهم لامتناع وجود الشيء مع ضده والكذب ضد الصدق فيمتنع أن يكون قوله أنا نبي صدقا وكذبا فاذا استلزم الصدق امتنع وجود الكذب وخلق دليل الصدق مع عدم الصدق ممتنع غير مقدور لكن الممكن المقدور أن ما جعله دليلا على الصدق يخلقه بدون الصدق فيكون قد خلقه وليس بدليل حينئذ ويمكن أن يخلق على يد الكاذب ما يدل انه دليل على صدقه وليس بدليل مثل خوارق السحرة والكهان كما كان يجري لمسيلمة والعنسي وغيرهما لكن هذه ليست دليلا على النبوة لوجودها معتادة لغير الانبياء وليست خارقة لعادة غير الانبياء بل هي معتادة للسحرة والكهان فالتفريط ممن ظنها دليلا لا سيما ولا بد أن تكون دليلا على كذب صاحبها فإن الشياطين لا تقترن إلا بكاذب كما قال تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم ولا يجوز أن يظهر الرب ما جعله دليلا للنبوة مع عدم النبوة كما أنه لا يجوز أن يتكلم بالكلام الذي جعله لبيان معان بدون إرادة تلك المعاني بل ذلك ممتنع من وجوه من جهة حكمته ومن جهة عادته ومن جهة عدله ورحمته ومن جهة علمه وإعلامه وغير ذلك كما قد بسط في مواضع ومن جهة قدرته أيضا فإنه قادر على هدي عبادة وتعريفهم وذلك إنما يكون بتخصيص الصادق بما يستلزم صدقه فاذا ما سوي بين الصادق والكاذب فإنه يمتنع التعريف والممتنع ليس بمقدور فقدرته تقتضي خلق الفرق وقد يقال هو قادر لكن لا يفعل مقدوره فيقال فعله له ممكن ولا يمكن إلا على هذا الوجه فيكون قادرا على هذا الوجه فإن قيل هو قادر ولكن لا يفعله قيل إن أريد أنه يمتنع فهذا باطل وإن أريد أنه يمكن فعله ولكن لا يفعله لم يكن على هذا النفي دليل بل وجوده يدل على أنه فعله وأيضا فأفعال الرب إما واجبة وإما ممتنعة وإذا لم يكن ممتنعا تعين أنه واجب وأنه قد فعله وهذا قد فعله وهذا مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود هنا أن هذا كله يستلزم أن الرب منزه عن أن يفعل بعض الامور الممكنة المقدورة لكون ذلك يستلزم أمرا يناقض حكمته ولكون فعل الشيء لا يكون إلا مع لوازمه وانتفاء أضداده فيمتنع فعله بدون لوازمه أو مع ضده كما يمتنع جعل الدليل دليلا مع وجوده بلا مدلول أو مع وجود

ضد المدلول معه والذين قالوا يجوز منه فعل كل شيء ولا ينزه عن شيء يتعذر على أصلهم وجود دليل جعلي قصدي لا الكلام ولا الفعال فيمتنع على أصلهم كون كلام الرب يدل على مراده أو كون آياته التي قصد بها الدلالة على صدق الانبياء أو غيرهم تدل لأنه يقدر أن يفعل ذلك وغير ذلك كما يقدر أن يظهر على يد الكاذب ما أظهره على يد الصادق وهم يقولون المعجزة هي الخارق المقرون بالتحدي بالمثل وعدم المعارضة وهذا يقدر على إظهاره على يد الصادق فمن سوى بين جميع الامور وجعل إرادته لها سواء لم يفرق بين هذا وهذا فقالوا نحن نستدل على أنه لم يظهرها على يد الكاذب بأنه لو فعل ذلك لبطلت قدرته على تصديق الصادقين بالآيات فإنه إنما يستدل على صدقهم بالآيات فلو أظهرها على يد الكاذب لم يبق قادرا هذه عمدة أكثرهم وعليها اعتمد القاضي أبو بكر في كتاب المعجزات فيقال لهم هذا لا يبطل قدرته على ذلك ولكن هذا يوجب أنه لم يفعل المقدور فيلزم من ذلك أنه سوى بين الصادق والكاذب ولم يبين صدقه وهذا مقدور ممكن وكل مقدور ممكن فهو عندكم جائز عليه فلم يكن اللازم رفع قدرته بل اللازم أنه لم يفعل مقدوره وهذا جائز عندكم ومما يوضح هذا أن يقال هو قادر على إظهار ذلك على يد الكاذب أم لا فإن قلتم ليس بقادر أبطلتم قدرته وإن قلتم هو قادر فثبت أنه قادر على إظهار ذلك على يد الصادق والكاذب فبقي مشتركا لا يخص أحدهما فلا يكون حينئذ دليلا فمجرد القدرة لم يوجب اختصاص الصادق به وان قلتم لا يقدر على إظهاره على يد الكاذب فقد رفعتم القدرة فأنتم بين أمرين إن أثبتم القدرة العامة فلا اختصاص لها وإن نفيتم القدرة على أحدهما بطل استدلالكم بشمول القدرة وأيضا فالقدرة إنما تكون على ممكن وعلى أصلكم لا يمكن تصديق الصادق فهم استدلوا بمقدمتين وكلاهما باطلة قالوا لو لم يكن دليلا رفع القدرة وهذا باطل بل يلزم أنه لم يفعل المقدور وهذا جائز عندهم فلا يجب عندهم شيء من الأفعال ثم قالوا وهو قادر على ذلك وعلى أصلهم ليس هو بقادر على ذلك فإنهم قالوا يمكنه تصديق الانبياء بالفعل كما يمكنه التصديق بالقول فيقال لهم كلاهما يدل بالقصد والجعل وهذا إنما يكون ممن يقصد أن يفعل الشيء ليدل وعندكم هو لا يفعل شيئا لشيء فيلزم على

أصلكم أن لا يفعل شيئا لاجل أنه يدل به عباده لا فعلا ولا كلاما إذ كان هذا عندكم ممتنعا وهو فعل شيء لمقصود آخر غير فعله واذا كان هذا ممتنعا عندكم لم يكن مقدورا فلا يقدر على أصلكم أن ينصب لعباده دليلا ليدلهم به على شيء بل هذا عندهم فعل لغرض وهو ممتنع عليه وإن قلتم هو وأن لم يقصد أن يفعل شيئا لحكمة لكن قد يفعل الشيئين المتلازمين فيستدل بأحدهما على الآخر قيل هذا إنما يكون بعد أن يثبت التلازم وأن أحدهما مستلزم للآخر وهذا معلوم فيما يدل بمجرده فإنه يمتنع وجوده بدون لازمه إما ما يدل بالجعل والقصد فيمكن وجوده بدون ما جعل مدلولا له واللزوم إنما يكون بالقصد وهو عندكم يمتنع أن يفعل شيئا لاجل شيء فبطلت الادلة القصدية على أصلكم وهي أخص بالدلالة من غيرها ولهذا لا يكادون يستدلون بكلام الله بل يعتمدون في السمعيات إما على ما علم بالضرورة أو الاجماع وحقيقة الأمر أن الأدلة الجعلية القصدية لا بد فيها من إرادة الرب ومشيئته أن تكون أدلة فلا بد أن يريد أن يجعل هذا الفعل ليدل وهم لا يجوزون أن يريد شيئا لشيء بل كل مخلوق هو عندهم مراد من نفسه لم يرد لغيره فامتنع أن يكون يريد الرب جعل شيء دليلا على أصلهم فتبين أنه على أصلهم غير قادر على نصب ما يقصد به دلالة العباد وهدايتهم وإعلامهم لا قول ولا فعل فبطلت المقدمة الكبرى وبتقدير أن يكون قادرا على ذلك فهو إذا أظهر على يد الكاذب ما يظهر على يد الصادق كان لم يفعل هذا المقدور ولم يجعل ذلك دليلا على الصدق لا يلزم أن لا يكون قادرا فهم اعتمدوا على هذه الحجة وقالوا هذا هذا وهذا هذا فقد تبين أن من لم يثبت حكمة الرب يلزمه نفي إرادته ومشيئته كما تقدم ويلزمه أيضا نفي قدرته على أن يفعل شيئا لشيء فلا يمكنه أن ينصب دليلا ليدل به عباده على صدق صادق ولا كذب كاذب وهم يقولون من فعل شيئا لحكمة دليل على حاجته ونقصه لأنه فعل لغرض والغرض هو الشهوة وذلك يتضمن الحاجة وهذا بعينه يقال في الإرادة أن من أراد فإنما يريد لغرض وشهوة فقولهم بنفي الحكمة يتضمن نفي الارادة ونفي القدرة وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين أن من نفى الحكمة يلزمه نفي الارادة ومن نفى الارادة يلزمه نفي فعل الرب ونفي الأحداث ومن نفى

ذلك يلزمه امتناع حدوث حادث في الوجود وأن أثبات الحكمة لازم لكل طائفة على أي قول قالوه كما قد بسط في غير هذا الموضع إذ المقصود التنبيه على أن أثبات آيات الانبياء والاستدلال بكلام الله وآياته التي أراد أن يدل بها عباده بدون إثبات حكمته ممتنع ولهذا اضطرب كلام من نفى حكمته في آيات الانبياء وفي كلام الرب سبحانه وهي الآيات التي بعثت بها الانبياء القولية والفعلية واضطربوا في الاستدلال على ما جاءت به الانبياء كما قد نبه عليه والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل وأما الاستدلال بسنته وعادته فهو أيضا طريق برهاني ظاهر لجميع الخلق وهم متفقون عليه من يقول بالحكمة ومن يقول بمجرد المشيئة فإنه قد علم عادته سبحانه في طلوع الشمس والقمر والكواكب والشهور والاعوام وعادته في خلق الانسان وغيره من المخلوقات وعادته فيما عرفه الناس من المطاعم والمشارب والأغذية والأدوية ولغات الامم كالعلم بنحو كلام العرب وتصريفه والعلم بالطب وغير ذلك كذلك سنته تعالى في الانبياء الصادقين وأتباعهم وفيمن كذبهم أو كذب عليهم فأولئك ينصرهم ويعزهم ويجعل لهم العاقبة المحمودة والآخرون يهلكهم ويذلهم ويجعل لهم العاقبة المذمومة كما فعل بقوم نوح وبعاد وثمود وقوم لوط واصحاب مدين وفرعون وقومه وكما فعل بمن كذب محمدا من قومه قريش ومن سائر العرب وسائر الامم غير العرب وكما فعل من نصر أنبيائه وأتباعهم قال تعالى ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين أنهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون وقال انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وقال تعالى ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب وقال تعالى وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم ابراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير وقال تعالى أولم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة

وأثاروا الارض وعمروها اكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون وقال تعالى أولم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الارض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب وقال تعالى كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب وقال تعالى أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الارض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون وقال تعالى ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا وقال تعالى واقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الارض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الاولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا وقال تعالى وإن كانوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا وقال تعالى وان كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا اذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا وقد قيل آية الحاقة وآية الشورى تبين أنه لو افترى عليه لعاقبة فهذه سنته في الكاذبين وحقيقة الاستدلال بسنته وعادته هو اعتبار الشيء بنظيره

وهو التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين وهو الاعتبار المامور به في القرآن كقوله تعالى قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الابصار وقال تعالى هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الابصار وقال تعالى لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب وإنما تكون العبرة به بالقياس والتمثيل كما قال ابن عباس في دية الاصابع هن سواء واعتبروها بدية الاسنان فإذا عرفت قصص الانبياء ومن اتبعهم ومن كذبهم وأن متبعيهم كان لهم النجاة والعافية والنصر والسعادة ولمكذبيهم الهلاك والبوار جعل الامر في المستقبل مثلما كان في الماضي فعلم أن من صدقهم كان سعيدا ومن كذبهم كان شقيا وهذه سنة الله وعادته ولهذا يقول سبحانه في تحقيق عادته وسنته وأنه لا ينقضها ولا يبدلها أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر يقول فاذا لم يكونوا خيرا منهم فكيف ينجون من العذاب مع مماثلتهم لهم هذا بطريق الاعتبار والقياس ثم قال أم لكن براءة في الزبر أي معكم خبر من الله بأنه لا يعذبكم فنفي الدليلين العقلي والسمعي ثم ذكر قولهم نحن جميع منتصر وانا نغلب من يغالبنا فقال تعالى سيهزم الجمع ويولون الدبر وهذا مما أنبأه من الغيب في حال ضعف الاسلام واستبعاد عامة الناس ذلك ثم كان كما أخبر وقد قال للمؤمنين في تحقيق سنته وعادته أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا ان نصر الله قريب وقال لمحمد ما يقال لك الا ما قد قيل للرسل من قبلك وقال كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون وقال تعالى

وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال نعم وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ليأخذن أمتي ما أخذ الامم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا يا رسول الله فارس والروم قال ومن الناس إلا هؤلاء وفي السنن لما قال به بعض أصحابه أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط قال الله أكبر قلتم كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ثم قال انه السنن لتركبن سنن من كان قبلكم وقال تعالى قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ولهذا احتج من احتج بسنة الله وعادته في مكذبي الرسل كقول شعيب ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد وقال مؤمن آل فرعون يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد وقال تعالى كدأب آل فرعون والذين من قبلهم والدأب العادة في ثلاثة مواضع قال تعالى إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيا وأولئك هم وقود النار كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب قال ابن قتيبة وغيره الدأب العادة ومعناه كعادة آل فرعون يريد كفر اليهود كل فريق بنبيهم وقال الزجاج هو الاجتهاد أي دأب هؤلاء وهو اجتهادهم في كفرهم وتظاهرهم على النبي كتظاهر آل فرعون على موسى وقال عطاء والكسائي وأبو عبيدة كسنة آل فرعون وقال النضر بن شميل كعادة آل فرعون يريد عادة هؤلاء الكفار في تكذيب الرسل وجحود الحق كعادة آل فرعون وقال طائفة نظم الآية أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم عند حلول النقمة والعقوبة مثل آل فرعون وكفار الامم الخالية أخذناهم

فلن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم وفي تفسير أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس كدأب فرعون قال كصنيع آل فرعون قال ابن أبي حاتم وروى عن مجاهد والضحاك وأبي مالك وعكرمة نحو ذلك قال وروي عن الربيع بن أنس كشبه آل فرعون وعن السدي قال ذكر الذين كفروا كمثل الذين من قبلهم في التكذيب والجحود قلت فهؤلاء جعلوا الشبيه في العمل فإن لفظ الدأب يدل عليه قال الجوهري دأب فلان في عمله أي جد وتعب دأبا ودءوبا فهو دئب وأدأبته أنا والدائبان الليل والنهار قال والدأب يعني بالتسكين العادة والشأن وقد يحرك قال الفراء أصله من دأبت إلا أن العرب حولت معناه إلى الشأن قلت الزجاج جعل ما في القرآن من الدأب الذي هو الاجتهاد والصواب ما قاله الجمهور أن الدأب بالتسكين هو العادة وهو غير الدأب بالتحريك إذا زاد اللفظ زاد المعنى والذي في القرآن مسكن ما علمنا أحدا قرأه بالتحريك وهذا معروف في اللغة يقال فلان دأبه كذا وكذا أي هذا عادته وعمله الملازم له وإن لم يكن في ذلك تعب واجتهاد ومنه قوله تعالى وسخر لكم الشمس والقمر دائبين والدائب نظير الدائم والباء والميم متقاربان ومنه اللازب واللازم قال ابن عطية دائبين أي متماديين ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم لصاحب الجمل الذي بكى وأجهش اليه ان هذا الجمل شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه أي تديمه في العمل له والخدمة قال وظاهر الآية أن معناه دائبين في الطلوع والغروب وما بينهما من المنافع للناس التي لا تحصى كثرة قال وحكى الطبري عن مقاتل بن حيان يرفعه الى ابن عباس أنه قال معناه دائبين في طاعة الله قال وهذا قول ان كان يراد به أن الطاعةانقيادهما للتسخير فذلك موجود في طاعة قوله وسخر وإن كان يراد أنها طاعة مقدورة كطاعة العبادة من البشر فهذا بعيد قلت ليس هذا ببعيد بل عليه دلت الادلة الكثيرة كما هو مذكور في مواضع وقالت طائفة منهم البغوي وهذا لفظه دائبين يجريان فيما يعود الى مصالح عباد الله لا يفتران قال ابن عباس دءوبهما في طاعة الله ولفظ أبي الفرج داءبين في اصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره لا يفتران قال ومعنى الدءوب مرور الشيء على عادة جارية فيه قلت

واذا كان دأبهم هو عادتهم وعملهم الذي كانوا مصرين عليه فالمقصود أن هؤلاء أشبهوهم في العمل فيشبهونهم في الجزاء فيحيق بهم ما حاق بأولئك هذا هو المقصود ليس المقصود التشبيه في الجزاء كقوله ان الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب أي فهؤلاء لا تدفع عنهم أموالهم وأولادهم عذاب الله اذا جاءهم كدأب آل فرعون وكذلك قوله ولو ترى اذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وان الله ليس بظلام للعبيد الى قوله كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين فهذا كله يقتضي التشبيه في العذاب وأما الطائفة الاخرى فجعلوا الدأب نفس فعل الرب بهم وعقوبته لهم قال مكي بن أبي طالب الكاف في كدأب في موضع نصب نعت لمحذوف تقديره غيرناهم كما غيروا تغييرا مثل عادتنا في آل فرعون ومثلها الآية الاولى الا أن الاولى العادة في العذاب تقديره فعلنا بهم ذلك فعلا مثل عادتنا في آل فرعون وقد جمع بعضهم بين المعنيين فقال أبو الفرج كدأب آل فرعون أي كعادتهم والمعنى كذب أولئك فنزل بهم العذاب كما نزل بأولئك قلت الدأب العادة وهو مصدر يضاف الى الفاعل تارة وإلى المفعول أخرى فاذا أضيف الى الفاعل كان المعنى كفعل آل فرعون وإذا أضيف إلى المفعول كان المعنى كعادتهم في العذاب والمصائب التي نزلت بهم يقال هذه عادة هؤلاء لما فعلوه ولما يصيبهم وهي عادة الرب وسنته فيهم والتحقيق أن اللفظ يتناول الامرين جميعا وقد تقدم عن الفراء والجوهري أن الدأب العادة والشأن وهذا كقوله قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين روى ابن أبي حاتم بالاسناد المعروف عن مجاهد قد خلت من قبلكم سنن من الكفار والمؤمنين في الخير والشر وعن أبي اسحاق أي قد مضت مني وقائع نقمة في أهل التكذيب لرسلي والشرك بي عاد

وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين فرأوا مثلات قد مضت مني فيهم فقد فسرت السنن بأعمالهم وبجزائهم قال البغوي معنى الآية قد مضت وسلفت مني فيمن كان قبلكم من الامم الماضية الكافرة بامهالي واستدراجي إياهم حتى يبلغ الكتاب فيهم أجلي الذي أجلته لاهلاكهم وأدالة أنبيائي فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين أي آخرة المكذبين منهم قال وهذا في حزب واحد يقول فانا أمهلهم وأستدرجهم حتى يبلغ أجلي الذي أجلت من نصرة النبي وأوليائه قلت ونظير هذا قوله تعالى أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقوله أو لم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الارض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وقوله في الآية الأخرى كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الارض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون فهذا كله يبين أن سنة الله وعادته مطردة لا تنتقض في إكرام مصدقي الرسل وإهانة مكذبيهم
فصل آيات الانبياء كما قد عرف هي مستلزمة لثبوت النبوة وصدق المخبر بها والشاهد بها قيلزم من وجودها وجود النبوة وصدق المخبر بها ويمتنع أن تكون مع التكذيب بها وكذب المخبر بها فلا يجوز وجودها لمن كذب الانبياء ولا لمن أقر بنبوة كذاب سواء كان هو نفسه المدعي للنبوة أو ادعى نبوة غيره وهذان الصنفان هما المذكوران في قوله ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله وهؤلاء كلهم من أظلم الكاذبين كما قال فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق اذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين ثم قال والذي جاء

بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون فالمخبر بالنبوة مع ثبوتها هو الذي جاء بالصدق وصدق به والمخبر بها مع انتفائها هو الذي كذب على الله والمكذب بها مع ثبوتها هو الذي كذب بالحق لما جاءه فدلائل النبوة هي مستلزمة لصدق من أثبت نبوة هي نبوة حق يمتنع أن تكون لمن نفى هذه أو أثبت نبوة ليست بنبوة وكذلك كل دليل دل على إثبات الصانع دل على صدق المؤمنين به المخبرين بما دل عليه الدليل على كذب من نفى ذلك ويمتنع أن تكون تلك الأدلة دالة على نفي ذلك أو على صدق الخبر بنفي ذلك أو على صدق من جعل صفات الرب ثابتة لغيره وما دل على أن هذه الدار ملك لزيد يدل على صدق المخبر بذلك وكذب النافي له ويمتنع أن يدل مع انتفاء الملك وما دل على علم شخص وعدله فإنه مستلزم لذلك ولصدق المخبر به وكذلك النافي له يمتنع أن يدل على صدق النافي أو يدل مع انتفاء العلم والعدل فإن ما استلزم ثبوت شيء وصدقه استلزم كذب نقيضه وكان عدم اللازم مستلزما لعدم الملزوم فما كان مستلزما لثبوت النبوة وصدق المخبر بها كان مستلزما لكذب من نفاها فامتنع أن يكون موجودا مع من نفاها وامتنع أن يكون موجودا مع انتفائها فإن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين فدليل كل مدلول عليه يمتنع ثبوته مع عدم المدلول عليه فانه مستلزم لثبوته فلو وجد مع عدمه للزم الجمع بين النقيضين فما كان دليلا على نبوة شخص فهو دليل على جنس النبوة فإن نبوة الشخص لا تثبت إلا مع ثبوت جنس النبوة فيمتنع وجود ذلك الدليل مع عدم النبوة وثبوت أحد النقيضين مستلزم لنفي الآخر فثبوت صدق المخبر بثبوتها مستلزم لكذب المخبر بانتفائها فهذا أمر عقلي مقطوع به معلوم بالبديهة بعد تصوره في جميع الأدلة أدلة النبوة وغيرها فلا يجوز أن يكون ما دل على النبوة وعلى صدق المخبر بها وكذب المكذب بها دليلا للمكذب بها ولا دليلا مع انتفائها كالمتنبي الذي يدعي النبوة ولا نبوة معه فلا يتصور أن يكون معه ولا مع المصدق بنبوته شيء من دلائل النبوة وأما كون دليل من دلائل النبوة مع المصدق بها كائنا من كان فهذا حق بل هذا هو الواجب فمن صدق بها بلا دليل كان متكلما بلا علم فكل من صدق بالنبوة بعلم فمعه دليل من أدلتها وإخبار أهل التواتر بما جاءت به الانبياء من الآيات

هو من أدلة ثبوتها فكل من آمن بالرسول عن بصيرة فلا بد أن يكون في قلبه علم بأنه نبي حق إما علم ضروري أو علم نظري بدليل من الأدلة والعلوم النظرية مع أدلتها تبقى ضرورية وقد تكون في نفس الامر علوم ضرورية ولا يمكنه التعبير عما يدل عليها كالذي يجده الانسان في نفسه ويعلمه من العلوم البديهية والضرورية وغير ذلك فإن كثيرا من الناس لا يمكنهم بيان الادلة لغيرهم على وجود ذلك عندهم واذا عرف هذا فقولنا دلائل النبوة مختصة بالانبياء لا تكون لغيرهم له معنيان أحدهما أنه لا يشاركهم فيها من يكذب بنبوتهم لا من يدعي نبوة كاذبة وهذا ظاهر بين فإن الدليل على الشيء لا يكون دليلا على وجوده وعلى عدمه فلا يكون ما يدل النبوة أو غيرها وعلى صدق المخبر بذلك دليلا على كذب المخبر بذلك ولا دليلا على النبوة مع انتفاء النبوة والمعنى الثاني أنها لا توجد إلا مع النبي فهذا إن أريد به أنها لا توجد إلا والنبوة ثابتة فهو صحيح وإن كانت مع ذلك دليلا على نبي فلا يمتنع أن يكون الشيء الواحد دليلا على أمور كثيرة لكن يمتنع أن يوجد مع انتفاء مدلوله فما دل على النبوة قد يدل على أمور أخرى من أمور الرب تبارك وتعالى لكن لا يمكن أن يدل مع انتفاء النبوة أي مع كون النبوة المدلول عليها باطلة لا حقيقة لها ولكن قد يدل مع موت النبي ومع غيبته فان موته وغيبته لا ينفي نبوته وليس من شرط دليل النبي أن يكون موجودا في محل المدلول عليه ولا في مكانه ولا زمانه وقول من اشترط في آيات الأنبياء أن تكون مقترنة بالدعوى في غاية الفساد والتناقض كما قد بسط لا سيما والآيات قد تكون مخلوقة نائية عن النبي وعن مكانه وكذلك سائر الأدلة لا سيما ما يجري مجرى الخبر فالاخبار الدالة على وجود المخبر به لا يجب أن تكون مقارنة المخبر به لا في محله ولا زمانه ولا مكانه وآيات الانبياء هي شهادة من الله وإخبار منه بنبوتهم فلا يجب أن تكون في محل النبوة ولا زمانها ولا مكانها لكن يجوز ذلك فلا يمتنع أن يكون الدليل في محل المدلول عليه أو في مكانه لكن يجوز ذلك فيه فالانسان قد تقوم به أمور تدل على بعض الأمور التي فيه وقد تعلم أموره بخبر غيره وببعض آثاره المنفصلة عنه فاذا أريد بأن آيات الانبياء مختصة بهم وأنها لا تكون لغيرهم أنها لا تكون مع انتفاء النبوة المدلول عليها فهذا صحيح

لأنه يستلزم الجمع بين النقيضين وأما إذا أريد أنها لا توجد إلا في ذات النبي أو مقترنة بخبره عن نبوته أو في المكان الذي كان فيه أو في الزمان فهذا كله غلط وخطأ ممن ظنه وجهل بين بحقائق الأدلة وان كان من الأدلة وآيات النبوة ما يكون في ذات النبي ويكون مقترنا بقوله إني رسول الله ويكون في المكان الذي هو فيه وفي زمانه فهذا يمكن وهو الواقع فإن النبي صلى الله عليه و سلم بل وغيره من الانبياء كان في نفس أقوالهم وأفعالهم وصفاتهم وأخلاقهم وسيرهم أمور كثيرة تدل على نبوتهم وكذلك لما قال إني رسول الله أتى مع ذلك بآيات دلت على صدقه وكذلك في مكانه وزمانه ظهر من انشقاق القمر وغيره ما دل على نبوته لكن آيات الانبياء أعم من ذلك كما أن دليل كل شيء أعم من أن يختص بمعنى المدلول وزمانه ومكانه وبهذا يظهر خطأ كثير من الناس في عدم معرفتهم بجنس آيات الانبياء لعدم تحقيقهم جنس الأدلة والبراهين وأن خاصة الدليل أنه يلزم من تحققه تحقق المدلول عليه فقط سواء كان مقارنا للمدلول عليه أو كان حالا في محله أو مجاوزا لمحله أو لم يكن كذلك والنبوة قد قال طائفة من الناس إنها صفة في النبي وقال طائفة ليست صفة ثبوتية في النبي بل هي مجرد تعلق الخطاب الآلهي به بقول الرب إني أرسلتك فهي عندهم صفة إضافية كما يقولونه في الاحكام الشرعية انها صفات اضافية للافعال لا صفات حقيقية والصحيح أن النبوة تجمع هذا وهذا فهي تتضمن صفة ثبوتية في النبي وصفة إضافية هي مجرد تعلق الخطاب الآلهي به بقول الرب إني أرسلتك فهي عندهم صفة إضافية كما يقولونه في الاحكام الشرعية إنها صفات إضافية للأفعال لا صفات حقيقية لكن على الاقوال الثلاثة ليس من شرط أدلتها أن تكون حالة في ذات النبي ولكن يجوز أن تكون لها أدلة قائمة بذات النبي كما كان في محمد صلى الله عليه و سلم عدة أدلة من دلائل النبوة كما هو مبسوط في دلائل نبوته اذ المقصود هنا الكلام على جنس آيات الانبياء لا على شيء معين لا دليل معين ولا نبي معين فاذا عرف أن دلائل النبوة يمتنع ثبوتها لشخص لا نبوة فيه إذا ادعاها أو ادعيت له كذبا ويمتنع ثبوتها مع المكذب بالنبوة الصادقة وإنها لا توجد إلا والنبوة ثابتة وأنها دليل على صدق المخبر بالنبوة من جميع الخلق فكل من آمن أن محمدا رسول الله فقد أخبر عن نبوته كما أخبر هو عن نبوة

نفسه بما أمره الله به حيث قال قل يا أيها الناس إني رسول الله اليكم جميعا فهذا الخبر وهو الشهادة بأنه رسول الله الى الناس جميعا سواء وجد منه او من غيره هو مدلول عليه بجميع دلائل النبوة فاذا وجد هذا الخبر في غير النبي ووجد ما يدل على صدق هذا الخبر كان ذلك من دلائل النبوة كما وجد هذا في خلق كثير من المؤمنين ومن دلائل النبوة وجود العلم الضروري بخبر أهل التواتر الذين أخبروا بالآيات فهذا العلم الضروري هو بمنزلة المشاهدة للآيات وكذلك ما يوجد لأهل الايمان مما يستلزم صدق خبرهم بأن محمدا رسول كما يوجد لأمته من الآيات الكثيرة عند تحقيق أمره ونصره وطاعته والجهاد عن دينه والذب عنه وبيان ما أرسل به كما وجد أمثال ذلك للصحابة والتابعين وسائر المؤمنين الى يوم القيامة
فصل فجميع ما يختص بالسحرة والكهان هو مناقض للنبوة فوجود ذلك يدل على أن صاحبه ليس بنبي ويمتنع أن يكون شيء من ذلك دليلا على النبوة فإن ما استلزم عدم الشيء لا يستلزم وجوده وكذلك ما يأتي به أهل الطلاسم وعبادة الكواكب ومخاطبتها كل ذلك مناقض للنبوة فان النبي لا يكون إلا مؤمنا وهؤلاء كفار فوجود ما يناقض الايمان هو مناقض للنبوة بطريق الأولى وهو آية ودليل وبرهان على عدم النبوة فيمتنع أن يكون دليلا على وجودها وجميع ما يختص بالسحرة والكهان وغيرهم ممن ليس بنبي لا يخرج عن مقدور الانس والجن وأعني بالمقدور ما يمكنهم التوصل اليه بطريق من الطرق فان من الناس من يقول ان المقدور لا بد أن يكون في محل القدرة وليس هذا هو لغة العرب ولا غيرهم من الأمم لا لغة القرآن والحديث ولا غيرهما وإنما يدعون ذلك من جهة العقل وقولهم في ذلك باطل من جهة العقل لكن المقصود هنا التكلم باللغة المعروفة لغة العرب وغيرهم التي كان نبينا صلى الله عليه و سلم وغيره يخاطب بها الناس كقوله في الحديث الصحيح لابي مسعود بما ضرب غلامه اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك على هذا فجعل نفس المملوك مقدورا عليه لسيده كما يقول الناس القوة على الضعيف ضعف في القوة ويقولون فلان قادر على فلان وفلان عجز عن فلان

ويقولون فلان ناسج هذا الثوب وبنى هذه الدار ومنه قوله تعالى ويصنع الفلك فجعل الفلك مصنوعة لنوح ومنه قوله تعالى والله خلقكم وما تعملون أي والأصنام التي تعملونها وتنحتونها فجعل ما في الاصنام من التأليف معمولا لهم كما جعل تأليف السفية مصنوعا لهم وهذا كثير والمقصود هنا أن ما يأتي به السحرة والكهان ونحوهم هو مما يصنعه الانس والجن لا يخرج ذلك عنهم والانس والجن قد أرسلت اليهم الرسل فآيات الانبياء خارجة عن قدرة الانس والجن لا يقدر عليها لا الانس ولا الجن ولله الحمد والمنة ومقدورات الجن هي من جنس مقدورات الانس لكن تختلف في المواضع فإن الإنسي يقدر على أن يضرب غيره حتى يمرض أو يموت بل يقدر أن يكلمه بكلام يمرض به أو يموت فما يقدر عليه الساحر من سحر بعض الناس حتى يمرض أو يموت هو من مقدور الجن وهومن جنس مقدور الانس ومنعه من الجماع هو من جنس المرض المانع له من ذلك والحب والبغض لبعض الناس كما يفعله الساحر هو من استعانته بالشياطين وهو من جنس مقدور الانس بل شياطين الانس قد يؤثرون من البغض والحب أعظم مما تؤثره شياطين الجن والجن تقدر على الطيران في الهواء وهو من الأعمال والطيور تطير فهو من جنس مقدور الانس لكن يختلف المحل بأن هؤلاء سيرهم في الهواء والانس سيرهم على الأرض وكذلك المشي على الماء وطي الارض وهو قطع المسافة البعيدة في زمان قريب هو من هذا الجنس هو مما تفعله الجن وهو مما تفعله الجن ببعض الناس وقد أخبر الله عن العفريت أنه قال لسليمان عن عرش بلقيش وهو باليمن وسليمان بالشام أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ولهذا يوجد كثير من الكفار والفساق والجهال تطير بهم الجن في الهواء وتمشي بهم على الماء وتقطع بهم المسافة البعيدة في المدة القريبة وليس شيء من ذلك من آيات الانبياء ولله الحمد والمنة إذ كان مقدور الانس والجن والاخبار ببعض الامور الغائبة التي يأتي بها الكهان هو أيضا من مقدور الجن فإنهم تارة يرون الغائب فيخبرون به وتارة يسترقون السمع من السماء فيخبرون به وتارة يسترقون وهم يكذبون في ذلك كما أخبر النبي صلى الله عليه و سلم عنهم وما تخبر به الانبياء من الغيب لا يقدر عليه إنس ولا جن

ولا كذب فيه وأخبار الكهان وغيرهم كذبها أكثر من صدقها وكذلك كل من تعود الاخبار عن الغائب فاخبار الجن لا بد أن تكذب فإنه من طلب منهم الاخبار بالمغيب كان من جنس الكهان وكذبوا في بعض ما يخبرون به وإن كانوا صادقين في البعض وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن الكهان فقيل له إن منا قوما يأتون الكهان قال فلا تأتوهم وثبت عنه في الصحيح أنه قال من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما وفي السنن عنه أنه قال من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد والنبي صلى الله عليه و سلم لما أسري به من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى لم يكن المقصود مجرد وصوله الى الاقصى بل المقصود ما ذكره الله بقوله لنريه من آياتنا كما قال في سورة النجم ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى وما رآه مختص بالانبياء لا يكون ذلك لمن خالفهم ولا يريه الله تعالى ما أراه محمد حين أسري به وكذلك صلاته بالانبياء في المسجد الاقصى وركوبه على البراق هذا كله من خصائص الانبياء والذين تحملهم الجن وتطير بهم من مكان الى مكان أكثرهم لا يدري كيف حمل بل يحمل الرجل الى عرفات ويرجع وما يدري كيف حملته الشياطين ولا يدعونه يفعل ما أمر الله به كما أمر الله به بل قد يقف بعرفات من غير إحرام ولا إتمام مناسك الحج وقد يذهبون به الى مكة ويطوف بالبيت من غير إحرام اذا حاذى الميقات وذلك واجب في أحد قولي العلماء ومستحب في الآخر فيفوته المشروع أو يوقعونه في الذنب ويغرونه بأن هذا من كرامات الصالحين وليس هو مما يكرم الله به وليه بل هو مما أضلته به الشياطين وأوهمته أن ما فعله قربة وطاعة أو يكون صاحبه له عند الله منزلة عظيمة وليس هو قربة وطاعة وصاحبه لا يزداد بذلك منزلة عند الله فإن التقرب الى الله انما يكون بواجب أو مستحب وهذا ليس بواجب ولا مستحب بل يضلون صاحبه ويصدونه عن تكميل ما يحبه الله منه من عبادته وطاعته وطاعة رسوله ويوهمونه أن هذا من افضل الكرامات حتى يبقى طالبا له عاملا عليه وهم بسبب اعانتهم له على ذلك قد

استعملوه في بعض ما يريدون مما ينقص قدره عند الله أو وقوعه في ذنوب وإن لم يعرف انها ذنوب فيكون ضالا ناقصا وإن غفر له ذلك لعدم علمه فإنه نقص درجته وخفض منزلته بذلك الذي أوهموه أنه رفع درجته وأعلى منزلته وهذا من جنس ما تفعله السحرة فإن الساحر قد يصعد في الهواء والناس ينظرونه وقد يركب شيئا من الجمادات إما قصبة واما خابية وإما مكنسة وإما غير ذلك فيصعد به في الهواء وذلك أن الشياطين تحمله وتفعل الشياطين هذا ونحوه بكثير من العباد والضلال من عباد المشركين وأهل الكتاب والضلال من المسلمين فتحملهم من مكان الى مكان وقد يرى أحدهم بما يركبه إما فرس وإما غيره وهو شيطان تصور له في صورة مركوب وقد يرى أنه يمشي في الهواء من غير مركوب والشيطان قد حمله والحكايات في هذا كثيرة معروفة عند من يعرف هذا الباب ونحن نعرف من هذا أمورا يطول وصفها وكذلك المشي على الماء قد يجعل له الجن ما يمشي عليه وهو يظن أنه يمشي على الماء وقد يخيلون أليه أنه التقى طرفا النهرليعبر والنهر لم يتغير في نفسه ولكن خيلوا اليه ذلك وليس هذا ولله الحمد شيء من جنس معجزات الانبياء وقد يمشي على الماء قوم بتأييد الله لهم وإعانته إياهم بالملائكة كما يحكى عن المسيح وكما جرى للعلاء بن الحضرمي في عبور الجيش ولابي مسلم الخولاني وذلك اعانة على الجهاد في سبيل الله كما يؤيد الله المؤمنين بالملائكة ليس هو من فعل الشياطين والفرق بينهما من جهة السبب ومن جهة الغاية أما السبب فإن الصالحون يسمون الله ويذكرونه ويفعلون ما يحبه الله من توحيده وطاعته فييسر لهم بذلك ما ييسره ومقصودهم به نصر الدين والاحسان الى المحتاجين وما تفعله الشياطين يحصل بسبب الشرك والكذب والفجور والمقصود به الاعانة على مثل ذلك والجن فيهم مسلم وكافر فالمسلمون منهم يعاونون الانس المسلمين كما يعاون المسلمون بعضهم بعضا والكفار مع الكفار والجن الذين يطيعون الانس وتستخدمهم الانس ثلاثة أصناف أعلاها أن يأمروهم بما أمر الله به ورسله فيأمرونهم بعبادة الله وحده وطاعة رسله فإن الله أوجب على الجن طاعة الرسل كما أوجب ذلك على الانس وقال تعالى ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا

استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي اجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون يا معشر الجن والانس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على انفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون فالرسل تكون من الانس الى الثقلين والنذر من الجن باتفاق العلماء واختلفوا هل يكون في الجن رسل والاكثرون على أنه لا رسل فيهم كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي اليهم من أهل القرى وعن الحسن البصري قال لم يبعث الله نبيا من أهل البادية ولا من الجن ولا من النساء ذكره عنه طائفة منهم البغوي وابن الجوزي وقال قتادة ما نعلم أن الله أرسل رسولا قط إلا من أهل القرى لأنهم كانوا أعلم وأحلم من أهل العمور رواه ابن أبي حاتم وذكره طائفة ونبينا محمد صلى الله عليه و سلم قد أرسل إلى الثقلين وقد آمن به من آمن من جن نصيبين فسمعوا القرآن وولوا الى قومهم منذرين ثم أتوا فبايعوه على الاسلام بشعب معروف بمكة بين الأبطح وبين جبل حراء وسألوه الطعام لهم ولدوابهم فقال لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم قال النبي صلى الله عليه و سلم فلا تستنجوا بهما فانهما زاد إخوانكم من الجن والاحاديث بذلك كثيرة مشهورة في الصحيح والسنن والمسند وكتب التفسير والفقه وغيرها وقد روى الترمذي وغيره أنه قرأ عليهم سورة الرحمن وهي خطاب للثقلين وقد اتفق العلماء على أن كفارهم يدخلون النار كما أخبر الله بذلك في قوله قال ادخلوا في أمم قبلكم من الجن والانس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها وقال الله تعالى لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين وقال لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وأما مؤمنوهم فأكثر العلماء على أنهم يدخلون الجنة وقال طائفة بل يصيرون ترابا كالدواب والاول أصح وهو قول الأوزاعي وابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد ونقل ذلك عن مالك والشافي وأحمد بن حنبل وهو قول أصحابهم

واحتج عليه الاوزاعي وغيره بقوله ولكل درجات مما عملوا بعد ذكره أهل الجنة وأهل النار من الجن والانس كما قال في سورة الأنعام وفي الاحقاف ولكل درجات مما عملوا بعد ذكر هل الجنة والنار وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم درجات أهل النار تذهب سفولا ودرجات أهل الجنة تذهب صعودا فنبينا صلى الله عليه و سلم هو مع الجن كما هو مع الانس والانس معه إما مؤمن به وإما مسلم له وإما مسالم له وإما خائف منه وكذلك الجن منهم المؤمن به ومنهم المسلم له مع نفاق ومنهم المعاهد المسالم لمؤمني الجن ومنهم الحربي الخائف من المؤمنين وكان هذا أفضل مما أوتيه سليمان فان الله سخر الجن لسليمان تطيعه طاعة الملوك فإن سليمان كان نبيا ملكا مثل داود ويوسف وأما محمد فهو عبد رسول مثل ابراهيم وموسى وعيسى وهؤلاء أفضل من أولئك فأولياء الله المتبعون لمحمد إنما يستخدمون الجن كما يستخدمون الانس في عبادة الله وطاعته كما كان محمد صلى الله عليه و سلم يستعمل الانس لا في غرض له غير ذلك ومن الناس من يستخدم من يستخدمه من الإنس في أمور مباحة كذلك فيهم من يستخدم الجن في أمور مباحة لكن هؤلاء لا يخدمهم الانس والجن الا بعوض مثل أن يخدموهم كما يخدمونهم أو يعينونهم على بعض مقاصدهم وإلا فليس أحد من الانس والجن يفعل شيئا إلا لغرض والانس والجن اذا خدموا الرجل الصالح في بعض أغراضه المباحة فاما أن يكونوا مخلصين يطلبون الاجر من الله وإلا طلبوه منه إما دعاءه لهم وإما نفعه لهم بجاهه أو غير ذلك والقسم الثالث أن يستخدم الجن في أمور محظورة أو بأسباب محظورة مثل قتل نفس وإمراضها بغير حق ومثل منع شخص من الوطء ومثل تبغيض شخص الى شخص ومثل جلب من يهواه الشخص اليه فهذا من السحر وقد يقع مثله لكثير من الناس ولا يعرف السحر بل يكون موافقا للشياطين على بعض أغراضهم مثل شرك أو بدعة وضلالة أو ظلم أو فاحشة فيخدمونه ليفعل مايهوونه وهذا كثير في عباد المشركين وأهل الكتاب وأهل الضلال من المسلمين وكثير من هؤلاء لا يعرف أن ذلك من الشياطين بل يظنه من كرامات الصالحين ومنهم من يعرف أنه من الشياطين ويرى أنه بذلك حصل له ملك وطاعة ونيل ما يشتهيه من الرياسة والشهوات وقتل عدوه فيدخل في

ذلك كما تدخل الملوك الظلمة في أغراضهم وليس أحد من الناس تطيعه الجن طاعة مطلقة كما كانت تطيع سليمان بتسخير من الله وأمر منه من غير معارضة كما أن الطير كانت تطيعه والريح قال تعالى ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور والجن والانس فيهم المؤمن المطيع والمسلم الجاهل أو المنافق أو العاصي وفيهم الكافر وكل ضرب يميل الى بني جنسه والذي أعطاه الله تعالى سليمان خارج عن قدرة الجن والانس فإنه لا يستطيع أحد أن يسخر الجن مطلقا لطاعته ولا يستخدم أحدا منهم الا بمعاوضة إما عمل مذموم تحبه الجن وإما قوم تخضع له الشياطين كالاقسام والعزائم فان كل جني فوقه من هو أعلى منه فقد يخدمون بعض الناس طاعة لمن فوقهم كما يخدم بعض الانس لمن أمرهم سلطانهم بخدمته لكتاب معه منه وهم كارهون طاعته وقد يأخذون منه ذلك الكتاب ولا يطيعونه وقد يقتلونه أو يمرضونه فكثير من الناس قتلته الجن كما يصرعونهم والصرع لأجل الزنا وتارة يقولون إنه آذاهم إما بصب نجاسة عليهم وإما بغير ذلك فيصرعون صرع عقوبة وانتقام وتارة يفعلون ذلك عبثا كما يعبث شياطين الانس بالناس والجن أعظم شيطنة وأقل عقلا وأكثر جهلا والجني قد يحب الإنسي كما يحب الأنسي الانسي وكما يحب الرجل المرأة والمرأة الرجل ويغار عليه ويخدمه بأشياء واذا صار مع غيره فقد يعاقبه بالقتل وغيره كل هذا واقع ثم الذي يخدمونه تارة يسرقون له شيئا من أموال الناس مما لم يذكر اسم الله عليه ويأتونه إما بطعام وإما شراب واما لباس واما نقد وإما غير ذلك وتارة يأتونه في المفاوز بماء عذب وطعام وغير ذلك وليس شيء من ذلك من معجزات الانبياء ولا كرامات الصالحين فإن ذلك انما يفعلونه بسبب شرك وظلم وفاحشة وهو لو كان مباحا لم يجز أن يفعل بهذا السبب فكيف اذا كان في نفسه ظلما محرما لكونه من الظلم والفواحش ونحو ذلك وقد يخبرون بأمور غائبة مما رأوه وسمعوه ويدخلون في جوف الانسان قال النبي صلى الله عليه و سلم ان الشيطان يجري من الانسان مجرى الدم لكن

إنما سلطانهم كما قال الله إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون انما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ولما قال الشيطان رب بما أغويتني لأزينن لهم في الارض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال الله تعالى ان عبادي ليس لك عليهم سلطان ثم قال إلا أي لكن من اتبعك من الغاوين وان جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم فأهل الاخلاص والايمان لا سلطان له عليهم ولهذا يهربون من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ويهربون من قراءة آية الكرسي وآخر سورة البقرة وغير ذلك من قوارع القرآن ومن الجن من يخبر بأمور مستقبلة للكهان وغير الكهان مما يسرقونه من السمع والكهانة كانت ظاهرة كثيرة بأرض العرب فلما ظهر التوحيد هربت الشياطين وبطلت أو قلت ثم انها تظهر في المواضع التي يختفي فيها أثر التوحيد وقد كان حول المدينة بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه و سلم كهان يتحاكمون اليهم وكان أبو بردة بن نيار كاهنا ثم أسلم بعد ذلك وهو من أسلم والاصنام لها شياطين كانت تتراءى للسدنة أحيانا وتكلمهم أحيانا قال أبي بن كعب مع كل صنم جنية وقال ابن عباس في كل صنم شيطان يتراءى للسدنة فيكلمهم والشياطين كما قال الله تقترن بما يجانسها بأهل الكذب والفجور قال تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون فكيف يجوز أن يقال إن مثل هذا يكون معجزة لنبي أو كرامة لولي وهذا يناقض الايمان ويضاده والانبياء والاولياء أعداء هؤلاء قال تعالى ان الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا انما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير وقال تعالى ألم أعهد اليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون وهذا يظهر الفرق بين إخبار الانبياء عن الغيب ما لا سبيل لمخلوق الى علمه إلا منه كما قال تعالى عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا الا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم

وأحصى كل شيء عددا فقوله على غيبه هو غيبه الذي اختص به وأما ما يعلمه بعض المخلوقين فهو غيب عمن لم يعلمه وهو شهادة لمن علمه فهذا أيضا تخبر منه الانبياء بما لا يمكن الشياطين أن تخبر به كما في إخبار اللمسيح بقوله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم فإن الجن قد يخبرون بما يأكله بعض الناس وبما يدخرونه لكن الشياطين انما تتسلط على من لا يذكر اسم الله كالذي لا يذكر اسم الله اذا دخل فيدخلون معه وإن لم يذكر اسم الله اذا أكل فانهم يأكلون معه وكذلك اذا ادخر شيئا ولم يذكر اسم الله عليه عرفوا به وقد يسرقون بعضه كما جرى هذا لكثير من الناس وأما من يذكر اسم الله على طعامه وعلى ما يجتازه فلا سلطان لهم عليه لا يعرفون ذلك ولا يستطيعون أخذه والمسيح عليه السلام كان يخبر المؤمنين بما يأكلون وما يدخرون مما ذكر اسم الله عليه والشياطين لا تعلم به ولهذا من يكون إخباره عن شياطين تخبره لا يكاشف أهل الايمان والتوحيد وأهل القلوب المنورة بنور الله بل يهرب منهم ويعترف أنه لا يكاشف هؤلاء وأمثالهم وتعترف الجن والانس الذين خوارقهم بمعاونة الجن لهم أنهم لا يمكنهم أن يظهروا هذه الخوارق بحضرة أهل الايمان والقرآن ويقولون أحوالنا لا تظهر قدام الشرع والكتاب والسنة وإنما تظهر عند الكفار والفجار وهذا لأن أولئك أولياء الشياطين ولهم شياطين يعاونون شياطين المخدومين ويتفقون على ما يفعلونه من الخوارق الشيطانية كدخول النار مع كونها لم تصر عليهم بردا وسلاما فإن الخليل لما ألقى في النار صارت عليه بردا وسلاما وكذلك أبو مسلم الخولاني لما قال له الاسود العنسي المتنبي أتشهد أني رسول الله قال ما أسمع قال أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم فأمر بنار فأوقدت له وألقي فيها فجاءوا اليه فوجدوه يصلي فيها وقد صارت عليه بردا وسلاما فقدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم وأخذه عمر فأجلسه بينه وبين أبي بكر وقال الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد من فعل به كما فعل بابراهيم وأما اخوان الشياطين فاذا دخلت فيهم الشياطين فقد يدخلون النار ولا تحرقهم كما يضرب أحدهم الف سوط ولا يحس بذلك فإن الشياطين تتلقى ذلك وهذا أمر كثير معروف قد رأينا من ذلك ما يطول وصفه وقد ضربنا نحن من الشياطين في

الانس ما شاء الله حتى خرجوا من الانس ولم يعاودوه وفيهم من يخرج بالذكر والقرآن وفيهم من يخرج بالوعظ والتخويف وفيهم من لا يخرج إلا بالعقوبة كالانس فهؤلاء الشياطين اذا كانوا مع جنسهم الذين لا يهابونهم فعلوا هذه الامور وأما اذا كانوا عند أهل ايمان وتوحيد وفي بيوت الله التي يذكر فيها اسمه لم يجترئوا على ذلك بل يخافون الرجل الصالح أعظم مما يخافه فجار الانس ولهذا لا يمكنهم عمل سماع المكاء والتصدية في المساجد المعمورة بذكر الله ولا بين أهل الايمان والشريعة المتبعين للرسول إنما يمكنهم ذلك في الأماكن التي تأتيها الشياطين كالمساجد المهجورة والمشاهد والمقابر والحمامات والمواخير فالمواضع التي نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن الصلاة فيها كالمقبرة وأعطان الابل والحمام وغيرها فتكون حال هؤلا فيها أقوى لأنها مواضع الشياطين كالماخور والمزبلة والحمام ونحو ذلك بخلاف الأمكنة التي ظهر فيها الايمان والقرآن والتوحيد التي أثنى الله على أهلها وقال فيهم الله نور السماوات والأرض مثل نوره مشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الامثال للناس والله بكل شيء عليم في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والابصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب فهذه أمكنة النور والصالحين والملائكة لا تتسلط عليها الشياطين بكل ما تريد بل كيدهم فيها ضعيف كما أن كيدهم في شهر رمضان ضعيف اذ كانوا فيه يسلسلون لكن لم يبطل فعلهم بالكلية بل ضعف فشرهم فيه على أهل الصوم قليل بخلاف أهل الشراب وأهل الظلمات فإن الشياطين هنالك محالهم وهم يحبون الظلمة ويكرهون النور ولهذا ينتشرون بالليل كما جاء في الحديث الصحيح ولهذا أمر الله بالتعوذ من شر غاسق اذا وقب وخوارق الجن كالإخبار ببعض الامور الغائبة وكالتصرفات الموافقة لأغراض بعض الانس كثيرة معروفة في جميع الامم فقد كانت في العرب

كثيرة وكذلك في الهند وفي الترك والفرس والبربر وسائر الامم فهي أمور معتادة للجن والانس وآيات الانبياء كما تقدم خارجة عن مقدور الانس والجن فإنهم مبعوثون الى الانس والجن فيمتنع أن تكون آياتهم أمورا معروفة فيمن بعثوا اليه اذ يقال هذه موجودة كثيرا للانس فلا يختص بها الانبياء بل هذه الخوارق هي آية وعلامة على فجور صاحبها وكذبه فهي ضد آيات الانبياء التي تستلزم صدق صاحبها وعدله ولهذا يكون كثير من الذين تخدمهم الشياطين من أهل الشياطين وهذا معروف لكثير ممن تخدمه الشياطين بل من طوائف المخدومين من يكونون كلهم من هذا الباب كالبويي الذي للترك وأكثر المولهين من هذا الباب وهم يصعدون بهم في الهواء ويدخلون المدن والحصون بالليل والابواب مغلقة ويدخلون على كثير من رؤساء الناس ويظنون أن هؤلاء صالحون قد طاروا في الهواء ولا يعرف أن الجن طارت بهم وهذه الاخوال الشيطانية تبطل أو تضعف إذا ذكر الله وتوحيده وقرئت قوارع القرآن لا سيما آية الكرسي فإنها تبطل عامة هذه الخوارق الشيطانية وأما آيات الانبياء والأولياء فتقوى بذكر الله وتوحيده والجن المؤمنون قد يعينون المؤمنين بشيء من الخوارق كما يعين الانس المؤمنون للمؤمنين بما يمكنهم من الإعانة وما لا يكون إلا مع الإقرار بنبوة الانبياء فهو من آياتهم فوجوده يؤيد آياتهم لا يناقضها مع أن آيات الانبياء التي يدعون اعلى من هذا وأعلى من كرامات الاولياء فإن تلك هي الآيات الكبرى والذين ذكر عنهم إنكار كرامات الاولياء من المعتزلة وغيرهم كأبي اسحاق الاسفراييني وأبي محمد بن أبي زيد وكما ذكر ذلك أبو محمد بن حزم لا ينكرون الدعوات المجابة ولا ينكرون الرؤيا الصادقة فإن هذا متفق عليه بين المسلمين وهو أن الله تعالى قد يخص بعضهم بما يريه من المبشرات وقد كان سعد بن أبي وقاص معروفا باجابة الدعاء فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال اللهم سدد رميته وأجب دعوته وحكاياته في ذلك مشهورة وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لم يبق بعدي من النبوة الا الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له وثبت عنه في الصحيح أنه قال ان من عباد الله من لو أقسم على الله لابره ذكر ذلك لما أقسم أنس بن النضر أنه لا تكسر ثنية الربيع

فاستجاب الله ذلك وايضا فإن منهم البراء بن مالك أخو أنس بن مالك وكانوا اذا اشتد الحرب يقولون يا براء أقسم على ربك فيقسم على ربه فينصرون والقسم قيل هو من جنس الدعاء لكن هو طلب مؤكد بالقسم فالسائل يخضضع ويقول أعطني والمقسم يقول أقسم عليك لتعطيني وهو خاضع سائل لكن من الناس من يدعي له من الكرامات مالا يجوز ان يكون للانبياء كقول بعضهم ان لله عبادا لو شاءوا من الله أن لا يقيم القيامة لما اقامها وقول بعضهم إنه يعطي كن أي شيء أرادة قال له كن فيكون وقول بعضهم لا يعرب عن قدرته ممكن كما لا يعزب عن قدرة ربه محال فانه لما كثر في الغلاة من يقول بالحلول والاتحاد وإلهية بعض البشر كما قاله النصارى في المسيح صاروا يجعلون ما هو من خصائص الربوبية لبعض البشر وهذا كفر وأيضا فإن كثيرا من الناس لا يكون من أهل الصلاح وتكون له خوارق شيطانية كما لعباد المشركين وأهل الكتاب فتتجلى لهم على أنها كرامات فمن الناس من يكذب بها ومنهم من يجعل أهلها من أولياء الله وذلك لأن الطائفتين ظنت أن مثل هذه الخوارق لا يكون إلا لأولياء الله ولم يميزوا بين الخوارق الشيطانية التي هي جنس ما للسحرة والكهان ولعباد المشركين وأهل الكتاب وللمتنبئين الكذابين وبين الكرامات الرحمانية التي يكرم الله بها عباده الصالحين فلما لم يميزوا بين هذا وهذا وكان كثير من الكفار والفجار وأهل الضلال والبدع لهم خوارق شيطانية صار هؤلاء منهم حزبين حزبا قد شاهدوا ذلك وأخبرهم به من يعرفون صدقه فقالوا هؤلاء اولياء الله وحزبا رأوا أن أولئك خارجون عن الشريعة وعن طاعة الله ورسوله فقالوا ليس هؤلاء من الأولياء الذين لهم كرامات فكذبوا بوجود ما رآه أولئك وأولئك قد عاينوا ذلك أو تواتر عندهم فصار تكذيب هؤلاء مثل تكذيب من ينكر السحر والكهانة والجن وصرعهم للانس إذا كذب ذلك عند من رأى ذلك أو ثبت عنده ومن كذب بما تيقن غيره وجوده نقصت حرمته عنه هذا المتيقن وكان عنده إما جاهلا وإما معاندا فربما رد عليه كثيرا من الحق بسبب ذلك ولهذا صار كثير من المنتسبين إلى زهد أو فقر أو تصرف أو وله أو غير ذلك لا يقبلون قولهم ولا يعبأون بخلافهم لأنهم كذبوا بحق

قد تيقنه هؤلاء وأنكروا وجوده وكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه وقد يدخلون انكار ذلك في الشرع كما أدخلت المعتزلة ونحوهم إنكار كرامات الأولياء وإنكار السحر والكهانة في الشرع بناء على أن ذلك يقدح في آيات الانبياء فجمعوا بين التكذيب بهذه الامور الموجودة وبين عدم العلم بآيات الانبياء والفرق بينها وبين غيرها حيث ظنوا أن هذه الخوارق الشيطانية من جنس آيات الانبياء وأنها نظير لها فلو وقعت لم يكن للأنبياء ما يتميزون به والذين ردوا على هؤلاء من الأشعرية ونحوهم يشاركونهم في هذا في التسوية بين الجنسين وأنه لا فرق لكن هؤلاء لما تيقنوا وجودها جعلوا الفرق ما ليس بفرق وهو اقترانها بالدعوى والتحدي بمثلها وعدم المعارضة وهم يقولون إنا نعلم بالضرورة أن الرب إنما خلقها لتصديق النبي وهذا كلام صحيح لكنه يستلزم بطلان ما أصلوه من أنه لا يخلق شيئا لشيء وأيضا فاختصاصها بوجود العلم الضروري عندها دون غيرها لا بد أن يكون لأمر أوجب التخصيص وهم يقولون بل قد تستوي الامور ويوجد العلم الضروري ببعضها دون بعض كما قالوا مثل ذلك في العادات انه يجوز انخراقها كلها بلا سبب على أعظم الوجوه كجعل الجبال بواقيت لكن يعلم بالضرورة أن هذا لا يقع فكذلك قالوا في المعجزات يجوز أن يخلقها على يد كاذب إنما خلقها على يد الصادق بما ادعى من العلم الضروري صحيح وأما قولهم إن المعلوم به يماثل غيره فغلط عظيم بل هم لم يعرفوا الفرق بمنزلة العامي الذي أوردت عليه شبهات السوفسطائية فهو يعلم بالضرورة أنها باطلة ولكن لا يعرف الفرق بينها وبين الحق ولكن العامي يقول فيها فساد لا أعرفه لا يقول دلائل الحق كدلائل الباطل وهؤلاء ادعوا الاستواء في نفس الامر فغلطوا غلطا عظيما ولو قالوا بينهما فرق لكنه لم يتخلص لنا لكان قولهم حقا وكانوا قد ذكروا عدم العلم لا العلم بالعدم كما يقول ذلك كثير من الناس يقول ما أعرف الفرق بينهما وذلك أن العلم الضروري يحصل ببعض الأخبار دون بعض وقد قيل إنا نعلم أنه متواتر بحصول علمنا الضروري به والتحقيق انه اذا حصل له علم ضروري كان قد حصل الخبر

الذي يوجبه لهم وقد لا يحصل لغيرهم والعلم يحصل بعدد المخبرين وبصفاتهم وبأمور أخرى تنضم الى الخبر ومن جعل الاعتبار بمجرد العدد فقد غلط والأكثرون يقولون العلم الحاصل به ضروري وقيل انه نظري وهو اختيار الكعبي وأبي الحسين وأبي الخطاب والتحقيق أنه قد يكون ضروريا وقد يكون نظريا وقد يجتمع فيه الأمران يكون ضروريا ثم إذا نظر فيه وجد أنه يوجب العلم وكذلك العلم الحاصل عقب الآيات قد يكون ضروريا وقد يكون نظريا وكل نظري فإن منتهاه أنه ضروري ولهذا قال أبو المعالي المرتضى عندنا أن جميع العلوم ضرورية أي بعد حصول أسبابها ولا بد من فرق في نفس الامر بين ما يوجبه العلم ومالا يوجبه وأصل خطأ الطائفتين أنهم لم يعرفوا آيات الانبياء وما خصهم الله به ولم يقدروا قدر النبوة ولم يقدروا آيات الانبياء قدرها بل جعلوا هذه الخوارق الشيطانية من جنسها فإما ان يكذبوا بوجودها وإما أن يسووا بينهما ويدعوا فرقا لا حقيقة له ولهذا يوجد كثير ممن يكذب بهذه الخوارق الشيطانية أن تكون لبعض الاشخاص لما يراه من نقص دينه وعلمه فاذا عاينها بعد ذلك أو ثبتت عنده خضع لذلك الشخص الذي كان عنده إما كافرا وإما ضالا وإما مبتدعا جاهلا وذلك لأنه أنكر وجودها معتقدا أنها لا توجد إلا للصالحين فلما تيقن وجودها جعلها دليلا على الصلاح وهو غالط في الاصل بل هذه من الشياطين من جنس ما للسحرة والكهان ومن جنس ما للكفار من المشركين وأهل الكتاب فإن لمشركي الهند والترك وغيرهم ولعباد النصارى من هذه الخوارق الشيطانية أمورا كثيرة يطول وصفها أكثر وأعظم من أكثر مما يوجد منها لاهل الضلال والبدع من المسلمين وما يوجد منها للمنافقين فإن الشياطين لا تتمكن من إغواء المسلمين وإن كان فيهم جهل وظلم كما تتمكن من إغواء المشركين وأهل الكتاب ولهذا ثنى في القرآن قصة موسى مع السحرة وذكر ما يقولوه الكفار لانبيائهم فإنه ما جاء نبي صادق قط الا قيل فيه إنه ساحر أو مجنون كما قال تعالى كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون وذلك أن الرسول يأتي بما يخالف عاداتهم ويفعل ما يرونه غير نافع ويترك ما يرونه نافعا وهذا فعل المجنون فإن المجنون

فاسد العلم والقصد ومن كان مبلغه من العلم إرادة الحياة الدنيا كان عنده من ترك ذلك وطلب مالا يعلمه مجنونا ثم النبي مع هذا يأتي بأمور خارجة عن قدرة الناس من إعلام بالغيوب وأمور خارقة لعاداتهم فيقولون هو ساحر وهذا موجود في المنافقين الملحدين المتظاهرين بالاسلام من الفلاسفة ونحوهم يقولون ان ما أخبرت به الانبياء من الغيوب والجنة والنار هو من جنس قول المجانين وعندهم خوارقهم من جنس خوارق السحرة والممرورين المجانين كما ذكر ابن سينا وغيره لكن الفرق بينهما أن النبي حسن القصد بخلاف الساحر وأنه يعلم ما يقول بخلاف المجنون لكن معجزات الانبياء عندهم قوى نفسانية ليس مع هذا ولا هذا شيء خارج عن قوة النفس والقاضيان أبو بكر وأبو يعلى ومن وافقهما متوقفون في وجود المخدوم الذي تخدمه الجن قالوا لا يقطع بوجوده وكذلك الكاهن ذكروا فيه القولين قول من يقول إنه المتخرص وقول من يقول إنه مخدوم وهم متوقفون فيه لا يقطعون بوجود مخدوم كاهن كما يقطعون بوجود الساحر لأنه في زمانهم وجد الساحر والقرآن أخبرنا بالسحر في سورة البقرة بخلاف الكاهن فإن القرآن ذكر اسمه ولو تدبروا لعلموا ان الكاهن هو المذكور في قوله هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قيل له ان منا قوما يأتون الكهان قال فلا تأتوهم وسئل عن الكهان وما يخبرون به فأخبر أن الجن تسترق السمع وتخبرهم به فالكتاب والسنة أثبتا وجود الكاهن وأحمد قد نص على أنه يقتل كالساحر لكن الكاهن إنما عنده أخبار والساحر عنده تصرف بقتل وإمراض وغير ذلك وهذا تطلبه النفوس أكثر وابن صياد كان كاهنا ولهذا قال له النبي صلى الله عليه و سلم قد خبأت لك خبيئا فقال الدخ فقال اخسأ فلن تعدو قدرك انما أنت من إخوان الكهان ولما قضى في الجنين بغرة قال حمل بن مالك أيودي من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل قتل ذلك يطل فقال إنما أنت من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع فكانوا يسجعون أساجيع وقد رأيت من

هؤلاء شيوخا يسجعون أساجيع كأساجيع الكهان ويكون كثير منها صدقا ولهذا جمع الله بين الكاهن والشاعر في قوله وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين وكذلك في الشعراء ذكر الكاهن والشاعر بعد قوله وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين الى قوله هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك اثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والرسول في آية الحاقة محمد وقال ايضا انه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالافق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين فلما أخبر به أنه قول رسول هو ملك من الملائكة نفى أن يكون قول شيطان ولما أخبر هناك أنه قول رسول من البشر نفى أن يكون قول شاعر أو كاهن فهذا تنزيه للقرآن نفسه ونزه الرسول أن يكون على الغيب بظنين أي متهم وأن يكون بمجنون فالجنون فساد في العلم والتهمة فساد في القصد كما قالوا ساحر أو مجنون وقال في الطور فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين وقد أخبر عن الانبياء قبله أنه ما أتى الذين من قبلهم من رسول الا قالوا ساحر أو مجنون ولم يقولوا كاهن لأن الكاهن عند العرب هو الذي يتكلم بكلام مسجوع وله قرين من الجن وهذا الاسم ليس بذم عند أهل الكتاب بل يسمون أكثر العلماء بهذا الاسم ويسمون هارون وأولاده الذين عندهم التوراة بهذا الاسم والقدر المشترك العلم بالامور الغائبة والحكم بها فعلماء أهل الكتاب يخبرون بالغيب ويحكمون به عن الوحي الذي أوحاه الله وكهان العرب كانت تفعل ذلك عن وحي الشياطين وتمتاز بأنها تسجع الكلام بخلاف اسم الساحر فإنه اسم معروف في جميع الامم وقد يدخل في ذلك عندهم المخدوم الذي تخبره الشياطين ببعض الامور الغائبة ولكون الساحر يأتي

بالخوارق شبهوا به النبي وقالوا ساحر فدل ذلك على قدر مشترك لكن الفرقان بينهما أعظم كالفرق بين الملائكة والشياطين وأهل الجنة وأهل النار وخيار الناس وشرارهم وهذا أعظم الفروق بين الحق والباطل والكفار قالوا عن الانبياء انهم مجانين وسحرة فكما يعلم بضرورة العقل وجود أعظم الفرق بينهم وبين المجانين وأنهم أعقل الناس وأبعدهم عن الجنون فكذلك يعلم بضرورة العقل أعظم الفرق بينهم وبين السحرة وأنهم أفضل الناس وأبعدهم عن السحر فالساحر يفسد الادراك حتى يسمع الانسان الشيء ويراه ويتصور خلاف ما هو عليه والانبياء يصححون سمع الانسان وبصره وعقله والذين خالفوهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون فالسحرة يزيدون الناس عمى وصمما وبكما والانبياء يرفعون عماهم وصممهم وبكمهم كما في الصحيح عن عطاء بن يسار أنه سأل عبد الله بن عمرو روى عبد الله بن سلام أنه قيل له أخبرنا ببعض صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم في التوراة فقال انه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للاميين انت عبدي سميتك المتوكل لست بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالاسواق ولا تجزي بالسيئة السيئة ولكن تجزي بالسيئة الحسنة وتعفو وتغفر ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء فأفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا بأن يقولوا لا اله الا الله وهذا مذكور عند أهل الكتاب في نبوة أشعيا ولفظ التوراة قد يراد به جميع الكتب التي نزلت قبل الانجيل فيقال التوراة والانجيل ويراد بالتوراة الكتاب الذي جاء به موسى وما بعده من نبوة الانبياء المتبعين لكتاب موسى قد يسمى هذا كله توراة فإن االتوراة تفسر بالشريعة فكل من دان بشريعة التوراة قيل لنبوته انها من التوراة وكثير مما يعزوه كعب الأحبار ونحوه إلى التوراة هو من هذا الباب لا يختص ذلك بالكتاب المنزل على موسى كلفظ الشريعة عند المسلمين يتناول القرآن والاحاديث النبوية وما استخرج من ذلك كما قد بسط هذا في موضع آخر والمقصود هنا أن الانبياء يفتحون الأعين العمي والآذان الصم والقلوب الغلف والسحرة يفسدون السمع والبصر والعقل حتى

يخيل للانسان الأشياء بخلاف ما هي عليه فيتغير حسه وعقله قال في قصة موسى سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم وهذا يقتضي أن أعين الناس قد حصل فيها تغير ولهذا قال تعالى ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت ابصارنا بل نحن قوم مسحورون فقد علموا أن السحر يغير الاحساس كما يوجب المرض والقتل وهذا كله من جنس مقدور الانس فإن الانسان يقدر أن يفعل في غيره ما يفسد إدراكه وما يمرضه ويقتله فهذا مع كونه ظلما وشرا هو من جنس مقدور البشر والجني إذا اراد أن يرى قرينه أمورا غائبة سأل عنها مثلها له فاذا سأل عن المسروق أراه شكل ذلك المال وإذا سأل عن شخص أراه صورته ونحو ذلك وقد يظن الرائي أنه رأى عينه وإنما رأى نظيره وقد يتمثل الجني في صورة الإنسي حتى يظن الظان أنه الإنسي وهذا كثير كما تصور لقريش في صورة سراقة ابن مالك بن جعشم وكان من اشراف بني كنانة قال تعالى وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وأني جار لكم الآية فلما عاين الملائكة ولى هاربا ولما رجعوا ذكروا ذلك لسراقة فقال والله ما علمت بحربكم حتى بلغني هزيمتكم وهذا واقع كثيرا حتى انه يتصور لمن يعظم شخصا في صورته فاذا استغاث به أتاه فيظن ذلك الشخص انه شيخه الميت وقد يقول له إنه بعض الانبياء أو بعض الصحابة الاموات ويكون هو الشيطان وكثير من الناس أهل العبادة والزهد من يأتيه في اليقظة من يقول إنه رسول الله ويظن ذلك حقا ومن يرى إذا زار بعض قبور الانبياء أو الصالحين أن صاحب القبر قد خرج اليه فيظن أنه صاحب القبر ذلك النبي أو الرجل الصالح وإنما هو شيطان أتى في صورته إن كان يعرفها وإلا أتى في صورة انسان قال إنه ذلك الميت وكذلك يأتي كثيرا من الناس في مواضع ويقول انه الخضر وإنما كان جنيا من الجن ولهذا لم يجترئ الشيطان على أن يقول لأحد من الصحابة إنه الخضر ولا قال أحد من الصحابة إني رأيت الخضر وإنما وقع هذا بعد الصحابة وكلما تأخر الامر كثر حتى إنه يأتي

اليهود والنصارى ويقول انه الخضر ولليهود كنيسة معروفة بكنيسة الخضر وكثير من كنائس النصارى يقصدها هذا الخضر والخضر الذي يأتي هذا الشخص غير الخضر الذي يأتي هذا ولهذا يقول من يقول منهم لكل ولي خضر وإنما هو جني معه والذين يدعون الكواكب تتنزل عليهم أشخاص يسمونها روحانية الكواكب وهو شيطان نزل عليه لما أشرك ليغويه كما تدخل الشياطين في الاصنام وتتكلم أحيانا لبعض الناس وتتراءى للسدنة أحيانا ولغيرهم أيضا وقد يستغيث المشرك بشيخ له غائب فيحكى الجني صوته لذلك الشيخ حتى يظن أنه سمع صوت ذلك المريد مع بعد المسافة بينهما ثم ان الشيخ يجيبه فيحكي الجني صوت الشيخ للمريد حتى يظن أن شيخه سمع صوته وأجابه وإلا فصوت الانسان يمتنع أن يبلغ مسيرة يوم ويومين وأكثر وقد يحصل للمريد من يؤذيه فيدفعه الجني ويخيل للمريد أن الشيخ هو دفعه وقد يضرب الرجل بحجر فيدفعه عنه الجني ثم يصيب الشيخ بمثل ذلك حتى يقول اني اتقيت عنك الضرب وهذا أثره في وقد يكونون يأكلون طعاما فيصور نظيره للشيخ ويجعل يده فيه ويجعل الشيطان يده في طعام أولئك حتى يتوهم الشيخ وهم ان يد الشيخ امتدت من الشام الى مصر وصارت في ذلك الاناء وعمر بن الخطاب لما نادى يا سارية الجبل قال ان لله جندا يبلغونهم صوتي فعلم أن صوته انما يبلغ بما ييسره الله من تبليغ بعض الملائكة او صالحي الجن فيهتفون بمثل صوته كالذي ينادي ابنه وهو بعيد لا يسمع يا فلا فيسمعه من يريد إبلاغه فينادي يا فلان فيسمع ذلك الصوت وهو المقصود بصوت أبيه وإلا فصوت البشر ليس في قوته أن يبلغ مسافة ايام وقد قلنا أن آيات الانبياء التي اختصوا بها خارجة عن قدرة الجن والانس قال تعالى قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن ياتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا وأما اذا كانت مما تقدر عليه الملائكة فهذا مما يؤيدها فإن الملائكة لا يطيعون من يكذب على الله ولا يؤيدونه بالخوارق فاذا أيد به كما أيد الله به نبيه والمؤمنين يوم بدر ويوم حنين كان هذا من أعلام صدقه وإنه صادق على الله في دعوى النبوة فإنها

لا تؤيد الكذاب لكن الشياطين تؤيد الكذب والملائكة تؤيد الصدق والتأييد بحسب الايمان فمن كان إيمانه أقوى من غيره كان جنده من الملائكة أقوى وان كان ايمانه ضعيفا كانت ملائكته بحسب ذلك كملك الانسان وشيطانه فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن قالوا وبك يا رسول الله قال وبي لكن الله أعانني عليه فأسلم وفي حديث آخر فلا يأمرني إلا بخير وهو في صحيح مسلم من وجهين من حديث ابن مسعود ومن حديث عائشة وقال ابن مسعود ان للقلب لمة من الملك ولمة من الشيطان فلمة الملك إيعاد الخير وتصديق بالحق ولمة الشيطان ايعاد بالشر وتكذيب بالحق فاذا كانت حسنات الانسان أقوى أيد بالملائكة تأييدا يقهر به الشيطان وإن كانت سيئاته اقوى كان جند الشيطان معه أقوى وقد يلتقي شيطان المؤمن بشيطان الكافر فشيطان المؤمن مهزول ضعيف وشيطان الكافر سمين قوي فكما أن الانسان بفجوره يؤيد شيطانه على ملكه وبصلاحه يؤيد ملكه على شيطانه فكذلك الشخصان يغلب أحدهما الآخر لأن الآخر لم يؤيد ملكه فلم يؤيده أو ضعف عنه لأنه ليس معه إيمان يعينه كالرجل الصالح اذا كان ابنه فاجرا لم يمكنه الدفع عنه لفجوره وبسط هذه الامور له موضع آخر
والمقصود هنا الكلام على الفرق بين آيات الانبياء وغيرهم وأن من قال أن آيات الانبياء والسحر والكهانة والكرامات وغير ذلك من جنس واحد فقد غلط ايضا والطائفتان لم يعرفوا قدر آيات الانبياء بل جعلوها من هذا الجنس فهؤلاء نفوه وهؤلاء أثبتوه وذكروا فرقا لا حقيقة له
واذا قال القائل آيات الانبياء لا يقدر عليها إلا الله أو أن الله يخترعها ويبتدئها بقدرته أو أنها من فعل الفاعل المختار ونحو ذلك قيل له هذا كلام مجمل فقد يقال عن كل ما يكون انه لا يقدر عليه إلا الله فإن الله خالق كل شيء وغيره لا يستقل باحداث شيء وعلى هذا فلا فرق بين المعجزات وغيرها وقد يقال لا يقدر عليها إلا

الله أي هي خارجة عن مقدورات العباد فإن مقدوراته على قسمين منها ما يفعله بواسطة قدرة العبد كأفعال العباد وما يصنعونه ومنها ما يفعله بدون ذلك كإنزال المطر فإن أراد هذا القائل أنها خارجة عن مقدور الإنس بمعنى أنه لا يقع منهم لا بإعانة الجن ولا بغير ذلك فهذا كلام صحيح وإن أراد أنه خارج عن مقدورهم فقط وإن كان مقدورا للجن فهذا ليس بصحيح فإن الرسل أرسلوا إلى الانس والجن والسحر والكهانة وغير ذلك تقدر الجن على إيصالها إلى الانس وهي مناقضة لآيات الانبياء كما قال تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم وإن أراد أنها خارجة عن مقدور الملائكة والإنس والجن أو أن الله يفعلها بلا سبب فهذا أيضا باطل فمن أين له أن الله يخلقها بلا سبب ومن أين له أنه لا يخلقها بواسطة الملائكة الذين هم رسله في عامة ما يخلقه فمن أين له أن جبريل لم ينفخ في مريم حتى حملت بالمسيح وقد أخبر الله بذلك وهو وأمه مما جعلهما آية للعالمين قال تعالى وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما الى ربوة ذات قرر ومعين وخلق المسيح بلا أب من أعظم الآيات وكان بواسطة نفخ جبريل قال تعالى فأرسلنا اليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت انى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا وقال تعالى ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وكذلك طمس أبصار قوم لوط كان بواسطة الملائكة والذي عنده علم من الكتاب لما قال عفريت من الجن لسليمان أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك واني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب انا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك أتته به الملائكة كذلك ذكره المفسرون عن ابن عباس وغيره أن الملائكة أتته به أسرع مما كان يأتي به العفريت وقد أخبر الله تعالى أنه أيد محمدا صلى الله عليه و سلم بالملائكة وبالريح وقال تعالى فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا وقال تعالى يوم حنين

فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وقال تعالى يوم الغار فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وقال تعالى اذ يوحي ربك الى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب وقد ثبت في الصحيح أن الانسان يصوره ملك في الرحم بإذن الله ويقول الملك أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة فاذا كان الخلق المعتاد يكون بتوسط الملائكة فإنه يقرر التوحيد بقوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الآيات ثم النبوة بقوله وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا ثم المعاد وكذلك الانعام يقرر التوحيد ثم النبوة في وسطها ثم يختمها بأصول الشرائع والتوحيد أيضا وهو ملة ابراهيم وهذا مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود أنه قد يبين انفراده بالخلق والنفع والضر والاتيان بالآيات وغير ذلك وإن ذلك لا يقدر عليه غيره قال تعالى أفمن يخلق كمن لا يخلق وقال تعالى وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والارض انى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليك ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدون وهو على كل شيء وكيل لا تدركه الابصار وهو اللطيف الخبير قد جاءكم بصائر من ربكم فمن ابصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ وكذلك نفصل الايات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم ألى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في

طغيانهم يعمهون ففي هذه الآيات تقرير التوحيد حتى في إنزال الآيات قال إنما الآيات عند الله وكذلك قوله في العنكبوت وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما انا نذير مبين أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السموات والارض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون وقال أيضا وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون هذا بعد قوله فان استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين وهو أرسله بآيات بان بها الحق وقامت بها الحجة وكانوا يطلبون آيات تعنتا فيظن من يظن أنهم يهتدون بها لكن لا يحصل بها المقصود وقد تكون موجبة لعذاب الاستئصال فتكون ضررا بلا نفع وبين سبحانه أنه قادر على انزال الآيات وأنها ليست إلا عنده وغير أفعال العباد قد اتفق الناس على أنه لا يخلقه الا الله وإنما تنازعوا في أفعال العباد والصواب انها أفعال لهم وهي مخلوقة لله لكن آيات الانبياء لا تكون مما يقدر عليه العبد كما قال قل إنما الآيات عند الله والملائكة إنما هي سبب من الأسباب كما في خلق المسيح من غير أب فجبريل إنما كان مقدوره النفخ فيها وهذا لا يوجب الخلق بل هو بمنزلة الانزال في حق غير المسيح وكذلك المسيح لما خلق من الطين كهيئة الطير إنما مقدوره تصوير الطين وإنما حصول الحياة فيه فباذن الله يحيي ويميت وهذا من خصائصه ولهذا قال الخليل ربي الذي يحيي ويميت وفي القرآن في غير مواضع يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وكنتم أمواتا فأحياكم يحيي الارض بعد موتها والله يحيي ويميت وما يتولد عن أفعال الملائكة وغيرهم ليسوا مستقلين به بل لهم فيه شركة كطمس ابصار اللوطية وقلب مدينتهم وكذلك النصر إنما يقدرون على القتال كالانس

والنصر هو من عند الله كما قال تعالى وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله والقرآن إنما يقدرون على النزول به لا على إحداثه ابتداء فهم يقدرون على الاتيان بمثله من عند الله وأما الجن والانس فلا يقدرون على الاتيان بمثله لأن الله لا يكلم بمثله الجن والانس ابتداء ولهذا قال لا يأتون بمثله وقال تعالى فأتوا بسورة من مثله وقال فأتوا بعشر سور مثله وقال فليأتوا بحديث مثله ان كانوا صادقين لم يكلفهم نفس الإحداث بل طالبهم بالاتيان بمثله إما إحداثا وإما تبليغا عن الله أو عن مخلوق ليظهر عجزهم من جميع الجهات فقد يقال فنفس أفعال العباد ليست من الآيات إذ كانت مقدورة ومفعولة للعبد وإن كان ذلك بأقدار الله تعالى ولا نفس القدرة على ذلك الفعل فإن المقصود من القدرة هو الفعل بل الآيات خارجة عن مقدور جميع العباد الملائكة والجن والانس وهي أيضا لا تنال بالاكتساب فإن الإنس والجن قد يقدرون بأسباب مباينة لهم على أمور كما يقدرون على قتل من يقتلونه وإمراضه ونحو ذلك وآيات الانبياء لا يقدر أحد أن يتوصل اليها بسبب والسحر والكهانة مما يمكن التوصل اليه بسبب كالذي يأتي بأقوال وأفعال تحدثه بها الجن فالنبوة لا تنال بكسب العبيد ولا آياتها تحصل بكسب العباد وهذا من الفروق بين آيات الانبياء وبين السحر والكهانة وبينهما فروق كثرة أكثر من عشرة أحدها أن ما تخبر به الانبياء لا يكون الا صدقا وأما ما يخبرهم به من خالفهم من السحرة والكهان وعباد المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع والفجور من المسلمين فإنه لا بد فيه من الكذب الثاني أن الانبياء لا تأمر الا بالعدل ولا تفعل الا العدل وهؤلاء المخالفون لهم لا بد لهم من الظلم فإن من خالف العدل لا يكون الا ظلما فيدخلون في العدوان على الخلق وفعل الفواحش والشرك والقول على الله بلا علم وهي المحرمات التي حرمها الله مطلقا كما قال تعالى قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على

الله مالا تعلمون الثالث أن ما يأتي به من يخالفهم معتاد لغير الانبياء كما هو معتاد للسحرة والكهان وعباد المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع والفجور وآيات الانبياء هي معتادة أنها تدل على خبر الله وأمره على حكمه فتدل على أنهم أنبياء وعلى صدق من أخبر بنبوتهم سواء كانوا هم المخبرين أو غيرهم وكرامات الاولياء هي من هذا فإنهم يخبرون بنبوة الانبياء وكذلك أشراط الساعة هي أيضا تدل على صدق الانبياء اذ كانوا قد أخبروا بها فالذي جعله أولئك من كرامات الاولياء وأشراط الساعة ناقضا لآيات الانبياء اذ هو من جنسها ولا يدل عليها فأولئك كذبوا بالموجود وهؤلاء سووا بين الآيات وغيرها فلم تكن في الحقيقة عندهم آية وكانت الآيات عند أولئك منتقضة وأولئك نصروا جهلهم بالتكذيب بالحق وهؤلاء نصروا جهلهم أيضا بقول الباطل فقالوا ان الآية هي المقرونة بالدعوى التي لا تعارض وزعموا أنه لا يمكن معارضة السحر والكهانة اذا جعل آية وأنه اذا لم يعارض كان آية وهو تكذيب بالحق أيضا فإنه قد ادعاه غير نبي ولم يعارض فالطائفتان أدخلت في الآيات ما ليس منها وأخرجت منها ما هو منها فكرامات الاولياء واشراط الساعة من آيات الانبياء وأخرجوها والسحر والكهانة ليس من آياتهم وأدخلوها أو سووا بينها وبين الآيات بل ونوابها الرابع أن آيات الانبياء والنبوة لو قدر أنها تنال بالاكتساب فهي انما تنال بعبادة الله وطاعته فإنه لا يقول عاقل ان أحدا يصير نبيا بالكذب والظلم بل بالصدق والعدل سواء قال ان النبوة جزاء على العمل أو قال انه اذا زكى نفسه فاض عليه ما يفيض على الانبياء فعلى القولين هي مستلزمة لالتزام الصدق والعدل وحينئذ فيمتنع أن صاحبها يكذب على الله فإن ذلك يفسدها بخلاف من خالف الانبياء من السحرة والكهان وعباد المشركين وأهل البدع والفجور من أهل الملل واهل الكتاب والمسلمين فإن هؤلاء تحصل لهم الخوارق مع الكذب والإثم بل خوارقهم

مع ذلك أشد لأنهم يخالفون الانبياء وما ناقض الصدق والعدل لم يكن إلا كذبا وظلما فكل من خالف طريق الانبياء لا بد له من الكذب والظلم اما عمدا واما جهلا وقوله تعالى تنزل على كل أفاك أثيم ليس من شرطه أن يتعمد الكذب بل من كان جاهلا يتكلم بلا علم فيكذب فان الشياطين تنزل عليه أيضا اذ من أخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه من غير اجتهاد يعذر به فهو كذاب ولهذا يصف الله المشركين بالكذب وكثير منهم لا يتعمد ذلك وكذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم لما أفتى ابو السنابل بأن المتوفي عنها الحامل لا تحل بوضع الحمل بل تعتد أبعد الاجلين فقال كذب أبو السنابل أي في قوله بأن المتوفي عنها الحامل لا تحل بوضع الحمل بل تعتد أبعد الاجلين وكذلك لما قال بعضهم ابن الاكوع حبط عمله قال النبي صلى الله عليه و سلم كذب من قالها انه لجاهد مجاهد ونظائره كثيرة فالانبياء لا يقع في إخبارهم عن الله كذب لا عمدا ولا خطأ وكل من خالفهم لا بد أن يقع في خبره عن الله كذب ضرورة فإن خبره اذا لم يكن مطابقا لخبرهم كان مخالفا له فيكون كذبا فالذي تنزل عليه الشياطين اذا ظن واعتقد انهم جاءوا من عند الله وأخبر بذلك كان كاذبا وكذلك اذا قال عما أوحوه اليه إن الله أوحاه اليه كان كاذبا قال تعالى ان الشياطين ليوحون الى أوليائهم ليجادلوكم ولما شاع خبر المختار بن أبي عبيد وهو أول من ظهر في الاسلام بالكذب في هذا وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال يكون في ثقيف كذاب ومبير فكان الكذاب هو المختار بن أبي عبيد وكان يتشيع لعلي ولهذا يوجد الكذب في الشيعة اكثر مما يوجد في جميع الطوائف والمبير هو الحجاج بن يوسف وكان ظالما معتديا وكان يتشيع لعثمان والمختار يتشيع لعلي فذكر لابن عمر وابن عباس امر المختار وقيل لأحدهما إنه يزعم أنه يوحى اليه فقال صدق ان الشياطين ليوحون الى أوليائهم وقيل للآخر إنه يزعم أنه ينزل عليه فقال صدق هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم الخامس أن ما يأتي به السحرة والكهان والمشركون وأهل البدع من أهل الملل لا يخرج عن كونه مقدورا للانس والجن

وآيات الانبياء لا يقدر على مثلها لا الانس ولا الجن كما قال تعالى قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا السادس أن ما يأتي به السحرة والكهان وكل مخالف للرسل تمكن معارضته بمثله وأقوى منه كما هو الواقع لمن عرف هذا الباب وآيات الانبياء لا يمكن أحدا أن يعارضها لا بمثلها ولا بأقوى منها وكذلك كرامات الصالحين لا تعارض لا بمثلها ولا بأقوى منها بل قد يكون بعض آيات أكبر من بعض وكذلك آيات الصالحين لكنها متصادقة متعاونة على مطلوب واحد وهو عبادة الله وتصديق رسله فهي آيات ودلائل وبراهين متعاضدة على مطلوب واحد والادلة بعضها أدل وأقوى من بعض ولهذا كان المشايخ الذين يتحاسدون ويتعادون ويقهر بعضهم بعضا بخوارقه إما بقتل وإمراض وإما بسلب حاله وعزله عن مرتبته وإما غير ذلك خوارقهم شيطانية ليست من آيات الانبياء والاولياء وكثير من هؤلاء يكون في الباطن كافرا منافقا وكثير منهم يموت على غير الاسلام وكثير منهم يكون مسلما مع ظلم يعرف انه ظلم ومنهم من يكون جاهلا يحسب أن ما هو عليه مما أمر الله به ورسوله هذا كما يقع للملوك المتنازعين على الملك من قهر بعضهم لبعض فهذا خارج عن سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وسنة خلفائه الراشدين السابع أن آيات الانبياء هي الخارقة للعادات عادات الانس والجن بخلاف خوارق مخالفيهم فإن كل ضرب منها معتاد لطائفة غير الانبياء وآيات الانبياء ليست معتادة لغير الذين يصدقون على الله ويصدقون من صدق على الله وهم الذين جاءوا بالصدق وصدقوا وتلك معتادة لمن يفتري الكذب على الله أو يكذب بالحق لما جاءه فتلك آيات على كذب أصحابها وآيات الانبياء آيات على صدق أصحابها فإن الله سبحانه لا يخلى الصادق مما يدل على صدقه ولا يخلي الكاذب مما يدل على كذبه إذ من نعته ما أخبر به في قوله أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ثم قال خبرا مبتديا ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته فهو سبحانه لا بد أن يمحق الباطل ويحق الحق بكلماته وقال تعالى

وما خلقنا السماء والارض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون كما أخبر في موضع أنه لم يخلق الخلق عبثا ولا سدى وإنما خلقهم بالحق وللحق فلا بد أن يجزي هؤلاء وهؤلاء باظهار صدق هؤلاء وإظهار كذب هؤلاء كما قال بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فاذا هو زاهق الثامن ان هذه لا يقدر عليها مخلوق فلا تكون مقدورة للملائكة ولا للجن ولا للانس وإن كانت الملائكة قد يكون لهم فيها سبب بخلاف تلك فإنها إما مقدورة للانس أو للجن أو مما يمكنهم التوصل اليها بسبب وأما كرامات الصالحين فهي من آيات الانبياء كما تقدم ولكن ليست من آياتهم الكبرى ولا يتوقف اثبات النبوة عليها وليست خارقة لعادة الصالحين بل هي معتادة في الصالحين من أهل الملل في أهل الكتاب والمسلمين وآيات الانبياء التي يختصون بها خارقة لعادة الصالحين التاسع أن خوارق غير الانبياء والصالحين من السحرة والكهان أهل الشرك والبدع تنال بأفعالهم كعباداتهم ودعائهم وشركهم وفجورهم ونحو ذلك وأما آيات الانبياء فلا تحصل بشيء من ذلك بل الله يفعلها آية وعلامة لهم وقد يكرمهم بمثل كرامات الصالحين وأعظم من ذلك مما يقصد به إكرامهم لكن هذا النوع يقصد به الاكرام والدلالة بخلاف الآيات المجردة كانشقاق القمر وقلب العصا حية وإخراج يده بيضاء والإتيان بالقرآن والإخبار بالغيب الذي يختص الله به فأمر الآيات الى الله لا إلى اختيار المخلوق والله يأتي بها بحسب علمه وحكمته وعدله ومشيئته ورحمته كما ينزل ما ينزله من آيات القرآن وكما يخلق من يشاء من المخلوقات بخلاف ما حصل باختيار العبد إما لكونه يفعل ما يوجبه أو يدعو الله به فيجيبه فالخوارق التي ليست آيات تارة تكون بدعاء العبد والله تعالى يجيب دعوة المضطر وان كان كافرا لكن للمؤمنين من إجابة الدعاء ما ليس لغيرهم وتارة تكون بسعيه في أسبابها مثل توجهه بنفسه وأعوانه وبمن يطيعه من الجن والانس في حصولها وأما آيات الانبياء فلا تحصل بشيء من ذلك العاشر أن النبي قد خلت من قبله أنبياء يعتبر بهم فلا

يأمر إلا بما أمرت به الانبياء من عبادة الله وحده والعمل بطاعته والتصديق باليوم الآخر والايمان بجميع الكتب والرسل فلا يمكن خروجه عما اتفقت عليه الانبياء وأما السحرة والكهان والمشركون وأهل البدع من أهل الملل فإنهم يخرجون عما اتفقت عليه الانبياء فكلهم يشركون مع تنوعهم ويكذبون ببعض ما جاء به الانبياء والانبياء كلهم منزهون عن الشرك وعن التكذيب بشيء من الحق الذي بعث الله به نبيا قال تعالى واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي اليه أن لا إله إلا انا فاعبدون وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة وقال تعالى آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقال تعالى قولوا آمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل الى ابراهيم واسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فان آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تلوا فإنما هم في شقاق وقال تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وقال تعالى ان الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وقال تعالى وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم واخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين وقال شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم اليه الله يجتبي اليه من يشاء ويهدي اليه من ينيب

وقال تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا اني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ثم قال فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون وقال تعالى لما ذكر الانبياء ان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل الينا راجعون فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون قال تعالى وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من اسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون فالانبياء يصدق متأخرهم متقدمهم ويبشر متقدمهم بمتأخرهم كما بشر المسيح ومن قبله بمحمد وكما صدق محمد جميع النبيين قبله ولهذا يقول يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزل مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وقال نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والانجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد وقال وأنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه والانبياء وأتباعهم كلهم مؤمنون مسلمون يعبدون الله وحده بما أمر ويصدقون بجميع ما جاءت به الانبياء ومن خالفهم لا يكون الا مشركا ومكذبا ببعض ما أنزل الله وبين الطائفتين فروق كثيرة غير خوارق العادات الحادي عشر أن النبي هو وسائر المؤمنين لا يخبرون إلا بحق ولا يأمرون الا بعدل فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويأمرون بمصالح العباد في المعاش والمعاد لا يأمرون بالفواحش ولا الظلم ولا الشرك ولا القول بغير علم فهم بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بتبديلها وتغييرها فلا يأمرون إلا بما يوافق المعروف في العقول الذي تتلقاه القلوب السليمة بالقبول فكما أنهم هم لا يختلفون فلا يناقض بعضهم بعضا بل دينهم وملتهم واحد وإن تنوعت الشرائع فهم أيضا

موافقون لموجب الفطرة التي فطر الله عليها عباده موافقون للادلة العقلية لا يناقضونها قط بل الادلة العقلية الصحيحة كلها توافق الانبياء لا تخالفهم وآيات الله السمعية والعقلية العيانية والسماعية كلها متوافقة متصادقة متعاضدة لا يناقض بعضا بعضا كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع والذين يخالفون الانبياء من أهل الكفر وأهل البدع كالسحرة والكهان وسائر أنواع الكفار وكالمبتدعين من أهل الملل أهل العلم وأهل العبادة فهؤلاء مخالفون للادلة السمعية والعقلية للسماعية والعيانية مخالفون لصريح المعقول وصحيح المنقول كما أخبر الله عنهم بقوله كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير الآية فهؤلاء يخالفون أقوال الانبياء إما بالتكذيب وإما بالتحريف من التأويل وإما بالاعراض عنها وكتمانها فأما أن لا يذكروها أو يذكروا ألفاظها ويقولون ليس لها معنى يعرفه مخلوق كما أخبر الله عن أهل الكتاب أن منهم من يكذب في اللفظ ومنهم من يحرف الكلم في المعنى ومنهم جهال لا يفقهون ما يقرأون قال تعالى أفتطمعون أن يؤمنوا لكم الى قوله فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون وكذلك هم مخالفون للادلة العقلية فالانبياء كملوا الفطرة وبصروا الخلق كما تقدم في صفة محمد صلى الله عليه و سلم ان الله يفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا ومخالفوهم يفسدون الحس والعقل كما أفسدوا الأدلة السمعية والحس والعقل بهما تعرف الأدلة والطرق ثلاثة الحس والعقل والخبر فمخالفوا الانبياء أفسدوا هذا وهذا وهذا أما إفسادهم لما جاء عن الانبياء فظاهر وأما إفسادهم للحس والعقل فإنهم قسمان قسم أصحاب خوارق حسية كالسحرة والكهان وضلال العباد وقسم أصحاب كلام واستدلال بالقياس والمعقول وكل منهما يفسد الحس والعقل أما أصحاب الحال الشيطاني فقد عرف أن السحر يغير الحس والعقل حتى يخيل الى الانسان الشيء بخلاف ما هو وكذلك سائر الخوارق الشيطانية لا تأتي إلا مع نوع فساد في الحس أو العقل كالمولهين الذين لا تأتيهم إلا مع زوال عقولهم وآخرين لا تأتيهم إلا في الظلام وآخرين تتمثل لهم الجن في صورة الانس فيظنون أنهم إنس أو يرونهم

مثال الشيء فيظنون أن الذي رأوه هو الشيء نفسه أو يسمعونهم صوتا يشبه صوت من يعرفونه فيظنون أنه صوت ذلك المعروف عندهم وهذا كثير موجود في أهل العبادات البدعية التي فيها نوع من الشرك ومخالفة للشريعة وأما أصحاب الكلام والمقال البهتاني فإنهم بنوا أصولهم العقلية واصول دينهم الذي ابتدعوه على مخالفة الحس والعقل فأهل الكلام أصل كلامهم في الجواهر والأعراض مبني على مخالفة الحس والعقل فانهم يقولون إنا لا نشهد بل ولا نعلم في زماننا حدوث شيء من الأعيان القائمة بنفسها بل كل ما نشهد حدوثه بل كل ما حدث من قبل أن يخلق آدم إنما تحدث أعراض في الجواهر التي هي باقية لا تستحيل قط بل تجتمع وتتفرق والخلق عندهم الموجود في زماننا انما هو جمع وتفريق لا ابتداع عين وجوهر قائم بنفسه ولا خلق لشيء قائم بنفسه لا انسان ولا غيره وإنما يخلق أعراضا ويقولون ان كا ما تشاهده من الأعيان فإنها مركبة من جواهر كل جوهر منها لا يتميز يمينه عن شماله وهذا مخالفة للحس والعقل كالاول ويقول كثير منهم إن الاعراض لا تبقى زمانين ويقولون انه لا يفنى ويعدم في زماننا شيء من الأعيان بل كما لا يحدث شيء من الأعيان لا يفنى شيء من الأعيان فهذا أصل علمهم ودينهم ومعقولهم الذي بنوا عليه حدوث العالم واثبات الصانع وهو مخالف للحس والعقل ويقول الذين يثبتون الجوهر الفرد ان الفلك والرحى وغيرهما يتفكك كلما استدار ويقول كثير منهم إن كل شيء فإنه يمكن رؤيته وسمعه ولمسه الى غير ذلك من الامور التي جعلوها أصول علمهم ودينهم وهي مكابرة الحس والعقل
والمتفلسفة أضل من هؤلاء فانهم يجعلون ما في الذهن ثابتا في الخارج فيدعون أن ما يتصوره العقل من المعاني الغائبة الكلية موجودة في الجواهر قائمة بأنفسها إما مجردة عن الاعيان وإما مقترنة بها وكذلك العدد والمقدار والخلاء والدهر والمادة يدعون وجود ذلك في الخارج وكذلك ما يثبتونه من العقول والعلة الاولى الذي يسميه متأخروهم واجب الوجود وعامة ما يثبتونه من العقليات إنما

يوجد في الذهن فالذي لا ريب في وجوده نفس الانسان وما يقوم بها ثم ظنوا ما يقوم بها من العقليات موجودا في الخارج فكان افسادهم للعقل أعظم كما أن افساد المتكلمين للحس أعظم مع أن هؤلاء المتفلسفة عمدتهم هي العلوم العقلية والعقليات عندهم أصح من الحسيات وأولئك المتكلمون أصول علمهم هي الحسيات ثم يستدلون بها على العقليات وبسط هذه الامور له موضع آخر
والمقصود هنا التنبيه على أن من خالف الانبياء فإنه كما أنه مكذب لما جاءوا به من النبوة والسمع فهو مخالف للحس والعقل فقد فسد عليه الأدلة العقلية والنقلية والله سبحانه وتعالى أعلم.

==========

 

========

 

===========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج35.الدر المنثور في التفسير بالماثور عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي{ار الكتاب والحمد لله رب العالمين}

ج35.الدر المنثور في التفسير بالماثور عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ج35. كتاب الدر المنثور في التفسير بالماثور عبد الرحمن بن أبي بكر ال...